بين العصمة والتخصص في زمن الغيبة
بين العصمة والتخصص في زمن الغيبة
قراءة في أدوار الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
إن البحث عن دور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) زمن غيبته، هي من المسائل التي شغلت بال الكثير من الموالين طلباً للحقيقة، والتي كانت مادة من مواد المشككين والباحثين عن نقاط ضعف في المذهب الحق.
وينشأ التشكيك من جهة أن الناس تعودوا أن يكون قائدهم بين ظهرانيهم، يرونه، ويجلسون معه، ويأخذون التعليمات منه مباشرة، فإذا ما كان القائد غائباً، ولا توجد وسيلة مادية عامة (أي مما تُتاح للجميع) للتواصل معه، حينها يتجه السؤال عن أدواره أولاً، وعن كيفية قيامه بها ثانياً.
وحتى تتبين المسألة أكثر نذكر المطلبين التاليين:
المطلب الأول: الإيمان التعبدي بأداء المعصوم لأدواره في زمن الغيبة:
الفرع الأول: أن أفعال الله تعالى معلّلة بالغايات:
1 - يُقصد من الإيمان التعبدي: هو الإيمان الذي يرسخ في قلب المؤمن في مسألة أو حكم معين، ولو لم يعرف العلة أو الحكمة فيه، وذلك مبني على أسس معينة، تكون وراء استقرار النفس واطمئنانها بجدوى الفعل.
وقد نصّت بعض الروايات على ضرورة أن يؤمن الفرد بالمسائل التي تصدر من الشارع المقدس، سواء كان إيمانه ناشئاً من البحث والاستدلال، أم كان ناشئاً من الاعتقاد بصحة التشريع لأنه صادر من الخالق جل وعلا أو من المعصوم، بل وحثّت النصوص الدينية على ضرورة أن يتحلى الفرد بالتسليم المطلق للدين، ولمن يُمثّله، فقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): «لو أنَّ قوماً عبدوا الله وحده لا شريك له، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجُّوا البيت، وصاموا شهر رمضان، ثمّ قالوا لشيء صنعه الله تعالى أو صنعه النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ألَا صنع خلاف الذي صنع؟ أو وجدوا ذلك في قلوبهم، لكانوا بذلك مشركين»، ثمّ تلا هذه الآية: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [النساء: 65]، ثمّ قال أبو عبد الله (عليه السلام): «وعليكم بالتسليم»(1).
2 - هذا وقد ثبت في علم الكلام أن الله تعالى حكيم، والحكيم هو من يضع الشيء المناسب في موضعه المناسب، في زمنه المناسب، فلا يوجد في قاموسه العبث ولا اللعب، وقد صرّحت النصوص الدينية باتصاف الباري جل وعلا بهذه الصفة، بل على اتصافه بجميع صفات الكمال، وتنزهه (جل وعلا) عن جميع صفات النقص والحاجة.
وهذا أصل موضوعي، والدليل الإثباتي عليه محله علم الكلام.
3 - وإذا كان هذا فعل الحكيم، فلا وجه حينئذٍ للاعتراض على أي فعل يقوم به، لأنه حسب الفرض حكيم، وبهذا المعنى يمكن تفسير قوله تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ (الأنبياء: 23)، حيث جاء في تفسيرها عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام):... يا بن رسول الله وكيف لا يسأل عما يفعل؟ قال: لأنه لا يفعل إلّا ما كان حكمة وصواباً...(2).
4 - ومنه يتضح: أنه مع إيماننا بحكمة الله تبارك وتعالى بهذا المعنى، وأن الغيبة كانت بأمرٍ من الله تبارك وتعالى، فلابد أن يكون الوجه فيها حكيماً، بحيث لا تتسبّب الغيبة في إلغاء دور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في زمن الغيبة، بل ولا التقصير في أدائها.
أو قل: ما دامت الغيبة من الله تعالى، فلابد إذن - ومن باب اللطف والحكمة - أنه تعالى قد رسم الطريق الأبلج لقيام الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بأدواره في غيبته.
ومما يُشير إلى أن الغيبة كانت بأمر من الله تبارك وتعالى، ما ورد في مراسلة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) إلى الشيخ المفيد: «نحن وإن كنّا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين...»(3).
وورد عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) يقول - في سياق حديثه عن علة الغيبة-: «... يا بن الفضل، إنَّ هذا الأمر أمر من أمر الله تعالى، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنَّه (عزَّ وجلَّ) حكيم، صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف»(4).
علماً أنه لا توجد ضرورة تدعو إلى أن يكشف الحكيم عن الحكمة في كل فعل من أفعاله، إذ يكفي علمنا بأنه حكيم للاطمئنان بأنه لا يصدر عنه خلاف الحكمة، على أن مطالعتنا لأفعاله جل وعلا كافية للحكم وبالقطع واليقين بأن أفعاله كلها حكيمة.
وهذا يعني: أننا لو رأينا فعلاً، أو حصل معنا شيء لم نستطع أن نعرف الحكمة فيه، فعدم معرفتنا بالحكمة فيه لا يبرر لنا الاعتراض عليه جل وعلا ولو من طرف خفي، بل يلزمنا التسليم لكل ما يفعله الله الحكيم العزيز.
وهذا يعني كفاية الإيمان التعبدي بالحكمة في غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وإن لم نعلم بها.
الفرع الثاني: أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) معصوم:
إن الاعتقاد بعصمة أهل البيت (عليهم السلام) عموماً، هو من الأمور المسلّمة لدى أتباعهم (عليهم السلام)، بل إن العصمة تُعَدّ من المفاصل الأساسية في مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ومن المميزات والعلامات الفارقة بين مذهبهم (عليهم السلام) والمذاهب الأخرى.
ونأخذ هذا المعنى هنا كأصل موضوعي، وإثباتاته في موضعها من علم الكلام، ولكن نذكر هنا بعض النصوص المتظافرة في إثبات العصمة لهم (عليهم السلام)، من قبيل: ما روي عن الصحابيّ زيد بن أرقم أنّه سمع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول لعليّ (عليه السلام): «أنت الإمام والخليفة بعدي، وابناك هذان إمامان، وسيّدا شباب أهل الجنّة، وتسعة من صلب الحسين أئمّة معصومون، ومنهم قائمنا أهل البيت...»(5).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «دخلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بيت أم سلمة وقد نزلت هذه الآية ﴿إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يا علي هذه الآية نزلت فيك وفي سبطي والأئمة من ولدك. فقلت: يا رسول الله وكم الأئمة بعدك؟ قال: أنت يا علي، ثم ابناك الحسن والحسين، وبعد الحسين علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد جعفر ابنه، وبعد جعفر موسى ابنه، وبعد موسى علي ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد علي ابنه، وبعد علي الحسن ابنه، والحجة من ولد الحسن، هكذا وجدت أساميهم مكتوبة على ساق العرش، فسألت الله تعالى عن ذلك فقال: يا محمد، هم الأئمة بعدك، مطهرون معصومون، وأعداؤهم ملعونون»(6).
ومادام الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) معصوماً، فإنه وبلا شك لن يُقصر في أداء ما عليه من مسؤوليات في عالم التكوين والتشريع، غايته أننا غير مطّلعين على الطريقة التي يتبعها في ذلك، فيكفينا الإيمان التعبدي بذلك.
وهذا نظير ما روي في سبب الغيبة الحقيقي، حيث إننا نقرأ في الرواية أن الإمام الصادق (عليه السلام) أمر الشيعة بالإيمان التعبدي بالحكمة في الغيبة وإن لم يطّلعوا على حقيقة الحال فيها.
فقد ورد عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لابدَّ منها، يرتاب فيها كلّ مبطل»، فقلت له: ولِـمَ جُعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يُؤذَن لنا في كشفه لكم»، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: «وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج الله تعالى ذكره، إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، لموسى (عليه السلام) إلَّا وقت افتراقهما. يا بن الفضل، إنَّ هذا الأمر أمر من أمر الله تعالى، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنَّه (عزَّ وجلَّ) حكيم، صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف»(7).
المطلب الثاني: محاولة فهم أداء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لأدواره في زمن غيبته:
مع إيماننا التعبدي بالحكمة المطلقة للشارع المقدس في غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وكفايته لنا، إلّا أن ذلك لا يمنع من أن نبحث في النصوص الدينية لمحاولة فهم أداء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لأدواره في زمن الغيبة، وفي هذا المجال، نذكر النقاط الآتية:
النقطة الأولى: أدوار المعصوم:
في عقيدتنا: أن للمعصوم - عموماً - أدواراً عديدة أنيطت به، تمثل ارتباطه بالرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واستمراراً لما بدأ به (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وخلاصة تلك الأدوار(8):
الدور الأول: كونه الحجة لله تعالى على الناس، أي الإمام الذي نصّبه الله تعالى وجعله لمقام الحجية على الناس.
الدور الثاني: حفظُه لعالم التكوين؛ كونه الواسطة في الفيض.
الدور الثالث: رعايته الأبوية لأتباعه.
الدور الرابع: كونه العالم الذي يُرجع إليه في:
أ - تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده، وبيانه للناس.
ب - دفع الشبهات والتساؤلات التي يطرحها المناوئون ضد الإسلام، وصيانة الدين من التحريف.
ج - بيان الأحكام الشرعية التكليفية للناس.
الدور الخامس: الحكم بين الناس بالحق عند وقوع المنازعات بينهم.
الدور السادس: قيادة الأمة ورئاسة الحكومة.
النقطة الثانية: تنوّع أدواره (عجّل الله فرجه) من حيث الواقع والظهور:
بالتأمل في تلك الأدوار، نجد أنها على ثلاثة أنحاء:
النحو الأول:
ما هو موقوف على وجود المعصوم واقعاً، وإن لم يكن ظاهراً، وإن لم يمكن الوصول إليه، وإن لم نكن نعرفه.
ومن هذا القبيل الدوران الأول والثاني، فإن كونه حجة الله تعالى على عباده، والمنصّب منه تعالى لذلك، هو أمر حاصل للمعصوم، سواء أعلمنا به أم لم نعلم، وسواء أكان المعصوم ظاهراً أم غائباً.
ومنه أيضاً دور المعصوم الحافظ لعالم التكوين من أن يسيخ بأهله، أو أن ينقطع الفيض عن الناس.
ومن هذا النحو أيضاً دور الرعاية الأبوية.
النحو الثاني:
ما يُمكن أن يوكله المعصوم إلى غيره، فيتصدى غيره بإذنه للقيام بهذا الدور، ويكون الغير معتمداً في أداء هذا الدور على ما وصل إليه من تراث ونصوص دينية، لا يخرج عنها قيد أنملة.
ومن هذا القبيل: الدور الرابع والخامس، فإن هناك أدلة عديدة - كما سيتبين في محله إن شاء الله تعالى - على أن المعصوم أذن لمجموعة خاصة من المؤمنين، وفق مؤهلات معينة، أن يقوموا بدور معلّم الناس والقاضي بينهم في زمن غيبة المعصوم، أو حتى في زمن ظهوره وعدم الوصول إليه، لبعد المسافة مثلاً، أو لسجن المعصوم، وغيرها من الأسباب.
النحو الثالث:
ما يكون القيام به متوقفاً على طرفين: طرف المعصوم، وطرف الناس، وهو الدور السادس الأخير.
بيان الأنحاء الثلاثة:
النحو الأول: ما هو موقوف على وجود المعصوم واقعاً.
وهنا ثلاثة أدوار للمعصوم:
الدور الأول: كونه الحجة لله تعالى على الناس، أي الإمام الذي نصّبه الله تعالى وجعله لمقام الحجية على الناس:
اختلف المسلمون في طريقة جعل وتنصيب الإمام الذي يخلف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والذي أطبقت عليه كلمة الشيعة الإمامية أنها طريقة الجعل الإلهي المباشر، حاله في ذلك حال جعل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكلماتهم في ذلك واضحة، والأدلة مذكورة في محالها في علم الكلام.
المهم أن نفهم هنا: أن كون الإمام منصَّباً من الله تعالى، مجعولاً لمنصب الإمامة منه تعالى، لا يتوقف على كونه ظاهراً بين الناس، بل بالدقة لا يتوقف على علم الناس، فهو أمر واقعي، سواء أعلِمَ الناس به أم لم يعلموا، وسواء أكان ظاهراً أم غائباً، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى تجشم عناء الاستدلال.
وبعبارة أخرى: أن الجعل الإلهي للإمام أمر واقعي لا علمي، فلا يتوقف حصوله على العلم به.
نعم، العلم به يؤسس لمنظومة تشريعية بين المجعول، وبين الناس، وهذا بحث آخر غير ما نحن بصدده.
والحاصل: أن كون الإمام هو الحجة على الأرض، لا يتوقف على ظهوره، بل هو حاصل حتى وإن كان غائباً.
ولذلك فإن النصوص الدينية التي ذكرت ضرورة وجود الحجة على الأرض، لم تفرّع تلك الضرورة على كونه ظاهراً، ولم تفرّق تلك الضرورة بين كونه ظاهراً أو غائباً، ولذلك نجدها ساوت بين الأمرين.
ومن ذلك ما روي عن أبي إسحاق الهمداني، قال: حدثني الثقة من أصحابنا أنه سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «اللهم لا تُخلي الأرض من حجة لك على خلقك ظاهر أو خافي مغمور؛ لئلا تبطل حجتك وبنيانك [وبيناتك]»(9).
فالرواية واضحة في أنها تجعل المدار على وجود الحجة الواقعي، سواء كان ظاهراً أم خافياً.
وعلى نفس المنوال ما روي عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله، عن آبائه، عن عليٍّ (عليهما السلام) أنَّه قال في خطبة له على منبر الكوفة: «اللَّهُمَّ إنَّه لابدَّ لأرضك من حجَّة لك على خلقك، يهديهم إلى دينك ويُعلِّمهم علمك، لئلَّا تبطل حجَّتك ولا يضلُّ أتباع أوليائك بعد إذ هديتهم به، إمَّا ظاهر ليس بالمطاع أو مكتتم مترقِّب، إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم، فإنَّ علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون»(10).
وفي ثالثة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «اللَّهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ للهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وَبَيِّنَاتُه»(11).
وبعبارة مختصرة: إن هذا الدور ذاتي للإمام، ولا يمكن لأحدٍ أن يسلبه إيّاه أو يمنعه من أدائه كما هو واضح، ويمكن للإمام أن يؤدّيه سواء كان ظاهراً أم مغموراً.
أو قل: هو دور متوقف على الوجود الواقعي لا العلمي للإمام.
الدور الثاني: حفظُه لعالم التكوين؛ كونه الواسطة في الفيض:
هذا الدور يعني: أن الله تعالى عندما خلق العالم وفق نظام الأسباب والمسببات، وهو صريح ما روي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَّه قَالَ: «أَبَى اللهُ أَنْ يُجْرِيَ الأَشْيَاءَ إِلَّا بِأَسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَباً...»(12).
كما أن الواقع يشهد بذلك، بل إن الفلسفة حكمت على الصدفة (وهي حصول الشيء بلا سبب ولا علة) بأنها من الممتنعات.
فعندما خلق الله تعالى العالم بهذه الكيفية، فإنه جعل أحد العلل فيه، أو في استمراره، هم الحجج الإلهية المجعولة من قِبَلِه جلّ وعلا.
فالحجة المجعول منه جل وعلا يمثل (أماناً) للأرض وأهلها، وهو صريح النصوص الكثيرة في هذا المجال كما سنذكر غيضاً منها.
والذي يُراد قوله هنا: إن كون الحجة - الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) نموذجاً - أماناً للأرض، وكونه واسطة في الفيض كما يُعبرون، هذا المعنى لا يتوقف على ظهوره، بل هو أمان لأهل الأرض سواء أكان ظاهراً أم غائباً.
فهو دور - كما الدور السابق -، متوقف على الوجود الواقعي للحجة، لا على وجوده العلمي.
والنصوص في ذلك كثيرة، وقد بينت هذه الحقيقة بتعبيرات مختلفة، نذكر منها التالي:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: أتَبْقَى الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: «لَا»، قُلْتُ: فَإِنَّا نُرَوَّى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِغَيْرِ إِمَامٍ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ الله تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ أَوْ عَلَى العِبَادِ؟ فَقَال: «لَا، لَا تَبْقَى، إِذاً لَسَاخَتْ»(13).
وعن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها وبنا ينزل الغيث، وتنشر الرحمة، وتخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها، ثم قال: ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجة الله فيها، ولولا ذلك لم يعبد الله»، قال سليمان: فقلت للصادق (عليه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال: «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(14).
وعن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: سمعته يقول: «لو بقيت الأرض يوماً بلا إمام منّا لساخت بأهلها، ولعذَّبهم الله بأشدِّ عذابه، إنَّ الله تبارك وتعالى جعلنا حجَّةً في أرضه، وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لم يزالوا في أمان من أن تسيخ بهم الأرض ما دمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يُهلِكهم ثمّ لا يمهلهم ولا ينظرهم ذهب بنا من بينهم ورفعنا إليه، ثمّ يفعل الله ما شاء وأحبّ»(15).
الدور الثالث: دور رعاية المعصوم الأبوية:
إن علاقة أهل البيت (عليهم السلام) بشيعتهم لم تتوقف على حدود الحاكمية السياسية لو أتيحت لهم، ولا على كونهم وسائط فيض وجودي في عالم التكوين، ولا على أنهم معلمو الناس دينهم، وإنما هذه كلها مع إضافة علاقة وجدانية، ترجمها الأتباع على شكل ولاء مطلق، وتمسك مطبق، وتسليم عظيم، وصل إلى حدّ الفداء بالنفس في كثير من الأحايين.
ثم إن هذه العلاقة كانت نتيجة اتصاف أهل البيت (عليهم السلام) بالكثير من المواصفات التي تجذب العاقل لهم رغماً عنه، بدءاً بالزهد بزخارف الدنيا وزبرجها، وعدم الأخذ منها إلّا ما كان بُلْغة، وعدم تقديم مصالحهم الشخصية على مصالح العامة، وسلوكهم المستقيم على طول الخط، الأمر الذي جعل المخالف - فضلاً عن المؤالف - يعترف بفضلهم، ما لم يكن أعمي البصيرة معانداً.
والشواهد على رعاية الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم كثيرة، نذكر منها التالي:
النص الأول:
التعبير عن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) بأنهما أبوا هذه الأمة، فقد روي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: «إن الله تبارك وتعالى فرض عليكم طاعتي، ونهاكم عن معصيتي، وأوجب عليكم اتِّباع أمري، وفرض عليكم من طاعة علي بعدي ما فرضه من طاعتي، ونهاكم من معصيته عما نهاكم عنه من معصيتي، وجعله أخي ووزيري ووصيي ووارثي، وهو مني وأنا منه، حبه إيمان وبغضه كفر، ومُحِبُّه مُحبِّي، ومُبْغِضُه مُبْغِضي، وهو مولى من أنا مولاه، وأنا مولى كل مسلم ومسلمة، وأنا وإياه أبوا هذه الأمة»(16).
(... فمنزلة النبي وخليفته القائم مقامه في تربية النفوس وتكميل العقول منزلة الأب...)(17).
هذه الأبوة لهما (عليهما السلام) غير كونهما قادة، وغير كونهما معلمِين للناس، بل هي من التربية، والإصلاح، والأخذ باليد إلى حيث الفلاح، إذ (الأب: الوالد، ويسمّى كلّ من كان سبباً في إيجاد شيءٍ أو صلاحه أو ظهوره: أباً، ولذلك يسمّى النبيّ [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] أباً المؤمنين، قال اللهُ تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأَزْواجُه أُمَّهاتُهُمْ﴾ (الأحزاب: 6)(18)، وروي أنّه [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] قال لعليّ: «أنا وأنت أبوا هذه الأمّة»...)(19).
مع الانتباه على أن أبوتهما (عليهما السلام) لنا تقتضي ترتّب مسؤوليات جسيمة علينا، إذ الإسلام يفرض حقوقاً عظيمة للآباء على الأبناء.
وقد روي أنه قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أفضل والديكم وأحقهما لشكركم: محمدٌ وعلي»(20).
وأنه قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): «سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: أنا وعلي أبوا هذه الأمة، ولحقُّنا عليهم أعظم من حق أبوي ولادتهم، فإنّا ننقذهم، - إن أطاعونا -، من النار إلى دار القرار، ونلحقهم من العبودية بخيار الأحرار»(21).
والأحاديث بهذا المعنى كثيرة...
النص الثاني:
ما ورد في أن أهل البيت (عليهم السلام) يبدؤون شيعتهم بالسؤال عنهم، والتحري عن صحتهم وأحوالهم، ومراعاتهم الغيبية لهم، والنصوص في هذا المعنى كثيرة، نذكر منها ما روي عن أبي سعيد الخدري عن رميلة، قال: وعكتُ وعكاً شديداً في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام)، فوجدت من نفسي خفة في يوم الجمعة، وقلت: لا أعرف شيئاً أفضل من أن أفيض على نفسي من الماء، وأُصلي خلف أمير المؤمنين (عليه السلام).
ففعلت، ثم جئت إلى المسجد، فلما صعد أمير المؤمنين (عليه السلام) المنبر، أعاد عليّ ذلك الوعك، فلما انصرف أمير المؤمنين (عليه السلام) ودخل القصر، دخلت معه، فقال: يا رميلة، رأيتك وأنت متشبك بعضك في بعض؟ فقلت: نعم، وقصصتُ عليه القصة التي كنت فيها والذي حملني على الرغبة في الصلاة خلفه، فقال: يا رميلة، ليس من مؤمن يمرض إلّا مرضنا بمرضه، ولا يحزن إلّا حزنّا بحزنه، ولا يدعو إلّا أمّنا لدعائه، ولا يسكت إلّا دعونا له!
فقلت له: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، هذا لمن معك في القصر، أرأيت من كان في أطراف الأرض؟ قال (عليه السلام): «يا رميلة، ليس يغيب عنا مؤمن في شرق الأرض ولا في غربها»(22).
النص الثالث:
روي أنه قال أبو هَاشِمٍ الجَعْفَرِيُّ: شَكَوْتُ إِلَى أَبِي مُحَمَّدٍ [الإمام العسكري] (عليه السلام) ضِيقَ الحَبْسِ وكَتَلَ القَيْدِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ: أَنْتَ تُصَلِّي اليَوْمَ الظُّهْرَ فِي مَنْزِلِكَ.
فَأُخْرِجْتُ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ، فَصَلَّيْتُ فِي مَنْزِلِي كَمَا قَالَ (عليه السلام)، وكُنْتُ مُضَيَّقاً، فَأَرَدْتُ أَنْ أَطْلُبَ مِنْه دَنَانِيرَ فِي الكِتَابِ، فَاسْتَحْيَيْتُ، فَلَمَّا صِرْتُ إِلَى مَنْزِلِي، وَجَّه إِلَيَّ بِمِائَةِ دِينَار، وكَتَبَ إِلَيَّ: «إِذَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ فَلَا تَسْتَحْيِ، ولَا تَحْتَشِمْ، واطْلُبْهَا، فَإِنَّكَ تَرَى مَا تُحِبُّ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى»(23).
والحاصل:
أن من أدوار الإمام المعصوم (عليه السلام) تجاه شيعته، هو دور الرعاية الأبوية التي تقتضي اللطف بهم، وتسهيل أمورهم، ولو بطرق غيبية، كما حصل مع أبي هاشم الجعفري.
والذي نريد بيانه هنا هو:
أن هذا الدور لا يتوقف على أن يكون المعصوم ظاهراً بين الناس، وإنما يمكن أن يقوم به المعصوم ولو كان مسافراً إلى مكان بعيد، تماماً كما يمكن للأب أن يرعى أولاده من خلال الاتصال بهم هاتفياً مثلاً وتوجيهم، أو من خلال تكليف بعض الأفراد ممن يثق بهم ليصلوا إلى عياله ويقضوا حوائجهم، أو حتى من خلال كتابة برنامج معين، وتعليم الكبير من الأولاد مثلاً طريقة توفير الحاجات الضرورية لأهل بيته.
نعم، لا شك أن وجود الأب بين أفراد عائلته له أثر أعظم مما لو كان غائباً عنهم ويتواصل معهم بأحد الطرق المشار إليها أو بغيرها، إلّا أن الأب قد يضطر للسفر بعيداً من أجل توفير مستقبل أفضل لأولاده، والأولاد حينما يرون صدق النية من أبيهم، وعمله على إسعادهم، سيتفهّمون - بلا شك - غيابه عنهم، وسيعملون على أن لا يدَعوه يقلق من أجل بعض المشاكل التي يواجهونها، والمسألة من هذه الناحية وجدانية.
وهذا المعنى هو ما نقوله في مولانا الإمام الحجة بن الحسن (عليهما السلام)، فإنه يمكن أن يقوم بدور الرعاية الأبوية وهو في ستر الغيب، خصوصاً مع ما عنده من مؤهلات ربانية، وصفات كمالية، تجعله يطلع على رعيته، وشيعته، وتسبيب الأسباب لتسهيل أمورهم بطريقة وبأخرى، وهذا ما يؤيده ما نُقل عن بعض العلماء الذين التقوا بالإمام (عجّل الله فرجه) أو بأحد أتباعه من الأبدال مثلاً، وأنه قد تم تسهيل أمره او حلّ مشكلته بطريقة غير معروفة الأسباب.
وعلى كل حال، فقد أشارت بعض النصوص إلى أن الإمام الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه) يرعى شيعته من طريق الغيب(24)، من قبيل:
1 - ما ورد في مكاتبته (عجّل الله فرجه) إلى الشيخ المفيد (قدِّس سرّه): «نحن وإن كنّا ناوين [ثاوين] بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذلّ الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون. إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء أو اصطلمكم الأعداء، فاتَّقوا الله (جلّ جلاله) وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم يهلك فيها من حمَّ أجله ويحمى عنها من أدرك أمله...»(25).
2 - ما ورد من دعائه لوالد الشيخ الصدوق بولدين سالمين خيّرين، فإنه كاشف عن أنه (عجّل الله فرجه) يرعى شيعته، ويدعو لهم بالخير، فقد نقل العلامة المجلسي في بحاره(26): اجْتَمَعَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْن بْن بَابَوَيْهِ مَعَ أبِي القَاسِم الحُسَيْن بْن رَوْح وَسَألَهُ مَسَائِلَ ثُمَّ كَاتَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى يَدِ عَلِيّ بْن جَعْفَر بْن الأسْوَدِ يَسْألُهُ أنْ يُوصِلَ لَهُ رُقْعَةً إِلَى الصَّاحِبِ (عليه السلام) وَيَسْألُهُ فِيهَا الوَلَدَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: «قَدْ دَعَوْنَا اللهَ لَكَ بِذَلِكَ وَسَتُرْزَقُ وَلَدَيْن ذَكَرَيْن خَيّرَيْن»، فَوُلِدَ لَهُ أبُو جَعْفَرٍ وَأبُو عَبْدِ اللهِ مِنْ أُمَّ وَلَدٍ، وَكَانَ أبُو عَبْدِ اللهِ الحُسَيْنُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أبَا جَعْفَرٍ يَقُولُ: أنَا وُلِدْتُ بِدَعْوَةِ صَاحِبِ الأمْر (عليه السلام)، وَيَفْتَخِرُ بِذَلِكَ(27).
وروي أنه قال مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الأسْوَدُ (رحمه الله) قَالَ: سَألَنِي عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْن بْن مُوسَى بْن بَابَوَيْهِ (رحمه الله) بَعْدَ مَوْتِ مُحَمَّدِ بْن عُثْمَانَ العَمْريّ أنْ أسْألَ أبَا القَاسِم الرَّوْحِيَّ (رحمه الله) أنْ يَسْألَ مَوْلاَنَا صَاحِبَ الزَّمَان (عليه السلام) أنْ يَدْعُوَ اللهَ أنْ يَرْزُقَهُ وَلَداً ذَكَراً، قَالَ: فَسَالتُهُ فَأنْهَى ذَلِكَ، ثُمَّ أخْبَرَني بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلاَثَةِ أيَّام أنَّهُ قَدْ دَعَا لِعَلِيّ بْن الحُسَيْن وَأنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ وَلَدٌ مُبَارَكٌ يَنْفَعُ اللهُ بِهِ وَبَعْدَهُ أوْلاَدٌ.
قَالَ أبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الأسْوَدُ: وَسَالتُهُ فِي أمْر نَفْسِي أنْ يَدْعُوَ اللهُ لِي أنْ أُرْزَقَ وَلَداً ذَكَراً فَلَمْ يُجِبْني إِلَيْهِ، وَقَالَ: «لَيْسَ إِلَى هَذَا سَبِيلٌ»، قَالَ: فَوُلِدَ لِعَلِيّ بْن الحُسَيْن (رحمه الله) تِلْكَ السَّنَةَ ابْنُهُ مُحَمَّدٌ وَبَعْدَهُ أوْلاَدٌ وَلَمْ يُولَدْ لِي.
قال الصدوق (رحمه الله): كان أبو جعفر محمّد بن علي الأسود (رضي الله عنه) كثيراً ما يقول لي إذا رآني أختلف إلى مجلس شيخنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد (رضي الله عنه)، وأرغب في كتب العلم وحفظه: ليس بعجب أن تكون لك هذه الرغبة في العلم وأنت ولدت بدعاء الإمام (عليه السلام)(28).
وَقَالَ: قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ بْنُ بَابَوَيْهِ: عَقَدْتُ المَجْلِسَ وَلِي دُونَ العِشْرينَ سَنَةً فَرُبَّمَا كَانَ يَحْضُرُ مَجْلِسِي أبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الأسْوَدُ، فَإذَا نَظَرَ إِلَى إِسْرَاعِي فِي الأجْوبَةِ فِي الحَلاَلِ وَالحَرَام يُكْثِرُ التَّعَجُّبَ لِصِغَر سِنّي، ثُمَّ يَقُولُ: لا عَجَبَ لأنَّكَ وُلِدْتَ بِدُعَاءِ الإمَام (عليه السلام)(29).
3 - عَنْ مُحَمَّدِ بْن يُوسُفَ الشَّاشِيّ، قَالَ: خَرَجَ بِي نَاسُورٌ فَأرَيْتُهُ الأطِبَّاءَ وَأنْفَقْتُ عَلَيْهِ مَالاً، فَلَمْ يَصْنَع الدَّوَاءُ فِيهِ شَيْئاً، فَكَتَبْتُ رُقْعَةً(30) أسْألُ الدُّعَاءَ فَوَقَّعَ لِي: «ألبَسَكَ اللهُ العَافِيَةَ وَجَعَلَكَ مَعَنَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ»، فَمَا أتَتْ عَلَيَّ الجُمُعَةُ حَتَّى عُوفِيتُ وَصَارَ المَوْضِعُ مِثْلَ رَاحَتِي فَدَعَوْتُ طَبِيباً مِنْ أصْحَابِنَا وَأرَيْتُهُ إِيَّاهُ، فَقَالَ: مَا عَرَفْنَا لِهَذَا دَوَاءً وَمَا جَاءَتْكَ العَافِيَةُ إِلّا مِنْ قِبَل اللهِ بِغَيْر احْتِسَابٍ(31).
4 - ما ورد من حمايته (عجّل الله فرجه) لوكلائه حينما وُشي بهم، فقد روي أنه قال الحُسَيْنُ بْنُ الحَسَن العَلَويُّ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ نُدَمَاءِ رُوزْحَسَنِيَّ وَآخَرُ مَعَهُ فَقَالَ لَهُ: هُوَ ذَا يَجْبِي الأمْوَالَ وَلَهُ وُكَلاَءُ، وَسَمَّوْا جَمِيعَ الوُكَلاَءِ فِي النَّوَاحِي وَأنْهَى ذَلِكَ إِلَى عُبَيْدِ اللهِ بْن سُلَيْمَانَ الوَزِير فَهَمَّ الوَزِيرُ بِالقَبْض عَلَيْهِمْ، فَقَالَ السُّلْطَانُ: اطْلُبُوا أيْنَ هَذَا الرَّجُلُ فَإنَّ هَذَا أمْرٌ غَلِيظٌ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ سُلَيْمَانَ: نَقْبِضُ عَلَى الوُكَلاَءِ، فَقَالَ السُّلْطَانُ: لاَ وَلَكِنْ دَسُّوا لَهُمْ قَوْماً لاَ يُعْرَفُونَ بِالأمْوَالِ فَمَنْ قَبَضَ مِنْهُمْ شَيْئاً قُبِضَ عَلَيْهِ.
قَالَ: فَخَرَجَ بِأنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى جَمِيع الوُكَلاَءِ أنْ لاَ يَأخُذُوا مِنْ أحَدٍ شَيْئاً وَأنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ وَيَتَجَاهَلُوا الأمْرَ، فَانْدَسَّ بِمُحَمَّدِ بْن أحْمَدَ رَجُلٌ لاَ يَعْرفُهُ وَخَلاَ بِهِ فَقَالَ: مَعِي مَالٌ أُريدُ أنْ أُوصِلَهُ، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: غَلِطْتَ أنَا لا أعْرفُ مِنْ هَذَا شَيْئاً، فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُهُ وَمُحَمَّدٌ يَتَجَاهَلُ عَلَيْهِ وَبَثُّوا الجَوَاسِيسَ وَامْتَنَعَ الوُكَلاَءُ كُلُّهُمْ لِمَا كَانَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ(32).
5 - ما روي عنه (عجّل الله فرجه) من أنه يدعو لشيعته وأتباعه، فقد جاء في مكاتبته (عجّل الله فرجه) إلى الشيخ المفيد: ... لأننا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فلتطمئن بذلك من أوليائنا القلوب...(33).
هذا وقد وردت عنه (عجّل الله فرجه) أدعية يدعو فيها لشيعته، ومنها دعاء:
«اللّهُمَّ ارْزُقْنا تَوْفِيقَ الطَّاعَةِ، وَبُعْدَ المَعْصِيَةِ، وَصِدْقَ النِيَّةِ، وَعِرْفانَ الحُرْمَةِ، وَأَكْرِمْنا بالهُدى وَالاسْتِقامَةِ، وَسَدِّدْ السِنَتَنا بِالصَّوابِ وَالحِكْمَةِ، وَاملأ قُلُوبَنا بِالعِلْمِ وَالمَعْرفَةِ، وَطَهِّرْ بُطُونَنا مِنَ الحَرامِ وَالشُّبْهَةِ، وَاكْفُفْ أَيْدِيَنا عَنْ الظُّلْمِ وَالسَّرِقَةِ، وَاغْضُضْ أَبْصارَنا عَنْ الفُجُورِ وَالخيانَةِ، وَاسْدُدْ أَسْماعَنا عَنْ اللَّغْوِ وَالغِيْبَةِ، وَتَفَضَّلْ عَلى عُلَمائِنا بِالزُّهْدِ وَالنَّصِيحَةِ، وَعَلى المُتَعَلِّمِينَ بالجِهْدِ وَالرَّغْبَةِ، وَعَلى المُسْتَمِعِينَ بِالاتِّباعِ وَالمَوْعِظَةِ، وَعَلى مَرْضى المُسْلِمِينَ بِالشِّفاءِ وَالرَّاحَةِ، وَعَلى مَوْتاهُمْ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَعَلى مَشايِخِنا بِالوِقارِ وَالسَّكِينَةِ، وَعَلى الشَّبابِ بِالإنابَةِ وَالتَّوْبَةِ، وَعَلى النِّساءِ بالحَياءِ وَالعِفَّةِ، وَعَلى الأَغْنِياءِ بِالتَّواضِعِ وَالسِّعَةِ، وَعَلى الُفَقراءِ بِالصَبْرِ وَالقَناعَةِ وَعَلى الغُزاةِ بِالنَصْرِ وَالغَلَبَةِ، وَعَلى الأُسَراءِ بِالخَلاصِ وَالرَّاحَةِ، وَعَلى الأُمَراءِ بِالعَدْلِ وَالشَّفَقَةِ، وَعَلى الرَّعِيَّةِ بِالإنْصافِ وَحُسْنِ السَّيرَةِ، وَبارِكْ لِلْحُجّاجِ وَالزُّوّارِ فِي الزَّادِ وَالنَّفَقَةِ، وَاقْضِ ما أَوْجَبْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ»(34).
وهكذا ما ورد في دعائه (عجّل الله فرجه) الآخر:
«إِلهِي بِحَقِّ مِنْ ناجاكَ وَبِحَقِّ مَنْ دَعاكَ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ تَفَضَّلْ عَلى فُقَراءِ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ بِالغِناءِ وَالثَّرْوَةِ، وَعَلى مَرْضى المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ بِالشِّفاءِ وَالصَّحَةِ، وَعَلى أَحْياءِ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ بِاللُّطْفِ وَالكَرَمِ، وَعَلى أَمْواتِ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ بِالمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَعَلى غُرَباءِ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِناتِ بِالرَّدِّ إِلى أَوْطانِهِمْ سالِمِينَ غانِمِينَ بِمُحَمَّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ»(35).
النحو الثاني:
ما يُمكن أن يوكله المعصوم إلى غيره، فيتصدى غيره بإذنه لإدارة هذا الدور، ويكون الغير معتمداً في أداء هذا الدور على ما وصل له من تراث ونصوص دينية، لا يخرج عنها قيد أنملة.
وهنا دوران:
الدور الأول: كونه العالم الذي يُرجع إليه في:
أ - تفسير الكتاب العزيز وشرح مقاصده، وبيانه للناس.
ب - دفع الشبهات والتساؤلات التي يطرحها المناوئون ضد الإسلام، وصيانة الدين من التحريف.
ج - بيان الأحكام الشرعية التكليفية للناس.
الدور الثاني: الحكم بين الناس بالحق عند وقوع المنازعات بينهم.
والأدلة متعددة على ان المعصوم أوكل هذين الدورين لفئة خاصة من المؤمنين به، وفق مؤهلات علمية وعملية خاصة.
والتفصيل عبر النقاط الآتية:
النقطة الأولى: نصوص توكيل المعصوم غيره في بيان العلم والحكم بين الناس:
لا ريب في أن هذين الدورين هما للمعصوم بالأصالة، ولكنها من النوع الذي يُمكن أن يوكل المعصوم أداءهما إلى غيره، بأن يجعل نائباً عنه فيهما، لا كما كانت الأدوار من النحو الأول، حيث إن الأصل فيها هو المعصوم، وهي من الأدوار التي لا يمكن أن يقوم بها غير المعصوم، وبالتالي لا يصح توكيل غيره بأدائها.
وهذا الأمر كان حاصلاً في زمن ظهور المعصوم، فالنصوص كثيرة تدل على أن المعصوم نفسه كان يأمر بعض أصحابه بأن يقوموا بعملية تبليغ العلم وشرحه وبيانه، بل كان يأمر بعض أصحابه بالجلوس في المسجد وإفتاء الناس، وبتتبع النصوص الروائية، نجد أن هذا المعنى بدأ من زمن النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصولاً إلى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
والتفصيل:
أوَّلاً: ما ورد في ذلك في زمن النبيِّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
روي في قصَّة بيعة العقبة: قال ابن إسحاق: (فلمَّا انصرف عنه القوم بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) معهم مصعب بن عمير...، وأمره أن يُقرئهم القرآن ويُعلِّمهم الإسلام ويُفقِّههم في الدين)(36).
وروي أنَّه بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عمرو بن حزم والياً على بني الحارث ليُفقِّههم في الدين ويُعلِّمهم السُّنَّة ومعالم الإسلام(37).
ثانياً: ما ورد في ذلك في زمن أمير المؤمنين (عليه السلام):
وهو ما كتبه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى قُثَم بن عبّاس حين ما ولّاه: «وَاجْلِسْ لَهُمُ العَصْرَيْنِ، فَأَفْتِ المُسْتَفْتِيَ، وَعَلِّمِ الجَاهِلَ، وَذَاكِرِ العَالِمَ»(38).
ثالثاً: ما ورد في ذلك في زمن الأئمَّة المعصومين بعد أمير المؤمنين (عليه السلام):
1 - الإمام الباقر (عليه السلام):
قال (عليه السلام) لأبان بن تغلب: «اُجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أُحِبُّ أن يُرى في شيعتي مثلك»(39).
2 - الإمام الصادق (عليه السلام):
عن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بلغني أنَّك تقعد في الجامع فتُفتي الناس»؟ قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. ويجيء الرجل أعرفه بمودَّتكم وحبِّكم، فأُخبره بما جاء عنكم. ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال لي: «اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع»(40).
وعن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلَّا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمّد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفّاظ الدين وأُمناء أبي على حلال الله وحرامه...»(41).
3 - الإمام الرضا (عليه السلام):
عن محمّد بن عيسى، قال: حدَّث الحسن بن عليِّ بن يقطين بذلك أيضاً، قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام): جُعلت فداك، إنّي لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلِّ ما أحتاج إليه من معالم ديني، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟ فقال: «نعم»(42).
وعن عليِّ بن المسيّب، قال: قلت للرضا (عليه السلام): شقَّتي بعيدة، ولست أصل إليك في كلِّ وقت، فممَّن آخذ معالم ديني؟ فقال: «من زكريا بن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا»، قال عليُّ بن المسيّب: فلمَّا انصرفت قدمت على زكريا بن آدم فسألته عمَّا احتجت إليه»(43).
4 - الإمام الهادي (عليه السلام):
وهنا، بدأت حقيقة الرجوع إلى الفقهاء الثقات تتبلور أكثر، وتصبح عملية أكثر، من خلال إرجاع الإمام الهادي (عليه السلام) الشيعة إلى عثمان بن سعيد الذي كان ثقةً مأموناً عنده (عليه السلام).
عن أحمد بن إسحاق، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) وقلت: من أعامل، أو عمَّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال له: «العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنَّه الثقة المأمون»(44).
5 - الإمام العسكري (عليه السلام):
وقد اتَّخذ طابع الإرجاع إلى الفقهاء هنا مستوى أعمق على المستوى العملي، من خلال إرجاع الإمام الشيعة للسفيرين الأوَّلين، وقد كانا أتباعاً مخلصين وفقهاء مأمونين عند الإمام العسكري (عليه السلام).
عن أحمد بن إسحاق أنَّه سأل أبا محمّد (عليه السلام) عن مثل ذلك(45)، فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما، فإنَّهما الثقتان المأمونان...»(46).
6 - الإمام المهدي (عجّل الله فرجه):
وهنا مرحلتان:
المرحلة الأُولى: زمن الغيبة الصغرى: تعيين السفراء الخاصّين:
عندما غاب الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) غيبته الصغرى، صارت معرفة الأحكام الشرعية من خلال الرجوع إلى السفراء الأربعة وعلى مدار ما يقرب من سبعين سنة، حيث تمَّ تعيين السفراء بأشخاصهم من قِبَل الإمام شخصياً، وهذا ما يُميِّز السفير والنائب الخاصّ عن العامّ، فإنَّ السفير هو من يُعيِّنه الإمام نفسه بشخصه لا بصفته.
وهذا المعنى هو ما دلَّت الروايات الشريفة على عدم وقوعه بعد انتهاء الغيبة الصغرى إلى أن يخرج السفياني وتحدث الصيحة، ففي توقيع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لسفيره الرابع في آخر أيّام حياته ورد:
«... وسيأتي شيعتي من يدَّعي المشاهدة، ألَا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر...»(47).
وعليه، فكلُّ من ادَّعى السفارة الخاصَّة عن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بهذا المعنى قبل أن تقع الصيحة ويخرج السفياني فنحكم بتكذيبه من دون تردّد.
المرحلة الثانية: في زمن الغيبة الكبرى: تعيين الفقهاء بصفاتهم:
وعندما انتهت الغيبة الصغرى كانت فكرة الرجوع إلى الفقهاء المأمونين قد ترسَّخت في أذهان العامَّة - رغم وجودها في الأزمنة السابقة، حيث كان المعصومون حاضرين ظاهرين - بحيث صارت أمراً طبيعياً من خلال الروايات التي عيَّنت الفقهاء الذين يمكن الرجوع إليهم تعييناً من خلال الصفة لا الشخص.
وهذا ما ورد على لسان الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في توقيعه الشريف: «وأمَّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنَّهم حجَّتي عليكم وأنا حجَّة الله عليهم»(48).
بل نجد أنَّ هذا التعيين الصفتي قد بدأ من زمن الإمام العسكري (عليه السلام) حيث قال: «فأمَّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوامِّ أن يُقلِّدوه...»(49).
بل ومن زمن الإمام الهادي (عليه السلام)، فقد ورد أنَّه قال (عليه السلام): «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله (عزَّ وجلَّ)»(50).
النقطة الثانية: تأسيس المعصوم لمدرسة علمية بعيدة المدى:
إن التأمل في سلوك المعصومين (عليهم السلام) عموماً، يدل بكل وضوح على أنهم لم يكونوا بصدد تنظيم أمور الشيعة آنياً، ضمن خطوات مقطعية، تمشيةً للحالة الحاضرة، وإنما كانوا بصدد تأسيس مدرسة واقعية علمية وعملية طويلة المدى، تعتمد في منهجيتها على الجذور العلمية المأخوذة منهم (عليهم السلام)، وضمن تخطيط واعٍ لحفظها إلى آخر الدهر.
وبعبارة أخرى: أن الملحوظ في سلوك أهل البيت (عليهم السلام) هي العناية المكثفة بشيعتهم ثقافياً وتعليمياً، بحيث أوصلوهم إلى مستوى الاستقلال عن المؤسسة التعليمية الرسمية التابعة للحاكم، وكان ذلك عبر تأكيدهم (عليهم السلام) على مبادئ التعلم الصحيحة، وركّزوا على قضايا، منها:
أ - التعلم والتعليم: فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «أُطلُبُوا العِلمَ ولَو بِخَوضِ اللُّجَجِ وشَقِّ المُهَجِ»(51).
ب - حفظ العلم وكتابته وبثِّه: فعن المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): «اكْتُبْ وَبُثَّ عِلْمَكَ فِي إِخْوَانِكَ فَإِنْ مِتَّ فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ لَا يَأْنَسُونَ فِيهِ إِلَّا بِكُتُبِهِمْ»(52).
وقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): «احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا»(53).
وقال (عليه السلام): «اكْتُبُوا فَإِنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ حَتَّى تَكْتُبُوا»(54).
ج - الإفتاء: فقد قال الإمام الباقر (عليه السلام) لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أُحِبُّ أن يُرى في شيعتي مثلك»(55).
وعن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «بلغني أنَّك تقعد في الجامع فتُفتي الناس»؟ قلت: نعم، وأردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إنّي أقعد في المسجد فيجيء الرجل فيسألني عن الشيء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. ويجيء الرجل أعرفه بمودَّتكم وحبِّكم، فأُخبره بما جاء عنكم. ويجيء الرجل لا أعرفه ولا أدري من هو، فأقول: جاء عن فلان كذا، وجاء عن فلان كذا، فأُدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال لي: «اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع»(56).
وعن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما أجد أحداً أحيا ذكرنا وأحاديث أبي (عليه السلام) إلَّا زرارة، وأبو بصير ليث المرادي، ومحمّد بن مسلم، وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا، هؤلاء حفّاظ الدين وأُمناء أبي على حلال الله وحرامه...»(57).
النقطة الثالثة: الغيبة غير مانعة من الاستفادة من الأصول العلمية:
من المعلوم أنه ومع وجود أصول العلم والكثير من التفريعات التي تغطي مساحة واسعة من الحاجات المستجدة، بالإضافة إلى وجود الأصول العملية التي أسسها أهل البيت (عليهم السلام) في أحاديثهم، والتي اهتم بها الفقهاء بحثاً وتنقيباً وتأسيساً وتدقيقاً، فإنه يمكن أن يقوم الفقهاء بالمهمة العلمية التي يحتاجها الشيعة ولو كان المعصوم غائباً.
وبعبارة أخرى: أن الغيبة غير مانعة من أن يستفيد الفقهاء من العلوم التي وصلت إليهم، ضمن المنهجية العلمية التي تمت الإشارة إليها في النقطة الثانية.
ويشير إلى هذه الحقيقة ما روي عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله، عن آبائه، عن عليٍّ (عليهما السلام) أنَّه قال في خطبة له على منبر الكوفة: «اللَّهُمَّ إنَّه لابدَّ لأرضك من حجَّة لك على خلقك، يهديهم إلى دينك ويُعلِّمهم علمك، لئلَّا تبطل حجَّتك ولا يضلُّ أتباع أوليائك بعد إذ هديتهم به، إمَّا ظاهر ليس بالمطاع أو مكتتم مترقِّب، إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم، فإنَّ علمه وآدابه في قلوب المؤمنين مثبتة، فهم بها عاملون»(58).
خصوصاً مع وجود عنصري الثابت والمتغير في القوانين الإسلامية، حيث إن وجود العنصر المتغير يُضفي مرونة على التشريع الإسلامي ليواكب الحياة، وبالتالي يتمكن الفقهاء من الاستفادة منه في تغطية الحوادث المستجدة، ولو كان المعصوم غائباً.
والمقصود من المتغير: أنه قانون إسلامي له القابلية على التجدّد وعلى الانطباق على ما يأتي به الزمان من مفردات، فهو أشبه بالقاعدة الكلية التي تنسجم مع متغيرات الحياة، ولنضرب مثلاً لهذا المعنى بوجوب الصلاة، فالصلاة واجبة على المسلم، فهل هذا الحكم يتغير بتغير الزمان والمكان؟
كلا، إنه لا يتغير أبداً، فهو ثابت إلى يوم القيامة، وهكذا الحال في وجوب الصوم وحرمة شرب الخمر وغيرها، فهذه أحكام ثابتة لا تتغير.
ولكن مثل قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ﴾ (الأنفال: 60) هذا قانون إسلامي، فهل نتصور أو نتوقع أن الله سبحانه تعالى يريد من الجيش الإسلامي أن يكون دائماً وفي كل الأزمات عنده خيل أو سيف ورمح فقط؟!
إن القرآن في هذه الآية كأنه يريد أن يقول للمسلمين: ابنوا وأسّسوا جيشاً معداً بالأسلحة، ومهيأً لأي حركة متوقعة، وفي ذلك الوقت كان مصداق هذا الإعداد هو رباط الخيل، أمّا في هذا الزمن فلا معنى لأن نلتزم بتلك الكلمة، بل الصحيح هو أن نُبقي على القاعدة الأصلية وهي (إعداد الجيش) لكن نُغير في الانطباق، فنعدّ الجيش ونمدّه بالأسلحة الحديثة، وبذلك نكون ممتثلين لأمر الله تعالى.
ومثال آخر: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وقد كان طلب العلم في ذلك الوقت من خلال الكتاتيب، فيقرأ المعلم والطلبة يستمعون له، أمّا الآن فقد أصبح التعليم الكترونياً، ولو بقينا على ما كان في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حينها سنحكم على هذه الطريقة الآن بأنها بدعة! ولكن باعتبار أن القاعدة هي طلب العلم، وطلب العلم مصاديقه متعددة تختلف باختلاف الزمان، فنبقى على الأصل وهو ثابت، وأمّا مصاديقه فتختلف وتتغير بتغير الزمان، وهذا من أهم الفواصل والفروقات بيننا وبين غيرنا من السنة، فهم في كثير من الأحيان جمدوا على ظاهر النص، ولم يبنوا على تغير النص بتغير أحوال الحياة.
النقطة الرابعة: تأسيس نظام الاجتهاد وفق أصول منهجية:
إن تأسيس نظام الاجتهاد - وفق الحدود التي ستتم الإشارة لها - أدى إلى الحفاظ على منهجية المدرسة الشيعية علمياً، الأمر الذي أدى إلى تطورها فقهياً قياساً بالمدرسة الأخرى.
والتفصيل في النقطتين الآتيتين:
النقطة الأولى: معنى الاجتهاد:
إنَّ اصطلاح الاجتهاد يُطلَق على معنيين(59):
المعنى الأوَّل: الاجتهاد مقابل النصِّ والاجتهاد بالرأي:
وهذا هو الذي يرفضه الشيعة، إذ معناه أنَّ الفقيه إذا لم يجد نصّاً على الحكم الشرعي، فإنَّه يُعمِل فكرَه ورأيَه، فيحكم حسب ما يراه هو ويستحسنه، بل قد يحكم على خلاف ما ثبت شرعاً، لأنَّ رأيه يرى ذلك! ممَّا يعني سلب الحجّية عن أحاديث النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولو بطريق غير مباشر.
وقد أُطلق على أتباع هذا الاجتهاد بأتباع مدرسة الرأي، في قبال أتباع أهل البيت (عليهم السلام) الذين يرون وجوب اتِّباع النصِّ والتعبُّد المطلق به وعدم جواز مخالفته، كالنصِّ على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجواز الزواج المنقطع، وعمرة التمتُّع، وغيرها من المسائل.
وقد روي عن حمّاد، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلَّا وله حدٌّ كحدِّ الدور، وإنَّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة...»(60).
فما بيَّنه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حجَّة مطلقاً وإلى يوم القيامة، ولا يُسمَع كلام بعض الآراء الشاذة ممَّن يحاول سلب الحجّية عن أقواله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
المعنى الثاني: الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي من مصادره الشرعية الأصيلة: القرآن والسُّنَّة:
وهذا المعنى هو الذي يقصده الشيعة، ويجعلونه واجباً كفائياً، وليس هو مصدراً للتشريع في عرض المصادر الأُخرى، وإنَّما هو عملية استخراج للحكم من نفس النصِّ، فهو ابن للنصِّ ولا يعارضه أبداً. (وستتبين المسألة أكثر في مستقبل البحث إن شاء الله تعالى).
والشيعة في ذلك يستندون إلى أدلَّة خاصَّة، مثل ما روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّما علينا أن نُلقي إليكم الأُصول، وعليكم أن تُفرِّعوا»(61).
وللمجتهد شروط لا يمكن حصولها إلَّا بعد بذل جهد جهيد ووقت طويل، والتزام بالورع والتقوى، ومعايشة القرآن الكريم وأحاديث السُّنَّة الشريفة لسنوات طوال، وفوقه التوفيق الإلهي.
النقطة الثانية: حدود الاجتهاد الشيعي(62):
لا يخفى أن الاجتهاد في العرف الديني الشيعي، يمثل البنية التحتية لموقع الفتيا والقضاء ومنصب المرجعية، وبالتالي فهو يحتل مكانة أساسية ومفصلية وحساسة في هذا الكيان، وعلى هذا الأساس فإن عملية ضبطه وتقنينه وتحديد أطره ومساحاته، - لا أقل على المستوى النظري والمعرفي - من الضرورة بمكان؛ لأن هذا التحديد والتأطير سوف يغلق الباب على الحالة الهلامية والضبابية المتشابكة بين هذا العنوان وبين غيره من العناوين، هذا أولاً.
وثانياً: سوف يغلق الباب لاستغلاله وتوظيفه من قبل الأشخاص غير المؤهلين لتسنمه.
وثالثاً: سيغلق الباب أيضاً أمام عمليات التسطيح والتهميش لهذا المفهوم في الموضوعات المعرفية والعلمية.
لذلك كان من المناسب بيان حدود الاجتهاد عند أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وهو ما سيُبين مفهومه كثيراً في نفس الوقت.
والحدود التي ستتم الإشارة إليها هي:
الحد الأول: حفظ الفاصلة بين العصمة والاجتهاد:
نحن نحصل على المعلومة من خلال المعصوم (عليه السلام)، ومن المجتهد في زمن غيبة المعصوم، إلّا أن هذا لا يعني أبداً المساواة بين المعلومتين، بل إن بين العصمة والاجتهاد مسافة كبيرة جداً؛ لأن المعلومة التي نحصل عليها من المعصوم هي معلومة معصومة، وبالتالي فهي تعني المعلومة المضمونة الحقانية والصوابية، والمطابقة للواقع تماماً، وبالتالي فهي التي لا تقبل الخلاف، فيكون العلم الحصولي بها على حد العلم الحضوري، فإن العلم الحضوري يستحيل فيه الخطأ؛ لأن الخطأ فرع الاثنينية، فرع وجود مطابِق ومطابَق، والمعلوم الحضوري هو الواقع، فلا توجد اثنينية بين العلم والمعلوم، والمعلومة الحصولية المعصومة على وزانها وقانونها وإن كانت الاثنينية موجودة.
أمّا المعلومة الناشئة من الاجتهاد التخصصي، فهي معلومة غير مضمونة الحقانية والصوابية، وفيها احتمال عدم المطابقة مع الواقع، ولا يمكن طرد نسبة الخطأ عنها، فهي معلومة تنتمي إلى مقولة:
على المرء أن يسعى بمقدار جهده * * * وليس عليه أن يكون موفقاً
هذا هو الحد الأول للاجتهاد، وبه نعرف فرقاً مهماً بين المعلومة التي نحصل عليها من المعصوم، والتي نحصل عليها من المجتهد.
الحد الثاني: الاجتهاد فهم لا تشريع، وفي طول النص والمعصوم لا في عرضهما:
واحدة من الأسس المهمة التي عمل الفكر الشيعي على تأصيلها وترسيخها في منظومته الفكرية، هي مسألة التراتبية الطولية بين موضوعتي التشريع والاستنباط، وأن المستنبط والمجتهد ليس له أي دور في جعل وإيجاد وتكوين التشريعات، بل كل دوره ينحصر في فهم ما يلقيه عليه الشارع، وبيان تلك التشريعات وتنزلاتها وتطبيقاتها.
ويترتب على ذلك: أن أي زحاف يحصل في عملية الاستنباط بالعمل في مساحات خارج دائرة عمله، فإنه سيؤدي بشكل تلقائي إلى انقلاب ماهوي في حقيقة الاستنباط، لتتلبس بماهية التقنين التشريعي، وتتحول من الحالة الطولية مع موضوعة التشريع إلى الحالة العرضية.
تنبيه: المغالطة في إمكان الارتباط المباشر بالمعصوم (عليه السلام) بلا حاجة إلى متخصص:
ظهرت أصوات من هنا وهناك حاولت التقليل من ظاهرة التخصص، وقالوا بأننا لا نحتاج إلى وسيط يدخل فيما بيننا وبين المعصوم (عليه السلام).
والحال أن الوجدان قاضٍ بأن التخصص ضرورة، ولابد منه في فهم الدين، نعم حدود مرجعية التخصص تختلف عن حدود مرجعية المعصوم (عليه السلام)، فالمعصوم (عليه السلام) حجة في كلامه وفعله وتقريره، والمتخصص حجة في كلامه فقط وبحدود التخصص.
الحد الثالث: فرصة الاجتهاد نسبية لا مطلقة:
إن المعيار في الحقانية هو المطابقة مع الواقع ونفس الأمر، وليس المناط مرتبطاً بأمزجة وإدراكات الناس، بحيث إنهم إذا أجمعوا على أمر كان حقاً، وإن لم يجمعوا كان باطلاً، بل المناط هو في مطابقة الواقع، فإن طابقت الفكرة الواقع فهي حق، حتى لو فرضنا إجماع الناس كلهم على بطلانها، وإن لم تطابق الواقع فهي باطلة، وإن فرضنا اتِّفاق الناس على حقانيتها.
العلوم والمعارف بعضها نظرية، وهي ما تحتاج إلى دليل، وبعضها بديهية، أي إنها مطابقة للواقع في حد نفسها، وهي تكون الدليل على صحة العلوم النظرية.
مما يعني أنه لابد أن تنتهي العلوم النظرية إلى البديهية، وإلّا تبقى غير مستدلة، ولا ضمان لكونها مطابقة للواقع، فلا ضمان لكونها حقاً.
فالعلوم لابد أن ترجع إلى بداية بديهية، أو قل: بداية معصومة، أي مضمونة المطابقة للواقع.
هذا بشكل عام.
تأسيساً على هذه الفكرة، فإنه مع حضور وظهور المعصوم (عليه السلام)، فإنه يكون هو البداية القاطعة لأي معرفة نظرية، فنحن لو عرضت علينا مسألة نظرية، ولم نعرف الحق فيها، فنرجع إلى المعصوم ليعطينا الحق فيها.
ولكن حينما يغيب المعصوم (عليه السلام) عن الواقع الخارجي لسبب أو لآخر، وتمر البشرية في حالة استثنائية طويلة (وهي عصر الغيبة) تصبح البداية والبديهي والفكرة المعصومة خارج المتناول، فكان لابد من توفر بداية أخرى، تكون هي المرجع لكل المعارف الدينية الأخرى، فكانت المرجعية الدينية التي تمثل نقطة البداية في زمن الغيبة، لا بمعنى أنها نقطة مستقلة في حد نفسها، وإنما بمعنى أنها الخيط الرابط بين النظريات وبين التعلق بالمعصوم ومعرفته وعلومه.
والاجتهاد في متناول اليد، أي إنه يمكن الوصول إليه وفق منهجية علمية منضبطة.
وهذا المعنى في الوقت الذي يثبت ضرورة الاجتهاد كبداية للمعارف في زمن الغيبة، هو يعني ضرورته العلمية والمنهجية أيضاً، إذ لولا هذه المرتبة من العلم، لفقدنا البداية للنظريات التي لدينا، ولحصلت الفوضى المعرفية والعشوائية العلمية.
ولعله إلى هذا المعنى يشير ما روي عن الإمام الهادي (عليه السلام) أنه قال: «لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم (عليه السلام) من العلماء الداعين إليه، والدالّين عليه، والذابّين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلَّا ارتدَّ عن دين الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يُمسِك صاحب السفينة سكّانها، أُولئك هم الأفضلون عند الله (عزَّ وجلَّ)»(63).
كل هذا صحيح، ولكن هذا لا يعني أن الاجتهاد سيوفر المعلومة المعصومة بالمطلق، كالتي يأتي بها المعصوم نفسه، كلا، وإنما هي فكرة تمثل البداية بالنسبة لغير المجتهد وفي زمن الغيبة فقط.
وعلى كل حال، فإن واحدة من مهام المعصوم وعناياته طيلة فترة الظهور كانت هي توفير جملة من البداهات للأمة، لتصبح هي الهيكيلة المعرفية لأتباعه، تؤطر حركتهم العلمية.
ولذلك جاءت النصوص الدينية الكثيرة التي دلت على ضرورة رجوع الجاهل إلى العالم عموماً، والرجوع إلى رواة الحديث في ما يتعلق بأمور الدين خصوصاً، وقد تقدمت بعض تلك النصوص.
ومن كل ما تقدم يتلخص: أن الرجوع إلى المجتهد إنما يكون في زمن الغيبة، لأنه الطريق الوحيد الذي يوفر لنا الدليل على ما عندنا من نظريات، أمّا في زمن الظهور، فيكون المرجع هو المعصوم، ومن يجعله نائباً عنه.
الحد الرابع: حفظ الفاصلة بين لغة التخصص ولغة الثقافة العامة:
تتبلور ضمن أروقة التخصص لغة خاصة بهم، تكون هي الوسيلة للتخاطب العلمي والتخصصي فيما بينهم، هذه اللغة تختلف ماهوياً وبنيوياً عن تلك اللغة التي تستخدم في الأنساق المعرفية الثقافية العامة، وما يهمنا في هذا السياق هو:
صحيح أنه لابد من تكامل اللغتين وعدم استغناء كل منهما عن الأُخرى في توصيل المعلومة إلى الذهنية العامة، فاللغة العلمية المتخصصة ينبغي أن تتم صياغتها وفق أسس أدبية معينة، فليس من الصحيح أن يكتب المتخصص علومه ومعارفه بلغة غير منضبطة نحوياً مثلاً أو أنه يستعمل ألفاظاً لا تدل على المعنى المقصود له، وإن كان له مصطلح خاص فلابد أن يوضحه بطريقة أدبية واضحة.
ولكن هذا لا يعني أن تكون السياقات العلمية في الأروقة التخصصية مكتوبة بلغة بعيدة عن الانضباط العلمي والمنهجي، وهذا ما يكشف لنا عن بعض الصعوبة التي نواجهها في فهم كلمات الأعلام في كتبهم التخصصية، بل في بعض الأحيان نجد الصعوبة حتى في فهم الرسالة العملية، ذلك لأن الأروقة العلمية تقتضي أن تتم كتابة التخصص بلغة خاصة وبمنهجية علمية.
فلا يأتين شخص ويُشكل على المجتهدين بأنهم يكتبون بلغة علمية صعبة، فإن هذا هو مقتضى الأروقة العلمية التخصصية، وهذا أمر واقعي نجده في كل التخصصات، فالتخصص الطبي له لغته وسياقاته وصياغاته الخاصة التي لا يفهمها إلّا من يقضي وطراً من عمره في معايشة مصطلحات هذا التخصص العلمي وفهمها وهضمها ليفهمها بطريقة علمية صحيحة.
والحاصل: أن ثمة فاصلاً واضحاً بين لغة الاختصاص ولغة الفهم العام، وأنه لا ضرورة تدعو المتخصص أن يتحدث بلغة عامية غير تخصصية، نعم، لابد من وجود حلقة وصل بين المتخصص وبين عموم الجمهور ليفهموا مصطلحات المتخصص.
وهكذا الحال في القضايا الاجتهادية، فإنه ليس من الضرورة أن تُكتب بلغة عامية يفهمها الجميع، بل لها أروقتها المعرفية التي تقتضي أن تكون اللغة المستعملة فيها تخصصية كما تبين، وعدم قدرة المجتهد على بيان معانيه العلمية بلغة ثقافية لا يُشكل نقصاً فيه، نعم، يمكن لطلبة المجتهد أن يخففوا من ضغط المصطلحات وبيانها بلغة أقل تخصصاً، وهكذا وصولاً إلى لغة العامة.
ولذلك ينصح العديد من الأساتذة أنه عندما يريد طالب العلم أن يبين مسألة شرعية لغير طلبة العلم، فعليه أن يختار المسائل الابتلائية من جهة، وأن يستخدم اللغة البسيطة في إيصال المعلومة وعدم استعمال المصطلحات العلمية، ولكن لا ضرورة لذلك في الدروس التخصصية الحوزوية، لأن لكل مقام مقالاً كما يُقال.
الحد الخامس: العدالة والتخصص:
ضرورة النزاهة السلوكية:
في مجمل التخصصات التي لها ارتباط بالإنسان، لا يكون العلم فقط هو المعيار الوحيد لاختيار هذا المتخصص دون ذاك، بل يقترن التخصص العلمي والمستوى المعرفي بمقدار معين من النزاهة المرتبطة بالسلوك.
ونعني بالنزاهة هنا: هي مطابقة السلوك الذي يمارسه المتخصص للفكرة والنظرية التي يتبناها ويؤمن بها.
فالطبيب - مثلاً - لا يمكن أن يكون أحد خيارات المريض ما لم يعتقد المريض بأن هذا الطبيب سوف يصف له الدواء وفق ما تقتضيه النظريات العلمية التخصصية التي يؤمن بها، أمّا لو كان هذا الطبيب محتالاً، ويريد أن يغش المريض بنوعية الدواء، أو يعطيه دواءً ليس بحاجة إليه...، فإن هذا الطبيب سوف لن يكون أحد خيارات المريض في علاجه من مرضه.
وهكذا الحال مع كل التخصصات الأخرى كالمهندس والبنّاء والنجار وميكانيكي السيارات...، ففي كل هؤلاء نجد أن الإنسان بطبيعته يتحرك نحو الشخص النزيه الذي تتطابق فيه الفكرة والسلوك، النظرية والتطبيق.
التماهي الحرفي بين النظرية والتطبيق:
في بعض التخصصات، سيما تلك التي ترتبط بالدين والفكر الديني، لا يتم الاكتفاء بالنزاهة، بل نجد أن الناس يبحثون عن تطابق ماهوي بين النظرية التي يدعو لها صاحبها وبين تطبيقه لتلك النظرية ومقدار تمثلها في ذاته.
فالشخص الذي يقول: إنه مرسل من السماء ومرتبط بها، وهو القرآن الناطق، وهو من يحمل العلوم الخاصة، ويحمل الحقيقة، لا يتم الاكتفاء فقط بالمقولة التي يحملها ومقدار حقانيتها ومطابقتها لنفس الأمر والواقع، بل يتم البحث عن مديات عليا من تمثُّل تلك النظرية والرؤية العالية في سلوك صاحب هذه النظرية، لتصل في بعض الأحيان إلى المطالبة بعصمته عن الخطأ والزلل.
فالشخص الذي يروج لموضوعة الأخلاق بين الناس، ويتكلم بالتواضع والزهد والكرم...، فإن هذا الشخص ما لم يكن متمثلاً لتلك المفاهيم في سلوكه وأفعاله، فلا أقل سوف يسري الشك حول حقيقة تلك المفاهيم، وهل إنها قابلة للتطبيق أو لا، فالناس تعتبر جزءً من صدق المقولة هو تمثل صاحب المقولة لها في سلوكه وأفعاله.
هذا فضلاً عن أن تأثيره بالناس وجذبهم نحو النظرية التي يدعو إليها متوقف على مقدار تمثلها في سلوكه كما هو واضح، ولذا روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «مَنْ نَصَبَ نَفْسَه لِلنَّاسِ إِمَاماً فَلْيَبْدَأْ بِتَعْلِيمِ نَفْسِه قَبْلَ تَعْلِيمِ غَيْرِه، وَلْيَكُنْ تَأْدِيبُه بِسِيرَتِه قَبْلَ تَأْدِيبِه بِلِسَانِه، وَمُعَلِّمُ نَفْسِه وَمُؤَدِّبُهَا أَحَقُّ بِالإِجْلَالِ مِنْ مُعَلِّمِ النَّاسِ وَمُؤَدِّبِهِمْ»(64).
ثم إن التوأمة المطلوبة بين الصفتين: العلمية والعملية (ومن خلال الدليل في محله) تفرز لنا ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: عصمة النبي والوصي:
أو قل: العصمة العلمية والعملية في الوسيط بين السماء والغيب وبين الأمة.
ففي هذا المستوى لا يتم الاكتفاء فقط بالعصمة على مستوى الفكرة والمعلومة، وإنما يُراد لهذه المعلومة أن تكون تطبيقاً وتمثّلاً في شخص هذا المعصوم، فلا يقبل في هذا المستوى أن تُمارس المعصية، بل لا يقبل حتى الخطأ والسهو فيه، فكانت التوأمة بين الشرط العلمي والشرط العملي بحد العصمة.
المستوى الثاني: الفقاهة والعدالة في المرجع الديني:
ففي مستوى العلوم الدينية يتم التنازل عن شرط العصمة العلمية إلى الفقاهة والخبرة، كما يتم التنازل عن شرط العصمة العملية إلى العدالة في أعلى مستوياتها أو مطلق العدالة (على اختلاف الباحثين).
فالخطأ غير المقصود والسهو الذي يصدر عنه في العلم أو التطبيق مغتفر ومقبول، ولكن الشرط العملي لا يقف عند حدود صدقه في تسويقه للمعلومة، بل يتعدى ذلك ليصل إلى مستوى التزامه العملي الدقيق بما يقول، من دون المطالبة بعدم الخطأ أو السهو في ذلك.
المستوى الثالث: التخصص والنزاهة:
في مستوى العلوم الحياتية (طبيب، مهندس، نجار، ميكانيكي...) يشترط - إلى جانب المستوى العلمي الذي يحمله وهو التخصص - شرط عملي يتعلق بصدقه في نقله وتسويقه لمعلومته، هو شرطٌ يُلزم هذا المتخصص أن لا يخون ولا يخادع من يرجع إليه في تخصصه، وكل ما عدا ذلك فليس مطلوباً ومراداً من قبل الناس، حتى لو يكن المتخصص ملتزماً في بُعده العملي الشخصي بمعلومته التخصصية، فكل ما يطلب من الطبيب صدقه ونزاهته في نقل معلومته الطبية للمريض، أمّا كونه يطبقها أو لا في حياته الشخصية العملية فهو أمر لا يعني مراجعيه، ولذا قد نراجع طبيباً يمنعنا من الأكلات الدسمة وهو يأكلها، ونأخذ بدوائه ونصائحه، لأننا نعتقد بنزاهته في هذا المجال وإن خالف علمه عملياً.
والحاصل: أن اشتراط العدالة في مرجع التقاليد نابع من أننا اتبعنا أشخاصاً معصومين في تصرفاتهم وإدراكاتهم، فلم يرتض الشرع والعقل بديلاً عنهم زمن الغيبة ما لم يكن على مرحلة عالية من الوثاقة والعدالة.
وهذه الشروط هي تعبير عن ارتباطات عضوية لا تقبل التفكيك أو التجزئة بين العلم والعمل، خصوصاً في مجال العلوم الإنسانية، وبالأخص العلوم الدينية المؤسسة على معرفة المطلق والارتباط به.
والعدالة هي الترجمة العملية في الفرد الذي يطرح تصوراته ومقولاته للمتابعة والتقليد.
الحد السادس: حجية المنهج المشترك دون الخاص:
أ - واحد من أهم المرتكزات العقلائية في موضوعة التفهيم والتفاهم بين الناس هو المنهج المشترك، هذا المنهج هو ما يسمح للتعاطي السلس داخل أروقة المجتمع بأن يفهم كلٌّ منهم الآخر، فتمتد من خلال هذا المنهج المشترك جسور التواصل بينهم فعلاً وانفعالاً.
ب - واحدة من ثمرات المنهج المشترك هو أن منه ينبثق موضوعة الحجية وإلزام الآخر، فإن المنهج المشترك يمثل البنية التحتية والأساسية في تشييد هذه العلاقة، فلا يمكن للحجية أن تتأسس على أدوات مبهمة وغير مفهومة للجميع ولا يمكن قراءتها وتحليلها من قبل الآخرين.
وهذا المعنى سيال وضروري حتى مع اعتماد الوسيط، فإن حجية قول من أرسل الوسيط (كما لو أرسل الله تعالى نبياً يكون واسطة بيننا وبينه) مرهونة بكونها لغة عامة ومشتركة ومنهجاً مفهوماً لمن هم دون الوسيط، بحيث يستعمل الوسيط لغة يفهمها الناس، لا أنها لغة خاصة ومنهج مبهم بينه وبين الله تعالى، وإلّا فكيف سنفهم مرادات الباري جل وعلا، وبالتالي، لو لم نفهم لغة الوسيط، فلا حجية له علينا.
على سبيل المثال لو ذهبت إلى الطبيب لغرض العلاج من مرض ما، وكان هذا الطبيب يعتمد على مصادر طبية خاصة، مجهولة تماماً لغير شخص هذا الطبيب، ولا يمكن لغيره الاطلاع عليها ونقدها وفهمها، وهي غير تلك المصادر الطبية التي يعتمدها الطب في العالم، حينها سيكون الرجوع إليه والتداوي على يده واعتبار مقولاته حجة وملزمة أمراً مجانباً للصواب جداً، حتى وإن كان الطبيب مورداً لثقة الآخرين وقبولهم من ناحية صدقه وعدم كذبه.
ج - لو لم يتوفر لدى الوسيط إلّا اللغة الخاصة والمنهج الخاص، فما هو البديل عن اللغة المشتركة؟
الجواب: لابد من طريقة تثبت حقانية -وبالتالي حجية- ما يأتي به الوسيط، بحيث تكون كاشفة عن صدقه وبنسبة تامة، ومن هذا القبيل وجدنا أن الأنبياء، حيث إن مصدر معارفهم وعلومهم هو مصدر خاص (اللغة الوحيانية)، فاحتاجوا إلى موضوعة الإعجاز؛ لأن المعادلة التي يعتمدونها مجهولة تماماً بالنسبة لغيرهم، وهي غير قابلة للفهم والتحليل من قبل غيرهم، ولكن لكون الدليل دلّ على عصمتهم ولابدية تصديقهم، كان التسليم بمقولاتهم ضمن السياقات المنهجية العلمية.
فكل لغة خاصة ومنهج خاص لم يقم الدليل على حجيته فهو بطبيعته يدخل في دائرة اللاحجية.
د - ومنه نعلم أن اعتماد الأحلام أو قراءة الفنجان أو اعتماد غير المعصوم المكاشفة مصدراً معرفياً، كلها خارج دائرة الحجية.
ومثله ما لو ادّعى أحدٌ لقاء المعصوم في عصر الغيبة الصغرى ونقْل بعض التعليمات والأحكام عنه، فإنه خارج عن دائرة الحجية.
كل ذلك لأن هذه المصادر خاصة ولا تمثل لغة معرفية عامة قابلة للمتابعة والتحقق، ومن ثَمّ لا تصلح مصدراً معرفياً ولغة إلزام للآخر.
والذي يُراد قوله بالضبط: إن أي لغة لم تكن ضمن اللغات العامة والمناهج المشتركة، وكانت ضمن اللغات الخاصة، فهي في حجيتها تحتاج إلى دليل، ولا يعني هذا أبداً القدح بالشخص الذي مارس هذه اللغة الخاصة واعتمد عليها، وإنما الكلام كل الكلام في حجيته وإلزامه للآخرين.
هـ - والسر الكامن وراء عدم حجية اللغة الخاصة والمنهج الخاص، يرجع إلى أن الحجج في السياق الشرعي والعقلائي قائمة على فكرة بذل الجهد واستفراغ الوسع من أجل الوصول إلى مراد المقنن والمشرع، وهذا لا معنى له أبداً في اللغة الخاصة، إذ هي من الأساس ليست متاحة للجميع، ولا يمكن أن يفهمها غير مدعيها، فلو جاء شخص وألقى علينا حكماً شرعياً وقال عنه: إن هذا هو الحكم الذي يريده الله تبارك وتعالى، وقد أخبرني به الوحي، حينها ما هو الدليل الذي يجعلنا نصدق بهذا القول؟
وكيف يكون ذلك القول حجة علينا لو لم يوجد أي طريق يمكن من خلاله إثبات مقولته هذه؟
إنه لابد من أحد أمرين: إمّا أن يتكلم بلغة وبمنهج نتمكن نحن بأدواتنا المعرفية المتاحة لنا أن نتأكد من صحته، (وهذه غير متوفرة لفرض أنه ادعى الوحي أو ادعى أنه التقى بالمعصوم في عصر الغيبة).
وإمّا أن يأتي بمعجزة تثبت أولاً اتصاله بالغيب، وتثبت ثانياً صدقه في مدّعاه، وبالتالي تثبت حجيته علينا.
أمّا أن يأتي بأمر ودليله الأحلام، أو قراءة الفنجان، أو أنه التقى بالمعصوم ولم يثبت ذلك بمعجزة، فمن الواضح جداً أن هذا لا يكون حجة علينا أبداً، حتى لو فرضنا أنه صادق في مدّعاه، أي حتى لو فرضنا أنه فعلاً رأى في الحلم كذا، أو أنه التقى بالمعصوم، ولكن حيث لم يثبت لنا لقاءه بالمعصوم، فلا حجية له علينا.
إذا تبين كل هذا نقول:
أولاً: وضَع الاجتهاد الشيعي خطاً أحمر تجاه كل من يتحدث بهذه اللغات والمناهج الخاصة في الشأن الديني العام، بحيث إن المنهج العام هو عدم حجية من يدّعي دعوى معينة ولا دليل له يمكن أن نفهمه سوى اللغة والمنهج الخاص التي يدّعيها.
ثانياً: إن موضع حركة الاجتهاد الشيعي هي ضمن دائرة المنهج المشترك المتمثل بالقرآن والسنة والعقل، ولم يقبل أن تكون أحد مصادره الأحلام والرؤى، أو أن تكون أحد مصادره أن الشخص الفلاني التقى بالإمام صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) وأرشده إلى الحكم الكذائي، من دون أن يتعارض هذا مع لطفه ورعايته لنا في عصر الغيبة، فهذا موضوع آخر غير ما نتحدث فيه من حجية قول الشخص.
وهكذا لم يقبل الاجتهاد الشيعي أن تكون أحد المصادر هو أن الزاهد الفلاني حصل على الحكم الشرعي من خلال مكاشفة خاصة به، كل هذه وغيرها من المصادر غير المنهجية، لم يرتضها الاجتهاد الشيعي ووضع حولها خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه.
وفي الحقيقة، فإن هذا الأمر عقلائي، ومنهجي في نفس الوقت، وكل من رجع إلى وجدانه يجد أن قول الآخر إنما يكون حجة عليه إذا كان ضمن المنهج المفهوم للجميع، والذي يمكن أن يُستدل عليه بطريقة علمية، وهذا هو معنى اللغة المشتركة في الحجية، وأمّا لو كانت اللغة خاصة بصاحبها، فلو فرضنا أنه صادق في حد نفسه، فإنه لا يكون حجة علينا، لفقدانه وسيلة الإثبات المنهجية.
علماً أن الحديث هنا ليس في صدد تكذيب من ادعى اللقاء بالمعصوم (عليه السلام) في غيبته ولا إثبات ذلك، وإنما حديثنا في حجية قول من ادّعى اللقاء وأخذ الأحكام الشرعية أو التعليمات منه، وفرق بين الأمرين.
فلسنا بصدد نفي أو إثبات الرؤية واللقاء بالإمام (عجّل الله فرجه)، بل كل كلامنا يتمحور في إشكالية توظيف هذا اللقاء في نقل جملة من الأفكار والرؤى إلى الناس وأنه طريقة غير علمية وغير منهجية، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتم القبول من شخص لا يتحرك في سياق اللغة المتداولة العامة في استدلالاته، ولا يمتلك دليلاً على عصمته، ولم يأت بمعجز يعزز ما يقوله، ولم يقدم دليلاً قطعياً على حجيته...، ونجده ينتهي إلى مقولة: أنني رأيت هكذا بشكل خاص، فمثل هذا الشخص لا يمكن أبداً قبول مدعياته، ولو قبلنا بها لوقعنا في ازدواجية كبيرة، كيف! ونحن نطالب النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في إثبات صدق مقولاته بدليل كالعصمة أو المعجزة، في حين أننا نكتفي بما يقول هذا الشخص لصرف كونه صادقاً، بلا بينة ولا دليل!
ولذا لابد من التفكيك بين كون الإنسان طيباً وصاحب سريرة حسنة، وبين أن يأخذ موقع السفارة الخاصة والباب عن الإمام (عجّل الله فرجه)، فهاتان مساحتان لا ينبغي الخلط بينهما، فالعقلاء لا يقبلون من شخص يتصف بالصدق والطيب أن يأخذ موقع الطبيب ليصف لهم الدواء في علاج أمراضهم، وهكذا الحال مع باقي التخصصات، فالقفز في المواقع بلا أي قانون أو ضوابط يؤدي بنا إلى فوضى عارمة.
يجب أن نفهم: أن مدعي اللقاء مع صاحب الأمر (عجّل الله فرجه) لا يكفي في تصديقه صرف كونه صادقاً وإنساناً خيّراً؛ لاحتمال توهمه أو وقوعه في الخطأ، وإن كان صادقاً، لأنه غير معصوم حسب الفرض، ولم يأت بمعجزة تدل على صدق مدعاه.
الحد السابع: نيابة عامة لا خاصة:
يحتل شخص المعصوم مكانة خاصة في الوجدان الشيعي لما يمثله في المستوى النظري من حلقة الوصل بين الأرض والسماء، وفي المستوى العملي من تجسيد لكل معاني السمو والكمال.
بالإضافة: إلى دخوله في هوية النسيج العقدي والاجتماعي لهذا التشكل، فإن إيماننا بالمعصوم لا يقتصر على كونه واسطة بيننا وبين النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والباري جل وعلا، وإنما صار إيماننا به (عليه السلام) مفصلاً أساسياً لانتمائنا، ومميزاً لنا عن غيرنا، وانتماؤنا لهذا المذهب الحق لم يكن من دون إيماننا بالمعصومين (عليهم السلام).
من ثم كان أدنى نوع اتصال به يمثل شرفاً عظيماً، ونحن نقدّر - كثيراً - الرواة الذين سمعوا الحديث منهم (عليهم السلام) ونقلوه لنا بكل أمانة، ونجلهم، ونحترمهم.
وهكذا الأمر لو كانت العلاقة معه (عجّل الله فرجه) حاصلة في عصر الغيبة، فكان اللقاء به (عجّل الله فرجه) أمنية تراود نفس كل شيعي وغاية سامية يرنو إليها كل موالٍ.
وقد دوّن لنا التاريخ أسماء شخوص طهرت نفوسهم وارتقوا في مراتب الإيمان، فنالوا شرف اللقاء به (عجّل الله فرجه) منهم السيد ابن طاووس والسيد بحر العلوم وغيرهم.
ولكن السؤال: في عصر الغيبة، هل يمكن أن ينعكس اللقاء بالإمام (عجّل الله فرجه) على العلاقة بين الأمة ومن نال ذلك الشرف أو لا؟
هل يمكن أن نقبل إخبار من التقى الإمام بحُكمٍ شرعي أو فكرة أو مقولة أو توجيه إزاء واقعة محددة وحدث معين؟
هل يكون مفاد ذلك الإخبار ملزماً لنا باعتباره صادراً من الإمام مباشرة؟
الجواب:
بالتحليل، فإن النقل عن الإمام مباشرة وعبر دعوى لقائه لا يمثل طريقاً منهجياً (مع كل ما يحمله لقاء الإمام من مداليل عميقة في حد نفسه) يمكن أن يعتمد عليه في الحصول على حكم أو موقف شرعي؛ لأن ثمة عنصرين يمنعان من ذلك، هما:
العنصر الأول: أنه لغة خاصة لا عامة:
إن الحكم الشرعي يمثل وجهة نظر الشارع تجاه مختلف الأحداث، الاجتماعية منها والسياسية والثقافية وغيرها، فهو يحدد موقف المكلف وطريقة تعاطيه مع مختلف الأحداث مهما كانت خطورتها أو صغرها، وهو في الوقت ذاته لا يقتصر على زمان دون زمان، بل يتجاوز الزمان ليحدد الموقف منها مهما ابتعدت عن عصر النص والحضور.
فالحكم الشرعي يؤثر بصورة مباشرة على مقدرات الناس من الأنفس والأموال والأعراض بل ربما الأمم، لذا فهو لا يمكن أن يقوم على آلية ذاتية وذات طابع فردي (ولغة خاصة) كاللقاء بشخص الإمام (عجّل الله فرجه) في غيبته ونقل الحكم عنه (عجّل الله فرجه)، إذ مثل هذا اللقاء - لو كان - فهو يفتقد منطقيته؛ باعتباره حالة استثنائية غير متاحة للعموم كي يصلح لغة مشتركة بينهم تصلح للتفاهم والاحتجاج والإقناع، وبالتالي فلا طريق لها لأن تكون ملزمة لغير من حظي بها، ومن ثم فهي تبقى في دائرة الدعاوى غير المستدلة والتي تختص قيمتها القانونية - لو صدقت - بصاحبها.
لابد للحكم الشرعي (ولكل معرفة يراد توصيلها للآخرين) من قنوات منهجية واضحة وعامة تكون هي المعيار في قبوله أو رفضه، وهذا أمر تقضي به طبيعة الأمور ذات التداول العام بين أبناء البشر، فالبيع والشراء مثلاً في التعاملات السوقية اليومية يتم من خلال وحدات قياسية ثابتة متفق عليها مسبقاً، لتكون هي المرجع في تحديد قيم الأشياء، مع الفارق الكبير بين التداعيات المترتبة على كل من الأمرين.
العنصر الثاني: الأدلة الدالة على انقطاع النيابة الخاصة زمن الغيبة الصغرى:
إن هناك الكثير من النصوص الدينية التي تؤكد انقطاع الصلة بالإمام (عجّل الله فرجه) في عصر الغيبة، وانحصار طريق أخذ الأحكام الشرعية في رواة أحاديث الأئمة (عليهم السلام)، منها ما دل على أن من ادعى الرؤية كاذب، وما دل على بدء الغيبة الكبرى للإمام (عجّل الله فرجه) وحصر أخذ الأحكام الشرعية في الرواة «فإنهم حجتي عليكم»، بل بات هذا الأمر من الثوابت المذهبية المحسومة التي لا تقبل الاجتهاد والرأي الآخر والتعدد.
من خلال ما تقدم يمكن أن نخلص إلى أن المجتهد لا يملك النيابة الخاصة، بل إن أقصى ما يمثله هي النيابة العامة في حدود المنهجية الموضوعة لذلك.
وحتى تتضح الصورة أكثر، نذكر الاستطراد التالي:
استطراد: أدلة انقطاع النيابة الخاصة(65):
هنالك أدلة عديدة على انقطاع السفارة، منها:
أولاً: إن انقطاع النيابة والسفارة من أوليات وبديهيات وضروريات مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، ولا تجد عالماً يُشكّك في ذلك، وكل من قال بغير ذلك - لو وُجد - فهو خارج عن هذه الضرورة ولا يُعبأ به.
(قال الشيخ سعد بن عبد الله الأشعري القمّي - وقد كان معاصراً للإمام العسكري (عليه السلام)، وكان شيخ الطائفة وفقيهها - في كتابه المقالات والفِرق بعد أن بيّن لزوم الاعتقاد بغيبة الإمام (عجّل الله فرجه)، وانقطاع الارتباط به: فهذه سبيل الإمامة، وهذا المنهج الواضح، والغرض الواجب اللازم الذي لم يزل عليه الإجماع من الشيعة الإماميّة المهتدية (رحمة الله عليها)، وعلى ذلك إجماعنا إلى يوم مضى الحسن بن عليّ (رضي الله عنه))(66).
ثانياً: إجماع الفقهاء على انقطاع النيابة وإجماعهم على كفر وضلال مدّعي السفارة والنيابة.
قال ابن قولويه (رحمه الله): (... لأن عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري (رحمه الله) فهو كافر منمس ضال مضل...)(67).
ثالثاً: التواتر:
ومعناه: أن للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) غيبتين: غيبة صغرى وغيبة كبرى، وإن من الفارق بينهما: هو أن الغيبة الصغرى يكون الخفاء فيها ليس تاماً لوجود تمثيل رسمي للإمام (عجّل الله فرجه) من خلال السفراء والنواب الخاصين، وأن الغيبة الكبرى يكون الخفاء فيها تاماً، أي يكون الانقطاع تاماً، كما أن انتهاء الغيبة الصغرى يكون بانقطاع السفارة والنيابة الخاصة، في حين أن انتهاء الغيبة الكبرى يكون بظهور الإمام (عجّل الله فرجه) وبيعته وإقامة دولته وبروز جهاز إدارته.
وهذا أمر متفق عليه لدى الجميع، فلو جاء شخص وادعى أنه التقى بالإمام (عجّل الله فرجه) وأنه سفيره إلى الناس، لأمكن أن يأتي شخص ثانٍ وثالثٍ وعاشر، وبالتالي لا يكون فرق بين الغيبتين.
رابعاً: ومما يؤيد التسليم بانقطاع السفارة الخاصة، هو أن (علماء سنة الخلافة وجماعة السلطان قد اشتهر بينهم عن الإماميّة ذلك، وأخذوا يصيغون الإشكالات بانعدام الإمام (عجّل الله فرجه) مع انقطاعه عن شيعته في أكثر كتبهم الكلاميّة والمؤلّفة في الملل والمذاهب)(68).
فمثل هذه الإشكالات التي طرحوها لا وجه لها لو لم يكن انقطاع السفارة الخاصة مسلّماً لدى الشيعة، ومشتهراً لدى الجميع، لذا استغلوا هذه الحقيقة لصياغة بعض الإشكالات، والتي أجاب عنها علماؤنا بالتفصيل(69).
خامساً: التوقيع المبارك المروي بتوسط النائب الرابع علي بن محمد السمري (رضي الله عنه)، إذ روى الشيخ الصدوق قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المكتب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ علي بن محمد السمري (قدس الله روحه) فحضرته قبل وفاته بأيام فأخرج إلى الناس توقيعا نسخته: «بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توصِ إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ) وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادَّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم».
قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيك من بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه. ومضى (رضي الله عنه)، فهذا آخر كلام سمع منه(70).
إن المشاهدة المنفية في نص الإمام لا تخلو عن أحد معنيين:
الأول: نفي مطلق المشاهدة.
الثاني: نفي بعض المشاهدة.
أمّا الأول، فباطل بالوجدان، لحدوث المشاهدة من عدة من أساطين الفقهاء والعلماء وتشرفهم بلقائه (عجّل الله فرجه)، حتى إن ثلة منهم نقل عنه (عجّل الله فرجه) بعض الأدعية المسطرة في كتب الشيعة مع عدم دعواهم للسفارة.
فلابد من أن ينحصر المعنى بالثاني (أي نفي بعض مصاديق المشاهدة)، وهذا البعض المنفي لابد أن يكون المراد منه المشاهدة مع ادعاء الوساطة والارتباط المباشر بالإمام (عجّل الله فرجه)، بقرينة أن التوقيع صدر قرب وفاة السمري، حيث ورد في أوله تعزية الإمام (عجّل الله فرجه) المؤمنين بموت السمري ما بينه وبين ستة أيام، ثم أمْرُه (عليه السلام) السمري بعدم الوصاية إلى أحد يقوم مقامه بعد وفاته، إذ قد وقعت الغيبة التامة، وأنه لا ظهور حتى يأذن الله تعالى ذكره، وهذه كلها قرائن على أن سياق الكلام دال على تكذيب المشاهدة مع دعوى النيابة والسفارة بعد السمري (رضي الله عنه)، فتكون المشاهدة بمعنى السفارة من المحكمات.
على أنه ينبغي أن نلاحظ التالي:
إن التوقيع الشريف، إن كان ينفي خصوص السفارة فبها، وإن كان ينفي مطلق المشاهدة، بما يشمل السفارة والرؤية من دون ادعائها، فهو أيضاً بالتالي ينفي السفارة الخاصة. إذ السفارة أخص من مطلق الرؤية، والخاص ينتفي بانتفاء المطلق والعام.
النحو الثالث: قيادة الأمة ورئاسة الحكومة:
أي دور الحاكمية على الأرض، وتسنّم منصب رئاسة الدولة سياسياً، وعسكرياً، وبقية مفاصل الدولة.
ومن المعلوم أن القيام بهذا الدور يتوقف - في واقعه - على طرفين: طرف المعصوم، وطرف الناس؛ إذ إن الحكومة تعني أن يقوم فردٌ واحدٌ - هو الرئيس - بإدارة الشعب وما يتعلق به من منظمات ومؤسسات، فهناك طرفان للحكومة: حاكم، ومحكوم، والواقع يشهد أن الحاكم - وفق النظام الطبيعي من تولّد النتائج من أسبابها الواقعية كما أراد الله تعالى لهذا العالم أن يكون - لا يمكنه القيام بكل مهام الحكومة من دون أن يقف الشعب معه، أو قل: إنه لا يمكنه إدارة الدولة من دون أن يُمكّنه الناس من ذلك، بأن يقبلوا ولايته عليهم، ويُطيعوه فيما يأمرهم، ويقفوا معه ضد من يريد الإطاحة به.
إن أي خلل في طرفي المعادلة هذه يؤدي إمّا إلى أن يكون الحاكم دكتاتورياً، فيما إذا اعتمد على قوته العسكرية، وأهمل الشعب، وعمل على استضعافه واستعباده، أو يكون ضعيفاً هزيلاً، لا يمكنه حماية دولته، فيما إذا لم يقم الشعب بمساندته ومعونته على القيام بمهامه.
وإن فهمنا لهذه المعادلة جيداً، سينفعنا في الإجابة عن العديد من الأسئلة التي تتوجه إلى بعض تصرفات المعصوم، من قبيل جلوس أمير المؤمنين (عليه السلام) في بيته سنوات طويلة، وصلح الإمام الحسن (عليه السلام)، وما شابه هذه المواقف، بل إنه سيجيب عن سؤال مفاده: أنه لماذا لم يكن المهدي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي هو أفضل بلا شك من الإمام الحجة بن الحسن (عجّل الله فرجه).
إن فهمنا لهذه المعادلة سيبين لنا أن العلة المانعة من تسنم الحكم أمس، واليوم، هي ليست في المعصوم، وإنما هي في طرف المعادلة الثاني: الناس.
وفي بحثنا نقول:
نحن نعتقد أن الطرف الأول للحكومة - وهو الحاكم - هو المعصوم الذي جعله الله تبارك وتعالى حجة على الخلق، وهو - لعصمته - مؤهل لقيادة الأمة، بل لا بديل عنه بمستواه، وبالتالي، فهذا الطرف تام.
إن قلت: إن كان كذلك، فلمَ غاب ولم يقم بقيادة الدولة؟
قلت: إن النقص ليس من جهته، وإنما من جهة الطرف الثاني للمعادلة، وهو الناس، فإنهم لم يقوموا بما عليهم من مهمة التمكين للمعصوم لقيادة الدولة، حيث تقدم أن على الأمة أن تُمكّن الحاكم من قيادة الدولة، وإلّا، فإنه لن يتمكن من ذلك وفق النظام الطبيعي، وقد ألفتت جملة من النصوص إلى هذا الدور المحوري للأمة، من قبيل ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً، ولَيْسَ أَمْرِي وأَمْرُكُمْ وَاحِداً، إِنِّي أُرِيدُكُمْ للهِ، وأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لأَنْفُسِكُمْ، أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وايْمُ اللهِ لأُنْصِفَنَّ المَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِه ولأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِه، حَتَّى أُورِدَه مَنْهَلَ الحَقِّ وإِنْ كَانَ كَارِهاً»(71).
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عن أبي عَبْدِ الله (عليه السلام): «... لَوْ لَا أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ وَجَدُوا مَنْ يَكْتُبُ لَهُمْ ويَجْبِي لَهُمُ الفَيْءَ ويُقَاتِلُ عَنْهُمْ ويَشْهَدُ جَمَاعَتَهُمْ، لَمَا سَلَبُونَا حَقَّنَا، ولَوْ تَرَكَهُمُ النَّاسُ ومَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا وَجَدُوا شَيْئاً إِلَّا مَا وَقَعَ فِي أَيْدِيهِمْ...»(72).
مع التنبيه على أن التمكين ليس هو مصدر الشرعية في عقيدتنا، وإنما هو يأتي بعد الشرعية، فبعد أن قامت السماء بتعيين الحاكم وفق مواصفات خاصة (من الجعل والعصمة والعلم اللدني كما ثبت في محله من علم الكلام)، يأتي دور الشعب في تمكين المعصوم من حكم الأرض، فالتمكين يأتي في طول الشرعية، لا أنه هو المصدر لها.
علماً أن التمكين وإنْ كان يأتي بعد الشرعية، إلّا أن له مراتب كثيرة، يمكن أن يؤخذ بطريقة عفوية تلقائية وبطريقة قبول الواقع وتمشية الحال، ولكن في نفس الوقت يُمكن أن يؤخذ على أنه المحور في أي فعل يفعله الحاكم، بحيث يمكن أن يكون بيد الناس السماح للحاكم بتفعيل حاكميته أو تجميدها.
إن قراءة سريعة لتاريخ الناس مع الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، يكشف بكل وضوح، أنهم لم يقوموا بما عليهم من التمكين، وإنهم تخلوا عن المعصوم في ساعة العسرة، إلّا القلة القليلة ممن لا يتم التمكين بهم، الأمر الذي انعكس على الواقع، وجعل الحكم بيد غير المعصومين لمئات السنين، وما زال.
وهذه نماذج من مواقف الناس مع المعصوم:
أولاً: بعد استشهاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، عُقد اجتماع السقيفة، الذي أدى إلى إبعاد أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الحكم لمدة (35) سنة، وفي هذه الفترة لم يقم أكثر الناس بما عليهم من مهمة التمكين، بل وصل الأمر في أوجّ حالات الشدة إلى ما روي عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «ارتد الناس إلّا ثلاثة نفر: سلمان وأبو ذر، والمقداد»، قال: فقلت: فعمار؟ فقال: «قد كان جاض جيضة(73)، ثم رجع»، ثم قال: «إن أردت الذي لم يشك ولم يدخله شيء فالمقداد، فأمّا سلمان فإنه عرض في قلبه عارض، أن عند ذا يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) اسم الله الأعظم لو تكلم به لأخذتهم الأرض وهو هكذا، فلبب ووجئت في عنقه حتى تركت كالسلعة(74)، ومر به أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أبا عبد الله هذا من ذاك بايع، فبايع، وأمّا أبو ذر فأمره أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسكوت ولم يكن تأخذه في الله لومة لائم، فأبى إلّا أن يتكلم فمر به عثمان فأمر به، ثم أناب الناس بعد فكان أول من أناب أبو ساسان الأنصاري وأبو عمرة وفلان حتى عقد سبعة، ولم يكن يعرف حق أمير المؤمنين (عليه السلام)، إلّا هؤلاء السبعة».
وفي هذا السياق روي عَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا أَقَلَّنَا لَوِ اجْتَمَعْنَا عَلَى شَاةٍ مَا أَفْنَيْنَاهَا! فَقَالَ (عليه السلام): «ألَا أُحَدِّثُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ، المُهَاجِرُونَ والأَنْصَارُ، ذَهَبُوا إِلَّا - وأَشَارَ بِيَدِه ثَلَاثَةً -»، [أي أشار إلى أن ثلاثة فقط لم يذهبوا كما تقدم].
قَالَ حُمْرَانُ: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا حَالُ عَمَّارٍ؟ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ عَمَّاراً أَبَا اليَقْظَانِ، بَايَعَ وقُتِلَ شَهِيداً».
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا شَيْءٌ أَفْضَلَ مِنَ الشَّهَادَةِ، فَنَظَرَ (عليه السلام) إِلَيَّ فَقَالَ: «لَعَلَّكَ تَرَى أَنَّه مِثْلُ الثَّلَاثَةِ! أَيْهَاتَ أَيْهَاتَ»(75).
ثانياً: في زمن الإمام الحسن (عليه السلام)، اضطر (عليه السلام) إلى ترك مقاتلة معاوية، وبالتالي قبول الصلح معه، بسبب قلة الناصر، وبهدف الحفاظ على الثلة القليلة من المؤمنين، الأمر الذي كشفت عنه النصوص الواردة عنهم (عليهم السلام).
ففي حديث أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): «اعلم أن الحسن بن علي (عليهما السلام) لما طعن واختلف الناس عليه، سلَّم الأمر لمعاوية، فسلَّمت عليه الشيعة عليك السلام يا مذل المؤمنين. فقال (عليه السلام): ما أنا بمذل المؤمنين ولكني معز المؤمنين، إني لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة، سلَّمت الأمر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم، كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها وكذلك نفسي وأنتم لنبقى بينهم»(76).
وروي عن علي بن محمد بن بشير الهمداني، قال: خرجت أنا وسفيان ابن ليلى حتى قدمنا على الحسن المدينة، فدخلنا عليه، وعنده المسيب بن نجبة وعبد الله بن الوداك التميمي، وسراج بن مالك الخثعمي، فقلت: (السلام عليك يا مذل المؤمنين)، قال: «وعليك السلام، اجلس، لست مذل المؤمنين، ولكني معزهم، ما أردت بمصالحتي معاوية إلّا أن أدفع عنكم القتل عند ما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب، ونكولهم عن القتال، ووالله لئن سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه»(77).
وعن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «والله الذي صنعه الحسن بن علي (عليه السلام) كان خيراً لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس، والله لفيه نزلت هذه الآية ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ﴾ إنما هي طاعة الإمام فطلبوا القتال ﴿فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتالُ﴾ مع الحسين ﴿وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ [الأنفال: 77]، وقوله: ﴿رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ [إبراهيم: 44] أرادوا تأخير ذلك إلى القائم (عليه السلام)»(78).
ثالثاً: في زمن مولانا الإمام الحسين (عليه السلام)، لم يقف معه ضد الباطل سوى نيّف وسبعون رجلاً، وأمّا باقي الناس فقد عبّر عنهم (عليه السلام) بقوله: «إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون»(79)، أو كما روي أنه لما صار الحسين (عليه السلام) في بعض الطريق لقيه أعرابيان من بني أسد فسألهما عن الخبر فقالا له: يا بن رسول الله، إن قلوب الناس معك وسيوفهم عليك...(80).
وانتهت المعركة بما هو معلوم للجميع.
رابعاً: استمر مسلسل قلة الأنصار المخلصين في الأزمنة البعدية، وهو ما صرحت به العديد من النصوص، من قبيل ما روي عَنْ سَدِيرٍ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، فَقُلْتُ لَه: والله مَا يَسَعُكَ القُعُودُ!
فَقَالَ (عليه السلام): «ولِمَ يَا سَدِيرُ»؟
قُلْتُ: لِكَثْرَةِ مَوَالِيكَ وشِيعَتِكَ وأَنْصَارِكَ، والله لَوْ كَانَ لأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مَا لَكَ مِنَ الشِّيعَةِ والأَنْصَارِ والمَوَالِي مَا طَمِعَ فِيه تَيْمٌ ولَا عَدِيٌّ.
فَقَالَ (عليه السلام): «يَا سَدِيرُ، وكَمْ عَسَى أَنْ يَكُونُوا»؟ قُلْتُ: مِائَةَ ألفٍ. قَالَ (عليه السلام): «مِائَةَ ألفٍ»؟! قُلْتُ: نَعَمْ، ومِائَتَيْ ألفٍ. قَالَ (عليه السلام): «مِائَتَيْ ألفٍ»؟! قُلْتُ: نَعَمْ، ونِصْفَ الدُّنْيَا!
قَالَ: فَسَكَتَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: «يَخِفُّ عَلَيْكَ أَنْ تَبْلُغَ مَعَنَا إِلَى يَنْبُعَ»؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِحِمَارٍ وبَغْلٍ أَنْ يُسْرَجَا، فَبَادَرْتُ فَرَكِبْتُ الحِمَارَ، فَقَالَ (عليها السلام): «يَا سَدِيرُ، أتَرَى أَنْ تُؤْثِرَنِي بِالحِمَارِ»؟! قُلْتُ: البَغْلُ أَزْيَنُ وأَنْبَلُ. قَالَ (عليه السلام): «الحِمَارُ أَرْفَقُ بِي»، فَنَزَلْتُ فَرَكِبَ الحِمَارَ، ورَكِبْتُ البَغْلَ، فَمَضَيْنَا فَحَانَتِ الصَّلَاةُ، فَقَالَ (عليه السلام): «يَا سَدِيرُ، انْزِلْ بِنَا نُصَلِّ». ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): «هَذِه أَرْضٌ سَبِخَةٌ، لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا»، فَسِرْنَا حَتَّى صِرْنَا إِلَى أَرْضٍ حَمْرَاءَ، ونَظَرَ إِلَى غُلَامٍ يَرْعَى جِدَاءً، فَقَالَ (عليه السلام): «والله يَا سَدِيرُ، لَوْ كَانَ لِي شِيعَةٌ بِعَدَدِ هَذِه الجِدَاءِ مَا وَسِعَنِي القُعُودُ»، ونَزَلْنَا وصَلَّيْنَا فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الصَّلَاةِ عَطَفْتُ عَلَى الجِدَاءِ فَعَدَدْتُهَا، فَإِذَا هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ(81).
وعن مأمون الرقّي، قال: كنت عند سيّدي الصادق (عليه السلام) إذ دخل سهل بن حسن الخراساني، فسلَّم عليه، ثمّ جلس، فقال له: يا بن رسول الله، لكم الرأفة والرحمة، وأنتم أهل بيت الإمامة، ما الذي يمنعك أنْ يكون لك حقٌّ تقعد عنه وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ فقال له (عليه السلام): «اجلس يا خراساني، رعى الله حقَّك»، ثمّ قال: «يا حنيفة أسجري التنّور»، فسجرته حتَّى صار كالجمرة وابيضَّ علوُّه، ثمّ قال: «يا خراساني، قم فاجلس في التنور»، فقال الخراساني: يا سيّدي يا بن رسول الله، لا تُعذِّبني بالنار، أقلني أقالك الله، قال: «قد أقلتك»، فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكّي ونعله في سبّابته، فقال: السلام عليك يا بن رسول الله، فقال له الصادق (عليه السلام): «ألق النعل من يديك واجلس في التنّور»، فألقى النعل من سبّابته، ثمّ جلس في التنّور، وأقبل الإمام يُحدِّث الخراساني حديث خراسان حتَّى كأنَّه شاهد لها، ثمّ قال: «قم يا خراساني وانظر ما في التنّور»، قال: فقمت إليه، فرأيته متربِّعاً، فخرج إلينا وسلَّم علينا، فقال الإمام (عليه السلام): «كم تجد في خراسان مثل هذا»؟ فقلت: والله ولا واحد، فقال (عليه السلام): «لا والله ولا واحد، أمَا إنّا لا نخرج في زمان لا نجد خمسة معاضدين لنا، نحن أعلم بالوقت»(82).
وهكذا استمرت السلطات الظالمة بإبعاد المعصومين (عليهم السلام) عن الحكم، واستمر الناس بعدم تمكينهم للمعصومين منه، وعدم وقوفهم ضد الظالم بالمستوى المطلوب، فيما استغل الحكام الظالمون تخاذل الناس ليقوموا بتشريدهم، وسجنهم، وقتلهم.
والحاصل: أن الغيبة، وبالتالي عدم قيام الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بحكم الدولة، لم تكن من الله تعالى؛ لأنه خلاف اللطف الذي يفعله الله (جلَّ وعلا) لموافقته للحكمة، ولم تكن هي من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)؛ لأنه خلاف ما أوكل إليه من مهام الإمامة.
وإنما هي من الناس بسبب عدم قيامهم بالواجب عليهم من إقامة الحجة واتّباعه، بل عملوا على ملاحقته (عجّل الله فرجه) ولذلك ورد في الروايات أن من أسباب غيبته (عجّل الله فرجه) هو الخوف على نفسه من القتل، فقد روي عن زرارة، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «إنَّ للغلام غيبة قبل أن يقوم، وهو المطلوب تراثه»، قلت: ولِـمَ ذلك؟ قال: «يخاف - وأومأ بيده إلى بطنه، يعني القتل -»(83).
وهو ما تشير إليه بعض الكلمات المروية عنه (عجّل الله فرجه)، من قبيل ما جاء في مكاتبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) إلى الشيخ المفيد: «ولو أنَّ أشياعنا وفَّقهم الله لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخَّر عنهم اليمن بلقائنا، ولتعجَّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلَّا ما يتَّصل بنا ممَّا نكرهه ولا نؤثره منهم، والله المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل...»(84).
فالسبب إذن يكمن في عدم قيام الناس بما عليهم من مهمة التمكين، وتقصيرهم في ذلك.
مع التنبيه على الآتي:
أولاً: أن هذا الكلام غير موجه لخصوص الشيعة، كما قد يتصور البعض، وكما قد يجلد بعض الشيعة ذاته بأنه هو السبب وراء تأخر ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، كلا، وإنما هو يشمل جميع الناس، وأمّا الشيعة المؤمنون فهم بعيدون عن هذا الكلام.
ثانياً: ولا يعني هذا أن الظهور متوقف فقط على توفر العدد المناسب من الأنصار، ليُقال بأنه لا يُعقل عدم وجود عدد مناسب من الشيعة لنصرة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، إذ إن حديثنا في خصوص مفردة حكومة الأرض، وأمّا الظهور عموماً، فإنه متوقف على العديد من الأسباب الموضوعية، أحدها توفر الأنصار، وأهمها الإذن الإلهي، كما ورد هذا المعنى في التوقيع الشريف الأخير الذي صدر للسفير الرابع: «...فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله (عزَّ وجلَّ)...»(85).
خلاصة ونتائج:
تبين مما تقدم:
أولاً: أن إيماننا بحكمة الله تبارك وتعالى، وبعصمة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، كافٍ للاطمئنان بقيام الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بما أنيط به من أدوار متعددة.
ثانياً: أن تعدد أدوار الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يؤدي إلى اختلاف طريقة تعامله مع كل دور دور، فالدور المتوقف على وجوده الواقعي يختلف تعامله وقيامه به عن دوره المتوقف على ظهوره، وعن دوره الذي يُمكن أن يوكله إلى غيره وفق شروط معينة.
ثالثاً: من الخطأ بمكان أن يتم التعامل مع أدوار المعصوم على أنها حالة بسيطة، إمّا أن تكون، وإمّا أن لا تكون، وإنما هي مفاهيم مركبة ذات أجزاء متعددة، وكل جزء منها له شروطه الخاصة، والمنهجية العلمية تقتضي التفكيك بينها، ومعرفة المعنى الصحيح لقيامه بأدائه.
والحمد لله رب العالمين
الهوامش:
(1) المحاسن لأحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ج 1/ ص271/ باب 38/ ح365).
(2) التوحيد للشيخ الصدوق: ص397.
(3) الاحتجاج 2: 322 و323.
(4) كمال الدين: 481 و482/ باب 45/ ح11.
(5) كفاية الأثر، القمّي الرازي: ح64، ص177.
(6) كفاية الأثر للخزاز القمي: ص156.
(7) كمال الدين: 481 و482/ باب 45/ ح11.
(8) بتصرف وإضافة من: محاضرات في الإلهيات للشيخ جعفر سبحاني بتلخيص الشيخ علي الرباني الكلبايكاني (ص339 و340)، الطبعة 26، مطبعة مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام)، سنة 1397 ش/ 1440 ق.
(9) بصائر الدرجات للصفار: ص506، ب10، ح15.
(10) كمال الدين وتمام النعمة: 302.
(11) نهج البلاغة: 497/ ح147.
(12) الكافي للكليني: ج1، ص183.
(13) الكافي للكليني: ج1، ص179، بَابُ أَنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّةٍ، ح11.
(14) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص207، ح22.
(15) كمال الدين: 204/ باب 21/ ح14.
(16) الأمالي للشيخ الصدوق: ص65، ح30 / 6.
(17) منهاج الصالحين للشيخ الوحيد الخراساني: ج1، ص285.
(18) انظر: التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي: ج6، ص40؛ وبصائر الدرجات للصفار: ص552.
(19) مفردات ألفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني: ص57 مادة (أبا).
(20) التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام): ص330، ح189.
(21) التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام): ص330، ح190.
(22) بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن بن فروخ الصفار، (باب 16) باب في الأئمة انهم يعرفون من يمرض من شيعتهم ويحزنون ويدعون ويؤمنون على دعاء شيعتهم وهم غيب عنهم (ص 279 و280).
(23) الكافي للكليني: ج1، ص508، بَابُ مَوْلِدِ أَبِي مُحَمَّدٍ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، ح10.
(24) ذكر العلامة المجلسي باباً كاملاً في بحاره بعنوان: (ما ظهر من معجزاته (عليه السلام)، وفيه بعض أحواله وأحوال سفرائه)، وذكر الكثير من النصوص (70 نصاً) الدالة على رعايته (عجّل الله فرجه) لشيعته.
(25) الاحتجاج 2: 322 و323.
(26) بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج51، ص306-307.
(27) رجال الكشي: 261/ ح648.
(28) كمال الدين 2: 502/ باب (ذكر التوقيعات)/ ح31؛ والغيبة للطوسي: 320/ رقم 266.
(29) الغيبة للطوسي: 321/ رقم 267.
(30) في الخرائج إضافة: (على يدي امرأة تختلف إلى الدار).
(31) أصول الكافي 1: 519/ باب (مولد الصاحب (عليه السلام))/ ح11؛ الخرائج والجرائح 2: 965/ فصل (في أعلام الإمام)/ ح9؛ الإرشاد للمفيد 2: 357، وفيه: (مالاً عظيماً). وانظر: بحار الأنوار: ج51، ص297.
(32) أصول الكافي 1: 525/ باب (مولد الصاحب (عليه السلام))/ ح30؛ وانظر: بحار الأنوار: ج51، ص310.
(33) المزار للشيخ المفيد: ص8؛ والاحتجاج للطبرسي: ج2، ص324-325.
(34) المصباح للشيخ إبراهيم الكفعمي: ص280-281.
(35) مهج الدعوات ومنهج العبادات، للسيد ابن طاووس: ص295.
(36) الكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 96.
(37) البداية والنهاية لابن كثير 5: 89.
(38) نهج البلاغة: 457/ ح67، من كتاب له (عليه السلام) إلى قُثَم بن العبّاس، وهو عامله على مكّة.
(39) رجال النجاشي: 10/ الرقم 7.
(40) اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 522 - 524/ الرقم 704.
(41) اختيار معرفة الرجال للطوسي 1: 348/ الرقم 219.
(42) اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 784/ الرقم 935.
(43) اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 858/ الرقم 1112.
(44) الكافي للكليني 1: 329-330، باب في تسمية من رآه (عليه السلام)، ح1.
(45) أي ما ورد في الرواية السابقة.
(46) المصدر السابق.
(47) كمال الدين للصدوق: 516/ باب 45/ ح44.
(48) كمال الدين للصدوق: 484/ باب 45/ ح4.
(49) الاحتجاج للطبرسي 2: 263.
(50) الاحتجاج للطبرسي 2: 260.
(51) بحار الأنوار: ج75، ص277.
(52) الكافي للكليني: ج1، ص52، بَابُ رِوَايَةِ الكُتُبِ والحَدِيثِ وفَضْلِ الكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالكُتُبِ، ح11.
(53) الكافي للكليني: ج1، ص52، بَابُ رِوَايَةِ الكُتُبِ والحَدِيثِ وفَضْلِ الكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالكُتُبِ، ح10.
(54) الكافي للكليني: ج1، ص52، بَابُ رِوَايَةِ الكُتُبِ والحَدِيثِ وفَضْلِ الكِتَابَةِ والتَّمَسُّكِ بِالكُتُبِ، ح9.
(55) رجال النجاشي: 10/ الرقم 7.
(56) اختيار معرفة الرجال للطوسي 2: 522 - 524/ الرقم 704.
(57) اختيار معرفة الرجال للطوسي 1: 348/ الرقم 219.
(58) كمال الدين وتمام النعمة: 302.
(59) قال السيد المرعشي في (القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد: ج1، ص127-128) ما نصه: كما اختلف معناه عند السنّة والشيعة، فإنّه في مدرسة أبناء العامّة جعل الاجتهاد في عرض النصّ من الكتاب والسنّة، فيفتي أوّلاً بهما وإلَّا فبرأيه الاجتهادي ولو مثل القياس والمصالح المرسلة الظنّية التي لا تغني من الحقّ شيئاً، حتّى أدّى الأمر إن اجتهدوا في مقابل النصّ، فحرّموا ما كان حلالاً في زمن الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتحريم المتعتين، وقتلوا سيّد الشهداء سبط رسول الله الحسين بن علي (عليهما السلام) اجتهاداً من يزيد شارب الخمور سفّاك الدماء.
وعلى مثل هذا الاجتهاد بالرأي الذي امتاز به أصحاب المدرسة السنّية شنّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هجوماً عنيفاً، وتبعهم على ذلك رواتهم وأصحاب مدرسة المذهب الإمامي من العلماء الأعلام حتّى القرن السابع، إلَّا أنّ العلَّامة الحلَّي (قدّس سرّه) المتوفّى (676 هـ) هذّب الاجتهاد وفتح باباً جديداً فيه وجعله في طول النصّ، وإنّه عبارة عن عملية الاستنباط، أي استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلَّتها التفصيلية من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، ثمّ توسّع هذا الاجتهاد، ممّا أوجب التوسّع في علم أُصول الفقه الذي يبتنى عليه الفقه، لما فيه من القواعد العامّة والكبريات والعناصر المشتركة السيّالة في كلّ الفقه، وصار الاجتهاد عبارة عن عملية تفاعل بين الفقه وأُصوله من أجل استنباط الحكم الشرعي.
وكان الاجتهاد مفتوح الباب في المدرسة الشيعية، يتقدّم ويتطوّر بتقدّم العلم وتطوّر الزمان، فيزاد على ثروته العلمية والعملية، وتثرى مباحثه ومحتوياته بين آونة وأُخرى.
(60) بصائر الدرجات للصفّار: 168/ الجزء 3/ باب 13/ ح7.
(61) مستطرفات السرائر لابن إدريس: 575.
(62) مستفاد من كلمات سماحة الأستاذ السيد جعفر الحكيم (حفظه الله) في مجلس درسه في علم الكلام.
(63) الاحتجاج للطبرسي 2: 260.
(64) نهج البلاغة: ص480، ح73.
(65) مستفاد من أجوبة مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بتصرف وإضافة.
(66) المقالات والفرق للأشعري حسب نقل الشيخ محمد السند في كتابه: فقه علائم الظهور: ص22.
(67) الغيبة للشيخ الطوسي: ص412، ح385.
(68) فقه علائم الظهور للشيخ محمد السند: ص24.
(69) لمزيد اطلاع يمكن مراجعة كتاب: شذرات مهدوية للشيخ حسين الأسدي - الشذرة التاسعة: الغيبة المهدوية.
(70) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص516، ب45، ح44؛ ورواه الشيخ الطوسي في الغيبة: ص395، ح365.
(71) نهج البلاغة: ج2، ص19.
(72) الكافي للكليني: ج5، ص105، بَابُ عَمَلِ السُّلْطَانِ وجَوَائِزِهِمْ، ح4. وتمام الحديث: عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ: كَانَ لِي صَدِيقٌ مِنْ كُتَّابِ بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ لِي: اسْتَأْذِنْ لِي عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، فَاسْتَأْذَنْتُ لَه عَلَيْه، فَأَذِنَ لَه، فَلَمَّا أَنْ دَخَلَ سَلَّمَ وجَلَسَ ثُمَّ قَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنِّي كُنْتُ فِي دِيوَانِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ، فَأَصَبْتُ مِنْ دُنْيَاهُمْ مَالاً كَثِيراً، وأَغْمَضْتُ فِي مَطَالِبِه.
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): «لَوْلَا أَنَّ بَنِي أُمَيَّةَ وَجَدُوا مَنْ يَكْتُبُ لَهُمْ ويَجْبِي لَهُمُ الفَيْءَ ويُقَاتِلُ عَنْهُمْ ويَشْهَدُ جَمَاعَتَهُمْ، لَمَا سَلَبُونَا حَقَّنَا، ولَوْ تَرَكَهُمُ النَّاسُ ومَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا وَجَدُوا شَيْئاً إِلَّا مَا وَقَعَ فِي أَيْدِيهِمْ»، قَالَ: فَقَالَ الفَتَى: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَهَلْ لِي مَخْرَجٌ مِنْه؟ قَالَ (عليه السلام): «إِنْ قُلْتُ لَكَ تَفْعَلُ»؟! قَالَ: أَفْعَلُ. قَالَ (عليه السلام) لَه: «فَاخْرُجْ مِنْ جَمِيعِ مَا اكْتَسَبْتَ فِي دِيوَانِهِمْ، فَمَنْ عَرَفْتَ مِنْهُمْ رَدَدْتَ عَلَيْه مَالَه، ومَنْ لَمْ تَعْرِفْ تَصَدَّقْتَ بِه، وأَنَا أَضْمَنُ لَكَ عَلَى الله (عزَّ وجلَّ) الجَنَّةَ»، قَالَ: فَأَطْرَقَ الفَتَى رَأْسَه طَوِيلاً ثُمَّ قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَمْزَةَ: فَرَجَعَ الفَتَى مَعَنَا إِلَى الكُوفَةِ، فَمَا تَرَكَ شَيْئاً عَلَى وَجْه الأَرْضِ إِلَّا خَرَجَ مِنْه، حَتَّى ثِيَابَه الَّتِي كَانَتْ عَلَى بَدَنِه. قَالَ: فَقَسَمْتُ لَه قِسْمَةً واشْتَرَيْنَا لَه ثِيَاباً وبَعَثْنَا إِلَيْه بِنَفَقَةٍ. قَالَ: فَمَا أَتَى عَلَيْه إِلَّا أَشْهُرٌ قَلَائِلُ حَتَّى مَرِضَ، فَكُنَّا نَعُودُه، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْه يَوْماً وهُوَ فِي السَّوْقِ، قَالَ: فَفَتَحَ عَيْنَيْه ثُمَّ قَالَ لِي: يَا عَلِيُّ، وَفَى لِي واللهِ صَاحِبُكَ. قَالَ: ثُمَّ مَاتَ، فَتَوَلَّيْنَا أَمْرَه، فَخَرَجْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيَّ قَالَ (عليه السلام): «يَا عَلِيُّ، وَفَيْنَا واللهِ لِصَاحِبِكَ»، قَالَ: فَقُلْتُ: صَدَقْتَ جُعِلْتُ فِدَاكَ، هَكَذَا واللهِ قَالَ لِي عِنْدَ مَوْتِه.
(73) جاض - بالجيم والضاد - وقد يقرأ - بالحاء والصاد المهملتين - وكلاهما بمعنى الحيود والزيغ. كذا ذكره السيد الداماد في الرواشح. وقال المجلسي (رحمه الله) بعد نقل الخبر عن رجال الكشي: جاض عنه: حاد ومال وفى بعض النسخ بالحاء والصاد المهملتين بمعناه وحاصوا عن العدو: انهزموا. انتهى. والخبر في رجال الكشي ص8. [هامش المصدر].
(74) في القاموس: لببه أي جمع ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جره. ا ه. ووجأ يوجأ وجاء فلاناً بالسكين أو بيده: ضربه في أي موضع كان، فهو موجوء. والسلعة كما مر - بالكسر - كالغدة في الجسد ويفتح ويحرك أو غدة فيها أو زيادة في البدن كالغدة تتحرك إذا حركت. على ما في القاموس. [هامش المصدر].
(75) الكافي للكليني: ج2، ص244، بَابٌ فِي قِلَّةِ عَدَدِ المُؤْمِنِينَ، ح6.
(76) تحف العقول للحراني: ص308.
(77) الأخبار الطوال لابن قتيبة الدينوري: ص220-221.
(78) تفسير العياشي لمحمد بن مسعود العياشي: ج1، ص258، ح196.
(79) تحف العقول للحراني: ص245.
(80) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: ص73.
(81) الكافي للكليني: ج2، ص242-243، بَابٌ فِي قِلَّةِ عَدَدِ المُؤْمِنِينَ، ح4.
(82) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب (ج 3/ ص362 و363)؛ ومدينة المعاجز للسيِّد هاشم البحراني (ج 6/ ص114-116/ ح1891/321).
(83) الغيبة للنعماني: 182 و183/ باب 10/ فصل 4/ ح20.
(84) الاحتجاج 2: 325.
(85) كمال الدين: 516/ باب 45/ ح44.