أبحاث العدد:
المسار:
الموعود » اعداد المجلة » العدد ١١ / جمادى الآخرة / ١٤٤٢ هـ
لتصفح المجلة بـ Flsh
لتحميل المجلة كـ Pdf
العدد 11 / جمادى الآخرة / 1442 هـ

عِلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره

عِلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره

مرتضى علي الحلي

مدخل تمهيدي:
إنَّ مسألة عِلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره - إثباتاً أو نفياً - هي واحدة من المسائل الاعتقاديّة التي تترتّب على بحثها وبيان أدلّتها من الروايات عدّةُ معطياتٍ تربوية وثمارٍ تمسّ حَراكَ الإنسان المؤمن المُنتَظِر، وتسهم في صياغة وعيه وتمهيده وتعاطيه مع ما يجري من الحوادث الموعودة التي لها علاقة ترابطيّة منتظمة وحكيمة، تتبع إرادة الله سبحانه، ومنها ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وكلّ ما له من دخالة تكوينية أو غير تكوينية في تحقّق ذلك وفق السنَن الإلهيّة والمقتضيات الطبيعيّة والبشريّة.
ومن حيث البحث في الإمكان الوقوعي عن أنّه هل يعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره أو لا يعلم.
فيمكن القول: إنَّه لا يوجد ثمة محذور لنفي علم الإمام (عجَّل الله فرجه) بذلك في حدّ نفسه، إلّا ما ورد في لسان بعض الروايات، والتي حُمِلَت على نفي ذلك لملاكات تقتضيها بحسب الظاهر، كعدم الإذن بإظهاره، أو ستر العِلم بالوقت، وكراهية التعيين، ولزوم الكتمان، أو أنّ أمر الظهور موكولٌ إلى الله تعالى، ومرتبطٌ بالبداء، وسنعرضها في ما يأتي متناً ودلالةً.
وممّا يقوّي الإمكان الوقوعي(1) لعِلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره هو إناطة مشروع الظهور الفعلي به، ولوضوح أنَّ العِلم من شرائط التكليف العامة والقيام بالواجب، حاله حال أيّ تكليفٍ شرعي آخر واصلٍ إليه مشروط بإعلامه وتبليغه، يمكن النقاش بأن الشرط هو العلم قبل العمل، فيمكن القول بعدم علمه إلى أن تحين لحظة التكليف فيتم إعلامه من الله تعالى.
وقد نبَّه علماء الكلام والعقيدة على ذلك، كالشيخ الطوسي (رحمه الله) حيث قال: (وإعلام المُكَلَّف وجوبَ الفعل أو حُسنه أو دلالته عليه شرطٌ في حُسن التكليف من الله)(2)، وذكر العلّامة الحلّي (رحمه الله) أيضاً في تعريف التكليف وبيان حدّه: (إرادة من تجب طاعته على جهة الابتداء ما فيه المشقّة بشرط الإعلام... وشرَطنا الإعلام لأنَّ المُكَلَّف إذا لم يعلم إرادةَ المُكَلِّف - اللهُ سبحانه - بالفعل لم يكن مُكَلَّفاً)(3).
وصفة العِلم في علم العقيدة هي من الصفات التي يجب أن يتّصف بها الإمام المعصوم المنصوب بحيث (يجب أن يكون الإمام عالماً بتدبير ما هو إمامٌ فيه من سياسة رعيته والنظر في مصالحهم وغير ذلك بحكم العقل... وإنّما يجب أن يكون الإمام عالماً بما أُسند إليه في حال كونه إماماً)(4)، وأنَّ القضاء على الظلم والفساد وبسط القسط والعدل هو من جملة ما أُسنِدَ إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تحقيقه في وقت ظهوره الموعود.
ولا ينحصر طريق الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إلى العلم بوقت ظهوره الشريف بإعلام الله تبارك وتعالى إيّاه، مع غضّ النظر عن نوع هذا الإعلام أو الإذن الإلهي وحياً أو إلهاماً أو تحديثاً ملائكيّاً أو غير ذلك كما أشارت إلى ذلك بعض الروايات، والتي سنذكرها في ثنايا البحث، بل هناك سُبُلٌ أخرى ومنها زوال الموانع الظرفيّة وتحقّق الشروط الواقعيّة، بما يمكن التعبير عنها في علم الكلام بزوال العلّة المقتضية للغيبة، فضلاً عن عِلمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت المعلوم للظهور من طريق آبائه المعصومين (عليهم السلام) (فهو يتّبع في ذلك ما شُرِّعَ له وأُوقف عليه)(5).
وأشار الشيخ الطوسي (رحمه الله) إلى هذه السُبُل في جانبي النقل والعقل معاً، حيث قال: (فإنَّه ما دامت العلّة الموجبة حاصلة فإنّه مُستترٌ إلى أن يعلم الله تعالى زوال العلّة، فيعلم ذلك بما وقفه عليه آباؤه من الوقت المعلوم، وبالأمارات اللائحة للنصر، وغلبة الظن يقوم مقام العلم في ذلك، وخاصة إذا قيل لكَ: إذا ظهرت لكَ أمارات النصر فاعلم أنّه وقت الخروج، وكلُّ ذلك جائز)(6).
والروايات أشارت إلى البسط في العلم وتحقّقه للإمام المعصوم وحصوله بإعلام الله تعالى له، فعن معمّر بن خلاّد قال: سأل أبا الحسن (عليه السلام) رجل من أهل فارس فقال له: أتعلمون الغيب؟ فقال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «يبسط لنا العلمَ فنعلم، ويقبض عنّا فلا نعلم»، وقال: «سرّ الله (عزَّ وجلَّ) أسرّه إلى جبرئيل (عليه السلام) وأسرّه جبرئيل إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأسرّه محمّدٌ إلى من شاء الله»(7).
والحاصل:
إن علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وبحسب هذه المرتكزات العقديّة القرآنية والروائية، والتي يستند إليها الإمام نفسه في حراكه التغييري والإصلاحي قابلاً لإدراك وقت الظهور وتعيينه بالإذن به من عند الله سبحانه، ولأنَّ نفس العلم اللدني بالظهور هو من وسائل التمكين والقدرة المحفوفة بالإرادة الإلهيّة والتسديد، فضلاً عن أنَّ العلم بالوقت وحيثيّاته والظروف المحيطة به هو من جملة ما يحتاجه الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فعلاً للنهوض بالوظيفة الكبيرة والخطيرة لما يتوفّر عليه (عجَّل الله فرجه) من الاستعداد الذاتي والإمكان في تلقّي العلم والإلهام الربّاني، وهذا ما نبّهت عليه الآية القرآنية الشريفة في قوله تعالى: ﴿وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ﴾.
وكذلك بيّنت الروايات هذا المعنى، كما روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «إنّ الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم) يوفّقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق علم أهل الزمان في قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ (يونس: 35)، وقوله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ﴾ (البقرة: 269)، وقوله في طالوت: ﴿وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 247) - وإنَّ العبد إذا اختاره الله (عزَّ وجلَّ) لأمور عباده، شرح صدره لذلك، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلمَ إلهاماً، فلم يعي بعده بجواب، ولا يحير فيه عن الصواب، فهو معصوم مؤيّد، موفّق مسدّد، قد أمن من الخطايا والزلل والعثار، يخصّه الله بذلك ليكون حجته على عباده، وشاهده على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم»(8).
وطبقاً لمضمون هذه الرواية فقد يتحقّق علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره بطريق الإلهام الربّاني(9) (وألهمه العلمَ إلهاماً) أو بما يُسمّى بالعلم اللدني، والذي يتحصّل من الإلهام أيضاً دون واسطة، بحيث يعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند زوال علّة الغيبة أنَّ وقت الظهور قد حان، ومن المعلوم أنَّ الإلهام هو أحد مصادر العلم والمعرفة، وهو طريق حاصل ومتحقّق في حقّ الإمام المعصوم (عليه السلام)، فعن علي بن يقطين قال: قلتُ لأبي الحسن (عليه السلام): علمُ عالمكم استماعٌ أو إلهامٌ، قال: «يكون سماعاً ويكون إلهاماً ويكونان معاً»(10).
وأيضاً يمكن أن يكون علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره من طريق إمكان العلم بالشيء المُرَاد والمُنتَظَر والموعود إذا شاء الإمام أن يعلمه بإعلام الله تعالى له فعلاً وإحداثاً، وهذا المعنى وارد في الروايات، عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الإِمَامِ، يَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ: «لَا، ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ»(11).
وثمة أمر مهمّ ينبغي التنبيه عليه، وهو: أنَّ نفس علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره الشريف، وبأيّ صورة ممكنة التحقّق والوقوع، يتداخل ويرتبط مع ما ذكرنا من ضرورة زوال الموانع المقتضية للغيبة على مستوى شخصه المقدّس، كزوال الخوف من القتل، أو على مستوى الظروف العامة للوقت والمكان والإنسان والدول والمجتمعات والقدرات والقواعد الموالية والمؤهَّلة لنصرته، ومدى مناسبة ذلك كلّه مع ما يجب القيام به من القضاء على الظلم والفساد وبسط العدل والحقّ والأمان والهدى والإصلاح، وتأسيس الدولة العادلة في الأرض قاطبةً.
فالعلم بالظهور ليس علماً فجائيّاً يحدث دون أن ينظر في ملابسات الواقع وحيثيّاته الإعدادية وقابلياته الفعلية، فقد يكون محفوظاً ومعلوماً من ذي قبل في ذهن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وحاضراً عنده، بمعنى العلم المبذول(12) بحسب تعبير الروايات بوصفه من خواصِّ خَلق اللهِ تعالى، ولكّنه (عجَّل الله فرجه) ينتظر تحقّق كلّ ما له دخالة في إنجاح مشروعه، من يقينيّة استجابة المخلصين قادةً وأفراداً وتحقّق قدرتهم الفعلية على الامتثال والطاعة والبذل بين يدي الإمام نفساً ومالاً وغير ذلك، وهذا المعنى ظاهر في مضمون الروايات المأثورة، فعن الإمام محمّد الجواد (عليه السلام): «يجتمع إليه من أصحابه عدّة أهل بدر: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، من أقاصي الأرض، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 148)، فإذا اجتمعت له هذه العدّة من أهل الإخلاص أظهر الله أمره، فإذا كمل له العقد، وهو عشرة آلاف رجل خرج بإذن الله (عزَّ وجلَّ)»(13).
ويُفَهم ممّا تقدّم من تفسيرات مختصرة مأثورة لمفهوم علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره وإمكان ذلك عقلاً ونقلاً ووقوعاً.
1 - إنَّ هناك أبعاداً مختلفةً تكتنف هذا العلم بحسب مقتضيات ظواهر الأشياء والأحداث وبواطنها وتأثيراتها على الظروف الراهنة قُبيل وقت التحقّق والظهور، ولها علاقتها الواقعية في فعليّة وتنجّز هذا العلم.
وفي أيّ لحظة في عصر الغيبة الكبرى لو فرضنا أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قد حصل له العلم بوقت الظهور والقيام، فذلك لا ينفك عن النظر إلى طبيعة مجريات الأمور والأحوال ومدى استجابتها وتقبّلها أو النظر إلى زوال الموانع وكلّ ما يحول دون ذلك.
2 - ويظهر أيضاً أنَّ علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره مما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه، ولذا ورد النهي عن التوقيت، فعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن القائم (عليه السلام) فقال: «كذب الوقّاتون، إنّا أهل بيت لا نوقّت»، وفي شرح هذه الرواية ذكر المولى المازندراني: (أنَّ قوله: إنّا أهل البيت لا نوقّت: دلّ ظاهراً على أنَّ لهم علماً بالوقت إلّا أنَّهم لا يوقّتون لمصالح)(14).
3 - وأيضاً لما تقدّم بيانه من ترابط وتداخل أكيد لهذا العلم بحيثياته الخارجية والواقعية في ظرفه ووقته، والإنسان المؤمن المُنتَظِر مُكلَّفٌ في قبال ذلك بمعرفة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) والتسليم له، وهذا ما كشفت عنه الروايات تنبيهاً منها على ترسيخ هذا البعد التربوي العقائدي في نفوس المنتظِرين، فعَنْ زُرَارَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): «اعْرِفْ إِمَامَكَ فَإِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ لَمْ يَضُرَّكَ تَقَدَّمَ هَذَا الأَمْرُ أَوْ تَأَخَّرَ»(15).
وأمّا ماهيّة علم الإمام المعصوم(16) وكيفيّته بالمعنى الفلسفي، وهل أنَّ علمه حصولي كسبي(17) أو حضوري فعلي(18)، ففي عقيدتنا أنَّ علمه (عليه السلام) هو علم حضوري فعلي، وللشيخ المظفّر (رحمه الله) في كتابه (علم الإمام) بيان لطيف لهذا المعنى الاعتقادي في شأن علم الإمام وماهيته، حيث ذكر: (أنَّ المراد من العلم الحضوري أو الإرادي والإشائي هو: ما كان موهوباً من العلّام سبحانه ومستفاضاً منه بطريق الإلهام أو النقر في الأسماع أو التعليم من الرسول أو غير ذلك من الأسباب، وهذا العلم اختصّ به الإمامَ دون غيره من الأنام، وليس المراد من العلم هاهنا ما حصل بالكسب من الأمارات والحواس الظاهرية والصنائع الاكتسابية، لاشتراك الناس مع الإمام في هذا العلم لأنَّه تابع لأسبابه الاعتيادية، وهذا لا يختص بأحدٍ، وهو بخلاف الأول - العلم الحضوري - إذ لا يمنحه علّام الغيوب إلّا لمن أراد واصطفى)(19).
وقد فصّل الشيخ المظفّر (رحمه الله) أدلّةً وأسباباً قيّمةً جدّاً لكون علم الإمام حضورّياً من حيث إنّه (أنفع للأُمّة، وأكمل في الرسالة والإمامة، وأسبغ في النعمة، وأتمّ في القدرة، وأكمل في اللطف، وأبلغ في المثالية وفي الدلالة، وأسلم من الانخداع)(20).
وبهذا يتبيّن أنَّ علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره وعلى سبيل الإمكان الوقوعي هو علم حضوري فعلي حادث ووهبي، اختصّه به الله تبارك وتعالى، وهو يختلف عن علم الله سبحانه الذاتي والقديم، ولا يشاركه فيه، بل هو معلولٌ له ومُستفاض منه (عزَّ وجلَّ).
وفي الروايات المأثورة ما يؤيّد ذلك، فعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ مُوسَى (عليه السلام) قَالَ: «مَبْلَغُ عِلْمِنَا عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوه مَاضٍ وغَابِرٍ وحَادِثٍ، فَأَمَّا المَاضِي فَمُفَسَّرٌ، وأَمَّا الْغَابِرُ فَمَزْبُورٌ، وأَمَّا الْحَادِثُ فَقَذْفٌ فِي الْقُلُوبِ ونَقْرٌ فِي الأَسْمَاعِ، وهُوَ أَفْضَلُ عِلْمِنَا ولَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا»(21).
ولا يوجد أيّ تنافي بين ما ورد في الروايات من أنَّ علم الأئمة المعصومين (عليهم السلام) علمٌ موروثٌ عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبين أنّهم إذا شاءوا علموا أو أنَّ علمهم حضوريّ فعلي، لأنّ وصف علمهم بالعلم الحضوري الفعلي الحادث إنّما يتأتّى من وجوب نصبهم وعلوّ مقامهم وعصمتهم وطهارتهم واستعدادهم النفسي والقلبي والعقلي للتوجّه والتلقّي من لدن حكيم عليم.
وطبقاً لذلك المُعطى الاعتقادي الحقّ في الإيمان بأنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يتميّز بالعلم الحضوري الفعلي مطلقاً، ومن مختلف سُبله، ينبغي أن نضع في منظومتنا في عصر الغيبة الكبرى أُسساً يتقوّم عليها بناء النفس وتزكيتها وتسديد العقل وتصويبه وإصلاح الأفراد والمجتمع، تهدف في مجملها إلى إيجاد الظروف الملائمة، والتي تمثّل في حقيقتها مُعدّاتٍ مُقَرِّبة من تنجيز الظهور وتحقيق القيام بالحقّ والُهدى والعدل.
وإنَّ نفس هذا الاعتقاد لطفٌ يُقرّبنا من طاعة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في عباديّة الانتظار ووظيفة التمهيد وموجباتها، بما هو مقدور ومستطاع من حيث الإعداد والتمكين، لأنّ الأحداث المُنتَظَرة لا تنفكّ عن نظام الأسباب والمُسَبّبات، وإن كانت إرادة الله تعالى هي الحاكمة في الوجود، ولكن ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً﴾ (الفتح: 23).
وتفصيل البحث يقع في محاور ثلاثة، وهي:
المحور الأوّل: بعض الروايات النافية لعلمه (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره وتوجيهها الدلالي بمقتضى البداء الإلهي(22)، منها:
الرواية الأولى: قال أبو حمزة الثمالي: قلتُ لأبي جعفر الإمام محمّد الباقر (عليه السلام): إنَّ عليّاً (عليه السلام) قال: «إلى السبعين بلاءٌ»، وكان يقول: «بعد السبعين رخاءٌ»، وقد مضت السبعون، ولم نرَ رخاءً، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «يا ثابت، إنَّ الله قد كان وقَّت هذا الأمر في السبعين، فلمّا قُتٍلَ الحُسين (عليه السلام) اشتد غضب الله على أهل الأرض، فأخّره الله إلى الأربعين ومائة سنة، فحدّثناكم فأذعتم الحديث، وكشفتم القناع، قناع السرّ، فأخَّره الله ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً - عندنا - ﴿يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ﴾ [الرعد: 39]»، قال أبو حمزة: قلتُ لأبي عبد الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ذلك، فقال: «قد كان ذلك»، وكذلك قال أحدُهم (عليهم السلام): «كَذِبَ الوقّاتون»(23).
التوجيه الدلالي: أنَّ هذه الرواية تدلّ في ظاهرها على وقوع تبدّلٍ في أصل تعيين وقت الظهور بالنظر إلى ما حدث من أحداث فظيعة في الواقع آنذاك من أوّل الأمر، ومنها قتل الإمام الحُسيَن (عليه السلام)، مما أوجب غضب الله سبحانه وتأخيره للوقت، فضلاً عن عدم توفّر الشروط الموضوعية لتحمّل حدوث الظهور وتحقّقه، فأخّره الله تعالى ولم يجعل له وقتاً؛ لاقتضاء البداء فيه، ولذا ورد النهي عن التوقيت والتحديد للظهور.
والذي يمكن التمسّك به كدليل لنفي علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره في هذه الرواية هما الفقرتان: «فأخَّره الله ولم يجعل له بعد ذلك وقتاً عندنا» و«كَذِبَ الوقّاتون».
وللمولى المازندراني في شرح أصول الكافي ما يفيد هذا المعنى الظاهر في شرح هذه الرواية، حيث قال: (أي كراهية تعيين الوقت لظهور هذا الأمر وصاحبه وحَمل الكراهة على الظاهر ظاهرٌ، وعلى التحريم مُحتَملٌ «ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا»، أيّ لم يجعل لنا توقيته بعد ذلك، ولا يجوز لنا إظهار وقته، ويُحتمل أن يكون المراد أنّه لم يجعل لنا علماً بوقته بعد ذلك)(24).
فإذن هذه الرواية لا تساعد على النفي القطعي لعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره الشريف وإن كان ظاهرها المنع من التوقيت والتحديد أو المنع من التصريح بوقت الظهور مع كون العلم به محفوظاً عند الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ولكن ناله البداء لحكمة يعلمها الله سبحانه.
وإنّما ورد تكذيب الموقِّتين، وذلك لعدم علمهم بالوقت المعلوم والمجعول في علم الله تعالى قطعاً، لا أنَّ الله تعالى لم يجعل للظهور وقتاً معلوماً من أوّل الأمر، بل كان له وقت وأخّره بمقتضى البداء.
وقد علّق الشيخ الطوسي (رحمه الله) أيضاً تعليقاً قيّماً على هذه الرواية وتوجيهها وفق وقوع البداء في تعيين الوقت، حيث ذكرَ نصّاً:
(فالوجه في هذه الأخبار أن نقول - إنْ صحت -: إنَّه لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد وقَّت هذا الأمر في الأوقات التي ذُكرَت، فلمّا تجدّد ما تجدّد تغيَّرت المصلحة واقتضت تأخيره إلى وقت آخر، وكذلك فيما بعد، ويكون الوقت الأول وكُلُّ وقتٍ يجوز أن يؤخّر مشروطاً بأن لا يتجدد ما تقتضي المصلحة تأخيره إلى أن يجيء الوقت الذي لا يغيِّره شيءٌ فيكون محتوماً، وعلى هذا يتأوَّل ما روي في تأخير الأعمار عن أوقاتها، والزيادة فيها عند الدعاء وصلة الأرحام، وما روي في تنقيص الأعمار عن أوقاتها إلى ما قبله عند فعل الظلم وقطع الرحم وغير ذلك، وهو تعالى وإن كان عالماً بالأمرين فلا يمتنع أن يكون أحدهما معلوماً بشرطٍ والآخر بلا شرطٍ، وهذه الجملة لا خلاف فيها بين أهل العدل، وعلى هذا يتأوَّل أيضاً ما روي من أخبارنا المتضمنة للفظ البداء ويبين أنَّ معناها النسخ على ما يُريده جميع أهل العدل فيما يجوز فيه النسخ، أو تغير شروطها إن كان طريقها الخبر عن الكائنات، لأنَّ البداء في اللغة هو الظهور، فلا يمتنع أن يَظهر لنا من أفعال الله تعالى ما كنّا نظن خلافه، أو نعلم ولا نعلم شرطه)(25).
وذكر الميرزا محمّد تقي الأصفهاني (رحمه الله) توجيهاً دلاليّاً آخر مختلفاً لهذه الرواية، ونصّه:
(إذ لا صراحة ولا ظهور في هذه الأحاديث بكون المراد بهذا الأمر ظهور الإمام الثاني عشر (عجَّل الله فرجه)، بل لا يمكن أن يكون المراد به ظهوره (عجَّل الله فرجه)، لأنَّ السبعين وأربعين ومائة كانتا قبل ولادته - فالمراد به استيلاء الأئمة (عليهم السلام) وظهور دولة الحقّ وغلبة المؤمنين على المخالفين، وهذا غير مقيَّد بظهوره (عجَّل الله فرجه) بحسب هذه الروايات، وليست منافية لترتيب الإمامة وكون عددهم اثني عشر، والظاهر من هذه الأحاديث أنَّ ظهور دولة الحقِّ وغلبة الأئمة وشيعتهم، واستيلائهم على أهل الباطل وبسطهم العدل في الدنيا، كانت مُقدَّرة في السبعين بشرط اتّفاق الناس على نصرة الحُسين (عليه السلام)، فإنَّ ذلك كان تكليفاً على عامتهم)(26).
الرواية الثانية: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَثِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، إِذْ دَخَلَ عَلَيْه مِهْزَمٌ، فَقَالَ لَه: جُعِلْتُ فِدَاكَ، أَخْبِرْنِي عَنْ هَذَا الأَمْرِ الَّذِي نَنْتَظِرُ، مَتَى هُوَ؟ فَقَالَ: «يَا مِهْزَمُ، كَذَبَ الْوَقَّاتُونَ، وهَلَكَ المُسْتَعْجِلُونَ، ونَجَا المُسَلِّمُونَ»(27).
التوجيه الدلالي: في هذه الرواية يسأل السائل الإمامَ جعفر الصادق (عليه السلام) عن تحديد وقت الظهور الشريف المُنتَظَر، فيجيبه بتكذيبِ كُلِّ موقِّتٍ، ويرشده إلى عدم الاستعجال المُهلِك، وإنّما المطلوب اعتقاداً هو التسليم بحتميّة وقوع الظهور وتحقّق الفرج، والرضا بالقضاء والتقدير الإلهي الحكيم.
ولا يوجد في منطوق الرواية ما يمنع من علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره، وإنّما المنع ورد في شأن كلِّ موقّتٍ أو مُخبِرٍ بذلك، لأنّه غير عالمٍ قطعاً ويقيناً بالوقت المخصوص والواقعي في علم الله تبارك وتعالى، أو لأنَّ البداء قد يطال تعيين الوقت المعلوم فيتغيَّر وفق المصالح والظروف والمقتضيات اللازمة لذلك ممّا يستدعي تكذيب الوقّاتين.
وقد بيَّن هذا المعنى المولى المازندراني في شرح أصول الكافي، حيث قال في شرح هذه الرواية:
قوله: (أخبرني عن هذا الأمر الذي ننتظره، متى هو؟)، سأله عن تعيين الوقت لظهور هذا الأمر، فأجاب (عليه السلام) بأنَّ المُوَقِّت له والمُخبِر بأنَّ وقته كذا كاذبٌ، إما لعدم علمه به أو لأنَّ كُلّ وقتٍ فُرِضَ فهو في مَعرض البداء، وبأنَّ المُستعجل لظهوره هالكٌ لعدم رضائه بالقضاء الإلهي والتقدير الأزلي، وبأنَّ المُسَلِّم لظهوره والقائل به في وقتٍ ما ناجٍ لاعتقاده بالحقّ من وجهين: أحدهما ظهوره، وثانيهما عدم الاستعجال المستلزم لتفويض الأمر إليه تعالى والرضا بقضائه وتقديره)(28).
والإمام الصادق (عليه السلام) في هذه الرواية أيضاً لم ينفِ العلمَ بالوقت، لا عن نفسه ولا عن أهل البيت (عليهم السلام) بحسب مناسبات الحكم والموضوع، بل نفى العلم بوقت الظهور عن غيرهم (عليهم السلام) ممّن يوقِّت أو يُخبِر كذباً دون علم ويقين بذلك.
وفي الرواية تأكيد على ترك التوقيت وتكذيب الموقِّتين ممّن يوقِّت لظهور صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) دون علمٍ بما يُخالف الواقع حتماً وما يوجب الهلاك فعلاً.
الرواية الثالثة: وهي التي رواها النعماني في كتابه الغيبة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، قال: قلتُ له: ما لهذا الأمر أمدٌ ينتهي إليه ويريح أبداننا؟ قال: «بلى، ولكنكم أذعتم فأخَّره الله»(29).
وفي كتاب الغيبة للطوسي رواها باختلافٍ يسير، عن أبي بصير، قال: قلتُ له - للإمام جعفر الصادق (عليه السلام) -: ألهذا الأمر أمدٌ نريح أبداننا وننتهي إليه؟ قال: «بلى، ولكنّكم أذعتم فزادَ اللهُ فيه»(30).
التوجيه الدلالي: هذه الرواية بطريقيها - عن الشيخين النعماني والطوسي (رحمهما الله) - قد وردت أيضاً في أخبار المنع من التوقيت لظهور صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه)، وهي بحسب ظاهرها تدلّ على خفاء أصل توقيت الظهور عن المؤمنين وإخفائه بمقتضى البداء الإلهي الحكيم، وذلك لعدم توفّر الظروف الموضوعيّة للتغيير الموعود على مستوى الأفراد أو الأُمّة، وبدليل التعليل في ذيل الرواية على اختلاف العبارتين «ولكنّكم أذعتم فأخّره الله»، «ولكنّكم أذعتم فزادَ اللهُ فيه»، وكلتا العبارتين تُشير إلى وقوع البداء في تعيين وقت الظهور وتحديده وفق تغيّر المصالح الخارجية والواقعية آنذاك ومقتضياتها.
ونكتفي هنا بالتوجيه الدلالي الذي ذكره الشيخ الطوسي في ما يخصّ هذه الرواية، حيث قال:
(والوجه في هذه الأخبار ما قدّمنا ذكره من تغيُّر المصلحة فيه، واقتضائها تأخير الأمر إلى وقتٍ آخر على ما بيّناه، دون ظهور الأمر له تعالى، فإنِّا لا نقول به ولا نجوِّزه(31) - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -.
فإن قيل: هذا يؤدّي إلى أن لا نثق بشيءٍ من أخبار الله تعالى.
قلنا: الأخبار على ضربين:
ضربٌ: لا يجوز فيه التغير في مُخبراته، فإنّا نقطع عليها، لِعِلمنا بأنَّه لا يجوز أن يتغيَّر المُخبَر في نفسه، كالإخبار عن صفات الله تعالى وعن الكائنات فيما مضى، وكالإخبار بأنّه يثيب المؤمنين.
والضرب الآخر: هو ما يجوز تغيُّره في نفسه لتغيُّر المصلحة عند تغيُّر شروطه، فإنّا نُجَوّز جميع ذلك، كالإخبار عن الحوادث في المستقبل، إلّا أن يرد الخبر على وجه يُعلَم أنَّ مُخبَره لا يتغيِّر، فحينئذٍ نقطع بكونه، ولأجل ذلك قُرِن الحتمُ بكثير من المُخبَرات، فأعلمنا أنّه مما لا يتغيَّر أصلاً، فعند ذلك نقطع به)(32).
إذن هذه الرواية لا تنفي إمكان علم الإمام (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره الشريف، وإنّما تحكي وقوع البداء والتأخير والتأجيل في الوقت بالنظر إلى عدم تحقّق الشروط الإيمانية والاجتماعية والتدبيرية لتقبّل الحدث الموعود العظيم وتحمّله.
الرواية الرابعة: وهي ما روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: «فقد حدثني أبي، عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) أنَّ النبيَّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قيل له: يا رسول الله متى يخرجُ القائمُ من ذريّتك؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مَثله مَثَل الساعة التي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ، ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً»(33).
التوجيه الدلالي: أنَّ هذه الرواية وبحسب الظاهر تدل على أنَّ العلم بوقت ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كالعلم بقيام الساعة، والتي لا يعلمها إلّا الله سبحانه وتعالى وحده، ممّا تعطي احتمالاً بعدم علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره، ولكن الراجح دلالةً خلاف ذلك، لأنَّ قيد (بغتَة) الذي قيّد به العلم بوقوع الساعة «لا تأتيكم إلّا بَغتَةً» يكشف عن أنَّ ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أيضاً سيقع بغتةً وفجأةً بدليل التمثيل بين الأمرين «مَثَله مَثَل الساعة» في الوقوع والقيام فجأةً، ولا يوجد نفي لعلم الإمام بوقت ظهوره في هذه الرواية بعد رسوخ الاعتقاد بأنَّ علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) علمٌ حضوري فعلي حادثٌ موهوبٌ ومُستفاضٌ من الله تعالى.
وقد ورد ما هو قريب من مضمون هذه الرواية روايةٌ طويلةٌ نذكر قسماً منها:
عن المفضّل بن عمر، قال: سألتُ سيّدي الصادق (عليه السلام)، هل للمأمول المنتظر المهدي (عليه السلام) مِن وقتٍ موقَّت يعلمه الناسُ؟ فقال: «حاشا لله أن يوقِّت ظهورَه بوقتٍ يعلمه شيعتنا»، قلتُ: يا سيّدي ولِمَ ذاك؟ قال: لأنّه هو الساعة التي قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ [الأعراف: 187]...»(34).
ورواية المفضّل بن عمر هذه فيها مدلولان:
أحدهما: نفي علم الناس والشيعة بوقت ظهوره الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهي بهذا المعنى تكون من أخبار المنع عن التوقيت والنهي عنه.
والمدلول الآخر: هو تشبيه وقت ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أو تأويله بوقت قيام الساعة وهي من مختصّات علم الله سبحانه وحده، والتي تقع بغتةً وفجأةً.
وعلى تقدير كِلا المدلولين لا ينال النفي علمَ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره، بل الظاهر والراجح هنا أنَّ التشبيه أو التأويل يعطي معنى أنَّ ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يحدث فجأةً وبغتةً كالساعةِ، وهذا المعنى ورد في كثير من الروايات المأثورة، عن زرارة، قال: سألتُ أبا جعفر الإمام الباقر (عليه السلام)، عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾ [الزخرف: 66]، قال: «هي ساعة القائم (عليه السلام) تأتيهم بَغتَةً»(35).
المحور الثاني: بعض الأدلّة المُثبتَة لعلمه (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور قبل وقوعه:
أوّلاً:
ما ورد من التوجيه الدلالي للنهي عن التوقيت وكراهيته، عن أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الْقَائِمِ، فَقَالَ: «كَذَبَ الْوَقَّاتُونَ، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نُوَقِّتُ»(36).
حيث ذكر المولى المازندراني (رحمه الله) في شرح أصول الكافي في شرح هذه الرواية ما نصّه:
(قوله: «إنّا أهل بيتٍ لا نوقِّت» دلّ ظاهراً على أنَّ لهم علماً بالوقت إلّا أنَّهم لا يوقّتون لمصالح، منها ما سيذكره علي بن يقطين، عَنْ أَخِيه الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيه عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ، قَالَ، قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ (عليه السلام): «الشِّيعَةُ تُرَبَّى بِالأَمَانِيِّ مُنْذُ مِائَتَيْ سَنَةٍ»، قَالَ: وقَالَ يَقْطِينٌ لِابْنِه عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ: مَا بَالُنَا قِيلَ لَنَا فَكَانَ، وقِيلَ لَكُمْ فَلَمْ يَكُنْ؟ قَالَ: فَقَالَ لَه عَلِيٌّ: «إِنَّ الَّذِي قِيلَ لَنَا ولَكُمْ كَانَ مِنْ مَخْرَجٍ وَاحِدٍ، غَيْرَ أَنَّ أَمْرَكُمْ حَضَرَ فَأُعْطِيتُمْ مَحْضَه، فَكَانَ كَمَا قِيلَ لَكُمْ وإِنَّ أَمْرَنَا لَمْ يَحْضُرْ فَعُلِّلْنَا بِالأَمَانِيِّ، فَلَوْ قِيلَ لَنَا إِنَّ هَذَا الأَمْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِلَى مِائَتَيْ سَنَةٍ أَوْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، لَقَسَتِ الْقُلُوبُ ولَرَجَعَ عَامَّةُ النَّاسِ عَنِ الإِسْلَامِ، ولَكِنْ قَالُوا مَا أَسْرَعَه ومَا أَقْرَبَه تَأَلُّفاً لِقُلُوبِ النَّاسِ وتَقْرِيباً لِلْفَرَجِ» - وبيَّن وجه التعليل بقوله: «الشيعة تُرَبَّى بالأماني» أراد بتربيتهم إصلاح حالهم وتثبيت قلوبهم بالوعد القريب لظهور صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) واستيلائه على العباد والبلاد، ولو تحقق الوعد البعيد حصل لهم اليأس من لقائه واضطربت نفوسهم وفسدت عقائدهم)(37).
ثانياً: ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) بقوله:
(فإن قيل: بأي شيءٍ يَعلم زوالَ الخوف وقتَ ظهوره، أبوحي مِن الله؟ فالإمام لا يُوحى إليه، وبعلم ضروري؟ فذلك ينافي التكليف، أو بأمارة توجب عليه الظن؟ ففي ذلك تغرير بالنفس؟
قلنا: عن ذلك جوابان:
أحدهما: أنَّ الله تعالى أعلمه على لسان نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأوقفه عليه من جهة آبائه (عليهم السلام) زمانَ غيبته المخوفة، وزمان زوال الخوف عنه، فهو يتبع في ذلك ما شُرّع له وأُوقف عليه، وإنّما أُخفي ذلك عنا لما فيه من المصلحة، فأمّا هو، فهو عالم به لا يرجع فيه إلى الظن.
والثاني: أنَّه لا يمتنع أن يغلب على ظنّه بقوّة الأمارات بحسب العادة قوّة سلطانه، فيظهر عند ذلك ويكون قد أعلم أنّه متى غلب في ظنه كذلك وجب عليه، ويكون الظن شرطاً والعمل عنده معلوماً، كما نقوله في تنفيذ الحكم عند شهادة الشهود، والعمل على جهات القبلة بحسب الأمارات والظنون، وإن كان وجوب التنفيذ للحكم والتوجه إلى القبلة معلومين، وهذا واضح بحمد الله)(38).
وفي هذا النص يثبت الشيخ الطوسي (رحمه الله) بدليل النقل والعقل أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يعلم بوقت ظهوره من خلال إعلام الله تعالى له على لسان نبيه الأكرّم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو ما أسمته الروايات المأثورة (بالعلم المبذول) والذي يختصّ به الله سبحانه خواصّ خلقه، وقد تقدّم بيان ذلك في بداية البحث، وكذلك يمكن أن يعلم (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره بحسب تحقّق العلامات والأمارات والشروط الموضوعية والنفسية والاجتماعية والتدبيرية والواقعية في حينها، والتي يتوقّف عليها تنجيز وتمكين الظهور والقيام فعلاً وإحداثاً.
ثالثاً: منها ما ورد في الكافي بسند معتبَر، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) يَقُولُ: «الأَئِمَّةُ عُلَمَاءُ صَادِقُونَ مُفَهَّمُونَ مُحَدَّثُونَ»(39).
وفي هذه الرواية المعتبَرة إطلاق يشمل الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في ثبوت العلم له في أن يعلم إذا شاء وأراد، كما مرّ في تفسير أحد معاني العلم لهم (عليهم السلام)، وكذلك ثبوت الفهم له، وهو مرتبة عالية من مراتب المعرفة، وثبوت التحديث الملائكي له أيضاً، وهو أمرٌ ممكن، وقد وقع مع غيره من المعصومين وغيرهم، كما حكى ذلك القرآن الكريم في قصة زوجة النبي إبراهيم (عليه السلام).
وفي المجموع الدلالي لهذه الرواية المعتبرة يمكن أن يعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وقتَ ظهوره بتفهيم الله تعالى له وتعليمه إيّاه إلهاماً وإفاضةً منه سبحانه أو بتحديث الملائكة له.
ويعضد هذه الرواية المعتبرة رواية معتبرة ثانية وردت بعدها في كتاب الكافي للكليني (رحمه الله) تُبيّن مصداق هذه المعاني الاعتقادية ثبوتاً في شخص الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بوصفه أوّل الأئمة المعصومين المنصوبين إذ روى الشيخ الكليني بسند معتبر، عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ مُحَدَّثاً»، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَقُلْتُ: جِئْتُكُمْ بِعَجِيبَةٍ، فَقَالُوا: ومَا هِيَ؟ فَقُلْتُ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) مُحَدَّثاً»، فَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً إِلَّا سَأَلْتَه مَنْ كَانَ يُحَدِّثُه، فَرَجَعْتُ إِلَيْه، فَقُلْتُ: إِنِّي حَدَّثْتُ أَصْحَابِي بِمَا حَدَّثْتَنِي، فَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً إِلَّا سَأَلْتَه مَنْ كَانَ يُحَدِّثُه، فَقَالَ لِي: «يُحَدِّثُه مَلَكٌ»، قُلْتُ: تَقُولُ إِنَّه نَبِيٌّ؟ قَالَ: فَحَرَّكَ يَدَه هَكَذَا أَوْ كَصَاحِبِ سُلَيْمَانَ أَوْ كَصَاحِبِ مُوسَى أَوْ كَذِي الْقَرْنَيْنِ، أومَا بَلَغَكُمْ أَنَّه قَالَ وفِيكُمْ مِثْلُه»(40).
رابعاً: وهو ما ذهب إليه الميرزا محمّد تقي الأصفهاني في كتابه القيّم: (مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم (عجَّل الله فرجه))، في إثبات علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره الشريف.
حيث قال: (إنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) يَعلم وقتَ ظهوره، لكنّه لم يؤذَن بإظهاره، كما أنَّ الأئمة الماضين لم يؤذنوا بإظهاره لأنَّ الأئمة (عليهم السلام) وإن كانوا عالمين بكل شيءٍ، عدا ما استثنى مثل الاسم الأعظم، الذي ادّخره الله (عزَّ وجلَّ) لنفسه، لم يطلع عليه أحداً من خلقه، لكنّهم ﴿عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [الأنبياء: 26-27]، ولا يخبرون العبادَ إلّا بما أمرهم الله تعالى بإظهاره لهم، كما ورد ذلك في روايات عديدة مذكورة في البصائر وغيره)(41).
المعطيات المترتبة على الاعتقاد بعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره الشريف:
أوّلاً:
يظهر ممّا تقدّم من بعض الأدلّة المُثبتة لعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره وستره لمصالح واقعية معلومة عند الله تعالى أنَّ هناك معطياتٍ تربويةً مختلفةً تترتّب على ذلك المعنى الاعتقادي تدخل في صميم البناء الذاتي المستقيم لشخصيّة الإنسان المؤمن المُعتقد بإمام الزمان والعارف بوجوده وحتميّة ظهوره وقيامه بالحقّ والهدى والصلاح والقضاء على الظلم والفساد في الأرض، تقدّم هذا الأمر أو تأخّر، وفي الرواية ما يفيد هذه المعطيات، فعَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ [الإسراء: 71]، فَقَالَ: «يَا فُضَيْلُ، اعْرِفْ إِمَامَكَ فَإِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ إِمَامَكَ لَمْ يَضُرَّكَ تَقَدَّمَ هَذَا الأَمْرُ أَوْ تَأَخَّرَ، ومَنْ عَرَفَ إِمَامَه ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ صَاحِبُ هَذَا الأَمْرِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ قَاعِداً فِي عَسْكَرِه، لَا بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَعَدَ تَحْتَ لِوَائِه»، قَالَ: وقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِه: بِمَنْزِلَةِ مَنِ اسْتُشْهِدَ مَعَ رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(42).
وهذه الرواية القيّمة تعطي للإنسان المؤمن - ممّن لم يدرك إمام الزمان في ظهوره وقيامه - طمأنينةً في أهمّية المعرفة العقائدية الراسخة والصحيحة والتي تُنزل منزلَةَ المُدرِكِ فعلاً، بحيث تجعل المعرفة الواجبة المطلوبة وافيةً في إطار الممكن والمقدور والواقع المتاح في حرَاكِ المُكلَّف علماً وقدرةً.
ثانياً: أنَّ لهذا الاعتقاد دخالةً أساسيّةً في تربية الأُمة والمجتمع على معاني التسليم والتضحية والأمل والانتظار الفاعل وتزكية النفس وتطهير القلب وإعداد القدرات والخبرات التي تستوعب حدث التغيير الكبير وتناصره، وهذا ما أشار إليه أيضاً التوجيه الدلالي الأوّل المتقدّم في المحور الثاني والتعليل بـ(تُربّى الشيعة بالأماني).
ثالثاً: أنَّ الاعتقاد الحقّ عندما يرسخ في عقل وقلب ونفس الإنسان سيجعله على ثباتٍ في مبادئه ومواقفه وعلى طاعةٍ موافقةٍ لتكاليفه الشرعية والاجتماعية والثقافية فرداً ومجتمعاً في مُعترك التمييز والتمحيص قُبيل الظهور الشريف وتحقّقه، فعَنْ مَنْصُورٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله - الإمام الصادق (عليه السلام)-: «يَا مَنْصُورُ، إِنَّ هَذَا الأَمْرَ لَا يَأْتِيكُمْ إِلَّا بَعْدَ إِيَاسٍ، ولَا والله حَتَّى تُمَيَّزُوا، ولَا والله حَتَّى تُمَحَّصُوا، ولَا والله حَتَّى يَشْقَى مَنْ يَشْقَى ويَسْعَدَ مَنْ يَسْعَدُ»(43).
رابعاً: يتجلى أيضاً دور هذا الاعتقاد بكون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يعلم بوقت ظهوره المبارك في تعزيز معرفة وفهم ترابطية العلامات والأحداث والمتغيّرات وموانع الغيبة ومقتضيات زوالها ووظيفة المُنتَظِر تجاهها وكيفية التعاطي معها وبثّ الثقة والطمأنينة في النفس من حيث وضوح يقينية الظهور بشرطه وشروطه، ومنها إصلاح الفرد نفسه، فضلاً عن مجتمعه، وصيرورة انتظار الفرج في خضمّ هذا الترابط الموضوعي والسببي بين الإمام والأحداث بمثابة الأمان من الضلالة والزيغ والتكفّل الحقيقي للثبات على الهُدى والاستقامة والفوز والنجاة من الهلكة في الدنيا والآخرة، فعَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَتَى الْفَرَجُ؟ فَقَالَ: «يَا أَبَا بَصِيرٍ، وأَنْتَ مِمَّنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا؟ مَنْ عَرَفَ هَذَا الأَمْرَ فَقَدْ فُرِّجَ عَنْه لِانْتِظَارِه».
وقد شرح المولى المازندراني هذه الرواية بوجه لطيف حيث ذكر:
(قوله (متى الفرج) سألَ أبو بصير عن زمان حصول الفرج بظهور الصاحب (عجَّل الله فرجه)، أجاب (عليه السلام) بأنّك ممّن يُريد الدنيا وزينتها حيث تطلب الفرج الدنيوي، وهو أمرٌ سهلٌ هيّن، وإنّما الفرج هو الفرج الأخروي بالخلاص من العذاب الأبدي، وهذا الفرج قد حصل لك بالفعل، لأنّكَ عرفتَ هذا الأمر، ومن عرف هذا الأمر فقد فرّج الله عنه ورفع عنه ضيق الصدر ووسوسة القلب وعذاب الآخرة، كُلُّ ذلك لانتظاره ظهور هذا الأمر، وانتظاره لكونه من أفضل الطاعات سببٌ للفرج الحقيقي وهو الفرج الأخروي)(44).
خامساً: يُقدِّم هذا الاعتقاد رؤية عقائدية سليمة وقويمة عن حكمة ستر العلم بوقت الظهور وتعيينه، ووظيفة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في نفس عالمه الخاص شأناً وفي حدّ حراكه الممكن فعلاً ووقوعاً في عصر الغيبة الكبرى من حيث كونه لطفاً وجوديّاً في حدّ نفسه ولغيره، تقدّم ظهوره أو تأخّر، وتظهر أيضاً في فهم ارتباط تنجّز وتحقّق ظهوره الفعلي بحكم التقديرات الإلهيّة ومصالح المتغيّرات الواقعية ووجوه البداء الذي يحدث في عالم المحو والإثبات، ممّا تجعل - هذه الرؤية - المؤمن يمرّ في مراحل التمحيص والامتحان والصبر والثبات لبيان مدى صدق اعتقاده وقدرته على التحمّل والفوز في ذلك كلّه.
وللميرزا محمّد تقي الأصفهاني بيانٌ قيّم لهذه الرؤية العقائدية السليمة، حيث قال في سياق إثبات علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره وارتباطه بعالم المحو والإثبات: (وهذا التمحيص والامتحان قد يقع في أصل الإذعان للمحو والإثبات فيؤمن به قومٌ مؤمنون وينكره قومٌ آخرون، كما زعمه قوم من الفلاسفة الزنادقة، وقد يقع في تصديق الأئمة الطاهرين، وحجج الله على العالمين، فيما أخبروا بوقوع البداء فيه، لكونه من الأمور الموقوفة، التي يجري فيها المحو والإثبات، فصدّقهم المؤمنون لاعتقادهم به، وبصدق أئمتهم وكذّبهم المعاندون ونسبوهم إلى الافتراء على الله جل شأنه في ذلك، وزعموا أن ذلك مما وضعه الأئمة (عليهم السلام)، ليكون مندوحة لهم فيما يخبرون به شيعتهم، ثم يقع على خلاف ما حدّثوهم به، فقد دلّ (جلّ وعزّ) في كتابه الكريم على وقوع المحو والإثبات تصديقاً لما يُحدّث به ويبيّنه حججه وبيناته، وينكره الجاهلون به وعصاته، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وقد يقع التمحيص والامتحان في الآثار المترتبة على الاعتقاد بوقوع المحو والإثبات، في مرحلة التوكل والتعبد، والتصدق، والتضرع، والدعاء، والاهتمام، في الأمور الباعثة للتبديل والتغيير في التقديرات الموقوفة، القابلة للمحو والإثبات)(45).
المحور الثالث: الترابط بين علمه (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور والبداء الإلهي والعلامات الحتميّة وآثاره:
من المعلوم في المنظومة الاعتقادية لمذهب أهل البيت المعصومين (عليهم السلام) أنَّ ظهور الإمام المَهدي (عجَّل الله فرجه) وخروجه من المحتوم والميعاد الذي لا يتغيَّر ولا يتبدّل، فلا يطاله البداء قطعاً.
وإنّما الكلام في أنه: هل من الممكن أن يقع البداء في وقت الظهور والعلامات الحتمية قُبيله؟
ولا شكّ في أنَّ الاعتقاد بالبداء هو المَخرَج العلمي والمعرفي لتفسير المتغيّرات وتأخّر تحقّق بعض العلامات ممّا يقدّم فهماً راشداً وواعياً لعملية الترابط الاعتقادي بين مجموع الاعتقادات الحتميّة الموعودة ولزوم تحقّقها ووقوعها لزاماً، وفي الرواية عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْحَلَبِي، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله - الإمام الصادق (عليه السلام) - يَقُول: «اخْتِلَافُ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنَ المَحْتُومِ، والنِّدَاءُ مِنَ المَحْتُومِ، وخُرُوجُ الْقَائِمِ مِنَ المَحْتُومِ»، قُلْتُ: وكَيْفَ النِّدَاءُ؟ قَالَ: «يُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوَّلَ النَّهَارِ أَلَا إِنَّ عَلِيّاً وشِيعَتَه هُمُ الْفَائِزُونَ»، قَالَ: «ويُنَادِي مُنَادٍ فِي آخِرِ النَّهَارِ أَلَا إِنَّ عُثْمَانَ وشِيعَتَه هُمُ الْفَائِزُونَ»(46).
وفي رواية أخرى عبّرت عن خروج القائم (عجَّل الله فرجه) وظهوره بالميعاد الذي لا يبدو لله فيه، حدثنا أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، قال: كنّا عند أبي جعفر محمّد بن علي الرضا (عليه السلام) فجرى ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلتُ لأبي جعفر (عليه السلام): هل يبدو لله في المحتوم؟ قال: «نعم»، قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم، فقال: «إنَّ القائم من الميعاد، والله لا يُخلف الميعاد»(47).
وللعلّامة المجلسي (رحمه الله) بيان في توضيح مفهوم المحتوم وكيفية إمكان وقوع البداء فيه، فقال:
(لعلَّ للمحتوم معاني يمكن البداءُ في بعضها وقوله: «من الميعاد» - إشارة إلى أنّه لا يمكن البداء فيه لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ﴾ [آل عمران: 9- الرعد: 31]، والحاصل أنَّ هذا شيء وعدَ الله رسوله وأهل بيته، لصبرهم على المكاره التي وصلت إليهم من المخالفين، والله لا يُخلف وعده، ثم أنّه يحتمل أن يكون المراد بالبداء في المحتوم البداء في خصوصياته لا في أصل وقوعه كخروج السفياني قبل ذهاب بني العباس ونحو ذلك)(48).
ووفقاً لذلك المبنى الاعتقادي في فهم البداء وكيفية وقوعه في بعض المحتوم، يمكن أن يحصل البداء في نفس وقت ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، من حيث التقديم والتأخير وفق التقديرات الإلهية المطابقة للواقع والحكيمة في أغراضها عند التحقق والوقوع، لا أن يقع البداء في أصل وقوع ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لأنّه من الميعاد القطعي الثبوت والتحقّق، فضلاً عن إمكان وقوع البداء في خصوصيات بعض العلامات المحتومة.
وأمّا الميرزا محمّد تقي الأصفهاني فلم يستبعد إمكان وقوع البداء في تعيين وقت الظهور الشريف، وأورد توجيهاً اعتقادياً لهذا المعنى بما نصّه قائلاً:
(إذ لا بُعد في أن يكون لظهوره وقتان في علم الله سبحانه أحدهما أقرب، والآخر أبعد، ويكون ظهوره في الزمان الأقرب مشروطاً باهتمام المؤمنين وإكثارهم من الدعاء بتعجيل فرجه وتقريب ظهوره، وهذا معنى كون ظهوره من الأمور البدائية التي تقبل التقديم والتأخير، ودلالة الروايات المروية عن الأئمة (عليهم السلام) على هذا المرام غير خفية على من كان له تتبع تام، وهذا الوقت الأقرب لما يجيء إلى الآن، فإنكار تأثير الدعاء مما يذوده البرهان، لأنّه قد دلّ على تأثيره صريح القرآن، في كلّ ما يكون تحققه في بقعة الإمكان، وإمكان تقدّم ظهور صاحب الزمان، وقُربه بدعاء أهل الإيمان، ممّا دلّت عليه الأحاديث المروية، عن أهل الذكر والتبيان)(49).
وهناك رأي آخر جدير بالذكر يخالف القول بإمكان وقوع البداء في المحتوم وعلاماته، بناءً على تضعيف الرواية آنفة الذكر التي ذكرت أنَّ القائم من الميعاد ذكره المحقّق السيّد جعفر مرتضى العاملي (رحمه الله) حيث قال:
(وهذه الرواية ضعيفة السند فلا يُعوّل عليها، ولا يوجد نص معتبر يُؤيد مضمونها، ونحن نعتقد أنَّ المحتوم لا يقع فيه لله بداء، وقد استخدم القرآن معنى المحتوم بمعنى الموعود في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا﴾ [مريم: 71]، وذهب جمع من الفقهاء إلى أنَّ المحتوم ليس لله تعالى فيه بداء - وقد لاحظنا بالاستقراء التام لجميع العلامات الحتميّة أنَّ كلَّ واحدة منها وردت بشأنها نصوص قرآنية واضحة صريحة مُفسَّرَة من أهل البيت بها - ولا تقبل الانطباق على حوادث غيرها، فإذا قلنا بوقوع البداء فيها أجزنا القول بوقوع النسخ في القرآن بعد عصر النبوة، وهو غير مُتصَوّر.
ومن الجدير بالانتباه أنَّ العلامات الحتميّة تعتبر من أهم علامات الظهور على الإطلاق لاعتبارات عديدة، منها: أنّها كلُّها تقع في عصر الظهور، أي تحدث قريبة جداً من تاريخ الظهور المقدس، وأكثرها تتحقق في سنة الظهور كالسفياني، والصيحة، والخسف، واليماني، وقتل النفس الزكية، وظهور العباسي.
ومنها: أنَّ نجاح المخطط الإلهي لليوم الموعود يتوقف على وقوع العلامات الحتمية في الأُمة، وعند عدم تحققها ينسف مفهوم الانتظار المتقوِّم بها، كما ينسف مفهوم الغربلة وفرز الجماعات الخبيثة من الطيبة تمهيداً للظهور، لأنَّ أحداث هذه العلامات هي التي تصنع الأجواء السياسية والاجتماعية التي تجسّد مفهوم الغربلة إلى واقع فعلي في حياة الأُمة.
ومنها: أنَّ هناك ترابط موضوعي بينها بحيث تكون العلامة الأولى منها علّةً لوقوع الثانية التي بعدها، والثانية أيضاً تكون علّةً لتحقق الثالثة، وهكذا البقية...)(50).
وبهذه التوجيهات المختلفة لإمكان وقوع البداء في المحتوم في خصوصياته أو في بعض علاماته أو عدم وقوعه يمكن القول: إنَّ البداء هو مانع واقعي من تعيين وقت الظهور وإخبار الناس به، تفويتاً لنقض الأغراض الإلهيّة الحكيمة العائدة والتي تصبّ في مصلحة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وإنجاح مشروعه الإصلاحي والتغييري الكبير، وكذلك لأنَّ البداء يمثّل لطفاً إلهيّاً بالعباد أنفسهم، من حيث ترسيخ إيمانهم بقدرة الله تعالى وإطلاقها على كلِّ شيءٍ، وتحقيقه متى شاء وأراد حتماً مقضيّاً.
ولا ينافي كون وقت الظهور ممّا سُتِرَ علمه وإمكان وقوع البداء في المحتوم وبعض خصوصياته وعلاماته حِفْظ علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره الشريف وحتميّة تحقّقه بحسب مقتضيات الوقائع والظروف والشروط، والتي لا يعلمها إلّا الله وحده سبحانه فيطلعه عليه إلهاماً أو إفاضةً كما تقدّم توضيح ذلك فيأذن له ويسدّده.
وثمة سؤال قد يرد في المقام، وهو: هل يرتبط علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور بضرورة تحقّق العلامات الحتميّة من جهة اقتضاء الظهور لوجود العلامة قُبيله، كالسفياني مثلاً؟
والجواب: أنَّ الاعتقاد السائد والوارد في المأثور الروائي وبغض النظر عن مسألة البداء ووقوعه أو عدم وقوعه في المحتوم أو في خصوصياته - هو الترابط السببي والوجودي بين مجموع أحداث وعلامات سنة الظهور، بحيث لا ينفك بعضها عن بعض في التحقّق والفعليّة وبنسق ونظام واحد متتابع يكشف عن موضوعية العلامة الحتمية وطريقيَّتها في تنجّز فعليّة العلم بوقت الظهور وتحقّقه في ظرفه المُخطّط له في علم الله تعالى والمعلوم عند الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) نفسه.
ففي الرواية عن أبي بصير عن الإمام محمّد الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «خروج السفياني واليماني والخراساني في سنة واحدة، في شهر واحد، في يوم واحد، نظام كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً فيكون البأس من كلّ وجه، ويل لمن ناواهم، وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني، هي راية هُدى، لأنّه يدعو إلى صاحبكم، فإذا خرج اليماني حرَمَ بيع السلاح على الناس وكلّ مسلم، وإذا خرج اليماني فانهض إليه فإنَّ رايته راية هدى، ولا يحلّ لمسلم أن يلتوي عليه، فمَن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنَّه يدعو إلى الحق ّوإلى طريق مستقيم»(51).
وهذا الترابط الحدثي يحكي عن أنَّ هذه العلامات المحتومة والمتسارعة أشبه بالمقدّمات الوجودية والتي يتوّقف عليها تحقّق الواجب العقائدي المطلوب عقلاً، لأنّها في الواقع تمثّل مخاض عملية التغيير المرتقَب والمأمول حدوثاً ووقوعاً، والتي لابُدّ للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من أن يمسك بزمام الأمر بها في وقتها لحسم هذه الأحداث وحلحلتها بالظهور والقيام بالحقّ.
وقد قدّم المحقّق السيّد جعفر مرتضى العاملي (رحمه الله) تفسيراً فكريّاً وعقائدّياً وثقافيّاً قيّماً لفلسفة الترابط الموضوعي والحدثي في مجموع أحداث وعلامات الظهور الشريف، ما وقع منها وما سيقع، وموقف أهل البيت المعصومين (عليهم السلام) من ذلك، ووظيفتنا تجاهه، فذكر في كتابه دراسة في علامات الظهور تحت عنوان (الفرق بين ما وقع وبين ما سيقع) ما نصّه:
(وهذه الحقيقة هي: أنَّ المعصومين عليهم الصلاة والسلام، ما كانوا بإخباراتهم تلك يُريدون ربط الناس بما سيقع، من أجل أن يستغرقوا فيه أو ليكون ذلك عذراً أو مبرّراً للوقوف على هامش الساحة في موقع المتفرج، إن لم يصبح عبئاً يثقل كاهل العمل المخلص والجاد، ويثقل خطب العاملين كذلك، هذا كله.. عدا عما يمارسه الكثيرون ممّن لديهم هذا الفَهم من دور سلبي في مجال التثبيط، وإيجاد حالة من الفشل والإحباط، وقد يتعدى ذلك إلى إيجاد الانقسامات والاختلافات التي تستهلك الطاقات، وتستنفد الهمم والعزائم، ليصبح العدو - من ثَمَّ - أقدر على توجيه الضربات الساحقة، والماحقة، لكل جهد مخلص، أساسي وبنّاء.
نعم.. إنهم (عليهم السلام) ما كانوا يريدون ربط الناس بما سيقع، وإنّما بما وقع، أي أنَّهم يريدون للناس أن يستفيدوا ممّا وقع ومضى لينعش بهم الأمل، ويشحذ الهمم والعزائم ليمنحهم اليقين، ويهب لهم حالة السكون والركون إلى الحقّ، والارتباط العاطفي والشعوري بقائد المسيرة ورائدها، بعد الانتهاء من مرحلة الارتكاز العقائدي المستند إلى القناعات الناشئة عن وسائل الإثبات للأصول والمنطلقات الأوليّة في مسائل الإمامة على صعيد مفاهيمها الأساسية من جهة، وعلى صعيد التجسيد الحي في المثل الحي للإمامة الحاضرة، من جهة أخرى، ولا شك في أن وجود هذا الارتباط العاطفي والشعوري، وذلك السكون والركون يصبح ضرورةً ملحةً، حينما يبدو أنَّ الناس قد بدأوا يتعاملون مع قضية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كمرتكز عقائدي، لا يملك من الروافد الشعورية والعاطفيّة إلّا القليل القليل، الذي لا أثر له في موقع الحركة، وتسجيل الموقف، فالمطلوب إذن هو أن يسهم ما وقع في بعث الأمل ورفع درجة الإحساس، والشعور والارتباط بالقائد وبالقيادة إلى مستوى أعلى وأكثر حيوية وفاعلية فيه الكثير من الجدّية، والمزيد من العطاء، ويعمّق في الإنسان المسلم المزيد من الشعور بالمسؤولية، والإحساس بالرقابة، ليعيش في رحاب الإمامة بكلّ ما فيها من معانٍ، وكلّ ما تمثّله من عطاء، في مجال الحركة والعمل والسلوك والموقف، وفي جميع مفردات حياته التي يعيشها)(52).
خلاصة البحث:
لقد تبيَّن أنَّ علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره الشريف ممّا لا مانع نقلي أو عقلي من إمكانه ووقوعه، وهو يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعالم المحو والإثبات والتقديرات الإلهية والمصالح والمتغيِّرات الزمانية والمكانية والاجتماعية وبكلِّ ما يتعلّق بالإنسان المؤمن والمجتمع المعني بهذا الأمر، وكذا القدرات والخبرات والاستعدادات لتقبّل عملية التغيير المهدوي المُرتَقَب الإصلاحي العادل الكبير.
وإنَّ ما ورد من منع وكراهة لتوقيت زمن الظهور وتعيينه إنّما هو لتكذيب دعوى المُخبِر به، كونه يخبر بما يخالف الواقع والاعتقاد، وتجنّباً لاستغلال العقيدة المهدوية من قبل المتقمصين والدجّالين والمُدَّعين وتوظيفها لمآربهم الفاسدة والباطلة في إضلال الناس.
وأمّا كيفيّة علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره فقد بيّنتها الروايات المأثورة والمعتبَرة، وذلك من طريق تلقيّه للعلم المبذول من النبي الأكرم محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام)، فضلاً عن إمكان التلقي الإلهي بواسطة الفيض الربّاني أو الإلهام أو التحديث الملائكي.
وفي هذا البحث ظهرت لنا معطيات تربوية وعقائدية وفكرية ومنهجية تقدّم وعياً راشداً وفهماً قويماً عن ضرورة إدراك الترابط بين مجموع الأحداث المهدوية من نفس علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور وعلاقته بالبداء وضرورة تحقّق العلامات قُبيل ذلك، وهذه المعطيات تصبّ جميعها في مصلحة الفرد والأُمّة والمجتمع في مجالات بناء النفس والقدرات والكفاءات أفراداً ومؤسساتٍ ولزوم الاعتبار بما وقع وتحصيل المعرفة اللازمة والكافية في وقت المكلَّف وعصره وإن لم يدرك عصر الظهور والقيام بالحقّ.
ففهم الأحداث في تشابكها وتغيراتها وكونها مناطةً بعالم البداء الإلهي من أهمِّ الرؤى السديدة التي يقدّمها الاعتقاد الحقّ بقدرة الله تعالى على التغيير والتقديم والتأخير بما يتّفق وعلمه الفعلي المحيط وحكمته ومصلحة العباد ولطفه بهم، فضلاً عن كون ارتباط وقت الظهور المبارك وتأخّر تحقّقه فعلاً له علاقة بعملية اختبار المؤمنين وتمحيصهم وتمييزهم وغربلتهم في خضمّ ما يجري عليهم، وذلك من أجل تكميل درجاتهم الإيمانية وضمان ثباتهم في موقفهم وتضحياتهم في سبيل هذه العقيدة الحتمية الوعد والتنجيز.
هذا وأنَّه ينبغي بالإنسان المؤمن المُنتَظِر الراشد في اعتقاده وسلوكه أن يفهَم تفسير وقت الظهور الشريف وتأخّر تحقّقه وفق رؤية البداء الإلهي أو لعدم تحقّق الشروط والظروف الموضوعية والنفسية والتدبيرية بما يجعل مشروع الظهور متمكناً من التنجيز والوقوع حتماً وضرورةً، ومن جملة ذلك قيمة وأثر حرَاك الإنسان المؤمن نفسه إصلاحاً وبناءً وتقويماً وتبليغاً وتمهيداً في مزدحم ومنتظم وتسارع أحداث عصر ما قُبيل الظهور، إذ لكلٍّ منّا دخالةٌ في ما يجري وما سيقع وما سيكون من قريب أو من بعيد.

الهوامش:

(1) الإمكان الوقوعي: هو كون الشيء بحيث لا يَلزم من فرض وقوعه محال، ينظر: نهاية الحكمة، السيّد محمد حسين الطباطبائي: ص63، ط14، نشر مؤسسة النشر الإسلامي.
(2) الاقتصاد، الطوسي: ص62، ط قم 1400هـ.
(3) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحلّي: ص437-438، ط مؤسسة النشر الإسلامي.
(4) الاقتصاد، الطوسي: ص192-193، ط قم 1400هـ.
(5) ينظر - الغَيبَة، الطوسي: ص331، ط، مؤسسة المعارف الاسلامية، قم المقدّسة، 1411هـ.
(6) الاقتصاد، الطوسي: ص234، ط قم 1400هـ.
(7) الكافي، الكليني: ج1، ص256، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(8) الكافي، الكليني: ج1، ص 202 -202، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(9) الإلهام: هو تنبيه الله سبحانه للإمام المعصوم (عليه السلام) على حقيقة غيبية وتمكنيه إيّاه من معرفتها وتلقيّها وترتيب الآثار عليها، هل الإلهام مجرد التنبيه؟
(10) بصائر الدرجات، محمّد بن الحسن الصفّار: ص337، الناشر: مؤسسة الأعلمي - طهران.
(11) الكافي، الكليني: ج1، ص257، ط 3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(12) العلم المبذول: هو العلم بالشيء الذي قضاه الله سبحانه وأمضاه وأظهره لخواص خلقه، كما ورد في الرواية المأثورة عن ضريس، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إنّ لله (عزَّ وجلَّ) علمين: علمٌ مبذول وعلمٌ مكفوف، فأمّا المبذول فإنّه ليس من شيء تعلمه الملائكة والرسل إلّا نحن نعلمه، وأمّا المكفوف فهو الذي عند الله (عزَّ وجلَّ) في أُمّ الكتاب إذا خرج نفذ» [ينظر: شرح أصول الكافي - المازندراني: ج6، ص29، ط1، بيروت 1421هـ].
(13) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق: ص378، ط، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران.
(14) شرح أصول الكافي - المازندراني: ج6، ص333، ط1، بيروت 1421هـ.
(15) الكافي، الكليني: ج1، ص371، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(16) إن المراد بالإمام هاهنا: (هو الحجّة على العباد ومن وجبت معرفته وطاعته وحرم جهله وعصيانه وكانت ميتة الجاهل به ميتة جاهلية، وهم: علي وأولاده الأحد عشر من الحسن إلى ابن الحسن الغائب المنتظر عليهم من الله تعالى أزكى التحية وأفضل السلام).
(17) العلم الحصولي الكسبي: (وهو حضور المعلوم عند العالم به من خلال صورته، فهو لا يدركه من خلال ذاته؛ بل عبر صورته الحاكية والكاشفة عنه، وهذا يعني وجود وسيط بين العالم والمعلوم الخارجي، فهو لا يحضر بنفسه لدى العالم ولا يشهده، بل يشاهد صورته الحاكية عنه)، ويتأتى تحصيل هذا العلم من خلال الحواس الظاهرية الخمس والأمارات.
(18) العلم الحضوري: وهو كعلم النفس بذاتها وبصفاتها القائمة بذاتها وبأفعالها وأحكامها وأحاديثها النفسية، وكعلم الله تعالى بنفسه وبمخلوقاته. ينظر منطق المظفر: ج1، ص10، الهامش، مؤسسة النشر الإسلامي.
(19) علم الإمام، الشيخ محمد حسين المظفّر: ص11، ط 2، بيروت 1402هـ.
(20) ينظر التفصيل في كتاب علم الإمام، الشيخ محمد حسين المظفّر: ص23-33، ط 2، بيروت 1402هـ.
(21) الكافي، الكليني: ج1، ص264، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(22) البداء: وهو أنَّ الله تبارك وتعالى عليمٌ بكلِّ شيءٍ مطلقاً، ما كان وما هو كائن وما سيكون، وأنَّ علمه قديم، ولكنه (عزَّ وجلَّ) يعلّق أموراً بعضها على بعض فتتغيّر وفق مقتضيات عالم المحو والإثبات بما يرتبط بعالم الأسباب والمُسبّبات في الحياة الدنيا (والالتزام بجواز البداء في عالم المحو والإثبات لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله سبحانه، وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله)، بل هو إظهارٌ بعد إخفاءٍ.
(23) الكافي، الكليني: ج1، ص368، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية؛ الخرائج والجرائح، قطب الدين الراوندي: ج1، ص178، طبعة وتحقيق ونشر مؤسسة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) قم المقدسة.
(24) شرح أصول الكافي - المازندراني: ج6، ص332، ط1، بيروت 1421هـ.
(25) الغيبة، الطوسي: ص429، ط1، 1411هـ، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدّسة.
(26) مكيال المكارم، الميرزا محمّد تقي الأصفهاني: ج2، ص312، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.
(27) الكافي، الكليني: ج1، ص368، ط 3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(28) شرح أصول الكافي - المازندراني: ج6، ص332، ط1، بيروت 1421هـ.
(29) الغيبة، ابن أبي زينب النعماني: ص299، ط1، 1422هـ، منشورات أنوار الهدى، قم، إيران.
(30) الغيبة، الطوسي: ص431، ط1، 1411هـ، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدّسة.
(31) وهنا يقصد الشيخ الطوسي: أنَّه ينفي القول بالبداء على الله سبحانه والذي يكون بمعنى الظهور بعد الخفاء وما يَلزم منه الجهل على الله (عزَّ وجلَّ)، بل هو يقول بالبداء الذي يعني الإظهار بعد الإخفاء أو التغيير والتبديل للأمور في عالم المحو والإثبات وفق المصالح والمقتضيات، ولا يلزم من ذلك نسبة الجهل إلى الله سبحانه.
(32) الغيبة، الطوسي: ص432، ط1، 1411هـ، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدّسة.
(33) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق: ص373، ح6، نشر مؤسسة النشر الإسلامي (التابعة) لجماعة المدرّسين بقم المشرفة - إيران.
(34) مختصر بصائر الدرجات، الشيخ حسن بن سليمان الحلّي: ص179، الطبعة الأولى - منشورات المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف 1370ه‍ - 1950م.
(35) بحار الأنوار، المجلسي: ج24، ص164، ط3، بيروت، لبنان، 1403هـ.
(36) الكافي، الكليني: ج1، ص368، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(37) شرح أصول الكافي - المازندراني: ج6، ص332-335، ط1، بيروت 1421هـ.
(38) الغيبة، الطوسي: ص331، ط1، 1411هـ، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم المقدّسة.
(39) الكافي، الكليني: ج1، ص271، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(40) الكافي، الكليني: ج1، ص271، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(41) مكيال المكارم، الميرزا محمّد تقي الأصفهاني: ج2، ص324، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.
(42) الكافي، الكليني: ج1، ص371، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(43) الكافي، الكليني: ج1، ص370، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(44) شرح أصول الكافي - المازندراني: ج6، ص343، ط1، بيروت 1421هـ.
(45) مكيال المكارم، الميرزا محمّد تقي الأصفهاني: ج2، ص325، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.
(46) الكافي، الكليني: ج8، ص310، ط3، طهران، دار الكتب الإسلامية.
(47) الغيبة، ابن أبي زينب النعماني: ص315، ط1، 1422هـ، منشورات أنوار الهدى، قم، إيران.
(48) بحار الأنوار، المجلسي: ج52، ص251، ط3، بيروت، لبنان، 1403هـ.
(49) مكيال المكارم، الميرزا محمّد تقي الأصفهاني: ج1، ص361، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.
(50) توضيح الواضحات من أشكال المشكلات، السيّد جعفر مرتضى العاملي: ص38، ط1، المركز الإسلامي للدراسات، بيروت، لبنان.
(51) الغيبة، ابن أبي زينب النعماني: ص264، ط1، 1422هـ، منشورات أنوار الهدى، قم، إيران.
(52) دراسة في علامات الظهور، السيد جعفر مرتضى العاملي: ص40، ط4، 1424هـ، المركز الإسلامي للدراسات، بيروت، لبنان.

العدد ١١ / جمادى الآخرة / ١٤٤٢ هـ : ٢٠٢١/٠١/١٧ : ٥.٧ K : ٠
: مرتضى علي الحلي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

محتويات العدد: