أبحاث العدد:
المسار:
الموعود » اعداد المجلة » العدد ١١ / جمادى الآخرة / ١٤٤٢ هـ
لتصفح المجلة بـ Flsh
لتحميل المجلة كـ Pdf
العدد 11 / جمادى الآخرة / 1442 هـ

أخبار المهديين بين النفي والإثبات

أخبار المهديين بين النفي والإثبات

السيد زين العابدين المقدس الغريفي

إن المتدبر في النصوص الإسلامية من الكتاب والسنة يدرك عظمة شخصية (المهدي (عجَّل الله فرجه)) ومنصبه؛ لكونه الامتداد الطبيعي لسلسلة الحجج المجعولة من المولى (عزَّ وجلَّ) على الناس في كل زمان ومكان، إذ لولاهم لساخت الأرض بأهلها وانقطع سبب بقائها وديمومتها، طبقاً لمبدأ الاصطفاء الإلهي لقوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (القصص: 68).
إذ إن التنصيب الإلهي للمهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) أمر مقطوع عند الإمامية، وقد وردت فيه الأحاديث المتواترة، منها ما رواه الصدوق بسند صحيح عن الحسين بن علي (عليه السلام) أنه قال: «سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن معنى قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إني مخلِّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، من العترة؟ فقال: أنا والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم وقائمهم لا يفارقون كتاب الله ولا يفارقهم حتى يردوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حوضه»(1).
وما رواه الصدوق بسند معتبر عن الصادق جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): المهدي من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً، تكون له غيبة وحيرة حتى تضل الخلق عن أديانهم، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب فيملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(2).
ولكون خروجه (عجَّل الله فرجه) في آخر الزمان، فقد استفاضت النصوص الشريفة في بيان أحواله في غيبته، وما يرافق ذلك من الفتن والاضطرابات، والعلامات الملازمة للظهور الشريف، وما يحدث بعده من قضايا غيبية، وكان منها مورد البحث، وهي أخبار «المهديين الاثني عشر» وما يرتبط بها من زواج الإمام (عجَّل الله فرجه) وإنجابه للذرية والأولاد.
وفي الجملة: إن أمثال هذه الأخبار الغيبية لا تخلو من غموض وإبهام، حيث يقع فيها الخلط والاشتباه، والتعارض والاضطراب، لعوامل وأسباب كثيرة، منها:
جهل الرواة بموضوعاتها واعتمادهم على النقل بالمعنى واختلاط الصحيح منها بالضعيف بل والموضوع أحياناً(3)، ودخول الإسرائيليات فيها لأغراض دينية وسياسية، ومن أهمها: تعمد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إخفاء بعض الحقائق واعتمادهم طريق الإشارات والرموز في بيان تلك الأحداث، لأجل الحفاظ على سلامة الحجة المنتظر (عجَّل الله فرجه) في غيبته والتمهيد لظهوره وقيامه؛ ومن هنا يلزم عقلاً عدم الركون إليها كلياً ما لم يثبت منها بدليل يفيد القطع أو الاطمئنان أو الحجة المعتبرة.
ولذا فقد استغل بعض الأدعياء على طول خط التاريخ الإسلامي هذه القضية، لكونها تمثل الأمل الذي ينتظره المستضعفون برفع الظلم والحيف عنهم، حيث استفادوا من انتشار الجهل والفقر في كثير من المدن والمناطق الإسلامية لخداعهم ببعض الأباطيل وإيهامهم بدعوى المهدوية أو السفارة عنه، بيد أنه سرعان ما يفتضح أمرهم ويكشف زيفهم لعدم امتلاكهم الحجة، وانكشاف أهدافهم وغاياتهم من هذه الدعوى وأشباهها.
ومن أهم ما استند عليه هؤلاء في إثبات دعواهم هي (أخبار المهديين)، حيث أخذوا يروجون بانطباق مضمونها على صاحبهم بإسقاط فروض واحتمالات تعكس متبنياتهم وقبلياتهم النفسية والاجتماعية والسياسية، فخرجوا لنا برؤية هجينة بعيدة عن مدلول الروايات، ولهذا كان لابد من مناقشتها سنداً ودلالة من خلال الرجوع إلى المصادر الأصلية، وتشخيص نقاط الخطأ في الاستدلال، وازالة مواطن الإبهام والاشتباه حتى لا نقع في شباك الدعاوى الضالة.
وسوف يقع الكلام على مطالب أربعة:
المطلب الأول: عرض روايات المهديين ونقدها:
تعددت الإخبارات الغيبية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) حول علامات آخر الزمان وما يحدث فيها ويخرج منها من أشخاص وأفراد، سواء من جهة دولة الحق وأعوانها أم دولة الباطل وأعوانها، وكان من جملة ما أخبروا به هو خروج اثني عشر مهدياً بعد ظهور المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) ويظهر من خلال التتبع والاستقراء لكتب الحديث الشريف عند الإمامية أنها أخبار آحاد لا ترتقي لمستوى الاطمئنان فضلاً عن القطع، وهي إجمالاً سبعة أخبار جميعها مخدوشة سنداً ودلالة بحيث لا تصلح للاحتجاج فضلاً على إثبات أمر عقدي، وسوف يقع الكلام في جهات ثلاث:
الأولى: ذكر الأخبار المثبتة لظهورهم:
الخبر الأول:
ما رواه الطوسي بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الليلة التي كانت فيها وفاته لعلي (عليه السلام): «يا أبا الحسن أحضر صحيفة ودواة». فأملا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصيته حتى انتهى إلى هذا الموضع فقال: «يا علي إنه سيكون بعدي اثنا عشر إماماً ومن بعدهم اثنا عشر مهدياً، فأنت يا علي أول الاثني عشر إماماً، سماك الله تعالى في سمائه علياً المرتضى، وأمير المؤمنين، والصديق الأكبر، والفاروق الأعظم، والمأمون، والمهدي، فلا تصح هذه الأسماء لأحد غيرك. يا علي أنت وصيي على أهل بيتي حيهم وميتهم... فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه محمد المستحفظ من آل محمد (عليهم السلام). فذلك اثنا عشر إماماً، ثم يكون من بعده اثنا عشر مهدياً، فإذا حضرته الوفاة فليسلمها إلى ابنه أول المقربين له ثلاثة أسامي: اسم كاسمي واسم أبي وهو عبد الله وأحمد، والاسم الثالث: المهدي، هو أول المؤمنين»(4).
وهذا الخبر واهي الإسناد، إذ يحتوي على مجاهيل عدة، منهم: أحمد بن محمد بن الخليل وجعفر بن أحمد المصري، إضافة إلى تصريح الحر العاملي بكونها عامية بقوله: (روى الشيخ في كتاب الغيبة في جملة من الأحاديث التي رواها من طرق العامة في النص على الأئمة (عليهم السلام))(5)، فلا يمكن الاستدلال بها على إثبات أي قضية دينية فضلاً عما يرتبط بالأصول والعقائد كالاستناد إليها في إثبات السفارة والنيابة الخاصة.
مضافاً إلى إعراض علمائنا المتقدمين عنها مما يقتضي وهنها وسقوطها عن الحجية والاعتبار، فكل من تعرض لها نسبها إلى خلاف المشهور(6)، إذ يمكن التساؤل: كيف صح أن يُعرِضوا عنها مع أهمية هذه القضية وخطورتها على الصعيد العقدي للإنسان الشيعي؟!، ولماذا انحصر ذكر الوصية بهؤلاء المهديين في رواية يتيمة ضعيفة السند، ولا يوجد ما يعضدها، بل القرائن والشواهد على خلافها أوضح وأبين؟!، فتأمل.
بل إن القراءة المتفحصة لها توجب سقوطها لظهور التناقض بين صدرها وذيلها، ففي صدر الرواية خص أمير المؤمنين (عليه السلام) بلقب (المهدي) ونفيه عن غيره مطلقاً، إذ الاستثناء بعد النفي في قوله: (فلا تصح هذه الاسماء لاحد غيرك) يفيد الحصر والقصر، بينما يسمي أول المهديين في نفس الرواية بالمهدي وهذا تناقض واضح.
مع وضوح بطلان الحصر، بعد أن صح في روايات مستفيضة أن وصف المهدي شامل لجميع الأئمة والمعصومين، منها ما رواه الصدوق بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لما عرج بي إلى ربي (جلَّ جلاله) أتاني النداء: يا محمد... يا محمد قد اخترت لك من الآدميين علي بن أبي طالب... وأعطيتك أن أخرج من صلبه أحد عشر مهدياً كلهم من ذريتك من البكر البتول، وآخر رجل منهم يصلي خلفه عيسى بن مريم، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت منهم ظلماً وجوراً»(7).
وما رواه الصفار بسنده عن عبد الرحمن بن سالم الأشل عن أبيه قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يا سالم إن الإمام هادي مهدي...»(8).
وما رواه الصفار بسنده عن سليم الشامي أنه سمع علياً (عليه السلام) يقول: «إني وأوصيائي من ولدي مهديون، كلنا محدثون»، فقلت: يا أمير المؤمنين من هم؟ قال: «الحسن والحسين (عليهما السلام) ثم ابني علي بن الحسين (عليه السلام)» قال: وعلي يومئذٍ رضيع ثم ثمانية من بعده واحداً بعد واحد(9).
وفي دعاء العشرات: «وَأَشْهَدُ أَنّ عَلِيّ بِنْ أَبي طَالِب أَمِيرُ المُؤْمِنينَ حَقّاً حَقّاً، وَأَنّ الأَئْمّةُ مِنْ وُلْدِهِ هُمْ الأَئْمّةُ الْهُدَاةُ المَهْدِيّونَ غَيْرُ الضَالّينَ وَلَا المُضِلّينَ»(10).
ثم أن الذي له أسماء ثلاثة هو المهدي (عجَّل الله فرجه) لا ابنه، حيث روى الشيخ الطوسي بسنده عن حذيفة قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذكر المهدي فقال: «أنه يبايع بين الركن والمقام اسمه أحمد وعبد الله والمهدي، فهذه أسماؤه ثلاثتها»(11)، فيكون الضمير (له) راجع إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لا إلى ابنه، ليكشف عن احتمال حصول تحريف أو نقل بالمعنى، فتدبر.
الخبر الثاني:
ما رواه الصدوق بسنده عن أبي بصير قال: قلت للصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): يا بن رسول الله إني سمعت من أبيك (عليه السلام) أنه قال: (يكون بعد القائم اثنا عشر مهدياً)، فقال: (إنما قال: اثنا عشر مهدياً، ولم يقل: اثنا عشر إماماً، ولكنهم قوم من شيعتنا يدعون الناس إلى موالاتنا ومعرفة حقنا)(12).
وسنده مختلف فيه لوقوع علي بن أبي حمزة البطائني فيه، مضافاً إلى تناقض دلالته مع الخبر المتقدم حيث ينفي عن المهديين وصف الإمامة بقرينة التفصيل، فيحمل عليه ليكون مفسراً لمضمونه وشارحاً لدلالته.
الخبر الثالث:
ما رواه الطوسي بسنده عن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث طويل أنه قال: «يا أبا حمزة إن منا بعد القائم أحد عشر مهدياً من ولد الحسين (عليه السلام)»(13).
وهذا الخبر يمكن أن يستظهر منه احتمالات عدة، منها أنه قد يراد منه خروج المهديين من ولد الحسين (عليه السلام) خاصة بعد رجعته، فلا علاقة لها بوجود ذرية للمهدي، مضافاً إلى حصول التعارض بينه وبين الخبرين السابقين من حيث بيان عدد المهديين.
الخبر الرابع:
ما رواه الطوسي من دعاء مروي عن صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) بقوله: خرج إلى أبي الحسن الضراب الأصفهاني بمكة بإسناد لم نذكره اختصاراً نسخته: (... اللهم صل على محمد المصطفى وعلي المرتضى وفاطمة الزهراء والحسن الرضا والحسين المصفى وجميع الأوصياء مصابيح الدجى وأعلام الهدى ومنار التقى والعروة الوثقى والحبل المتين والصراط المستقيم وصل على وليك وولاة عهدك والأئمة من ولده، ومد في أعمارهم وزد في آجالهم وبلغهم أقصى آمالهم ديناً ودنيا وآخرة إنك على كل شيء قدير)(14).
وهذا الخبر ساقط سنداً لجهالة أبي ضراب الأصفهاني وهو: يعقوب بن يوسف، حيث أهمل ذكره في كتب الرجال، مضافاً إلى جهالة الواسطة بين الطوسي والضراب، وبين الضراب والناحية المقدسة حيث لم يعلم أنه لقاه، ولو حصل اللقاء فلا يثبت حجيته إلا له خاصة؛ لعدم امكان اثبات صحته فضلاً عن القطع به.
ومخدوش دلالة من حيث إن وصف الأئمة مختص بالاثني عشر من العترة الطاهرة دون ما سواهم، وهذا الأمر مرتكز عند الشيعة الإمامية ودلت عليه الأخبار المتواترة منها ما رواه الصدوق بسنده عن الصادق، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الأئمة بعدي اثنا عشر أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم القائم، هم خلفائي وأوصيائي وأوليائي، وحجج الله على أمتي بعدي، المقر بهم مؤمن، والمنكر لهم كافر»(15).
وما رواه أيضاً بسنده عن سيد العابدين علي بن الحسين، عن سيد الشهداء الحسين بن علي عن سيد الأوصياء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «الأئمة بعدي اثنا عشر، أولهم أنت يا علي وآخرهم القائم الذي يفتح الله (عزَّ وجلَّ) على يديه مشارق الأرض ومغاربها»(16).
فكل خبر يدل على إمامة غيرهم ساقط عن الحجية فلابد من تأويله وحمله على وجه يرتفع معه التعارض، كحمله على المعنى اللغوي للإمام أو نصبهم قادة تحت لواء الإمام المنتظر (عجَّل الله فرجه) أو إرجاع الضمير إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
الخبر الخامس:
ما رواه الطوسي مرسلاً عن يونس بن عبد الرحمن: أن الرضا (عليه السلام) كان يأمر بالدعاء لصاحب الأمر بهذا: «اللهم ادفع عن وليك وخليفتك وحجتك على خلقك... اللهم صل على ولاة عهده والأئمة من بعده وبلغهم آمالهم وزد في آجالهم وأعز نصرهم وتمم لهم ما اسندت إليهم من أمرك لهم، وثبت دعائمهم واجعلنا لهم أعواناً وعلى دينك أنصاراً، فإنهم معادن كلماتك وخزان علمك وأركان توحيدك ودعائم دينك وولاة أمرك وخالصتك من عبادك وصفوتك من خلقك وأولياؤك وسلائل أوليائك وصفوة أولاد نبيك والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته»(17).
وهو ساقط سنداً بالإرسال، وأمّا دلالة فليس نصاً في إثبات وجود أئمة بعد القائم المهدي (عجَّل الله فرجه) بلحاظ أن (صاحب الأمر) عنوان يطلق على كل إمام في عصره فيحتمل أن يراد منه الرضا (عليه السلام) أو ابنه الجواد (عليه السلام)، حيث يصح الدعاء له ولذريته من الأئمة (عليهم السلام)، ويؤيد ما ذكرناه أن وصف الأئمة مختص بالاثني عشر (عليهم السلام)، كما تقدم أن المهديين ليسوا أئمة في بعض الأخبار.
ولو أغمضنا النظر عما تقدم فإن هذا الدعاء لا يدل إلّا على قضية غيبية مستقبلية، حيث إنه صدر قبل ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه)، فغاية ما تدل عليه أن المهدي سوف يولد وتكون له ذرية في المستقبل، وأمّا إطلاق وصف الأئمة عليهم فقد يراد منه المعنى اللغوي الذي يقتضي التقديم كما في إمام الجماعة وقائد الجيش.
الخبر السادس:
خرج إلى القاسم بن العلاء الهمداني وكيل أبي محمد (عليه السلام): «أن مولانا الحسين (عليه السلام) ولد يوم الخميس لثلاث خلون من شعبان فصمه وادع فيه بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك بحق المولود في هذا اليوم الموعود بشهادته قبل استهلاله وولادته بكته السماء ومن فيها والأرض ومن عليها ولمّا يطأ لابتيها قتيل العبرة وسيد الأسرة الممدود بالنصرة يوم الكرة المعوض من قتله أن الأئمة من نسله والشفاء في تربته والفوز معه في أوبته والأوصياء من عترته بعد قائمهم وغيبته حتى يدركوا الأوتار ويثأروا الثأر ويرضوا الجبار...»(18).
حيث قيل: إن هذا نص صريح على وجود (الأوصياء بعد القائم) من ذرية الحسين (عليه السلام) عن طريق حفيده المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه).
بيد أن هذا فهم سقيم للرواية، إذ إن هذا الخبر مرتبط بزمان الرجعة بقرينة ذكر «الممدود بالنصرة يوم الكرة»، حيث يرجع الإمام الحسين (عليه السلام) لينتقم ممن ظلمه، فقد روى الصدوق بسنده عن مثنى الحناط، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «أيام الله (عزَّ وجلَّ) ثلاثة: يوم يقوم القائم، ويوم الكرة، ويوم القيامة»(19).
فيكون المراد من «والأوصياء من عترته بعد قائمهم» هم الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في زمان الرجعة.
الخبر السابع:
ما ذكر مضمونه الشيخ المفيد في الإرشاد بقوله: (وليس بعد دولة القائم (عليه السلام) لأحد دولة إلّا ما جاءت به الرواية من قيام ولده إن شاء الله ذلك، ولم يرد به على القطع والثبات، وأكثر الروايات: أنه لن يمضي مهدي الأُمّة إلّا قبل القيامة بأربعين يوماً، يكون فيها الهرج، وعلامات خروج الأموات، وقيام الساعة للحساب والجزاء، والله أعلم بما يكون)(20)، وقريب منه ما ذكره الأربلي(21) والطبرسي(22).
وهو ضعيف سنداً بالإرسال، حيث إن الأعلام قد ذكروه بلا سند، ونسبوه إلى خلاف المشهور، مما يقتضي ضعفه ووهنه.
قال البياضي العاملي: (الرواية بالاثني عشر بعد الاثني عشر شاذة، ومخالفة للروايات الصحيحة المتواترة الشهيرة بأنه ليس بعد القائم دولة، وأنه لم يمض من الدنيا إلّا أربعين يوماً فيها الهرج، وعلامة خروج الأموات، وقيام الساعة)(23).
الثانية: دراسة حول إمكانية صدور هذه الأخبار:
تبين من خلال العرض السابق ضعف أسناد هذه الأخبار؛ فتكون حينئذٍ خارجة عن نطاق الحجية، ولا يمكن التمسك بها لإثبات أمر عقدي، إذ لا يكتفى بالظن فيه؛ بلحاظ أن العقيدة تتطلب إيماناً وإذعاناً قطعياً، وخبر الواحد لا يورث القطع وليس من شأنه ذلك، كما أن نسبتها بنحو القطع إلى أهل البيت (عليهم السلام) قد تستلزم الكذب وهو قبيح عقلاً وشرعاً.
يقول الحر العاملي في معرض حديثه عنها: (فلا يخفى أنها غير موجبة للقطع واليقين لندرتها وقلتها، وكثرة معارضتها، كما أشرنا إلى بعضه، وقد تواترت الأحاديث بأن الأئمة اثني عشر، وأن دولتهم ممتدة إلى يوم القيامة، وأن الثاني عشر خاتم الأوصياء والخلفاء... فلو كان يجب علينا الإقرار بإمامة اثني عشر بعدهم لوصل إلينا نصوص متواترة تقاوم تلك النصوص)(24).
ومما يؤكد عدم صدورها معارضتها لطوائف كثيرة من الأخبار، منها:
الطائفة الأولى: عدم وجود ولد لصاحب الأمر (عجَّل الله فرجه):
حيث صرحت بعض الأخبار بعدم الذرية للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في حضوره فضلاً عن غيبته، ومنها ما رواه الطوسي بسند معتبر عن الحسن بن علي الخزاز قال: دخل علي بن أبي حمزة على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال له: أنت إمام؟ قال: «نعم»، فقال له: إني سمعت جدك جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول: «لا يكون الإمام إلّا وله عقب». فقال: «أنسيت يا شيخ أم تناسيت؟ ليس هكذا قال جعفر (عليه السلام)، إنما قال جعفر (عليه السلام): لا يكون الإمام إلّا وله عقب إلّا الإمام الذي يخرج عليه الحسين بن علي (عليهما السلام) فإنه لا عقب له»، فقال له: صدقت جعلت فداك هكذا سمعت جدك يقول(25).
فإن المهديين حسب الفرض هم من ذرية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، في حين أن هذا الخبر ينفي ذلك فيستقر حينئذٍ التعارض، مما يقتضي سقوطهما عن الحجية، بل قد يقال بترجيح عدم الولد، بلحاظ اعتبار سندها واعتضادها بطوائف أخرى كأخبار رجعة الإمام الحسين (عليه السلام) بعد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بلا فصل، ونحوها.
مضافاً إلى اضطراب أخبار المهديين، فيقتضي الأخذ بالوجه الذي يمكن معه الجمع، وهو حمل أخبار المهديين على كونهم من ولد الإمام الحسين (عليه السلام) بعد رجعته كما يحتمل من خبر البطائني(26) فتأمل.
فإن قلت: إن الجمع ممكن، بلحاظ أن المراد بالإمام الذي لا عقب له هو الثاني عشر من المهديين، حيث بموته يحل زمان الرجعة ويخرج عليه الإمام الحسين (عليه السلام)، فيرتفع حينئذٍ التعارض.
قلت: بأنه جمع باطل، لاختصاص وصف (الإمام) بالاثني عشر من العترة الطاهرة دون المهديين، ومما يؤكد ذلك ظهور أخبار الرجعة في تولي الحسين (عليه السلام) لدفن الحجة المنتظر (عجَّل الله فرجه).
الطائفة الثانية: أخبار الرجعة:
وهي كثيرة، حيث تصرح برجعة الإمام الحسين (عليه السلام) بعد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مباشرة وبلا فصل، منها ما رواه الكليني بسنده عن عبد الله بن القاسم البطل، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «... خروج الحسين (عليه السلام) في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهب لكل بيضة وجهان، المؤدون إلى الناس أن هذا الحسين قد خرج حتى لا يشك المؤمنون فيه وأنه ليس بدجال ولا شيطان والحجة القائم بين أظهرهم، فإذا استقرت المعرفة في قلوب المؤمنين أنه الحسين (عليه السلام) جاء الحجة الموت فيكون الذي يغسله ويكفنه ويحنطه ويلحده في حفرته الحسين بن علي (عليه السلام) ولا يلي الوصي إلّا الوصي»(27).
وما روي بسنده عن أحمد بن عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام): سأل عن الرجعة أحق هي؟ قال: «نعم»، فقيل له: من أول من يخرج؟ قال: «الحسين (عليه السلام) يخرج على أثر القائم (عليه السلام)»، قلت: ومعه الناس كلهم؟ قال: «لا، بل كما ذكر الله تعالى في كتابه: ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً﴾ [النبأ: 18] قوم بعد قوم»(28).
وبالإسناد نفسه عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «ويقبل الحسين (عليه السلام) في أصحابه الذين قتلوا معه ومعه سبعون نبياً كما بعثوا مع موسى بن عمران (عليه السلام) فيدفع إليه القائم (عليه السلام) الخاتم، فيكون الحسين (عليه السلام) هو الذي يلي غسله وكفنه وحنوطه ويواري به في حفرته»(29).
ودلالة هذه الأخبار على خروج الإمام الحسين (عليه السلام) وحكمه بعد دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) واضحة، فتعارض دلالة أخبار المهديين من جهة تسليم الحكم إلى ابن المهدي وقيامه بتلك المهمة.
الطائفة الثالثة: حصر الأئمة بالاثني عشر:
وهي روايات متواترة ومتَّفق على صحتها بين العامة والخاصة، حيث تدل على حصر عدد الأئمة بالاثني عشر، منها:
ما رواه الصدوق بسنده عن الأسود بن سعيد الهمداني قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش»، فلما رجع إلى منزله أتيته فيما بيني وبينه، وقلت: ثم يكون ماذا؟ قال: «ثم يكون الهرج»(30).
وما رواه الصدوق بسنده عن عبد الملك بن عمير أنه سمع جابر بن سمرة يقول: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «لا يزال أمر الناس ماضياً حتى يلي عليهم اثنا عشر رجلاً»، ثم تكلم بكلمة خفيت عليَّ فقلت لأبي: ما قال؟ فقال: قال: «كلهم من قريش»(31).
وما رواه عباد عن عمرو عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إني وأحد عشر من ولدي وأنت يا علي زر الأرض، أعني أوتادها وجبالها، وقد وتد الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الأحد عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا»(32).
ودلالتها على قيام الساعة بعد رحيل الاثني عشر واضحة، حيث إن سلامة الدين وبقاء النظام حاصل ما دامت الحجة قائمة بهم، فإذا توفي آخرهم حصل الهرج والمرج وبداية قيام الساعة، وهذا يناقض الأخبار الدالة وجود اثني عشر مهدياً وبداية حصول حكمهم بعد الاثني عشر إماماً.
ولعل منشأ توهم إمامة المهديين هو كبرى عدم خلو الأرض من حجة، فبعد فرض وفاة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لابد من قائم منصب من قبل الله تعالى يقوم بمهام الإمامة، ولا مصداق في الأخبار إلّا المهديين.
بيد أن هذا الوهم يندفع بأدنى تأمل؛ حيث إن الحكمة الإلهية اقتضت تطويل عمر المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) لاستمرار الحجة إلى يوم القيامة، ودعوى امتداد الحجج بعده خلاف الحكمة ونقض للطريقة التي اختارها الشارع.
مضافاً إلى استفاضة الأخبار الدالة على رجعة الإمام الحسين (عليه السلام) بعد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مباشرة، فلا يصار إلى فرض وجود إمام غيره، لاسيما بعد علمنا بعدم وجود إمامين فعليين في آن واحد.
الثالثة: دراسة متون هذه الأخبار:
إن هذه الأخبار لا تدل على معنى واحد، بل يوجد بينها من التهافت والتناقض ما يمنع من صدور بعضها أو جميعها عن المعصوم (عليه السلام) ومن ذلك:
1 - إن الخبر الأول ظاهر في كون المهديين أئمة، وقد تم وصفهم في الخبر الرابع بالأئمة، في حين أن رواية الصدوق تنفي عنهم منصب الإمامة وتحصر وظيفتهم بالدعوة إلى موالاة الأئمة (عليهم السلام) والتعريف بحقوقهم.
2 - إن الخبرين الأول والثاني يذكران أن عدد المهديين اثنا عشر، بينما تخبر الرواية الثالثة بأن عددهم أحد عشر رجلاً.
3 - إن فرض كون المهديين من ولد الحسين (عليه السلام) - كما هو ظاهر الخبر الثالث - من غير توسط المهدي (عجَّل الله فرجه) يناقض دلالة الخبر الأول الذي يصرح بكونهم من ذرية المهدي (عجَّل الله فرجه) مباشرة.
ومع هذه الإشكالات يمتنع الوثوق بصدورها والركون إليها، ولذا يكتفى منها بالقدر المتيقن وهو أنهم جماعة من الشيعة يظهرون في زمن الإمام (عجَّل الله فرجه) يدعون له وينوبون عنه في القيام ببعض شؤون الدعوة والحكم، وبذلك نرفع اليد عن ظهور خبر الوصية في إمامتهم وحكمهم، ويساعد عليه التفصيل بين الأئمة والمهديين الذي يقتضي عدم إمامتهم.
محاولات الجمع بين الأخبار ورفع التعارض:
بذلت محاولات عدة في سبيل الجمع بين الأخبار المتقدمة ورفع التناقض والاضطراب عنها أهمها ثلاثة:
المحاولة الأولى:
أن يراد بالمهديين أئمة يحكمون بعد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بلا فصل؛ لعدم جواز خلو الأرض من حجة عقلاً وشرعاً، ويدل عليه ظاهر ما ورد في الأخبار المتقدمة كالوصية، ولا ينافيه وصفهم بالشيعة في بعض الأخبار، بلحاظ أن المشايعة والمتابعة عنوان منطبق على الأنبياء والأوصياء، حتى قال تعالى: ﴿وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ﴾ (الصافات:83)، كما أن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من شيعة محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
ولا تعارض أخبار الرجعة، إذ إن زمان الرجعة يبدأ من حين انتهاء زمان المهديين، حيث يخرج الحسين على المهدي الثاني عشر (عليهما السلام) ليقوم بدفنه وتجهيزه، وبذلك يرتفع التعارض.
ويرد عليها:
إن المقطوع به اختصاص الإمامة بالاثني عشر (عليهم السلام) وكون الوصية فيهم خاصة، حتى أصبح هذا الرقم عنواناً وشعاراً يعرف به الإمامية، والأخبار متواترة لفظاً ومعنى في ذلك، ولو تنزلنا عن ذلك لأصبح عدد الأئمة أربعة وعشرون وهو خلاف وصفنا بالاثني عشرية، فتأمل.
وأن وصف الشيعة في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) - إذا انفرد - يباين الأئمة، وهذا واضح لمن يعرف معاريض كلامهم، فالإمامة قيادة دينية وسياسية والشيعة هم الأتباع والأنصار.
كما أن وصف (المهدي) أو (القائم) إذا انفرد يحمل على الحجة بن الحسن العسكري (عجَّل الله فرجه) خاصة وينصرف إليه، وإذا أريد منه غيره فلابد من ذكر دليل أو قرينة وهي مفقودة في المقام.
المحاولة الثانية:
أن يراد بهم مجموعة من خلص الشيعة يقومون بالدعوة وشؤون الدولة في زمان الإمام وما بعده، ويدل عليه خبر البطائني، وبذلك يرتفع التنافي مع أخبار الرجعة حيث لا يمتنع وجودهم في ظل إمامة الحسين (عليه السلام).
المحاولة الثالثة:
أن تكون أخبار المهديين ناظرة إلى رجعة أهل البيت (عليهم السلام)، فيكون المراد منهم هو النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأحد عشر إماماً ما خلا القائم (عليهم السلام)، وبذلك نرفع اليد عن بعض الخصوصيات والقيود الواردة، جمعاً بين الأخبار لرفع التعارض بينها، وإنما عبر عنهم بالمهديين من باب الكناية باستعمال معنى ملازم للمعنى الحقيقي لخطورة التصريح بعقيدة الرجعة في ظل حكم الظالمين.
وفي هذه المحاولة إمّا يفترض حصول التحريف والخطأ في نقل الرواية حيث إن الضمير في خبر الوصية يرجع إلى الإمام الحادي عشر فيكون المراد بأول المهديين هو ابنه المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) بقرينة تسمية المهدي (عجَّل الله فرجه) بهذه الأسماء، كما روى الشيخ الطوسي بسنده عن حذيفة، قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذكر المهدي فقال: «إنه يبايع بين الركن والمقام، اسمه أحمد وعبد الله والمهدي فهذه أسماؤه ثلاثتها»(33)، فيكون مرجع الضمير (له) إلى المهدي (عجَّل الله فرجه) لا إلى ابنه، أو بالرجوع إلى التأويل والتصرف بمدلول الخبر كما احتمله المحدث المجلسي (رحمه الله)(34).
ويؤكد ذلك تسمية المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) بأحمد في بعض الأخبار منها ما رواه الصدوق بسنده عن أبي الجارود زياد بن المنذر، عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو على المنبر: «يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان أبيض اللون، مشرب بالحمرة... له اسمان: اسم يخفي واسم يعلن، فأمّا الذي يخفي فأحمد وأمّا الذي يعلن فمحمد...»(35).
وهو احتمال وارد، وإن كان الثاني أقوى لعدم الحاجة فيه إلى التأويل بالخروج عن مدلول اللفظ وظاهره.
الإيمان بالمهديين ليس من العقيدة:
تقدم أن ما دل على ظهورهم في آخر الزمان هو أخبار آحاد فلا يعتمد عليه في إثبات عقيدة، لاسيما بعد معارضتها لما ثبت بضرورة المذهب من حصر الإمامة الإلهية باثني عشر رجلاً من أهل البيت (عليهم السلام)، حتى عد ذلك العدد شعاراً للإمامية يمتازون به عن سائر المذاهب ويعرفون به عند المذاهب الأخرى(36)، فلا يجب الاعتقاد بالمهديين الاثني عشر، فالمقتضي للاعتقاد بخروجهم مفقود والمانع موجود حيث ورد اختصاص وجوب الاعتقاد بالأئمة الاثني عشر وعدم التعدي عنه، فقد روى النعماني عن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: «الوصية نزلت من السماء على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتاباً مختوماً، ولم ينزل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتاب مختوم إلّا الوصية، فقال جبرئيل (عليه السلام): يا محمد هذه وصيتك في أُمّتك إلى أهل بيتك، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أي أهل بيتي يا جبرئيل؟ فقال: نجيب الله منهم وذريته ليورثك علم النبوة قبل إبراهيم وكان عليها خواتيم، ففتح علي (عليه السلام) الخاتم الأول ومضى لما أمر فيه، ثم فتح الحسن (عليه السلام) الخاتم الثاني ومضى لما أمر به، ثم فتح الحسين (عليه السلام) الخاتم الثالث فوجد فيه أن قاتل وأقتل وتقتل وأخرج بقوم للشهادة، لا شهادة لهم إلّا معك، ففعل، وثم دفعها إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) ومضى، ففتح علي بن الحسين الخاتم الرابع فوجد فيه أن أطرق واصمت لما حجب العلم، ثم دفعها إلى محمد بن علي (عليهما السلام) ففتح الخاتم الخامس فوجد فيه أن فسر كتاب الله تعالى وصدق أباك وورث ابنك العلم واصطنع الأُمّة، وقل الحق في الخوف والأمن ولا تخش إلّا الله، ففعل، ثم دفعها إلى الذي يليه»، فقال معاذ بن كثير: فقلت له: وأنت هو؟ فقال: «ما بك في هذا إلّا أن تذهب يا معاذ فترويه عني، نعم أنا هو»، حتى عدد على اثني عشر اسماً ثم سكت، فقلت: ثم من؟ فقال: «حسبك»(37).
وخلاصة المخاض: أن الاعتقاد بوجود ذرية للقائم أو بوجود مهديين بعد القائم ليس بلازم، ولا يمكن الاستناد على هذه الأخبار في إثبات ذلك، لضعف سندها، واضطراب دلالتها، ومعارضتها بغيرها، وعدم وجود ما يعضدها ويقوي صدورها، ولما كان خروج اثني عشر مهدياً بعد المهدي أمراً غيبياً، فلا ريب في دخوله ضمن دائرة البداء حيث لا يعد خروجهم من الحتميات فيمكن أن يقع ويمكن أن يرفع لمصلحة عند الشارع.
المطلب الثاني: دعوى خروج المهديين قبل ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه):
وهي دعوى معاصرة ظهرت على يد بعض الأدعياء، إذ لم يعرف لها وجود من قبل في كتبنا المعتبرة لم يعهد لها قائل، وحاصلها: إرسال المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) لابنه الذي يلي الحكم بعده للدعوة إليه والتمهيد لظهوره، وهو نفسه المقصود بخبر الوصية بأول المؤمنين أو المهديين، وقد استندت على وجوه باطلة، أهمها وجهان:
الوجه الأول: ما ورد في بعض الأخبار من تواصل ولده الذي يلي أمره معه في حال غيبته، فقد روى الطوسي بسنده عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن لصاحب هذا الأمر غيبتين إحداهما تطول حتى يقول بعضهم: مات، ويقول بعضهم: قتل، ويقول بعضهم: ذهب، حتى لا يبقى على أمره من أصحابه إلّا نفر يسير لا يطلع على موضعه أحد من ولده ولا غيره إلّا المولى الذي يلى أمره»(38)، مما يؤكد وجود الذرية والأولاد أولاً، وتواصل أحدهم معه ثانياً.
بيد أن الرواية ضعيفة سنداً بجهالة: عبد الله بن المستنير؛ حيث أهمل ذكره في كتب الرجال.
ولا يمكن الاستدلال بلفظ (ولده) لإثبات وجود ذرية لأن الشيخ النعماني قد روى نفس هذا الخبر من دون ذكر للولد، فعن المفضل بن عمر الجعفي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «إن لصاحب هذا الأمر غيبتين إحداهما تطول حتى يقول بعضهم: مات، وبعضهم يقول: قتل، وبعضهم يقول: ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلّا نفر يسير، لا يطلع على موضعه أحد من ولي ولا غيره إلّا المولى الذي يلي أمره»(39)، وعند تعارض النقل يسقط الاستدلال من هذه الحيثية.
وعلى فرض قبولها، فهي مجملة، إذ لم تبين لنا شخصية (الذي يلي أمره) هل هو من الولد أم لا، ليمكن تطبيقها حينئذٍ على رواية الوصية المتقدمة، فهي بذلك أعم من المدعى، فضلاً عن الاعتماد عليها في إثبات السفارة أو النيابة عن الإمام (عجَّل الله فرجه) في عصر الغيبة، فأقصى ما يمكن أن تدل عليه هو وجود هذه الشخصية حال الغيبة وتواصله مع الإمام المعصوم (عجَّل الله فرجه)، وأمّا تحديد مصداقها ووظائفها فدونه خرط القتاد.
وأضعف من ذلك الاستدلال بما رواه نعيم بن حماد بسنده عن الهيثم بن عبد الرحمن عمن حدثه عن علي (عليه السلام) أنه قال: (يَخْرُجُ رَجُلٌ قَبْلَ المَهْدِيِّ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بِالمَشْرِقِ، يَحْمِلُ السَّيْفَ عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، يَقْتُلُ وَيُمَثِّلُ وَيَتَوَجَّهُ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ، فَلَا يَبْلُغُهُ حَتَّى يَمُوتَ)(40).
فإنها ساقطة سنداً ودلالة.
فأمّا سنداً فهي عامية لم ترد في مصادرنا المعتبرة، وضعيفة بالإرسال، فلا يصح الاستناد عليها في إثبات هذه الدعوى، وأمّا دلالة فهي مجملة، إذ إن الأهل عبارة عن عموم القرابة وهي متحققة في جميع السادة من أولاد علي وفاطمة (عليهما السلام) وتخصيصها بالأبناء دون غيرهم ترجيح بلا مرجح فتكون أعم من المدعى، كما يمكن حملها على الخراساني لكونه صاحب راية المشرق كما ورد في الأخبار.
الوجه الثاني: دعوى رجوع نسب اليماني إلى المهدي (عجَّل الله فرجه) وأنه من أولاده، وحيث إن اليماني يخرج قبل المهدي (عجَّل الله فرجه) بل أنه من علاماته، فلابد أن يكون حينئذٍ أول المهديين.
وهذا الوجه واضح البطلان؛ بلحاظ وجود التباين التام بين الشخصيتين في الأخبار الواردة عن أهل البيت (عليهم السلام)، فاليماني رجل من اليمن من صنعاء يخرج قبل الظهور الشريف، ولا يرتبط بعلاقة نسبية بالمهدي (عجَّل الله فرجه)، كما أن ظهور أول المهديين بعد والده أو معه، فهما مختلفان من حيث الزمان والمكان والنسب.
مضافاً إلى الاختلاف الوظيفي، فإن وظيفة اليماني هي التمهيد لخروج الإمام (عجَّل الله فرجه) والدعوة له والقيام بواجب النصرة، بينما وظيفة أول المهديين ودوره حسب خبر الوصية يبدأ بعد رحيل والده بالقيام بشؤون الحكم وتولي منصب الخلافة من بعده أو الدعوة إلى موالاة أهل البيت (عليهم السلام) والتعريف بحقوقهم كما هو مفاد خبر البطائني.
فشخصية اليماني حسب الأخبار الشريفة:
1 - معلومة النسب: فقد روى ابن طاووس بسنده عن عبّاد بن محمّد المدائني قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) بالمدينة... قلت: فله علامة قبل ذلك؟ قال: «نعم، علامات شتّى»، قلت: مثل ماذا؟ قال (عليه السلام): «خروج راية من المشرق وراية من المغرب، وفتنة تضلّ أهل الزوراء، خروج رجل من ولد عمّي زيد باليمن، وانتهاب ستارة البيت، ويفعل الله ما يشاء»(41).
2 - معلومة الموطن: فقد روى الصدوق بسنده عن محمد بن مسلم الثقفي الطحان قال: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلى الله عليه وعليهم، فقال لي مبتدئاً: «... وإن من علامات خروجه: خروج السفياني من الشام، وخروج اليماني من اليمن، وصيحة من السماء في شهر رمضان، ومناد ينادي من السماء باسمه واسم أبيه»(42).
3 - معلومة الزمان: حيث روى الطوسي بسنده عن عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «خمس قبل قيام القائم من العلامات: الصيحة والسفياني، والخسف بالبيداء، وخروج اليماني، وقتل النفس الزكية»(43).
ومنه يظهر عدم وجود دليل معتبر يمكن الاستناد عليه في إثبات ظهورهم قبل ظهور المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه)، وبذلك تبطل كل الدعاوى التي يمكن أن تتمسك بهذه الأخبار لإثبات مشروعيتها وحقانيتها.
ولو تنزلنا بإمكان ذلك ووقوعه، فلا شك في عدم إمكان معرفة مصداق المقصود بالأخبار فيبقى مجهولاً مبهماً، ولا يوجد طريق معتبر إلى تمييزه حينئذٍ ومعرفة صدقه سوى المعجزة البينة بشروطها المقررة في علم الكلام.
المطلب الثالث: بطلان دعوى أحمد إسماعيل واستدلاله بالوصية:
ظهر خلال هذه السنوات مدعٍ جديد ينسب لنفسه ألقاباً متعددة ومناصب مختلفة كـ(اليماني) و(سفير المهدي) و(ابن المهدي) و(أول المهديين) و(القائم) و(الإمام المعصوم) ونحوها، مستدلاً بالأخبار المتقدمة على صدق دعواه، حيث استغل وجود اسم أحمد في ذيل خبر الوصية للتبشير بظهوره كما يزعم.
وهذا استدلال واضح الوهن لوجه عدة:
الأول: تباين شخصية اليماني مع أول المهديين، من حيث النسب والموطن والزمان والوظيفة كما تقدم.
وتغاير كلا الشخصيتين مع دعوى المدعي وانعدام العلاقة بينهما، فلا ينطبق عليه مكان اليماني ولا وصفه حيث إنه رجل مولود في مدينة البصرة في العراق، ولا ينطبق عليه عنوان (أول المهديين) بلحاظ أن الخبر يدل على كونه ولداً مباشراً للمهدي بينما يدعي هو أن بينه وبين الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أربع وسائط.
الثاني: لم يثبت بدليل قاطع أو حجة معتبرة زواج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وإنجابه، على أننا لو سلمنا بحدوث ذلك فمن أين لنا معرفة شخوص أولاده وذريته وتحديد أوصافهم ما لم يتصد المعصوم بنفسه ويبين لنا ذلك، بل الذي يزيد الأمر سخرية أن هذا المدعي معروف الأب والأُم عند أهل البصرة، فكيف صار من ولد المهدي يا ترى؟!
وقد تقدم في بعض الأخبار عدم وجود ولد للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند ظهوره فضلاً عن غيبته، ويضاف إليها ما روي عن المفضل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «... يا مفضل ترى هذه الشمس»؟ قلت: نعم، قال: «والله أمرنا أنور وأبين منها، وليقال المهدي في غيبته مات ويقولون بالولد منه وأكثرهم يجحد ولادته وكونه وظهوره أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والرسل والناس أجمعين»(44).
وما رواه الصدوق بسنده عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «صاحب هذا الأمر الشريد الطريد الفريد الوحيد»(45).
الثالث: بطلان ادِّعائه للعصمة؛ من خلال كثرة اللحن في كلامه وصدور الأخطاء النحوية التي لا تصدر عن فاضل فضلاً عمن يدعي مقام الإمامة والعصمة، فهو من المعايب التي تقدح بالإنسان العربي بحيث يوصف صاحبه بالجهل ويخفض من قدره ومنزلته بين الناس، ولذا روى الكليني بسند صحيح عن جميل بن دراج قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «اعربوا حديثنا فإنّا قوم فصحاء»(46)، إضافة إلى صدور الخطأ في الاستدلال والتأويل المجحف ولي عنق كثير من النصوص لتتناسب مع آرائه وأطروحاته.
الرابع: أن أخبار المهديين وأمثالها لا تنفع المدعي في إثبات دعواه، بل هي حجة عليه، إذ إن سياقها يدل بوضوح على ظهور المهديين بعد الظهور الشريف للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأن دور أول المهديين يبدأ حين حضور وفاة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) حيث يتسلم الوصية، بقرينة (ثم) التي تفيد الترتيب مع التراخي، بينما ظهر هذا المدعي قبل ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، فلا زمان الرواية ينطبق على هذا الزمان ولا أوصافه تنطبق عليه حيث إن الخبر يدل على تسليم الوصية إلى الابن المباشر للإمام (عجَّل الله فرجه)، فهل (أحمد إسماعيل) الابن المباشر لصاحب الزمان؟!
ودعوى مجرد انطباق اسم وصي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عليه سخيفة؛ إذ إن بمقدور أي فرد ادِّعاء ذلك بل هو واقع حيث ادّعي ذلك للمهدي العباسي بدعوى تسميته بمحمد ومن ثم وضعت بعض الأخبار والروايات عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لتتناسب مع شخصه، وفي العصر الحديث ادّعى (غلام أحمد القادياني) المهدوية والنبوة في الهند، حيث ربط بين ادِّعاء تسميته (أحمد) وبين النصوص القرآنية(47) المبشرة بالنبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بدعوى باهتة مفادها: تباين شخصية أحمد في القرآن مع الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مشيراً بذلك إلى تبشير الأنبياء والرسل ببعثة رجل في آخر الزمان اسمه أحمد ومن ثم تطبيق ذلك عليه، فما أشبه القوم بالقوم.
ولذا لو ادّعى أحد أنه محمد بن الحسن العسكري (عجَّل الله فرجه) فهل يجب تصديقه لمجرد اتفاق الاسم؟ أو لابد من إبراز البينة على صدق دعواه لعدم حصول المعرفة بشخصه وإن علم اسمه وإمامته، فإن قلنا إن ادّعاء الاسم كافٍ لزم منه تصديق كل مدعٍ، والتالي باطل فالمقدم مثله.
الخامس: لم يأت بدليل من إعجاز أو كرامة يدل على صدق دعواه، فمن يدّعي الاتصال بالغيب يلزم أن يأتي بأمر خارق للعادة، كقلب العصا ثعباناً بالنسبة لموسى (عليه السلام)، وإحياء الموتى بالنسبة لعيسى (عليه السلام)، وشق القمر ورد الشمس بالنسبة لرسولنا محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأمّا المدعي فلم يأت إلّا بأوهام وأباطيل كالاستناد على الاستخارة والأحلام.
المطلب الرابع: الضوابط التي يرجع إليها في مواجهة الدعاوى الضالة:
لخطورة هذه الدعاوى وأشباهها فقد وضع أئمتنا ضوابط وموازين تعرض عليها كل شبهة تتعلق بقضايا الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) منها:
أولاً: انقطاع النيابة الخاصة والسفارة عن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في زمن الغيبة الكبرى، فكل من ادّعى النيابة الخاصة يجب تكذيبه، فقد ورد في التوقيع الشريف: «فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله تعالى ذكره، وذلك بعد طول الأمد، وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر»(48)، وهذه الرواية صحيحة الإسناد مضافاً إلى اعتضادها بالارتكاز القطعي الثابت عند المتشرعة مما يجعلها تفيد القطع أو الاطمئنان المتاخم له.
ولهذا أفتى علماؤنا الأبرار بكفر مدّعي السفارة الخاصة بعد السمري (رضي الله عنه)، فيقول الشيخ ابن قولويه القمي (قدّس سرّه): (إن كل من ادَّعى الأمر بعد السمري (رحمه الله) فهو كافر منمس ضال مضل، وبالله التوفيق)(49).
ثانياً: تكذيب مدَّعي المشاهدة، حيث جرت سيرة الإمامية على ذلك بنحو يوجب الاتصال بالإمام (عجَّل الله فرجه)، وهي سيرة متصلة بعصر المعصوم كابراً عن كابر، فتكون كاشفة عن صدور هذا المضمون عن العترة الطاهرة (عليهم السلام).
ثالثاً: ضرورة التمسك بالتراث الثابت عند الشيعة مما نقل عن الأئمة (عليهم السلام)، وعدم التسرع في الانجرار خلف كل مدَّعي، حتى يستبين لهم صدق دعواه بوضوح وجلاء، حيث أمر المعصوم (عليه السلام) شيعته بذلك في روايات كثيرة منها ما رواه الصدوق بسنده عن عبد الله بن سنان قال: دخلت أنا وأبي على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: «فكيف أنتم إذا صرتم في حال لا ترون فيها إمامٍ هدى، ولا علماً يُرى، ولا ينجو منها إلّا من دعا دعاء الغريق»، فقال له أبي: إذا وقع هذا ليلاً فكيف نصنع؟ فقال: «أمّا أنت فلا تدركه، فإذا كان ذلك فتمسكوا بما في أيديكم حتى يتضح لكم الأمر»(50).
وما رواه أيضاً بسنده عن أبان بن تغلب قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يأتي على الناس زمان يصيبهم فيه سبطة يأرز العلم فيها بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها، يعني بين مكة والمدينة، فبينا هم كذلك إذ أطلع الله (عزَّ وجلَّ) لهم نجمهم»، قال: قلت: وما السبطة؟ قال: «الفترة والغيبة لإمامكم»، قال: قلت: فكيف نصنع فيما بين ذلك؟ فقال: «كونوا على ما أنتم عليه حتى يطلع الله لكم نجمكم»(51).
ما رواه أيضاً بسند مرسل عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «كيف أنتم إذا بقيتم دهراً من عمركم لا تعرفون إمامكم»؟ قيل له: فإذا كان ذلك فكيف نصنع؟ قال: «تمسكوا بالأمر الأول حتى يستبين لكم»(52).
ومفاد هذه الأخبار إرشاد إلى ما دلت عليه السيرة العقلائية الجارية على عدم تصديق أي دعوى ما لم يبرهن على صدقها، لاسيما في مواطن الاشتباه والالتباس، وعدم العدول من قول لآخر بدون حجة وبرهان خصوصاً في القضايا المهمة كالعقيدة.
ولذا جرت سيرة الإمامية على الرجوع إلى الفقهاء الصالحين في عصر الغيبة، بمقتضى التنصيب العام الصادر من الناحية المقدسة بقوله: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم»(53)، حيث يؤخذ منهم الحلال والحرام ويرجع إليهم في تمييز مواطن الالتباس والشبهة بمقتضى دلالة الإطلاق ومقدمات الحكمة.
رابعاً: المطالبة بالمعجزة:
ضرورة أن كل دعوة تتصل بأمر غيبي يعود إلى إثبات قضية دينية والاتصال بالله تعالى، لابد من اقترانها واعتضادها بدليل يثبت صدق تلك الدعوى، ولذا أيَّد الله تعالى رسله وأنبياءه وأوصياءهم بالمعاجز والكرامات؛ وبالتالي لا يمكن تصديق أي دعوى ما لم تستند إلى معجزة بينة لا يختلف على صدقها اثنان، فالمنامات والاستخارات والسحر والشعبذة قضايا لا يركن إليها في إثبات حكم فقهي جزئي فضلاً عن أمر عقدي مهم.
خامساً: العقائد لا تثبت بالظنون والأوهام:
إن العقائد وتفاصيلها لا تثبت بالظن فضلاً عن الوهم والخيال، إذ ثبت في مباحث علم الكلام عدم صحة الاستناد على أخبار الآحاد وإن صح سندها، بل يلزم أن يكون الاستدلال بنص قطعي الصدور والدلالة أي لا يحتمل إلّا وجهاً واحداً، فتأمل.
ولذا صرح أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بوضوح أمر المهدي حين ظهوره، فقد روى الطوسي بسنده عن المفضل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إياكم والتنويه، أما والله ليغيبن إمامكم سنين من دهركم، وليمحصن حتى يقال: مات قتل هلك بأي واد سلك، ولتدمعن عليه عيون المؤمنين ولتكفأن كما تكفأ السفن بأمواج البحر، فلا ينجو إلّا من أخذ الله ميثاقه، وكتب في قلبه الإيمان وأيَّده بروح منه، ولترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدري أي من أي». قال: فبكيت وقلت: فكيف نصنع؟ فقال: «يا أبا عبد الله - ونظر إلى الشمس داخلة إلى الصفة قال: - فترى هذه الشمس»؟ قلت: نعم، قال: «والله لأمرنا أبين من هذه الشمس»(54)، فلابد من التروّي والتأنّي في كل دعوى وعدم الانجرار وراءها من دون دليل وبرهان قطعي.
نسأل الله سبحانه وتعالى تعجيل فرج صاحب العصر والزمان وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه، إنه نعم المولى ونعم المجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الهوامش:

(1) الصدوق، محمد بن علي: عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص60 باب النصوص على الرضا (عليه السلام) بالإمامة في جملة الأئمة الاثنا عشر (عليهم السلام) ح25.
(2) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين وتمام النعمة: باب ما أخبر به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من وقوع الغيبة بالقائم (عجَّل الله فرجه) ح4.
(3) يعد الوضع والدس في الأخبار من أقدم الظواهر التي رافقت تدوين السنة الشريفة، تبعاً لأغراض ودواعي متعددة، منها ما يرجع لغرض سياسي كترجيح كفة الحاكم أو تصحيح بعض تصرفاته أو إبعاد الأُمّة وإشغالها بوضع أخبار تروِّج لقصص وحكايات لا أصل لها، ومنها ما كان دينياً فيضع كل مذهب أخباراً توافق معتقداته ومبانيه، وغيرها من الأسباب، وغالباً ما يشتمل الخبر الموضوع على خصوصيات في السند أو المتن تشابه الخبر الصحيح وتماثله إلى حد كبير فيضع السند الصحيح لمتن مكذوب، فيشتبه الحال على غير المتخصص ويظنها صحيحة لعدم وجود المعرفة الكافية في تمييز الموضوعات والمكذوبات، حتى تسرب بعضها إلى بعض المدونات الحديثية، ونتيجة لتقادم الزمان قد يختلط على المتأخرين أمرها، وقد سعى علماؤنا ݓ إلى غربلتها وتجنبها بالرجوع إلى الأصول المعتبرة والأخذ منها لاسيما في كتبنا الأربعة، وفي مثل هذه الحالات يقوم الفقيه أو المحدث بعرض هذه الأخبار الغريبة على القرآن أو السنة المقطوعة أو المتسالم عند الأصحاب، فإن وافقها يؤخذ بها وإلّا فتسقط عن الحجية والاعتبار أو يرجئ علمها إلى المعصوم (عليه السلام).
(4) الطوسي، محمد بن الحسن - الغيبة: 155.
(5) الحر العاملي، محمد بن الحسن - الإيقاظ من الهجعة: 394.
(6) ظ: المفيد، محمد بن محمد بن النعمان: الارشاد في معرفة حجج الله على العباد: 362؛ الأربلي، علي بن عيسى بن أبي الفتح: كشف الغمة في معرفة الأئمة: 3/266؛ الطبرسي، الفضل بن الحسن: اعلام الورى بأعلام الهدى: 2/295؛ البياضي، علي بن يونس: الصراط المستقيم: 2/252؛ وغيرهم.
(7) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين وتمام النعمة: 1/ 359 - 360 باب نص الله تبارك وتعالى على القائم ح1.
(8) الصفار، محمد بن الحسن: بصائر الدرجات: 543 باب في التسليم لآل محمد ح21.
(9) الصفار، محمد بن الحسن: بصائر الدرجات: 392 باب في الفرق بين الأنبياء والرسل والأئمة (عليهم السلام) ح16.
(10) الطوسي، محمد بن الحسن: مصباح المتهجد: 85؛ ابن طاووس، علي: فلاح السائل: فصل فيما نذكره من دعاء الغروب ح21.
(11) الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 454.
(12) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين وتمام النعمة: 358.
(13) الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 478 فصل في ذكر طرف من صفاته ومنازله ح504.
(14) الطوسي، محمد بن الحسن: مصباح المتهجد: 290 - 292.
(15) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين وتمام النعمة: 259 باب ما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ح4.
(16) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين وتمام النعمة: 282 باب ما روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ح35.
(17) الطوسي، محمد بن الحسن: مصباح المتهجد: 292 - 293.
(18) الطوسي، محمد بن الحسن: مصباح المتهجد: 826.
(19) الصدوق، محمد بن علي: الخصال: 108 ح75.
(20) المفيد، محمد بن محمد بن النعمان: الارشاد في معرفة حجج الله على العباد: 362.
(21) ظ: الأربلي، علي بن عيسى بن أبي الفتح: كشف الغمة في معرفة الأئمة: 3/266.
(22) ظ: الطبرسي، الفضل بن الحسن: أعلام الورى بأعلام الهدى: 2/295.
(23) ظ: البياضي، علي بن يونس: الصراط المستقيم: 2/252.
(24) الحر العاملي، محمد بن الحسن: الإيقاظ من الهجعة: 401.
(25) الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 224 رقم 188.
(26) الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 478 فصل في ذكر طرف من صفاته ومنازله ح504.
(27) الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي: 8/206 ح250.
(28) الحلي، حسن بن سليمان: مختصر بصائر الدرجات: 48.
(29) الحلي، حسن بن سليمان: مختصر بصائر الدرجات: 48.
(30) الصدوق، محمد بن علي: الخصال: 472 ح26 باب الاثني عشر.
(31) الصدوق، محمد بن علي: الخصال: 473 ح27 باب الاثني عشر.
(32) الأصول الستة عشر: 140 أصل أبي سعيد عباد العصفري ح6، وقريب منه ما ذكره الكليني: الكافي: 1/534 باب ما جاء في الاثني عشر والنص عليهم ح17.
(33) الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 454.
(34) المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار: 53 /148.
(35) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين: 353.
(36) عبد الجبار بن أحمد: شرح الأصول الخمسة: 758.
(37) النعماني، محمد بن إبراهيم: الغيبة: 53، وقريب منه ما رواه الكليني في الكافي: 1 /279.
(38) الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 120.
(39) النعماني، محمد بن إبراهيم: الغيبة: 172.
(40) المروزي، نعيم بن حماد: كتاب الفتن: 216 ح920.
(41) ابن طاووس، علي: فلاح السائل ونجاح المسائل: 171.
(42) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين وتمام النعمة: 328 باب ما أخبر به الباقر (عليه السلام) ح7.
(43) الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 437 رقم427.
(44) الخصيبي، الحسين بن حمدان: الهداية الكبرى: 361.
(45) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين وتمام النعمة: 303 ما أخبر به أمير المؤمنين (عليه السلام) ح13.
(46) الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي: 1/54 باب رواية الكتب والحديث ح13.
(47) سورة الصف: الآية 6.
(48) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين وتمام النعمة: 516؛ الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 404.
(49) الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 421.
(50) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين: 348 باب ما روي عن الصادق (عليه السلام) ح40.
(51) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين: 348 باب ما روي عن الصادق (عليه السلام) ح41.
(52) الصدوق، محمد بن علي: كمال الدين: 348 باب ما روي عن الصادق (عليه السلام) ح38.
(53) الصدوق: كمال الدين وتمام النعمة: 2/181 باب 45 ح4؛ الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 197 فصل ظهور المعجزات الدالة على صحة إمامته ح247.
(54) الطوسي، محمد بن الحسن: الغيبة: 337 رقم285.

العدد ١١ / جمادى الآخرة / ١٤٤٢ هـ : ٢٠٢١/٠١/١٧ : ٣.١ K : ٠
: السيد زين العابدين المقدس الغريفي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

محتويات العدد: