أبحاث العدد:
المسار:
الموعود » اعداد المجلة » العدد ١١ / جمادى الآخرة / ١٤٤٢ هـ
لتصفح المجلة بـ Flsh
لتحميل المجلة كـ Pdf
العدد 11 / جمادى الآخرة / 1442 هـ

آيات في القائم (عجَّل الله فرجه)

آيات في القائم (عجَّل الله فرجه)

السيد باسم الصافي

إن حقيقة وجود وقيام المهدي من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في آخر الزمان هي من المواضيع المهمة في الإسلام ولم يهملها القرآن الكريم في العديد من آياته، اخترنا بعضاً منها وما لا يدرك كله لا يترك كله.
﴿نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾:
قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً﴾ (النصر: 1-3).
مقدمة:
الفتح نقيض الإغلاق(1)، وهو في الحياة فيه الفرج المزيل للهمّ، وقد يكون بالحجّة والبرهان، أو بالنصر الحربي على الأعداء، أو بإهلاكهم من الله (عزَّ وجلَّ).
ففي قصّة نوح (عليه السلام) حصل ضيق وإغلاق حول نوح (عليه السلام) والذين آمنوا معه، وتعسّرت حركة الدين، وزاد الهمّ وضعف الأمل حتى ناجى نوحٌ (عليه السلام) ربَّه: ﴿قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الشعراء: 117- 118).
فنجّاه الله (عزَّ وجلَّ) ومن معه وأهلك أعداءه، وفتح الطريق أمام حياة إيمانية جديدة.
فتح مكة:
وفي حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبعثته، كان لقريش أكبر الأثر في محاصرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأتباعه على مدى واحد وعشرين عاماً تقريباً - أي حتى السنة الثامنة للهجرة - حيث كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد مُنع من نشر دعوته في مكة وما حولها كما يريد، وعوقب من آمن به من الضعفاء والعبيد، وصبر على ذلك مدة ثلاثة عشر عاماً حتى هاجر إلى المدينة المنوّرة، فأصبح مرمى لسلاحهم وحقدهم وخبث دسائسهم.
أمّا عرب الجزيرة فكانوا ينظرون إلى قريش ومكة على أنها عاصمتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد زادت قصة أصحاب الفيل وهلاك إبرهة وجيشه بالطير الأبابيل من عقيدة الناس بهم وبقدسية مكة المكرّمة، ولم يكونوا يسمعون من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما يقول إلّا تسريبات لا تحسم لهم الأمور، وبالتالي كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمون في حصارٍ وضيقٍ وإغلاق لمسار الدعوة الإسلامية، ولم تتوقف المحاولات للقضاء التام على هذه الدعوة الإلهية بكل الوسائل، حتى جاء صلح الحديبية الذي كان فتحاً بحدّ ذاته، فقد حصل الاعتراف بالدين الجديد، ومهّد لفتح مكة، فنزل القرآن الكريم: ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً﴾ (الفتح: 1).
وأيضاً نزل بعد ذلك قوله تعالى مبشراً بفتح مكة: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾ (الفتح: 18).
وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ (الفتح: 27).
ونلاحظ أن الفتح هنا عُبّر عنه بصيغة التنكير وليس معرّفاً بالألف واللام - كما في سورة النصر - مما يشير إلى محدودية هذا الفتح نسبة إلى الفتح الكبير المنشود فيها، حيث أشار الإسلام الكامل في جميع بقاع الأرض علماً وعملاً وعدلاً وهو الفتح الذي نشده الأنبياء والرسل (عليهم السلام) وبذلوا الغالي والنفيس من أجل تحقيقه وهو فتح الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في آخر الزمان.
الفتح الحسيني:
وبعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عُطلت الإمامة والخلافة الربّانية، وبدأت مخالفة سُنن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شيئاً فشيئاً، وقامت الفتن، وسُفكت الدماء بين المسلمين، ووقعت الحروب، وحُوّلت خلافة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى مُلكٍ عَضوضٍ وبالوراثة أيام بني أمية حتى استولى يزيد على السلطة وراثة.
وكان عموم الناس مع الحاكم، فيما كان المؤمنون والصحابة الخُلَّص وأهل البيت (عليهم السلام) في ضيقٍ وهمٍّ وانغلاق، حتى جاء الفتح الحسيني الذي فتح الطريق أمام الإيمان السليم الكامل القائم على كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واتِّباع الخلفاء الحق المنصوبين من قبل الله (عزَّ وجلَّ) لقيادة المجتمع الإسلامي بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وانفصلوا عن الحاكم المنحرف المتسلّط على الخلافة، راجعين إلى الأئمة (عليهم السلام) المعيّنين من قبل الله تعالى.
وقد عبّر الإمام الحسين (عليه السلام) عن ذلك في رسالته التي وجّهها إلى بني هاشم عندما توجَّه إلى العراق قائلاً: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بعد فإنه مَن لحق بي استشهد ومَن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح، والسلام»(2).
الفتح المهدوي:
وهو الفتح الوارد ذكره في قيام الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ودولته، وذلك لأننا نعلم أن الإسلام جاءَ بخيرِ الدارين، هادفاً لإسعاد الإنسان والمجتمع في الحياة الدنيا وفي الآخرة: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).
وقال الله تعالى لنبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107).
وفي أمر الله (عزَّ وجلَّ) أن يأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيد الناس على المحجّة البيضاء، ويوصل لهم العلم والأحكام الكفيلة بسعادتهم أفراداً وجماعات ويقودهم بنفسه ويسير بهم بعصمته، فكانت الولاية على المسلمين بعد الله تعالى للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ومن بعده لأوصيائه الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كما هو نصّ آية الولاية: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ﴾ (المائدة: 55).
وقد بشرّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المسلمين بالحياة الكريمة التامّة والفتح المبين في كلِّ الميادين، كما قال الله تعالى في مثل ضربه: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إلى الْأَرضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ﴾ (السجدة: 27).
وقال تعالى بعد هذه الآية المُفسَّرة بزمان الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ (السجدة: 27-30).
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «﴿يَوْمَ الْفَتْحِ﴾ يوم تفتح الدنيا على القائم (عجَّل الله فرجه)، لا ينفعُ أحداً تقرّب بالإيمان ما لم يكن قبل ذلك مؤمناً وبهذا الفتح موقناً، فذلك الذي ينفعه إيمانه، ويعظم عند الله قدره وشأنه، وتُزخرف له يوم البعث جِنانه، وتحجب عنه نيرانه، وهذا أجرُ الموالين لأمير المؤمنين وذرّيته الطيّبين، صلوات الله عليهم أجمعين»(3).
المفسّرون:
المشهور - استناداً لكثيرٍ من المفسّرين(4) - أن الفتح المذكور في سورة النصر الكريمة هو فتح مكة، والمستفاد من الروايات أنه فتح الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كما سيأتي.
المناقشة:
أولاً:
إن الوارد في بعض التفاسير(5) أنها نزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد فتح مكة بأكثر من عام، فكيف يكون المبشّر به سابقاً على البشارة؟
ثانياً: إن الناس لم يدخلوا في دين الله أفواجاً بعد فتح مكة، بل دخلوا طلقاءً، وكثير منهم دخل منافقاً مضطراً لإشهار إسلامه، وهم الذين عملوا على تقويض البناء الإسلامي من داخله، أمّا مَن هم خارج مكة فلم يسارعوا للدخول في الإسلام أفواجاً أيضاً، بل كانت هناك معركة حُنين العظيمة التي تجمّع فيها الكثير من القبائل للانتقام لفتح مكة، ومحاولة صد التمدّد الإسلامي الآتي بعد الفتح.
أهل البيت (عليهم السلام):
إن سورة النصر هي آخر سورة نزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تبشّره بفتح شامل ودخول الناس في دينه كافة في مستقبل الأيام والسنين بعد وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لذا قال لجبرائيل (عليه السلام) بعد تبليغه إياه بالسورة: «يا جبرائيل نفسي قد نُعيت»(6).
وعن علي (عليه السلام) قال: «لمّا نزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾ قال لي: يا علي إنه قد جاء نصر الله والفتح، فإذا رأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبّح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً.
يا علي إن الله قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي.
فقلت: يا رسول الله وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟
قال: فتنة قومٍ يشهدون أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله، مخالفون لسنّتي وطاعنون في ديني.
فقلت: فعلام نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلّا الله وأنك رسول الله؟
فقال: على إحداثهم في دينهم، وفراقهم لأمري، واستحلالهم دماء عترتي»(7).
وفي تفسير علي بن إبراهيم قال: نزلت بمنى في حجة الوداع ﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ﴾ فلما نزلت قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «نعيت إليّ نفسي»، فجاء إلى مسجد الخيف فجمع الناس ثم قال: «... إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبّأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، كإصبعَيَّ هاتين - وجمع بين سبّابتيه - ولا أقول: كهاتين - وجمع بين سبّابته والوسطى - فتفضل هذه على هذه»(8).
الخلاصة:
إن سورة النصر هي السورة الأخيرة في النزول على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، نزلت في حجّة الوداع وهي تحمل التسلية لقلب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والبشارة له ولأهل بيته والمؤمنين بحتميّة حصول الوعد الإلهي بالنصر الكامل وظهور الدين الحق على الدين كله ولو كره المشركون والمنافقون والظالمون، فيدخل الناس في دين الله أفواجاً، وما ذلك إلّا فتحٌ للدنيا على يد القائم (عجَّل الله فرجه)، الذي يملأها قسطاً وعدلاً بعدما مُلأت ظلماً وجوراً.
الآية الثانية: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾:
قال الله تعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ﴾ (غافر: 51).
المفسّرون:
ذكر بعضُ المفسّرين(9) أن نصرَ الله (عزَّ وجلَّ) لرسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا هو بالحُجّة، والغَلبة العسكريّة أحياناً، والنصر الثاني هو في يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد، والأشهاد هم الملائكة أو الأنبياء (عليهم السلام)، أمّا في حديث أهل البيت (عليهم السلام) - كما سيأتي - فإن الأشهاد هم الأئمّة (عليهم السلام) يقومون في الرجعة زمن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
المناقشة:
أولاً:
تتحدّث الآية الكريمة عن نصرين لله تعالى لرسله والذين آمنوا، الأول ﴿فِي الْحَياةِ الدُّنْيا﴾ أي في أثناء حياتهم وجهادهم لتبليغ الرسالة الإلهية، وهو غلبةٌ ونصرٌ قطعي لقوله تعالى:
﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (المجادلة: 21).
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: 40).
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ﴾ (محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): 7).
﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ﴾ (الأنعام: 34).
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (يوسف: 110).
﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ﴾ (إبراهيم: 47).
﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً﴾ (الفرقان: 37).
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُوهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: 47).
﴿ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ﴾ (غافر: 22).
إذن نصرُ الله (عزَّ وجلَّ) لرسله في الحياة الدنيا وأثناء حياتهم المباركة حتميٌّ لأنه من أمرِ الله (عزَّ وجلَّ) ﴿وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 21).
وهذا النصر إمّا بالغلبة العسكرية، كما جرى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معاركه وحروبه مع المشركين والأحزاب، وإمّا بإهلاك الأعداء كما حدث لموسى وهارون ونوح ولوط وصالح (عليهم السلام).
أمّا النصر الثاني في الآية الكريمة فهو خارج حياتهم، وهنا احتمالان:
1 - إن النصرَ الثاني إنما يكون يوم القيامة - كما ذكر بعض المفسرين - وهو وإن كان حاصلاً عند الحساب من حيث الحكم الإلهي بين العباد، إلّا أن الآية الكريمة تقصد الدنيا، لأن مفهوم النصر إنما يأخذ معناه كاملاً في الدنيا حيث ساحة المواجهة والصراع والتكليف والجهاد، أمّا في الآخرة فهو يوم حساب ولا عمل.
قال علي (عليه السلام) في خطبةٍ له: «وإن اليومَ عملٌ ولا حساب وغداً حسابٌ ولا عمل»(10).
2 - إن النصرَ الثاني يكون في زمان الرجعة حيث عودة الأئمّة (عليهم السلام) إلى الدنيا عند ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ورجعة من محض الإيمان ومن محض الكفر.
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «أول من تنشق الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي (عليهما السلام)، وإن الرجعة ليست بعامّة بل هي خاصّة، لا يرجع إلّا من محض الإيمان محضاً أو محض الشرك محضاً»(11).
وهذا التفسير للنصر الثاني هو الراجح فقد جاءت به أحاديث شريفة عن أهل البيت (عليهم السلام) - كما سيأتي - حيث سيُنصرون برفع رايتهم وعقوبة أعدائهم في الدنيا قبل الآخرة.
ثانياً: يؤيد أن المراد من آية البحث النصر على أعداء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة (عليهم السلام) - الذي سيكون في الرجعة بالإضافة إلى يوم القيامة - الآية التالية لآية البحث قوله تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ (غافر: 52).
لأن الاعتذار المشار إليه في الآية الكريمة يشمل الدنيا وزمن الظهور المبارك إن لم يكن منحصراً فيها، وهذه العقوبة ﴿وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ هي نفس عاقبة الذين نقضوا عهد الله تعالى بالطاعة والتسليم له ولمن نصّبه حجّة على الناس وتركوا الأئمة (عليهم السلام) وقطعوا صلتهم المأمور بها كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ (الرعد: 25).
عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) في الآية الكريمة قال: «إن رحم آل محمد معلّقة بالعرش يقول: اللهم صِل من وصلني، واقطع من قطعني، وهي تجري في كلّ رحم، ونزلت هذه الآية في آل محمد»(12).
أهل البيت (عليهم السلام):
عن جميل الدرّاج عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: قلت: قول الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ﴾ (غافر: 51)؟
قال: «ذلك والله في الرجعة، أما علمت أن أنبياء كثيرة لم ينصروا في الدنيا وقتلوا والأئمة بعدهم قتلوا ولم ينصروا، ذلك في الرجعة»(13).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) أنه تلا هذه الآية: ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ﴾ قال: «الحسين بن علي منهم، ووالله إن بكاكم عليه وحديثكم بما جرى عليه وزيارتكم قبره نصرة لكم في الدنيا، فأبشروا فإنكم معه في جوار رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(14).
إن قوله (عليه السلام): «إن الحسين بن علي منهم» هو إشارة إلى رجعته (عليه السلام) في دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
الآية الثالثة: ﴿مُتِمُّ نُورِهِ﴾:
قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ (الصف: 8).
وقوله: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ (التوبة: 32).
المفسّرون:
ذكر بعض المفسّرين(15) أن ﴿نُورَ اللهِ﴾ في الآية الكريمة هو نور القرآن والإسلام، وفي حديث أهل البيت (عليهم السلام) أنه الإمام والإمامة.
المناقشة:
أولاً:
إن ﴿نُورَ اللهِ﴾ (عزَّ وجلَّ) في كثير من الآيات القرآنية هو الإمام (عليه السلام) كما في قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً﴾ (النساء: 174).
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «نزل جبرئيل (عليه السلام) على محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بهذه الآية: ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً﴾ في علي والبرهان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)».
قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ (النساء: 175) قال: «بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)»(16).
ثانياً: إن إطفاء النور المادي العادي ممكن باستعمال النفخ من الأفواه أو الآلات، أمّا نور الله (عزَّ وجلَّ) فلا يمكن أن يُطفأ بالأفواه لأنه ليس نوراً مادياً بل هداية، وعلى رأسها إمامة جعلها الله (عزَّ وجلَّ) مناراً للناس ونوراً يمشون به، فالمراد هو معارضة المنافقين للإمامة بأفواههم وأقوالهم لأنها هي مرماهم الحقيقي من الدين وليس عموم الإسلام والقرآن.
إن حتميّة إتمام نور الله تعالى تنطبق على حتميّة إتمام أمر الإمامة وقيام الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) بولايتهم أكثر من إتمام نزول القرآن الكريم كما فسّروا، فالنزول واضح الحصول وسهل المنال ولا يستطيع أحدٌ إيقافه، أمّا الأئمة (عليهم السلام) فقد سعى المنافقون لإزاحتهم عن مناصبهم الربّانية وإبعاد الناس عنهم وقتلهم ومحاولة قطع نسلهم فلا يبقى لأهل هذا البيت من باقية كما حاولوا ذلك في كربلاء، وكما جرى في ترقّب ولادة الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) ممّا اقتضى أن يظهر الحَمل به في ليلة الولادة ليلة النصف من شعبان وتمّت بسريّة شديدة وأُخفي عن الأعداء لأن الله (عزَّ وجلَّ) ﴿وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ (الصف: 8).
ومصطلح ﴿الْكافِرُونَ﴾ في القرآن الكريم مفهوم مشكك له مراتب متعددة تشمل كلِّ رادٍّ وتارك لأمر الله تعالى من مشرك أو مسلم كما ورد في تارك الحج، قال تعالى:
﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ﴾ (آل عمران: 97)، وكذا تارك الشكر: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ﴾ (إبراهيم: 7).
ثالثاً: يؤيد أن المرادَ من إتمام نور الله (عزَّ وجلَّ) هو إتمام عدد الأئمة (عليهم السلام) وظهور قائمهم (عجَّل الله فرجه) كما سيأتي في روايات الآية التالية لآية البحث قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33).
عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: سألته...
قلت: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾؟
قال: «هو الذي أمر رسوله بالولاية لوصيه والولاية هي دين الحق».
قلت: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾؟
قال: «يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم»(17).
أهل البيت (عليهم السلام):
عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لن تخلو الأرض من حجّةٍ عالمٍ يُحيي فيها ما يُميتون من الحق».
ثم تلا هذه الآية: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾ (الصف: 8)(18)، فالنور المراد إطفاءه هو الإمام والحجة والعالم (عليه السلام) وهو صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: «﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾ والله لو تركتم هذا الأمر ما تركه الله»(19).
إشارة إلى نهاية الأمر الإلهي في تطبيق الدين يتركه من قبل الناس والله (عزَّ وجلَّ) لا يتركه حتّى يتمّه على يد القائم (عجَّل الله فرجه).
وعن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تبارك وتعالى: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ﴾؟
قال: «﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا﴾ ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) بأفواههم».
قلت: قوله تعالى: ﴿وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ﴾؟
قال: «يقول: ﴿وَاللهُ مُتِمُّ﴾ الإمامة، والإمامة هي النور وذلك قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا﴾ [التغابن: 8]» قال: «النور هو الإمام»(20)، والإتمام يكون بنصر القائم (عجَّل الله فرجه) في آخر الزمان.
وعن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: وعدنا أبو الحسن الرضا (عليه السلام) ليلة إلى مسجد دار معاوية فجاء فسلّم فقال: «إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور الله حين قبض الله تبارك وتعالى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأبى الله إلّا أن يتم نوره، وقد جهد علي بن أبي حمزة على إطفاء نور الله حين مضى أبو الحسن الأول (عليه السلام) فأبى الله إلّا أن يتم نوره، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس، فاحمدوا الله على ما منَّ عليكم به، إن جعفراً كان يقول: فمستقر ومستودع، فالمستقر: ما ثبت من الإيمان والمستودع: المُعار، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس فاحمدوا الله على ما منَّ عليكم به»(21).
الآية الرابعة: ﴿بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾:
قال الله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ (الأنعام: 158).
المفسّرون:
ذكر بعض المفسّرين(22) أن ﴿بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾ في الآية الكريمة هي الآيات التي تضطر الناس للإيمان فلا ينفع الإيمان حينها، وفي الحديث أنه القائم (عجَّل الله فرجه).
المناقشة:
أولاً: أن الآية الكريمة المكيّة هي وعيدٌ من الله (عزَّ وجلَّ) للمخالفين والرافضين والكافرين بالرد لما جاء به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهم هنا المنافقون أو المشركون على تقدير دخولهم في الإسلام مستقبلاً ونفاقهم، وذلك لعلم الله (عزَّ وجلَّ) بانتهاء مشكلة المشركين بعد فتح مكة وبروز فئة المنافقين أكثر مما كانت قبل الفتح وقيادتها الصراع مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لإفشال ما جاء به وإصرارها على إيقافه - لا أقل بعد وفاته - وذلك برفضهم ومخالفتهم وردّهم الأمر بولاية وطاعة علي والأئمة من ذريّته (عليهم السلام)، فتوعّدهم الله (عزَّ وجلَّ) بإحدى عواقب ثلاثة ودعاهم لانتظارها قائلاً: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾.
ومجيء الملائكة للناس إمّا عند الموت حيث كلّ منهم سيعلم مصيره، أو مجيء ملائكة العذاب إليهم في الدنيا.
والتفسير الثاني بعذاب الملائكة في الدنيا مُعارَضٌ بما ورد من رفع العذاب الشامل عن هذه الأمة مع وجود رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيهم ومع الاستغفار كما في قوله تعالى: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال: 33).
أمّا قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ فهو بمعنى (آيات ربّك) بقرينة ما بعدها من الحالة الثالثة في الوعيد وهي قوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾، حيث ذكر الكل ثم ذكر البعض من آيات ربك وبالتالي هي المراد من ﴿يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾.
وآيات الله (عزَّ وجلَّ) إن أُريد بها آياته ودلائله في السماوات والأرض فلا يُعقل مجيئها كاملة في قِبال مجيء بعضها في الحالة الثالثة، وقد ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير الآية الكريمة أن الآيات هم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) وبعض الآيات هو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
فيكون الوعيد للمنافقين بقوله تعالى: ﴿أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ بمعنى تأتي آيات ربّك أي الأئمة (عليهم السلام) وذلك بفشل المنافقين وخسارتهم عندما يحكم (لو قُدّر ووقع) بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوصياؤه وخلفاؤه كما أراد الله (عزَّ وجلَّ) فيقيمون الحق والهُدى ويقضون على الباطل والضلال المتمثل بالمنافقين على مدى التاريخ الإسلامي وإلى يوم القيامة.
ثم شرحت الآية الكريمة الحالة الثالثة في الوعيد وهي الأبعد في سياق العذابات الدنيوية المتوعّدة لهم والمدعوّون لانتظارها فقالت: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ (الأنعام: 158).
والبعض إشارة للجزئيّة، ويُطلق على الفرد الواحد من مجموعةٍ كما على أفرادٍ منهم، وهنا هذا البعض من آيات الله (عزَّ وجلَّ) هو ما ورد من تفسيرٍ عن أهل البيت (عليهم السلام) أنه القائم (عجَّل الله فرجه) الذي يظهر فيحسم الصراع بين الحق والباطل ويقضي على النفاق والمنافقين، وهذا هو الوعيد الأخير الذي ينتظر المخالفين والمنافقين ﴿قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾.
ثانياً: يؤيد أن المنافقين موعودون بعذاب الخسارة والفشل والعقاب قول الله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ﴾ (غافر: 77).
فإمّا يشهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خسارتهم وإفشال مخططاتهم في حياته عندما يستجيب المسلمون جميعاً له في ولاية وصيّه علي (عليه السلام) وسقوط المنافقين وفشل كيدهم في زمانه، وهذا بعض ما يعدهم الله (عزَّ وجلَّ) من نصرة الحق بأئمة الحق وخذلان الكفر والنفاق، والباقي من الوعيد يكون بتولية أوصياء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من بعده إلى يوم القيامة.
وإن لم يفعل المسلمون ذلك ولم يكن النصر على المنافقين في حياة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسيؤجّل أمرُهم إلى قيام الحجة القائم (عجَّل الله فرجه) ويُتوفّى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل ذلك، وهذا قوله تعالى: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾، وهذا ما صرّحت به بعض الروايات.
ففي تفسير علي بن إبراهيم ما يُفهم منه طبيعة الوعيد الإلهي للمنافقين بنصرة الحق على يد أئمة الحق: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ يا محمد ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من الرجعة وقيام القائم(23). أي نقدر لك البقاء إلى ذلك اليوم.
أهل البيت (عليهم السلام):
عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ (الأنعام: 158) فقال: «الآيات هم الأئمة، والآية المنتظرة هو القائم (عليه السلام)، فيومئذٍ ﴿لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ قيامه بالسيف وإن ﴿آمَنَتْ﴾ بمن تقدّمه من آبائه (عليهم السلام)»(24).
وعن أبي بصير قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً﴾ (الأنعام: 158) «يعني خروج القائم المُنتظر منّا»(25).
الآية الخامسة: ﴿أُمَّةٌ مَعْدُودَة﴾:
قال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ﴾ (هود: 8).
المفسّرون:
قال بعضُ المفسّرين: إن الأُمّة المعدودة هي الحينُ والزمان لقوله تعالى: ﴿وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ...﴾ (يوسف: 45)(26) أي بعد حينٍ وزمان، والصحيحُ أنها في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وأصحابهِ الثلاثمائة وثلاثة عشر.
المناقشة:
أولاً:
أن الحينَ والزمانَ لا يوصفان بلفظِ العدد، فلا نقول: زمانٌ معدود، ولا: حينٌ معدود، وإنما يُذكران بالأجلِ أو السنين أو الشهور أو الأيام، في حين أن الأُمّة توصفُ بالعددِ لأنها مجموعة أفراد كقوله تعالى: ﴿وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ﴾ (القصص: 23).
ثانياً: أن هذا العذاب المؤجَّل والمؤخَّر في هذه الآيةِ الكريمةِ هو من عذابِ الدنيا وليسَ هو عذابَ الآخرة لأن يوم القيامة لا يوصف وقتُه بالأُمّةِ المعدودة.
وأيضاً لقولهم في نفس الآية: ﴿ما يَحْبِسُهُ﴾ (هود: 8) فهو تحدٍ بانتظارِ عذابٍ دنيويٍ قريب، فيجيبُهم الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ﴾.
فهو عذابٌ سيأتيهم في يومٍ من أيام الدنيا (وإن كان ينسجم أيضاً مع يوم القيامة أو الموت وعذاب القبر)، إلّا أنه هنا عذابٌ خاصٌّ لهذه الفئةِ يتوعّدهم الله به قريباً.
وهذا ينسجم مع روايات قيام الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وما يرافقه من عذاب للظالمين، وليس هناك مصداقٌ آخر في العذاب يتوافق مع هذا الوعيدِ القريب المحقّق.
وهو ليس العذاب السماوي والإهلاك العام؛ لأنه مرفوعٌ عن هذهِ الأمة لقوله تعالى: ﴿وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ (الأنفال: 33).
فلا يبقى هناك إلّا العذاب الخاص بهذه الفئةِ على يدِ الأُمّةِ المعدودة.
أهل البيت (عليهم السلام):
قال علي (عليه السلام): «الأمة المعدودة أصحابُ القائمِ الثلاثمائة والبِضعَة عشر»(27).
وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: «أصحابُ القائمِ (عليه السلام) الثلاثمائة والبِضعَة عشر رجلاً هُم والله الأمّة المعدودة التي قال الله في كتابه: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ﴾»(28).
وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «العذابُ خروجُ القائمِ (عليه السلام)، والأمّة المعدودة عِدّةُ أهلِ بدرٍ وأصحابه»(29).
الآية السادسة: ﴿يُنَادِ المُنَادِ﴾:
قال الله تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ﴾ (ق: 41-44).
المفسّرون:
ذكر بعض المفسّرين(30) أن النداءَ المذكور في الآية الكريمة هو ليوم القيامة، وأن الصيحة هي ليوم الخروج في يوم القيامة، فيما ورد عن الأئمة (عليهم السلام) أنه يوم خروج القائم (عجَّل الله فرجه) والرجعة.
المناقشة:
أولاً:
أن النداء في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ﴾ هو صوت يوجه لمستمعٍ أو مستمعين بأمرٍ معيّن، وقد بدأت الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ﴾ أي انتظر سماع نداءٍ، وهذا غير الصيحة السماوية العامة للخلائق كافة للقيام في ساحة الحساب كما في قوله تعالى:
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً﴾ (الكهف: 99).
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ (يس: 51).
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ﴾ (الزمر: 68).
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾ (ق: 20).
فهناك فرقٌ يلوح بين النداء والمنادي في الآية الكريمة والنفخ في الصور الجامع للخلائق.
ثانياً: قوله تعالى عن محلِّ المنادي أن النداء يكون ﴿مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ من المُنادى، ونفخة إسرافيل في الصور ستكون حيث يسمع من في السماوات ومن في الأرض. فهي وإن كانت قريبة أيضاً لكل الناس إلّا أن القرب المكاني من المنادى يشعر (توافقاً مع الرواية التي ذكرت الرجعة) أن المراد المقابر والحشر الجزئي في الرجعة.
قال الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ﴾ «يعنى صخرة بيت المقدس، سمّاها مكاناً قريباً لأنها أقرب من سائر الأرضين إلى السماء بثمانية عشر ميلاً، فيقوم مَلَك عليها وينادي: يا أيتها العظام البالية، والأوصال المقطعة، إن الله يأمركم أن تُجمعن لفصل القضاء والأرض المقدّسة»(31).
وهي ليست أرض القيامة بل في عالم الدنيا.
ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ * وَقالُوا آمَنَّا بِهِ...﴾ (سبأ: 51-52).
في تفسير العياشي: ﴿وَقالُوا آمَنَّا بِهِ﴾ يعني القائم من آل محمد(32).
ثالثاً: أن قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ﴾ (ق: 42) يشيرُ إلى صيحةٍ بكلامٍ ونداءٍ محتواه حق، وليست هي نفخة صورٍ صاعقة وجامعة للخلائق، وهذا يوافق ما ورد من علامات الظهور المبارك لإمامنا (عجَّل الله فرجه).
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة والسفياني والخسف وقتل النفس الزكية واليماني»(33).
وعنه (عليه السلام) في النداء قال: «ينادي مناد من السماء أول النهار: ألا إن الحق في علي وشيعته، ثم ينادي إبليس لعنه الله في آخر النهار: ألا إن الحق في السفياني وشيعته، فيرتاب عند ذلك المبطلون»(34).
إن الحق في ذكر محمد هو الحق الذي جاءت به الصيحة.
وعنه (عليه السلام) أيضاً قال: «ينادي مناد باسم القائم (عليه السلام)».
قلت: خاصٌّ أو عام؟
قال: «عامٌّ يسمع كلّ قوم بلسانهم».
قلت: فمن يخالف القائم (عليه السلام) وقد نودي باسمه؟!
قال: «لا يدعهم إبليس حتى ينادي في آخر الليل ويشكّك الناس»(35).
وعنه (عليه السلام) قال: «الصيحة التي في شهر رمضان تكون ليلة الجمعة لثلاث وعشرين مضين من شهر رمضان»(36).
وعنه (عليه السلام) قال: «صوت جبرائيل من السماء، وصوت إبليس من الأرض فاتبعوا الصوت الأول، وإياكم والأخير أن تفتتنوا به»(37).
رابعاً: قوله تعالى: ﴿ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ يعني خروج الأموات من القبور، وهو خروج جزئي لمن محض الإيمان ليشهد يوماً عظيماً من أيام الله (عزَّ وجلَّ)، ومن محض الكفر ليُحاسب ويُعاقب العقاب الدنيوي، وذلك في الرجعة يوم قيام الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
ويؤيد أن المراد من ﴿يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ خروج الأموات من القبور في الدنيا الآيتان التاليتان لها، الأولى تدفع الاستغراب من حصول ذلك بقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ﴾ (ق: 43).
ثم الآية التالية تصف ذلك الخروج الجزئي: ﴿يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ﴾ (ق: 44).
وجاءت لفظة الحشر بالتنكير الموحي بالجزئيّة والصغر ﴿ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ﴾ لا تستغربوا له، وهو غير الحشر العام كما في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ (المؤمنون: 79).
الخلاصة:
يظهر أن النداء السماوي في الآية الكريمة ليس نداءً وصيحة ليوم القيامة بل هو لمنادٍ من مكانٍ قريبٍ ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ﴾ (ق: 42) باسم القائم (عجَّل الله فرجه)، وفي ذلك اليوم تكون الرجعة والقيامة الصغرى والحشر اليسير.
أهل البيت (عليهم السلام):
عن جميل بن درّاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ﴾ (غافر: 51)؟
قال: «ذلك والله في الرجعة، أما علمت أن أنبياء الله كثيراً لم يُنصروا في الدنيا وقتلوا، وأئمة قد قتلوا ولم ينصروا، فذلك في الرجعة».
قلت: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ [ق: 41-42]؟
 قال: «هي الرجعة»(38).
وعنه (عليه السلام) قال: «... إن قدّام هذا الأمر خمس علامات: أولاهن النداء في شهر رمضان وخروج السفياني، وخروج الخراساني، وقتل النفس الزكية، وخسف بالبيداء ولا يخرج القائم حتى ينادى باسمه من جوف السماء في ليلة ثلاث وعشرين في شهر رمضان ليلة جمعة باسمه واسم أبيه، ألا إن فلان بن فلان قائم آل محمد فاسمعوا له وأطيعوه، فلا يبقى شيء من خلق الله فيه الروح إلّا يسمع الصيحة، فتوقظ النائم ويخرج إلى صحن داره، وتخرج العذراء من خدرها، ويخرج القائم ممّا يسمع، وهي صيحة جبرئيل (عليه السلام)»(39).
الآية السابعة: ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾:
قال الله تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ﴾ (يونس: 46).
المفسّرون:
ذكر بعض المفسّرين(40) أن وعيد الله (عزَّ وجلَّ) للكافرين والمنافقين في الآية الكريمة هو من أنواع العذاب الدنيوي ومعركة بدر، والمستفاد من الحديث هو ما يُصاب به المنافقون من خسارة وعقوبة عندما تفشل مخططاتهم وينتصر الحق بإمام الحق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووصيّه علي (عليه السلام) في زمانه، أو بقيّة أوصيائه (عليهم السلام) وآخرهم المهدي (عجَّل الله فرجه) بعد وفاته.
المناقشة:
أولاً: جاء تطييب قلب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذكر التهديد لأعدائه بإمكان إيقاع عقوبة الكافرين والمنافقين في زمانه ببعض ما توعّدهم به الله (عزَّ وجلَّ) في هذه الآية الكريمة وآيات أخرى، كما قوله تعالى:
﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ﴾ (غافر: 77).
﴿وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ﴾ (الرعد: 40).
﴿وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ﴾ (المؤمنون: 95).
وهذا يُشير إلى أهميّة هذا الوعيد، وإلى شدّة أذى هؤلاء الأعداء للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعلى رأسهم المنافقون لأنهم هم العدو الحقيقي والأخطر.
وهذا العذاب الموعودون به لا يكون بنزول بعض العذاب الدنيوي والحياتي العادي والمادي عليهم دون بقية المسلمين والناس، فالمراد عذابهم بفشلهم وإحباط مؤامراتهم وفضحهم وانتهاء شرّهم بين المسلمين وعقابهم على يد إمام الحق، وذلك بنجاح ولاية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والتي هي مرمى سهامهم وموضع بغضهم وحقدهم وحسدهم وكيدهم، أو انتهاء الأمر بظهور القائم (عجَّل الله فرجه) ومعاقبتهم للظالمين والمنافقين.
ثانياً: يؤيد أن الآية الكريمة تشير إلى زمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحكم الأئمة (عليهم السلام) المفترض كلٌّ في زمانه قوله تعالى بعدها: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ (يونس: 47).
عن جابر عن الإمام الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ قال: «تفسيرها في الباطن أن لكلِّ قرنٍ من هذه الأمة رسولاً من آل محمد يخرج إلى القرن الذي هو إليهم رسول، وهم الأولياء وهم الرسل»(41).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ﴾ قال: «أي في كلِّ قرنٍ إمامٌ يدعوهم إلى طريق الحق»(42).
ووجود الإمام في كل زمان وعمله الرباني هو بحدّ ذاته عقوبة.
ثالثاً: يؤيد أن الوعيد الإلهي للمنافقين هو حكم الأئمة (عليهم السلام) المفترض ومنهم الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)، قول الله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ (الأنعام: 158).
عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال في الآية الكريمة: «الآيات هم الأئمة، والآية المنتظرة هو القائم (عليه السلام)، فيومئذٍ ﴿لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ﴾ قيامه بالسيف وإن آمنت بمن تقدّمه من آبائه (عليهم السلام)»(43).
أهل البيت (عليهم السلام):
تفسير علي بن إبراهيم: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ يا محمد ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من الرجعة وقيام القائم(44).
الآية الثامنة: ﴿الْعَذَابِ الْأَدْنَى﴾:
قال الله تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (السجدة: 21).
المفسّرون:
ذكر بعض المفسّرين(45) أن ﴿الْعَذابِ الْأَدْنى﴾ هو مصائب الدنيا، أو عذاب القبر، في حين ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه عذاب الرجعة.
المناقشة:
أولاً:
إن الآية الكريمة تذكرُ وعيداً من الله (عزَّ وجلَّ) للفاسقين الذين تقدّم ذكرهم في الآية السابقة لآية البحث بقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ (السجدة: 20).
وبالتالي هو عذابٌ خاص، أما مصائب الدنيا فهي من شؤونها الطبيعيّة وهي لكلّ الناس المؤمن والكافر ولا يصدق عليها أنها عذابٌ موعود، وقد لا يجد الفاسقون فيه ردعاً عن ضلالهم عادة ولا يرجعون.
أمّا تفسير ﴿الْعَذابِ الْأَدْنى﴾ بعذاب القبر فهو غير صحيح أيضاً لأنه لا رجعة فيه للمعذّبين - وهم في عالم البرزخ - إلى الدنيا وإلى دينهم، فلا ينطبق عليه قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ كهدفٍ للعذاب.
ثانياً: أن قوله تعالى: ﴿الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ﴾ يشيرُ إلى قرب هذا العذاب إلى الفاسقين في الحياة الدنيا لأنه أدنى، وأيضاً قلّته بالنسبة إلى العذاب الأكبر يوم القيامة فهو دونه، واتحاد الاسم للوعيدين بقوله تعالى: ﴿الْعَذابِ﴾ يشير إلى التشابه بينهما، فالعذابان هما عقوبتان إلهيّتان لمستحقين، وبما أن عذاب يوم القيامة يكون بعد حساب ومحاكمة واستحقاق، فكذلك في عصر الرجعة يكون عذاب الفاسقين والمنافقين بعد حساب ومحاكمة واستحقاق.
ثالثاً: يشير قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إلى الهدف من هذا العذاب وهو احتمال ورجاء توبتهم ورجوعهم عن الفسق والانحراف إلى الحق والإيمان، ولعلّ هذا العذاب ناظرٌ لأئمتهم - ممّن سينالهم العذاب وإقامة الحد - والرجوع هو لأتباعهم في الواقع الخارجي العملي، وربّما المقصود ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ بعد معرفتهم بهذا الوعيد وهم في ذلك الزمن.
رابعاً: ويؤيد أن الآية الكريمة تشيرُ إلى الرجعة قوله تعالى في الآيات التالية لها - بعد بضع آيات - من السورة قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إلى الْأَرضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ﴾ (السجدة: 27).
وهو مثلٌ يشير إلى إحياء أمر الدين والحق بعد الخراب كما هو إحياء الأرض الخراب فجاء سؤال المنافقين: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ (السجدة: 28).
فأجابهم تعالى بقوله: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ (السجدة: 29).
ثم قال لنبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾ (السجدة: 30).
عن ابن دراج قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ (السجدة: 29) قال: «﴿يَوْمَ الْفَتْحِ﴾ يوم تفتح الدنيا على القائم لا ينفع أحداً تقرّب بالإيمان ما لم يكن قبل ذلك مؤمناً وبهذا الفتح موقناً، فذلك الذي ينفعه إيمانه، ويعظم عند الله قدره وشأنه، وتُزخرف له يوم البعث جنانُه، وتُحجب عنه نيرانُه، وهذا أجرُ الموالين لأمير المؤمنين وذرّيته الطيّبين صلوات الله عليهم أجمعين»(46).
وقال علي بن إبراهيم ݥ في تفسيره في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إلى الْأَرضِ الْجُرُزِ﴾ (السجدة: 27) قال: الأرض الخراب، وهو مثل ضربه الله (عزَّ وجلَّ) في الرجعة والقائم صلوات الله عليه، فلمّا أخبرهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بخبر الرجعة قالوا: ﴿وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ وهذه معطوفة على قوله: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، فقالوا: ﴿مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ فقال الله (عزَّ وجلَّ): ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ يا محمد ﴿وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ(47).
أهل البيت (عليهم السلام):
قال المفضّل للإمام الصادق (عليه السلام) في حديثٍ: يا مولاي ما ﴿الْعَذابِ الْأَدْنى﴾ وما ﴿الْعَذابِ الْأَكْبَرِ﴾؟
قال (عليه السلام): «﴿الْعَذابِ الْأَدْنى﴾ عذاب الرجعة ﴿الْعَذابِ الْأَكْبَرِ﴾ عذاب يوم القيامة الذي يبدّل فيه الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهّار»(48).
الآية التاسعة: ﴿إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ﴾:
قال الله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾ (مريم: 75).
المفسّرون:
ذكر بعض المفسّرين أن ﴿مَا يُوعَدُونَ﴾ في الآية الكريمة هو عذاب الاستئصال في الدنيا ولمشركي قريش هو معركة بدر، وفي الحديث الشريف أن ﴿مَا يُوعَدُونَ﴾ هو خروج القائم من آل محمد (عجَّل الله فرجه) والعذاب ما ينزل بهم على يديه.
المناقشة:
أولاً:
أن الآية الكريمة تتحدّث عن الضالّين، والضالّون هم المشركون والمنافقون، فكلّهم في ضلال مبين، ولا دليل على إرادة المشركين منهم خاصّة لا في الآية الكريمة ولا في الحديث الشريف، فيما هناك قرائن ومرجّحات فيها تؤكّد إرادة المنافقين أيضاً.
فالمشركون عبدة الأصنام كفئة ضالّة انتهى خطرها ووجودها في صدر الإسلام، وما إن فُتحت مكّة وانتصر المسلمون في معركة حُنين بعد الفتح انكسرت شوكتهم في الجزيرة العربية واتجهوا نحو الاضمحلال حتى انتهت مشكلتهم في السنين الأولى من تاريخ الإسلام والمسلمين فما أضعف مقولة وفعل عبادة الأصنام أمام الإسلام الدين الإلهي العظيم.
أمّا المنافقون فقد بدأت مشكلتهم مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والإسلام منذ السنين الأولى واستمرّت محتلّة المرتبة الأولى في العداء للحق وأهله حتى قال الله تعالى عنهم: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون: 4).
ومن هنا نجد أن القرآن الكريم تحدّث عن المنافقين كثيراً ومنه سورة سمّيت باسمهم، ومن ذلك الوعيد الإلهي لهم في مواجهة عدائهم المستمر عبر التاريخ حتى نهايته بظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وذلك في قوله تعالى في آية البحث: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾.
ثانياً: جاء في تفسير قوله تعالى في الآية: ﴿وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أن الساعة هي ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فيكون عذابهم الموعود إنما هو على يد الإمام (عجَّل الله فرجه).
ويؤيده قوله تعالى فيها: ﴿فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾ بما يشير إلى أن الموقف سيكون فيه طرفان جهة حق وجهة باطل وجندٌ أقوى وجندٌ أضعف، وهذه الأوصاف تنطبق على مرحلة قيام الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أكثر من يوم القيامة، فلا مقارنات مكانة ولا جُند في ساعة وساحة المحشر.
ومن هنا جاءت الآية التالية لآية البحث مشيرةً لدور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في هداية الناس في حكمه ودولته، قوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا﴾.
عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت: قوله: ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾؟ قال: «يزيدهم ذلك اليوم هُدى على هُدى باتباعهم القائم حيث لا يجحدونه ولا ينكرونه»(49).
ثالثاً: يؤيد أن يوم ظهور القائم (عجَّل الله فرجه) هو وعيد إلهي بمعاقبة الضالين والمنافقين وتاركي ولاية أهل البيت (عليهم السلام) قوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ (الأنعام: 158).
عن أبي بصير قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾: «يعني خروج القائم المُنتظر منّا»(50).
رابعاً: ويؤيد ذلك أيضاً قوله الله تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾ (يونس: 46).
عن ضريس الكناسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال في حديثٍ: «... وأمّا النصّاب من أهل القبلة فإنهم يُخدُّ لهم خدٌّ إلى النار التي خلقها الله في المشرق، فيدخل عليهم اللهب والشرر والدخان وفورة الحَميم إلى يوم القيامة، ثم بعد ذلك مصيرهم إلى الجحيم ﴿فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْـرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللهِ﴾ أي: أين إمامكم الذين اتخذتموه دون الإمام الذي جعله الله إماماً؟!
ثم قال لنبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾»(51).
وفي تفسير علي بن إبراهيم: ﴿فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ يا محمد ﴿بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾ من الرجعة وقيام القائم(52).
أهل البيت (عليهم السلام):
عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديثٍ قال: ... قلت: قوله: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا﴾؟
قال: «كلّهم كانوا في الضلالة لا يؤمنون بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا بولايتنا فكانوا ضالّين مُضلّين، فيمدّ لهم في ضلالتهم وطغيانهم حتى يموتوا فيصيّرهم الله شرّاً مكاناً وأضعف جنداً».
قلت: قوله: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾؟
قال: «أمّا قوله: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ﴾ فهو خروج القائم وهو الساعة، فسيعلمون ذلك اليوم وما نزل بهم من الله على يدي قائمه، فذلك قوله: ﴿مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا﴾ يعني عند القائم ﴿وَأَضْعَفُ جُنْدًا﴾»(53).
خاتمة:
هذه بعض الآيات الكريمة التي ذكرت وأشارت إلى أن القائم من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ضرورة في حركة الدين ونصر الإيمان والمؤمنين في آخر الزمان، وهناك آيات أخرى في ذلك.

الهوامش:

(1) لسان العرب 2: 536.
(2) دلائل الإمامة: 188.
(3) تأويل الآيات 2: 445.
(4) كتفسير التبيان للشيخ الطوسي 10: 425؛ الميزان 20: 376.
(5) كتفسير مقاتل بن سليمان 3: 53.
(6) المعجم الكبير للطبراني 2: 2676.
(7) أمالي الشيخ المفيد: 288.
(8) عنه تفسير البرهان 5: 517.
(9) تفسير التبيان 2: 7؛ مجمع البيان 8: 447.
(10) نهج البلاغة 1: 93.
(11) مختصر البصائر: 123.
(12) بحار الأنوار 23: 265.
(13) تفسير القمي 2: 258.
(14) تفسير أبي حمزة الثمالي: 290.
(15) تفسير التبيان 5: 207 عن السدي.
(16) تفسير فرات الكوفي: 116.
(17) الكافي 1: 432.
(18) بصائر الدرجات: 507.
(19) بحار الانوار 23: 320.
(20) الكافي 1: 196.
(21) قرب الإسناد-الحميري: 347.
(22) مجمع البيان 4: 201.
(23) تفسير القمي 1: 312.
(24) كمال الدين وتمام النعمة: 18.
(25) تفسير نور الثقلين 1: 781.
(26) مجمع البيان 2: 538.
(27) بحار الأنوار 51: 44.
(28) معجم أحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) 5: 168.
(29) غيبة النعماني: 247.
(30) تفسير التبيان 9: 375.
(31) روضة الواعظين: 408.
(32) تفسير العياشي 2: 57.
(33) الكافي 8: 310.
(34) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق:652.
(35) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق:650.
(36) المصدر السابق.
(37) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق:652.
(38) مختصر بصائر الدرجات: 18.
(39) الغيبة للنعماني: 301.
(40) تفسير التبيان 6:264.
(41) مستدرك سفينة البحار 1: 192.
(42) مستدرك سفينة البحار 4: 136.
(43) كمال الدين وتمام النعمة: 18.
(44) تفسير القمي 1: 312.
(45) مجمع البيان 8: 110.
(46) تأويل الآيات 2: 445.
(47) تفسير نور الثقلين 4: 233.
(48) الهداية الكبرى-الحسين بن حمدان الخصيبي: 418.
(49) الكافي 1: 431.
(50) تفسير نور الثقلين 1: 781.
(51) تفسير نور الثقلين 4: 535.
(52) تفسير القمي 1: 312.
(53) الكافي 1: 431.

العدد ١١ / جمادى الآخرة / ١٤٤٢ هـ : ٢٠٢١/٠١/١٧ : ٥.٧ K : ٠
: السيد باسم الصافي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

محتويات العدد: