إحياء الهوية المهدوية بين الطموح والواقع
إحياء الهوية المهدوية بين الطموح والواقع
الشيخ حميد وناس عجمي
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، اللهم عجل لوليك الفرج والعافية والنصر.
مقدمة منهجية:
باتت مسألة تحديد هويّة الفرد والمجتمع مسألة في غاية الأهمية في واقعنا المعاصر، هذا الواقع الذي صار يقوم في أكثر جوانبه السياسية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية، على أسس الهوية والانتماء الذي يحمله الفرد والمجتمع؛ فالهويّة لم تعد اليوم مجرد عنصر تعريفي بتاريخ وخصوصيات تراثية لحاملها، بل أضحت عنصراً أساسيّاً في بناء الحضارات المعاصرة ودوام بقائها وحفظها من الانصهار في الأمم والحضارات الأخرى والخضوع والاستسلام لها، إذ تشكّل الهوية اليوم المنطلق الأبرز لفهم موقع الفرد والمجتمع والدور الذي يتحمل مسؤولية النهوض به ورفض التبعية للغير.
وكم من ثورة شعبية أو حركة إصلاحية انطلقت من مبدأ: (تحديد الهوية) والتي تعني في عرف هذه الثورات: تحديد الغاية والهدف من الثورة والحركة، فراحت تلك الثورات تعلن هويتها وتعرّف نفسها بما ينسجم مع الأهداف التي تسعى لتحقيقها، وصارت تلك الهوية بمثابة خارطة عمل ومنهج سلوك الأفراد المنتمين لتلك الحركة والملتحقين بركب الثورة.
ونحن كأُمة مسلمة موالية لآل محمد الأطهار (عليهم السلام) لنا هويتنا الخاصة، التي منها وبها نحدّد أهدافنا وغايات ما نقدمه من مشاريع فكرية وعملية في الميدان الفردي والمجتمعي، ولنا خصوصية نمتاز بها عن غيرنا من طوائف المجتمع المسلم، بأن لنا هوية تتَّسم بالحيوية والنشاط، هوية عصرية في كل زمان لا تتشبث بالماضي وتخط لنا مسار المستقبل بكل ثقة وثبات، أعني بذلك هوية الانتماء لإمام العصر (عجّل الله فرجه)، فلنا اثنا عشر إماماً، أنتج كل واحد منهم منهج عمل خاص بأتباعه في عصره، وحدَّد لهم الغايات والأهداف التي ينبغي أن يسعوا نحو تحقيقها، فكانت اثنا عشرية هوية عملية تسري فيها روح واحدة.
ولا أقصد من هذا الكلام إثبات المغايرة والاختلاف في الغايات والأهداف والمشاريع، بين إمام وإمام آخر، لأن جوهر الهوية في الجميع واحد، والمغايرة إن لوحظت في ميادين التطبيق العملي ومواجهة الظروف المعاصرة لكل إمام من الأئمة (عليهم السلام)، أمّا خصوصيتنا نحن في عصر مولانا الإمام الثاني عشر، فهي خصوصية نابعة من ظروف الغيبة وحيثيات الانقطاع عنه (عجّل الله فرجه)، فكان المطلوب منا تلمس الملامح الرئيسية لهويتنا المرتبطة بمشروع إمام زماننا الهادف لبسط القسط والعدل ومكافحة كل صور الظلم والجور، تلمسها بالرجوع للروايات الشريفة وإجراء التفكير الاجتهادي بعيداً عن التوجيه المباشر من إمام العصر (عجّل الله فرجه).
وحين نقول: إن انتسابنا لمولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) هو هويتنا اليوم، قد يُرى هذا الكلام غريباً للوهلة الأولى، لأننا من حيث الانتماء العقائدي نؤمن بالانتساب لهؤلاء الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) بنفس الدرجة، فكلهم عندنا إمام معصوم واجب الاتباع.
نقول: الأمر كذلك ولا اختلاف في البين، لكننا إنما نتكلم عن الهوية هنا بمعناها - الذي سبق ذكره - الشامل للجوانب العملية، وبمدياتها التي تتعدى الجوانب الانتمائية النظرية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، إلى الجوانب التفاعلية مع مشروع وهدف إمام عصرنا (عجّل الله فرجه) في غيبته، يشير لهذا المعنى ما ورد في الكافي الشريف عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن القائم فقال: كلنا قائم بأمر الله، واحد بعد واحد حتى يجيء صاحب السيف، فإذا جاء صاحب السيف جاء بأمر غير الذي كان(1).
فهذا الأمر المغاير لما كان قبله هو تلك الهوية التي تشير للانتساب للمشروع المهدوي المتميز عن الأدوار التي نهض بها جميع أئمة الحق (عليهم السلام) قبله، فهي الهوية التي تحدّد للأمة سلوكها المطلوب تجاه إمامها وقائدها الفعلي الموجود بينها ويتحرك بمشروعه الخاص فيها وبها، فتكون هذه المعاصرة لمولانا إمام الزمان (عجّل الله فرجه) واقعية بواقعية وجود الفرد والمجتمع وما يعاصره من تحديات، وما يقدمه المشروع المهدوي في زمن الغيبة من حلول لمواجهة تلك التحديات، وما يحتاج إليه الفرد والمجتمع من مؤونة لحماية نفسه من الغزو الثقافي وتسلط هويات أخرى منافية للهوية المهدوية التي يحملها ويؤمن بها.
إذن وتبعاً لما ذُكر، فالبحث في هوية الفرد والمجتمع اليوم لم يعد مجرّد بحث نظري تنظيري منقطع عن الواقع المعاش، بل مما يعظّم المسؤولية علينا تجاه هذا البحث وما يقرّب منه: ما نعتقد به من حتمية غلبة هويتنا في يوم من الأيام على جميع الهويات الأخرى، واصطباغ المجتمعات البشرية كلها بلون هذه الهوية المباركة، وذلك حين يظهر مولانا الإمام (عجّل الله فرجه) ويعلن البدء بتنفيذ المشروع العالمي، وتوحيد البشرية تحت إطار واحد هو الانتماء لله تعالى وآل محمد الأطهار (عليهم السلام) تحت القيادة المهدوية.
بل المسؤولية تعظم أكثر وأكثر حين نشاهد موجات التحريف والتشويه والإنكار لهذه الهوية وهذا الانتماء وهذا المنهج، التي تعصف بمجتمعنا المعاصر، فتزلزلت ثقة شرائح واسعة من مجتمعنا بها، فصارت تتبنى مناهج سلوكية منافية كل المنافاة للهوية المهدوية التي نؤمن بها، فكانت المسؤولية علينا مضاعفة بضرورة تكرار الحديث وزيادة التوضيح عن هذه الهوية، لتطمئن القلوب ويبقى أصحابها على الطريق الصحيح.
وفي خضمّ صراع الهويات الذي عمّ المجتمعات البشرية المعاصرة، وارتباط هذا الصراع بالجوانب الاقتصادية والثقافية والسياسية والإعلامية والاجتماعية، نال مجتمعنا من هذا الصراع جزءاً كبيراً، وطرح التساؤل التالي نفسه بشكل غير مسبوق:
- هل هناك فعلاً نجاح في إدارة المجتمع البشري، وتحضر مادي ومعنوي، واستقرار أمني واجتماعي واقتصادي في إطار الهوية المهدوية التي نؤمن بها؟
- هل ثمة مشروع واضح المعالم للهوية المهدوية في زمن الغيبة يتكفل بتوفير حياة فردية ومجتمعية مستقرة ومتحضرة؟
- أم أن خصوصية غيبة قائد هذه الهوية يفرض واقع التيه والمعاناة وتوالي الآلام حتى يظهر القائد ويغير الواقع؟
- وهل للمؤسسة الدينية والمراكز البحثية والفكرية القدرة لرسم منهاج عمل منبثق من الهوية المهدوية، ينطلق منها وينتهي إليها ويدور في فلكها ولا يتعداها، فيجعلها الوسيلة والغاية، قبل ظهور مولانا الإمام (عجّل الله فرجه)؟
وإذا كانت تلك المؤسسة والمراكز تكرر التأكيد على: الانتظار الإيجابي المتمثل بانتظار الفرج بالمقياس الصحيح للانتظار، بعيداً عن التخدير والتدجين وترويج فكرة التعايش مع الظلم والانحراف، والرضا لنا بالقيام بدور المظلوم جيلاً بعد جيل، فهلا بينت لنا حقيقة الانتظار الإيجابي ما هو؟ والدور الواجب علينا القيام به؟
وبعد هذا، فمن الطبيعي جداً التصريح بأن الجواب عن هذه التساؤلات وأمثالها - التي غزت فكر أفراد مجتمعنا لأسباب كثيرة - أن الجواب يتطلّب من أصحاب الفكر وأرباب الأقلام والمنابر، وكل بحسب دوره وحدود وظيفته:
تقديم صياغات جوابية واقعية ومتكاملة وقابلة للتطبيق لهذه التساؤلات، صياغات واعية لها عمق الإيمان الراسخ بأهمية تبنّي مشروع رفع الهوية المهدوية في كل ميادين حياتنا اليومية، تلك الصياغات القائمة على أساس تحديد المسافة الصحيحة بين الهوية المهدوية ومجتمعنا الذي نعيش فيه اليوم بسلوكياته وممارساته الموجودة، بعيداً عن التنظير والحديث في الخطوط والقواعد الإسلامية الاجتماعية العامة التي تقوم بتحديد الهوية المهدوية واقعاً ومفهوماً.
في الحقيقة أن تقديم مفهوم واضح للهوية المهدوية التي يراد لها أن تُقدَّم كهوية انتمائية للفرد والمجتمع ليس بالأمر السهل نهائياً، لأننا نطلب هنا ونبحث عن هوية تستتبع تحديد منهاج عمل وسلوك فردي ومجتمعي ينسجم مع هذه الهوية، يضاف لذلك ما يكتنف حقيقة هذه الهوية خاصة من غموض ناجم عن النظر إليها بما تمثله من مشروع حضاري كبير، مرتبط بإمام غائب لا يمكن التواصل معه اليوم، وهو وحده من يملك الأجوبة القطعية عن الاستفهامات الموجهة للجوانب المختلفة لهذه الهوية نظرياً وعملياً، وفي الحقيقة أن ما هو متوفر عندنا اليوم من تفسيرات وأطروحات تنسب لنصوص شرعية قرآنية وروائية، وبمعزل عن التلقي المباشر من إمام الزمان (عجّل الله فرجه)، لا يعدو كونه فهماً خاصاً واجتهاداً في الحدود الشرعية للاجتهاد لأصحاب تلك التفسيرات والأطروحات، وهذه الحقيقة لا ينبغي الخجل أو الخوف من التصريح بها لسببين:
الأول: لأننا اليوم نعيش زمان الانقطاع عن إمام الزمان (عجّل الله فرجه) القائد الفعلي والموكل إليه وحده المباشرة بإقامة المشروع الحضاري المهدوي، والذي تمثل الهوية المهدوية بمدياتها الواسعة، حجر الأساس فيه، وليس لأي أحد غيره من المفكرين أن يحل محله، ويستعجل البدء بوضع حجر الأساس قبل الظهور الفعلي له (عجّل الله فرجه)، ووصف الهوية المهدوية بحجر الأساس هنا المقصود به التوظيف العملي والتطبيقي المباشر للمعالم الرئيسية للهوية التي ورد ذكرها مسبقاً على لسان النبي الأكرم وآله الطاهرين (عليهم السلام)، فأي تحرك في هذا الميدان في زمن الغيبة لابد أن يكون حذراً ومحسوب العواقب جداً، لئلا يصير هذا المشروع وصاحبه مصداقاً لما ورد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «كل راية ترفع قبل راية القائم (عليه السلام) صاحبها طاغوت»(2)، وفي الكافي الشريف بحديث صحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «كل راية ترفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله (عزَّ وجلَّ)»(3).
لأن صاحب المشروع المهدوي في زمن الغيبة قد ينطلق من نوايا سليمة ومقاصد شرعية، لكنه من حيث قصوره الذاتي عن فهم المراد الدقيق للنصوص الشرعية ووسائل تطبيقها وإنجاحها في المجتمع: قد يصير مشروع الهوية المهدوية المنادى به من مشاريع الضلال ووسيلة من وسائل تسلط الطواغيت، ولا نقاش عندنا بأن المفكر الإسلامي مهما وصل لحد من العبقرية والفهم العميق للمشروع المهدوي العادل، فإن هذا الفهم لا يمثل الواقع الحقيقي لذلك المشروع، لأن هذا المفكر وكما يقال ابن مجتمعه ويحمل ولو من جانب خفي غير ظاهر آلام مجتمعه ومصاعبه ويميل لتحقق رغباته ومصالحه لحد ما، وحالة التجرد التام عن طلب المصلحة والتأثر بالظروف المحيطة لا تتحقق إلّا للإمام المعصوم (عليه السلام)، لكن مما يخفّف من حدية هذه الرواية الشريفة - التي قد توصف بأنها طلقة الرحمة المسددة على أي مشروع إسلامي مهدوي في زمن غيبة مولانا الإمام (عجّل الله فرجه) - بعض الروايات الأخرى، مثل ما ورد عن الفضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) يقول: «من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أفضل منه فهو ضال مبتدع، ومن ادعى الإمامة من الله وليس بإمام فهو كافر»(4).
وبتقريب: أن الممنوع هو الخروج لدعوة الناس بدعوة لا يرتضيها من هو الأفضل من المعاصرين لتلك الدعوة، والذين هم من نصّبهم مولانا الإمام (عجّل الله فرجه) لتنظيم شؤون المجتمع في غيبته، أعني الفقهاء العدول الذين نظروا في حلال آل محمد وحرامهم، أو الدعوة لقيم ومبادئ ليست هي الأفضل في واقعها الذاتي، فالرواية الشريفة حين حذرت من خروج المفضول بوجود الفاضل والأفضل، إنما كانت ناظرة للمبادئ والقيم والأهداف التي يسعى لتحقيقها كل منهما، فصاحب الأهداف والغايات الفضلى هو الأفضل الذي لا ينبغي مزاحمته والتضييق عليه قبل خروج مولانا الإمام (عجّل الله فرجه)، وتحديد طبيعة الأهداف والغايات الأفضل راجع للنصوص الشرعية الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، بفهم يقدمه من له الأهلية بنقل كلامهم وتطبيقه عملياً، وليس ميدان المفاضلة هو الأهواء والأذواق والتقنينات البعيدة عن النصوص الشرعية.
السبب الثاني: أنه من الصعب أن نتصور أو أن نجد فعلاً من أفراد العلماء والمفكرين من يستطيع أن يقدم تفسيراً وتصويراً للهوية المهدوية، ذلك التصور والتفسير الذي له القابلية ليطبق عملياً وينجح في تحقيق مستويات عالية وغير مسبوقة من العدل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وغيرها، وذلك لأن أي مفكر وفي أي عصر ومكان في حد ذاته من حيث طبيعته البشرية، هو فرد طبيعي مفطور على مراعاة مصالحه وارتباطاته النظرية والعملية، فيحذر أشد الحذر من إظهار التمرد والشذوذ عن المدرسة الفكرية الاجتهادية التي ينتمي إليها ويؤمن بصلاحها، هذا من حيث التنظير والطرح الفكري، وأيضاً هو يتجنب الخروج العملي عن جملة قيود اجتماعية وعرفية محيطة به، إمّا إيماناً منه بهذه القيود، أو خضوعاً وفراراً من الضغوط الاجتماعية التي لا يرى مبرراً لتحملها، وغير ذلك من الموانع.
فالمفكر بعد هذا إنْ حاول أن يقدم تفسيره الخاص عن الهوية المهدوية كمشروع نهضوي إصلاحي، فهو سيقوم بهذه المهمة طبقاً للحدود التي توفرها الطبيعة البشرية الخاصة به والمساحة التي يوفرها الجو الثقافي الاجتماعي والديني له، بل إننا لو افترضنا وجود فرد مفكر متصف بأعلى درجات الحياد والموضوعية الفكرية، والتحرر من كل تلك القيود، فإن ذهنه المفكر لن يخلو بأي حال من الأحوال من فكرة تحقيق النجاح في كل ميادين تواجد الهوية المهدوية، بحيث يصير همه الأوحد هو أن لا يفشل مشروعه المهدوي الإصلاحي كما فشل من جاء قبله ممن رفع شعارات مبدئية عادلة وصالحة، وحيث إن مقياس النجاح والفشل لا يتعلق بالجانب النظري فقط من هذا المشروع ومبادئه المسطورة على الورق، بل هو خاضع لذوق واستحسان وقبول المجتمع الذي يراد إقامة هذا المشروع فيه، بعيداً عن لغة التهديد والإرغام والترهيب، نجد ذلك المفكر الحيادي الموضوعي يرجع لتصحيح أفكاره وتصوراته عن مشروع الهوية المهدوية تحت ضغط الواقع ومتطلبات النجاح العملي، تلك المتطلبات التي قد تنتج تصورات بعيدة لحد كبير عن روح المشروع الذي كان يؤمن به ويعتقده.
وفي أحسن الأحوال سيلجأ إلى مشروع مصغر ضيق بأبعاده التطبيقية وغاياته التي يسعى لتحقيقها، وليس في ذلك أي ذم أو انتقاص من أمثال هؤلاء، فحالهم هذا كان هو الحال السائد لسنوات طويلة من حياة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، بل هو حال صاحب المشروع المهدوي وقائده الفعلي مولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في غيبته وقبل ظهوره.
إذن، فأي صياغة مقدَّمة للتعريف بمفهوم الهوية المهدوية تحت هذه الظروف بالغة التعقيد، ستنطلق من زوايا اجتهادية تبريرية وتوافقات فرضها الواقع المعاصر، وهي بذلك نابعة من مواقف ورؤى تحليلية لا يمكن نسبتها لمولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بصورة قطعية، وتقديمها على أنها الهوية المهدوية التامة على نحو الجزم والقطع.
ثم إن عدم الاتفاق هذا على مفهوم محدد المعالم للهوية المهدوية، يمثل اليوم نتيجة مسلَّماً بها في أوساط الباحثين في الميادين المهدوية، والذي يزيد المشكلة تعقيداً ما وصل له باحثو مجتمعنا اليوم من مستوى علمي بحثي أكاديمي، يرفض المجاملات العلمية ولا يقبل المسلَّمات غير معروفة الجذور والأسس، وهو مستوى فكري وأسلوب بحثي تسرب مؤخراً للبحوث الدينية عامة والمهدوية خاصة بشكل غير مسبوق، فصار الباحث المهتم بالبحث عن الهوية المهدوية بين سندان الاستسلام وإعلان الفشل، وبالتالي ترك الترويج للهوية المهدوية والمطالبة بتبنّيها، وبين مطرقة المطالبة المجتمعية الملحّة بإبراز وتقديم هذه الهوية كحلٍّ مقترح لكثير من مشاكلنا المعاصرة.
وهنا لابد من التصريح بحقيقة ما أعتقده من موقف تجاه ما يُصطلح على تسمية بالأسلوب العملي في كتابة وطرح البحوث الدينية عامة والمهدوية خاصة، فإن مجرد تسمية هذا التنظيم الشكلي للأبحاث والأسلوب الهيكلي لتقديم الأفكار، تسميته بالأسلوب أو الطريقة العلمية، فيه إجحاف كبير، ودرجة من تقييد الحرية الفكرية للباحث، فهذا الأسلوب ليس إلّا أسلوباً أكاديمياً تسرب للكتابات الدينية من أقلام من تلقى دروسه في الجامعات الحديثة، تلك الجامعات التي تؤمن لدرجة كبيرة بأنها الراعي الأول والأهم للبحث العلمي، فصارت تطلق على أسلوبها الأكاديمي بالكتابة والبحث: الأسلوب والطريقة العلمية، وكأن من لا يلتزم بهذا الأسلوب يكون نتاجه الفكري غير علمي من حيث الترتيب والطرح، وهو ادّعاء لا مبرر له، فالعلمية وأسلوبها سابقة لتأسيس هذه الأكاديميات بمئات السنين، واليوم يوجد من المفكرين والكتاب من يميل لتقديم أفكاره على طبق الأسلوب المتوارث في كتابات العلماء الدينيين وبعيداً عن قيود الشكل والترتيب الذي تطرحه الأكاديميات الحديثة، وليس من الإنصاف إجباره على الكتابة والبحث بطريقة لا يتذوقها ولا يميل إليها نفسياً.
وعوداً على بحثنا في الهوية المهدوية، أقول: لعل معضلة تقديم فهم متكامل للهوية المهدوية يوافق بين الدقة النظرية وإمكانية النجاح العملي التطبيقي، تكون أقل تعقيداً عند رفع الهوية الإسلامية بإطارها العام أو المذهبي الإمامي كعنوان للهوية المعاصرة بدلاً عن تخصيص الهوية بالجانب المهدوي، لأن الهوية الإسلامية العامة تنطلق من مبررات تتسم بالعموم لشمولها أزمنة الغيبة والظهور، بل ما قبل الغيبة والظهور من العصور الإسلامية الأولى، وهذه المبررات كثيراً ما لا تلاحظ هدفية إقامة المشروع الإلهي العادل وبسطه على وجه المعمورة، إلّا أنه مع ذلك فإن تقديم الهوية المهدوية في قالب الهوية الإسلامية العامة له ما يبرره، من حيث وجود ما يكفي من القواعد القانونية العامة والتشريعات الإسلامية التي تعالج مختلف الجوانب والإشكالات الفردية والمجتمعية، وإنما يبرز الإشكال واضحاً عند الأخذ بخصوصية الانتماء للإمام الثاني عشر الغائب (عجّل الله فرجه)، ومحاولة ترجمة هذا الانتماء بصورة عملية تناسب الواقع المعاش اليوم في زمن الغيبة.
موضوعات مهدوية تطبيقية معاصرة:
ومن أهم الموضوعات الجوهرية المعاصرة المرتبطة بالهوية المهدوية، والتي كثر الكلام والنقاش فيها، حتى وصل لحد التشكيك والرفض:
هو موضوع قيادة المرجعية الدينية النائبة عن المعصوم الغائب والأسس الشرعية لمنظومة الاجتهاد والتقليد وارتباط هذه الأسس بالهوية المهدوية.
* ففكرة المرجعية الدينية النائبة - والتي يؤمن بها اليوم الأعم الأغلب من أتباع مولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وتعتبر عندهم الصيغة العملية الكاملة والوحيدة في زمن الغيبة، وأنه ليس ثمة أية صيغة أخرى يمكن الرجوع إليها والأخذ بها - تأخذ مشروعيتها بكل صراحة من الانتساب للهوية المهدوية وبصورة مباشرة، وذلك بما تمثله تلك المرجعية من قيادة نائبة اضطرارية عن القيادة الحقيقية الغائبة.
* وهناك أيضاً فكرة الاجتهاد والتقليد التي ترى أن النتائج الاجتهادية الناتجة من الاستنباط الفقهي الناظر إلى ظواهر الأدلة الشرعية، مكتملة من حيث تركيبتها الدينية المبرئة لذمة المكلف.
ولا يهمني توسعة الكلام في نقاش هذين الموضوعين وذكر الإشكالات المطروحة، والأجوبة والردود المقابلة، بقدر التنويه فقط على حيوية موضوع الهوية المهدوية في واقعنا المعاصر، ووجود تطبيقات عملية لها كبيرة جداً بحجم القيادة المرجعية الدينية الإمامية في زمن الغيبة، والتي توجه مئات الملايين من الناس، وتحركهم بالاتجاه الذي تراه مناسباً ومتوافقاً مع روح الشريعة الإسلامية.
وهذه القيادة الدينية الكبيرة جداً إنما نالت ما نالته من درجات القبول والطاعة بفعل ما هو مطروح من ارتباطها بالإمام الغائب (عجّل الله فرجه)، وما تمثله من تطبيق عملي شرعي لمشروع الهوية المهدوية الفعالة، ولو بصورة مجملة خالية من ذكر كثير من التفاصيل.
الظروف المعاصرة المستوجبة للتعريف بالهوية المهدوية:
يمكن القول: إن طبيعة الهوية المجتمعية المعاصرة تبلورت بصورتها المعروفة اليوم على أسس عقائدية دفاعية محضة، ونقصد بهذه الأسس: محاولة إبراز الخصوصية العقائدية الإسلامية الإمامية المهدوية لمجتمعنا المعاصر، ومنع اندراس وضياع تلك الخصوصية فيما يقابلها من خصوصيات الهويات الأخرى، بما يمثله ذلك الاندراس المتوقع من خطر يهدد أساس الانتماء للهوية الإسلامية العامة والمذهبية لأهل البيت (عليهم السلام)، فإن اندراس الخصوصية العقائدية لمجتمعنا المعاصر، ونعني بهذه الخصوصية الانتماء للإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، يعني انصهارنا في هويات أخرى تنسب نفسها للإسلام وللمذهب وتحمل جانباً كبيراً من الانحراف، ذلك الجانب القائم على إنكار وجود الإمام الثاني عشر بشخصية الحجة بن الحسن العسكري (عليهما السلام) تحديداً، خاصة مع ما نجده من تحذير شديد اللهجة في كثير من روايات آل محمد الأطهار (عليهم السلام)، من أن مآل هذا الإنكار إلى إنكار عموم الأئمة (عليهم السلام)، بل وإنكار نبوة النبي المصطفى (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهو الضياع والتيه بأشد صوره.
كما ورد عن غياث بن إبراهيم، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «من أنكر القائم من ولدي فقد أنكرني»(5).
وأيضاً ما ورد عن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: «من أقر بجميع الأئمة، وجحد المهدي كان كمن أقر بجميع الأنبياء وجحد محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبوته»، فقيل له: يا بن رسول الله، فمن المهدي من ولدك؟ قال: «الخامس من ولد السابع، يغيب عنكم شخصه ولا يحل لكم تسميته»(6).
أسباب الإنكار والانحراف عن الهوية المهدوية:
1 - وهذه الظروف شديدة الحساسية هي التي أوصلت بعض أفراد مجتمعنا اليوم إلى درجات عالية من الانحراف والتيه العملي والنظري، فحين خفيت الهوية المهدوية ذات المعالم الواضحة عن أبجديات سلوكيات مجتمعنا، صار بعض أفراد المجتمع بين إنكار هذه الهوية من الأساس، والطعن بفكرة وجود إمام حي غائب، وبين تبنّي هوية منحرفة تقدم نفسها كهوية مهدوية، متمثلة بالتنظيمات والجماعات المهدوية المنحرفة.
2 - فيما تمثل السبب الآخر بالظروف السياسية وإخفاق كيانات وشخصيات كانت تتبنى الهوية والمشروع المهدوي فيما سبق، وتروج لنفسها في إطار تلك الهوية، فجاء إخفاقها بعد وصولها لسدة الحكم في عدم الثبات على الحد الأقل من السلوك الإسلامي العادل المنسجم مع الهوية المهدوية، ليشكل بالإضافة للتطور التكنولوجي والمعلوماتي سبباً ثالثاً، فإن هذا التطور المعلوماتي الذي وفر أُطراً وسبلاً كبيرة جداً للتسابق نحو ساحة التيه والانحراف التي سبق ذكرها من أفراد مجتمعنا، ففي هذه الوسائل المعلوماتية تذوب كثير من الحواجز والموانع التي كانت تمنع فيما سبق من انتشار الانحراف والضلال، حين صار للجميع الحق في أن يفكر بصوت عالٍ ويقدم نتاجاته الفكرية على أنها أطروحات محتملة وتفسيرات عصرية للمفاهيم الإسلامية المهدوية.
وبعبارةٍ أخرى أوضح: أن الجذور والمبرّرات الأوّلية لتولّد الواقع الفردي والمجتمعي المعاصر الداخل في ساحة الانحراف، تتمثل في النزعة الوجدانية نحو الانتماء لهويات وعناوين فعالة ومؤثرة في الحياة العامة، والتخلي التام عن أي عنوان أو انتماء ليس له القابلية لمسايرة متطلبات العصر المختلفة ويكتفي بالوعود المستقبلية، حتى صرنا نسمع صيحات بتأويل الشخصية المهدوية والهوية المهدوية، بما ينسجم مع الواقع الذي يوصف بالنجاح والفعالية من أتباعه، ومن تلك الصيحات التي تعوّم الهوية المهدوية، لتكون متلائمة مع متطلبات كل عصر، ولو كان الثمن بتبني مفاهيم العلمانية والديمقراطية والتفسيرات العلمية المادية والقانونية لكل ظاهرة معاصرة، مع الاعتقاد أن هذه المتبنيات تنسجم مع الهوية المهدوية ولا تنافيها، بل ينبغي للهوية المهدوية هي أن تنسجم معها ولا تنفيها بعد ثبوت نجاح جزئي لهذه المتبنيات هنا أو هناك.
موقع العادات والتقاليد الاجتماعية في مشروع الهوية المهدوية:
وننطلق في بيان موقع العادات والتقاليد الاجتماعية في مشروع الهوية المهدوية، من بيان تصور المضمون النظري والعملي المشترك بين هذه العادات والتقاليد الاجتماعية من جهة، وباعتبارها جوانب قانونية تحكم المجتمع في أكثر من مجال، وما يمكن أن يقدمه مشروع الهوية المهدوية من تطبيقات ونظريات تقترب من نمطية هذه العادات والتقاليد من جهة أخرى.
فمن الملاحظ بجلاء أن المنظومة القانونية للعادات والتقاليد الشعبية في مجتمعنا، بل في أي مجتمع، ومشروع الهوية المهدوية، ومن حيث إنهما معاً يبشران بالعدالة المجتمعية وتحقيق السلم المجتمعي المنشود، من الملاحظ أنهما وبالرغم مما يظهر بينهما من تنافر واختلاف بدواً في الجوانب العملية والنظرية، إلّا أنهما بنظرتهما الشاملة للمجتمع ومحاولتهما تحقيق حالة من العدالة والسلم المجتمعي، يقتربان من بعضهما لحد مقبول، ويتحقق شيء من الالتقاء بينهما في أكثر من نقطة مشتركة، ووجهة نظر متفق عليها، وهذه الملاحظة من النقاط المهمة التي لا ينبغي إهمالها وغضّ الطرف عنها، لأنها تساعد أصحاب مشروع الهوية المهدوية في الدعوة لمشروعهم وهويتهم، انطلاقاً من نقاط لها قبول اجتماعي عرفي.
القوانين العامة للمجتمع: فمجتمعنا - بصفته جزءاً من المجتمع البشري العام - محكوم بقوانين تخصه وينفرد بها عن باقي أجزاء المجتمع البشري، وهذه القوانين تتصف بصفات مهمة، منها: أن واضعها والمؤسس لها هو العرف الاجتماعي العام، والظروف البيئية التي يعيش فيها أفراد المجتمع، وأنها نمت وتطورت على يد نفس أفراد المجتمع بأجيالهم المتعاقبة ولم تفرض عليهم من الخارج، وبهذه الاعتبارات تجد هذه القوانين طريقها للتطبيق بسهولة وانسيابية أكثر بكثير من القوانين خارج نطاق العادات والتقاليد، فمهما امتلكت هذه القوانين من سلطة وقوة تفرض تطبيقها على الأفراد، ستظل بنظر أفراد المجتمع قوانين خارجية لا يستشعر المسؤولية نحوها لو تركوا هم واختيارهم، ويفضلون التمرد عليها أو على الأقل عدم الخضوع لها بغير مبرر قوي يدفعهم قسراً لهذا الخضوع.
وحيث إن قانون العادات والتقاليد الاجتماعية مع ما يتمتع به من مثل هذه الإيجابيات وغيرها، هو قابل للتطوير والتكامل بسهولة أكثر من أي نوع آخر من القوانين، فمن هنا ينفتح لنا باب واسع لإنجاح مشروع الهوية المهدوية، وذلك بزج المفاهيم والغايات والمبادئ المهدوية في الذهنية العرفية المنقادة لقانون العادات، فيتحقق لدى الأفراد تجاه هذه المفاهيم والمبادئ شعور عاطفي ونفسي بالقبول والانسجام.
وبالتفاتة بسيطة يمكن ادّعاء أن هذا الأسلوب من الزج الإيجابي للمفاهيم والمبادئ المهدوية، هو غاية كبرى من غايات غيبة مولانا الإمام (عجّل الله فرجه)، يفهم هذا المعنى مما ورد في نص مكاتبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) للشيخ المفيد: «ولو أنّ أشياعنا ـ وفّقهم الله لطاعته ـ على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم؛ لما تأخّر عنهم اليُمن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلّا ما يتّصل بنا مما نكرهه ولا نؤثره منهم»(7).
بتقريب: أن اجتماع القلوب في الوفاء بالعهد بما يمثله من ظاهرة مجتمعية عامة من جهة، ومن جهة أخرى هي حالة إيمانية عميقة يحملها كل فرد من أفراد المجتمع: لا يمكن تحققها بعيدا عن تكرار التجارب البشرية المنعزلة عن القيادة المعصومة التي تمثل محور العهد المطلوب الالتزام به، فقد يتوهم بعض أفراد المجتمع: أن القيادة الناجحة للمجتمع غير منحصرة بشخص الإمام المعصوم (عليه السلام)، ويمكن لغيره أن ينجح في قيادة المجتمع، فكانت الغيبة ميدان التجربة والتمحيص والاختبار، حتى تنتهي الأمور بتوفر القناعة الراسخة بأن لا قيادة ناجحة إلّا القيادة المهدوية المعصومة.
وإيكال شؤون المجتمع لطبقة الفقهاء العدول الذين هم جزء من مجتمعهم ويفهمون لغته ويحملون نفس مشاعره، وبذلك سيتحملون مسؤولية زج المفاهيم المهدوية في أوساط مجتمعهم، كعادات وتقاليد تترسخ وتتجذر كلما زادت الفترة الزمنية للغيبة.
فقد وجد المجتمع في أول أمره ساذجاً وبسيطاً لحد الجاهلية والتخلف، والاعتقاد بالخرافات والأباطيل، وبقي كذلك ردحاً طويلاً من الزمن، إلى أن منَّ الله تعالى عليه ببعثة النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فأوجد تحولاً كبيراً في العادات والتقاليد الشائعة، وجعل المحور الذي يدور حوله كثير من أفراد المجتمع المسلم هو المبادئ الإسلامية العادلة القويمة، لكن إيجاد تحولٍ جذريٍ في المجتمع يكون كفيلاً باقتلاع كل صور الظلم والانحراف والتخلف، ما كان ليتم في عشرات أو مئات من السنين، بل هو يحتاج لفترات طويلة تستمر - ربما - لعدة آلاف من السنين، يتم فيها تربية المجتمع تدريجياً، وبسط المفاهيم العادلة في أوساطه على أنها عادات وتقاليد شعبية موروثة.
وقد مر مجتمعنا خلال هذه الحقبة الزمنية الطويلة بعدة مراحل تكاملية، اتَّسمت كل مرحلة منها بأنها أفضل من سابقتها من حيث ترسيخ مفاهيم عادلة أكثر وزوال مفاهيم الظلم والانحراف أكثر، وعلى امتداد ما يقارب من مئتي عام كان فيها الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) يعيشون في وسط مجتمعهم، تطور المجتمع كثيراً، لكنه بقي دون مستوى قبول المفاهيم المهدوية كهوية ومشروع اجتماعي، وقريب من هذا المعنى ما روي عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)، قال: «إذا فقد الخامس من ولد السابع فالله الله في أديانكم، لا يزيلكم أحد عنها، يا بني: إنه لابد لصاحب هذا الأمر، من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به، إنما هي محنة من الله (عزَّ وجلَّ) امتحن بها خلقه، ولو علم آباؤكم وأجدادكم ديناً أصح من هذا لاتبعوه»، فقلت: يا سيدي، من الخامس من ولد السابع؟ فقال: «يا أخي، عقولكم تصغر عن هذا، وأحلامكم تضيق عن ذلك، ولكن إن تعيشوا فسوف تدركونه»(8).
فالإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) يصرح وبكل وضوح لأخيه: أن عقول الناس في ذلك الزمان قاصرة وضيقة عن فهم غاية غيبة مولانا الإمام (عجّل الله فرجه)، والمجتمع الذي هذا حاله، هو قاصر أكيد عن تبنّي مشروع الهوية المهدوية.
فكان لابد من غيبة طويلة يتربى فيها المجتمع ذاتياً تحت وطأة التجارب القاسية من جهة وتوجيهات الفقهاء العدول من جهة أخرى، فيعتاد المجتمع على سماع المفاهيم العادلة ويؤمن بصلاحيتها، ونتيجة لهذه الظروف ينبثق المنطق العادل المشترك الذي تجتمع عليه العادات المجتمعية الموروثة والمفاهيم المهدوية، وتتشكل تلقائياً الهوية المهدوية المجتمعية.
المهدوية الهوية العالمية الموحدة:
ومن اللطيف ملاحظة القابلية الكبيرة للهوية المهدوية لأن تكون هوية عالمية موحدة، رغم الاختلافات الموجودة في فهم شخصية المهدي أو المصلح الموعود، فجميع التفسيرات المعروفة لشخص الموعود تنتظر المشروع الإصلاحي نفسه في الخطوط العامة لهذا المشروع، فهي متحدة لحد بعيد اتجاه الهوية المهدوية والدور العالمي لها، فإن التفسيرات لحقيقة شخصية المنقذ المخلص هنا ذات ثلاثة اتجاهات رئيسية:
الاتجاه الأول: المتمثل بالمشروع الإصلاحي العالمي الذي يقوم به المصلح المنتظر الذي يؤمن به غير المسلمين، كالمسيحيين واليهود وغيرهم.
الاتجاه الثاني: والمتمثل بالمشروع الإصلاحي للمصلح المنتظر الذي يؤمن به المسلمون غير الإمامية الاثني عشرية، وهو رجل هاشمي يلقب بالمهدي أيضاً، لكنه يولد في آخر الزمان، ومشروعه أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً.
الاتجاه الثالث: والمتمثل بالمشروع الإصلاحي للمصلح المنتظر للمسلمين من الإمامية الاثني عشرية خاصة، وهو مولانا الإمام المهدي الغائب الحجة بن الحسن العسكري (عليهما السلام)، والذي يظهر بعد انتهاء غيبته فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
وهذه الاتجاهات الثلاثة في جوهرها واحدة، وتشير إلى مفهوم واحد، وتنادي بالأخذ بالهوية نفسها ذات المشروع نفسه، فنحن لو تركنا الحديث عن خصوصيات شخصية المصلح المنتظر، وانطلقنا من نقطة مشتركة بين هذه الاتجاهات الثلاثة، تتمثل بالإيمان بالوجود المستقبلي لفرد يقوم بمشروع عالمي لبسط العدل، ورفعنا اليوم هذا المبدأ كهوية موحدة، لوجدنا أنفسنا أمام هوية مشروع عالمي موحدة، خاصة ونحن نستهدف توجيه المجتمعات البشرية نحو الهوية المهدوية كمشروع حضاري، نؤمن جزماً أن قائد هذا المشروع منقطع عنه اليوم وممنوع من إدارته بصورة مباشرة، وبقطع النظر عن التفسيرات الموضوعية لهذا الانقطاع وأسباب المنع، هل هي الغيبة أو عدم الولادة أوي أي أسباب أخرى.
فنقطة الانطلاق واحدة، وأي اختلاف في ملازمات هذه النقطة الموحدة، والتي ترجع للحالة الفكرية القائمة للمجتمعات للبشرية وفهمها لخصوصيات الصلح المنتظر، لن تضر بفعالية مشروع الهوية المهدوية العالمية الموحد، بعد الاتفاق على الهدف الأعلى والغاية النهاية لهذا المشروع، أعني بسط العدل ودفع الظلم والجور عن بني البشر ومنع تسلط البعض من الناس على البعض الآخر دون وجه حق.
وليس معنى هذا أن ننسلخ من الثوابت الإسلامية والإمامية المعرفة لشخصية المهدي الموعود، بل يمكن القول إن المطلوب هو انتهاج الأسلوب الديني العام في التدرج بالتعريف بالمهدي الموعود وربط المجتمعات البشرية به، فكل مجتمع حقه من هذا التعريف بما ينسجم مع الخطوط العامة المشتركة، وتجنب طرح التفاصيل الاعتقادية لأي مجتمع عالي لمن دونه من المجتمعات الدانية في فهمها للهوية المهدوية، كما ورد عن جابر: فقلت: يا رسول الله، فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال: «إي والذي بعثني بالحق أنهم ليستضيؤون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله ومخزون علم الله فاكتمه إلّا عن أهله»(9).
فترك طرح تفاصيل شخصه الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) على من لا يؤمن بها، مندرجة في الامر الوارد في هذه الرواية بكتمان الامر إلّا عن أهله.
ما نفهمه من عوامل نجاح مشروع رفع الهوية المهدوية:
وهنا نتكلم عن عاملين رئيسيين لهما القابلية لإنجاح هذا المشروع لحدٍ لا بأس به، سواء استهدفنا النجاح على مستوى مجتمعنا المسلم خاصة أم على مستوى المجتمع البشري بصورة عامة، وهذان العاملين هما:
العامل الأول: النتائج المتوقعة من مناقشة الهويات الأخرى المقابلة للهوية المهدوية، وتحليل تلك النتائج المتحققة لمشاريع تلك الهويات، وإيضاح زيف ما يروَّج له من عظمة هذه المشاريع وعدالتها، وبيان أوجه ظلمها للمجتمعات البشرية التي تحكّمت فيها، والبحث والنقاش هنا لا يستهدف التسقيط والانتقاص والافتراء على تلك الهويات ومشاريعها العملية، بل هو نقاش وبحث علمي متجرد عن التعصب والعنصرية والافتراء.
ونتائج هذا البحث والنقاش هي قطعاً ومن جملة النتائج النهائية التي تستهدفها هويتنا المهدوية ومشروعها في زمن الغيبة، فحين نقارن تلك الهويات والمبادئ التي تنادي بها، وما تدّعيه لنفسها من قابلية لحل مشاكل المجتمع البشري، نقارنها مع الواقع الحقيقي التي أنتجت اليوم، وما قدّمته للمجتمع البشري من نتائج سلبية أو إيجابية، سينكشف لكل ذي عينين منصف - في نهاية المطاف - زيف ما تدّعيه تلك الهويات من مبادئ ومن كذب ما تبشّر به من خير عميم، وذلك حين يتم الكشف عن جهات القصور والنقص في تلك المبادئ والظلم في تطبيقاتها، ذلك النقص والظلم المستتبع له الذي لا ينبغي الشك فيه أبداً، باعتبار تلك الهويات هي نتاج العقل البشري القاصر المقيد في حدود العاطفة والمصلحة الشخصية وزمان ومكان مؤسِّسها، ومن يلحق به من معدل ومطور لمضامينها، هذا النقص الذي لا يمكن إقناع المجتمعات به إلّا بعد دخول تلك الهويات ساحة التجربة والامتحان، وتوفّر كل أسباب ووسائل نجاحها الذاتي.
وهذا الانكشاف لواقع تلك الهويات ومشاريعها يَنتِجُ عند المجتمعات البشرية عموماً: يأساً نفسياً تجاهها وإحساساً واقعياً عميقاً بأنها غير قادرة على رفع المظالم عن كاهل المجتمعات البشرية، وتصبح تلك المجتمعات ذات صدر رحب لقبول تجربة جديدة وتبنّي هوية مغايرة لتلك الهوية الفاشلة، وستكون الهوية المهدوية هي تلك الهوية العادلة في مبادئها النظرية، الكاملة عند تطبيقها على يد قائدها المنتظر.
ولسنا بحاجة لأبعد من هذا المستوى من النجاح في مشروع هويتنا المهدوية، لأننا أصلاً لا نستهدف بسط العدل العملي ودفع كل وجوه الظلم في المجتمعات البشرية قبل ظهور مولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، لأنها مهمة ذات سعة وعمق لا يمكن لأي فرد بشري غيره القيام بها، ومشروع هويتنا في زمن الغيبة لا يستهدف أكثر من التعريف بهذا القائد ومشروعه، والدعوة لإعطائه الفرصة للقيام وإقامة ذلك المشروع، من غير جبر منا اليوم ولا إرهاب.
العامل الثاني: من عوامل نجاح مشروع الهوية المهدوية هو: توفر عدد ليس قليلاً من الأفراد الذين يؤمنون بحقانية هذه الهوية، وليس لديهم أي شك في نجاحها عند تطبيقها، ووجود هذه الفئة من الناس ضروري للدفاع عن هويتهم التي يؤمنون بها، يشير لهذا المعنى ما أخرجه القندوزي في الينابيع عن أبي بصير، قال: قال جعفر الصادق [(عليه السلام)]: «وما كان قول لوط (عليه السلام) لقومه: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾ [هود: 79]، إلّا تمنياً لقوة القائم المهدي وشدة أصحابه، وهم الركن الشديد، فإن الرجل منهم يعطي قوة أربعين رجلاً، وأن قلب الرجل منهم أشد من زبر الحديد، لو مروا بالجبال لتدكدكت، لا يكفون سيوفهم حتى يرضى الله (عزَّ وجلَّ)»(10)، ومن الواضح أن النبي لوط (عليه السلام)، إنما تمنى وجود هذه الثلة المؤمنة بالهدف والمشروع الذي دعى قومه إليه، طلباً لإنجاح ذلك المشروع، وبما يجده من أهمية قصوى لوجودهم لتحقيق ما يسعى لتحقيقه، وينبغي الآن أن نتكلم عن هذه الأهمية بشيء من التفصيل، وذلك ضمن عدة جهات:
الجهة الأولى: تأثير الإيمان بحقانية الهوية في نجاح مشروعها:
فإن واقعنا المعاصر بما يتضمنه من صراعات ومواجهات بين التيارات العقائدية المختلفة، ولا نقصد هنا بالعقائدية خصوص الأفكار الدينية التي يعتقد بها، بل ما نقصده هو الهوية التي يرفعها الفرد وينسب نفسه إليها، ويسعى لتحقيق كل ما من شأنه دوام وجودها ونجاح مشروعها الذي تسعى لتحقيقه، وهذا ما يشمل الهويات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الفكرية، وغيرها من ميادين التنافس البشري المعاصر.
هذا الواقع أثبت بما لا يقبل الشك: أنه كلما كان الأفراد أكثر إيماناً بحقّانية هويتهم التي ينتسبون إليها، كان النجاح في إقامة مشروعهم الحضاري أقرب، لما يوفره هذا الإيمان الراسخ من وعي وفهم بحقيقة ما يراد الوصول إليه ومدى أهمية وعظمة ذلك الوصول والشعور العالي بالمسؤولية تجاهه، وفقدان هذا الإيمان سينتهي بفشل أي مشروع، وبغضّ النظر عن الإمكانيات المادية التي يتم توفيرها له.
الجهة الثانية: إحياء الهوية المهدوية في الجوانب العبادية:
إن الهوية الدينية المهدوية وبالإضافة لما تمثله من مشروع حضاري وهدف أعلى، يسعى هؤلاء الأفراد إلى إنجاحه في مجتمعهم وواقعهم الذي يعيشونه، فإن هذه الهوية تمثل دافعاً قوياً لإقامة ذلك المشروع في نفوسهم وعقولهم وخاصتهم التي تحيط بهم، فهم يؤمنون بحقانية هذه الهوية وعِظَمِ الفائدة المتحصِّلة منها، فمن الطبيعي جداً أن يحاولوا الانتفاع منها في نطاق المنفعة الشخصية المباحة، فتظهر لتلك الهوية لمسات عبادية وإيمانية مميزة في سلوكياتهم المختلفة، فإن الالتزام بمقتضيات هذه الهوية يمثل صفة واضحة الدلالة على الإيمان بها وصدق الانتساب إليها، وكلما كان الفرد أكثر إيماناً بها كان أكثر التزاماً بما تقتضيه، فتراه يتحين الفرص مرة بعد مرة لإشهار هويته والتصريح بانتسابه إليها، وهو ما سيوفر تجربة عملية ناجحة، تشجع الآخرين على الاهتمام بهذه الهوية والأخذ بمقتضياتها العملية.
الجهة الثالثة: أصالة الهوية المهدوية في الفكر الاسلامي الحركي:
ونحن نتكلم عن تأثير الهوية المهدوية في السلوك الفردي والمجتمعي، لا ينبغي إغفال جانب ترابط هذه الهوية مع عدة مواضيع دينية حركية، مؤثرة جداً في واقعنا المعاش من عدة جوانب، ولعل للقضية الحسينية الصدارة على هذه المواضيع، والقضية الحسينية المباركة كانت ولازالت المحرك العاطفي الأبرز في الواقع الشيعي، خاصة حين تترجم تلك العاطفة بصور مشاريع اجتماعية تتبنى توفير الحلول لكثير من مشاكل مجتمعنا الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وتأثير هذا الترابط في المجتمع الإمامي واضح التأثير، باعتبار المكانة المميزة للقضية الحسينية في فكر وعاطفة المجتمع، ونفس هذا الترابط والتأثير على أفراد المجتمع الشيعي يمكن سوقه كدليل على عظمة الهوية المهدوية وعمق تأثيرها في الأفراد المؤمنين بها، لإقناع الأفراد خارج المجتمع الإمامي الذين ليس لهم تفاعل كبير مع القضية الحسينية بإطارها الديني التاريخي الموروث، وذلك بملاحظة التأثير العميق للهوية العقائدية في سلوك حاملي تلك الهوية.
ولنا هنا أن نستشهد بموقفين حسينيين لهما تأثير كبير في الواقع المعاصر، هما الجانب التنظيمي للمواكب الحسينية، وما تمثله تلك المواكب اليوم من مؤسسات خيرية وثقافية مصغرة، تضم شباب المنطقة الواحدة وتنسّق بينهم وتوزّع عليهم الأدوار ليقوموا بأعمال مهمة في مناطقهم تطوعاً، وتحت مظلة الهوية الحسينية والشعائر، والموقف الأخرى، ولعله الأهم والذي برز مؤخراً في المجتمع العراقي، بعد احتلال جماعات داعش الإرهابية لمدن العراق وصدور فتاوى المرجعية الدينية العليا في الدفاع الكفائي، فكان أول المندفعين للاستجابة هم أبناء المواكب الحسينية بمختلف مستوياتهم المعيشية وأعمارهم، فشكَّلوا أفواجاً مستعدة للمواجهة العسكرية والموت في سبيل التحرير والانقياد لفتاوى المرجعية، وهي ظاهرة لا يمكن تفسيرها بغير تأثير الانتساب للهوية الحسينية في نفوس هؤلاء الشباب، فالربط إذن - أو قُل - تفعيل الجوانب الرابطة بين الهوية الحسينية والهوية المهدوية ستكون له نتائج إيجابية كبيرة وكثيرة جداً، خاصة ونحن نجد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ما يدعو فعلاً لإحياء هذا الربط والتذكير به، ومن ذلك ما أخرجه ابن قولويه في كامل الزيارات بإسناده عن مالك الجهني عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: «من زار الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء من المحرم...»، قال: قلت: فكيف يعزي بعضهم بعضاً؟ قال: «يقولون: عظم الله أجورنا بمصابنا بالحسين (عليه السلام)، وجعلنا وإياكم من الطالبين بثأره مع وليه الإمام المهدي من آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(11).
الخاتمة:
وحيث إنه من المتعسر الدخول في نقاش مفصل لكلّ ما ورد في جوانب تخص الهوية المهدوية ومشروعها الإصلاحي في هذه العجالة البحثية المختصرة، فإننا نقتصر في خاتمة بحثنا المختصر هذا على ذكر مقارنة بين الصيغة النظرية للهوية المهدوية المجملة، ودون التطرق للجوانب التي يراد لها أن تُفعّل في مشروع الهوية المهدوية، وبين الواقع المعاصر للهويات الأخرى التي لها تأثير ملموس في مجتمعنا، مع عدم ترك التنويه إلى أن هذه المقارنة فاقدة لجانب الموازنة العلمية، لأننا نبحث ونقارن الهويات المقابلة للهوية المهدوية بما تمثله اليوم من واقع مطبق وموجود، وبما لها من مشاريع عملية ونتائج ملموسة، في قبال الهوية المهدوية النظرية المحضة، والتي لم تنل بعد حظها من التجربة التطبيقية إلّا في جوانب ضيقة جداً من جوانب حياتنا العملية، وعدم الاتزان العلمي في هذه المقارنة مؤثر جداً في طبيعة النتائج المتوقعة للمقارنة، وإلّا فالحق أن تجري المقارنة بين الهويات، إمّا من جوانبها النظرية المتبادلة، أو العملية المتبادلة عند وجود تطبيقات عملية لكلا الطرفين.
بيد أنّ الشيء الذي يمكنه أن يقلل من تأثير عدم الاتزان هذا يكمن في مقارنة الأسس النظرية التي تقوم عليها الهويات المقابلة للهوية المهدوية في واقعها المعاصر، مع الأسس الاجتهادية التي نفهمها نحن اليوم عن الهوية المهدوية، سيما تلك الأسس المفهومة عندنا على أن لها القابلية للتأسيس للعدالة المجتمعية، وحل كثير من مشكلات مجتمعنا اليوم من جانب نظري فقط.
وذلك من عدة جهات:
الجهة الأولى:
في تشخيص وتحديد ماهية المفاهيم المهدوية الداخلة في مشروع الهوية المهدوية، ولها قابلية التطبيق العملي الواضح الخالي من الغموض المعرفي، الذي نحتاج معه لأجوبة تفصيلية من مولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، تلك المفاهيم والمبادئ المهدوية الشاملة لمجتمعنا بشرائحه المختلفة وطبقاته المتفاوتة، وذلك طبقاً لما نطلبه من تأسيس لمشروع الهوية المهدوية، يتمثل بإعادة صياغة المفاهيم المجتمعية الفطرية، بما ينسجم مع مشروع مولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) عند ظهوره، وهو ما يتطلب أن تشمل تلك الصياغة كل فئات المجتمع، ولا تختص بفئة المتدينين ومن هم فعلاً يشعرون بالمسؤولية تجاه قضية مولاهم، ولا يوجد أفضل من قوانين العادات والتقاليد المجتمعية والتطبيقات الحسينية الشعائرية التي سبق التنويه لها، لتقوم بمهمة إعادة الصياغة هذه بعد أن تكتسب الأهلية للقيام بها فعلاً على الوجه المطلوب، بموافقة وقبول القيادة المرجعية النائبة عن مولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
وحينئذٍ سيكتسب مشروع الهوية المهدوية زخماً إعلامياً وشعبياً كبيراً بغطاء شرعي، قادر على مواجهة كل المشاريع المقابلة وإلحاق الهزيمة بها إن كانت منحرفة، أو الانتفاع منها وتوظيفها في خدمة المشروع المهدوي، لأن تلك المشاريع وإن روجت لنفسها تحت أي عنوان كانت، لن تنال فرصة النجاح إلّا بنيل القبول الشعبي والتحكم الإعلامي المباشر وغير المباشر، وتحييد القيادة المرجعية أو ترك معارضتها بأي أسلوب تراه نافعاً في هذا الجانب.
الجهة الثانية:
وبعد أن كان الجانب الأول مهتماً بالمفاهيم المهدوية التي يراد الترويج لها وتقديمها كركائز للهوية المهدوية المجتمعية، فإن من الحكمة تخصيص الجانب الثاني لتشخيص المفاهيم والمبادئ التي تنتمي للهويات الأخرى المقابلة، والتي لها حضور وتأثير في أوساط مجتمعنا، ومحاولة تطويرها وإعادة صياغتها لتنسجم مع مشروعنا المهدوي، فإن مشروعنا هذا لا ينبغي له أن ينطلق دائماً من نقطة الصفر، والتأسيس بعيداً عن النتاجات البشرية الفكرية والعملية النافعة، خاصة مع ما لهذه النتاجات من حضور في الواقع المعاصر، فمن الحكمة أن نختصر الجهود، وبدلاً من أن نقوم بجهود كبيرة لإقناع المجتمع بضرورة التخلي عن تلك النتاجات، والاستعاضة عنها بنظائرها المهدوية، أن نقوم بدلاً عن ذلك بتوظيف نفس تلك النتاجات واستخدامها كأدوات في مشروعنا بعد تطويرها بما ينسجم مع أهداف المشروع المهدوي.
الجهة الثالثة:
في تشخيص السبب الحقيقي والجوهري لنقص مشاريع تلك الهويات المقابلة للهوية المهدوية، ثم تحديد الباعث على ما يسود تطبيقات مشاريع تلك الهويات من مصاعب وما تسبّبه من ويلات للفرد والمجتمع، وقد تم التطرق لهذه النقطة في مضامين البحث بالتفصيل، لكن ما يستحق أن نضيفه هنا، هي نقطة جديرة بالملاحظة والبحث، وهي: موقف العادات والتقاليد الشعبية في مجتمعنا من بعض تطبيقات تلك المشاريع، ومقارنة هذا الموقف من موقف العادات والتقاليد من تطبيقات مهدوية، ودون الدخول في التفصيل.
فإننا نلاحظ غالباً حالة من التساهل والسكوت تجاه بعض التطبيقات المنحرفة للمشاريع الأخرى، تلك التطبيقات التي تنافي عادات وتقاليد مجتمعنا الموروثة، بل قد يُصار إلى تقديمها على الموروث وإلباسها ثوب التطور والحداثة مع ما فيها من مخالفة كبيرة وواضحة لعاداتنا الموروثة، بينما نجد نفس هؤلاء الأفراد الذين يتساهلون ويقبلون التخلي عن عاداتهم لصالح التطبيقات المنحرفة، يقفون موقف المتشدد والمتزمت لو عارضت بعض المفاهيم المهدوية العادلة بعض العادات المجتمعية الظالمة، فيتحيز للعادات ويعتبرها أمراً واقعاً تسالمت عليه الأجيال من الآباء والأجداد، وبالتالي لابدية غضّ الطرف عن جوانبها الظالمة ومنافاتها للعدل المهدوي.
الجهة الرابعة:
ونحن حيث اخترنا أن يكون تقديمنا لمشروع الهوية المهدوية للمجتمع، قائماً على أسلوب الإقناع والقبول الطوعي وترك الإجبار والقهر في ميدان التطبيق، فلابد إذن أن نتجاوز النقطة التي ذكرت في الجانب الثالث السابق، والموقف غير المبرر تجاه التطبيقات المهدوية أو تطبيقات المشاريع الأخرى، التي تنافي الموروث من العادات، وكون ذلك التجاوز بنحو إيجابي يرفض الاستسلام واستبدال العدل المهدوي بظلم العادات، ويتم ذلك عن طريق دراسة وتشخيص المراحل التي مرّ بها مجتمعنا خلال تاريخه الطويل، تلك المراحل التي أنتجت عادات مجتمعية ظالمة لها ميزة الترسخ والقبول المجتمعي، ومحاولة إعادة الكرة لتوليد مراحل تاريخية تنتهي لإنتاج عادات مجتمعية مهدوية عادلة.
ولا يعترض معترض بالقول: إن هذه العادات وُلدت ونمت وترسخت على امتداد مئات السنين ولأجيال متعاقبة، ومحاولة تبديل الظالم منها بمفاهيم عادلة وبنفس مراحل تولدها، يعني أن نقوم بجهود تشريعية وإعلامية تمتد لمئات من السنين القادمة، تخضع خلالها أجيال متعاقبة لهذه الجهود لتنتج النتيجة المطلوبة!
لأننا نجيب: أن هذا الاعتراض لا مبرر له، ولا ضير بسلوك هذا الطريق إن انحصرت إقامة مشروع الهوية المهدوية به، بل إننا لا ينبغي أن ننظر لمشروعنا المهدوي بعين المرحلية والأمد القريب مع ما نجده، وخاصة في التفسير الإمامي الاثني عشري لهذا المشروع، من نَفَسٍ تطبيقي طويل جداً يمتد لمئات بل ربما آلاف السنين، تمثل بغيبة مولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، بل كل فشل وقع أو يتوقع له الحصول في ميادين مشروع الهوية المهدوية مردُّه لنظرة قصيرة الأمد لهذا المشروع، واستعجال قطف الثمرات وطي المراحل الإصلاحية.
والجهة الخامسة والأخيرة:
إنه وبالاعتماد على ما ذُكر في الجهة الرابعة السابقة، ننطلق في تشخيص ما نستطيع فهمه من تفاصيل نظرية وعملية لمشروع الهوية المهدوية، وأنظمة وتطبيقات متناسقة لمستقبل هذا المشروع القريب والبعيد، وما يصلح أن يكون سبباً لتهيئة الأرضية المناسبة لظهور مولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ورفع كل الموانع التي حالت دون تحقق هذا الظهور وعلى امتداد سنوات طويلة جداً من غيبته (عجّل الله فرجه)، وما يتطلبه هذا التشخيص من تربية وإعداد لأفراد بأعداد وإمكانيات مادية وفكرية تضمن تسلسل مراحل تطوّر هذا المشروع وقِدَمِ توقفه أو انهزامه لأي سبب مستقبلي كان.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآل الطيبين الطاهرين، وعجل الله فرج مولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وأكرمنا بكرامة رفع رايته والترويج لذكره في غيبته وظهوره.
الهوامش:
(1) الكافي: ج1، ص536.
(2) غيبة النعماني: ص١١٣، ب٥، ح١٠.
(3) الكافي: ج٨، ص٢٩٥، ح٤٥٢.
(4) غيبة النعماني: ص١١٤، ب٥، ح١٣.
(5) كمال الدين وتمام النعمة: ج1، ص440.
(6) كمال الدين وتمام النعمة: ج١، ص٤٣٩.
(7) الاحتجاج للشيخ الطبرسي: ج2، ص325.
(8) الكافي: ج1، ص226.
(9) كشف الغمة: ج٣، ص٣١٥.
(10) ينابيع المودة لذوي القربى - القندوزي: ج٣، ص٢٤١.
(11) مصباح المتهجد: ص٧٧٢.