دابة الأرض - قراءة في الحقيقة والصفات
دابة الأرض
قراءة في الحقيقة والصفات
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
مقدمة:
1 - تعد القضية المهدوية من القضايا الإسلامية الثرية المنابع والمصادر والنصوص، وهي من أهم القضايا التي ذكرت مسائلها ونصوصها جميعُ المذاهب الإسلامية بل وغير الإسلامية، بل وحتى غير الدينية السماوية، وهي بذلك تفتح باب البحث العلمي أمام الباحث، إذ يجد فيها ما يسدُّ شغفه العلمي.
نعم هي - أي النصوص - لم تشبع جميع المسائل المتعلقة بالبيان التفصيلي، لكنها على كل حال كثيرة ومتنوعة.
إن كثرة النصوص المهدوية في الوقت الذي توفر مادة البحث العلمي، هي تضفي تعقيداً من نوع آخر على البحث، من جهة أن التراث الواصل إلينا - مما يتعلق بها، حاله حال عموم التراث الإسلامي - لم يأت عن طريق أهل البيت (عليهم السلام) فقط، فالكثير - إن لم يكن أغلب - ما ورد فيها في كتب العامة مبتلى بضعف السند، كونه لم يرو عن المعصوم، بل هناك الكثير من النصوص الضعيفة حتّى على مباني القوم، وبعضها موضوع مكذوب على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم).
وهذا يقتضي جهداً استثنائياً من الباحث لفرز النصوص ومعالجتها.
إلّا أنه رغم ذلك نجد أن هناك مسائل مهدوية عديدة اتَّفقت النصوص على كلياتها، وإن اختلفت في بعض تفصيلاتها، ومن تلك المسائل هي مسألة (دابة الأرض) التي تخرج في آخر الزمان، وهي الدابة التي تحدث عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ﴾ (النمل: 82).
قال في أشراط الساعة الكبرى(1): وخروج هذه الدابة لا مرية فيه فهو ثابت بالكتاب والسنة، أمّا الكتاب فقول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ﴾ (النمل: 82).
أمّا الأحاديث فهي كثيرة سبق منها... حديث حذيفة بن أسيد الغفاري قال: اطلع النبي [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] علينا ونحن نتذاكر، فقال: «ما تذاكرون»؟ قالوا: نذكر الساعة، قال: «إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات»، وذكر منهن الدابة.
وفي المسند من حديث أبي أمامة يرفعه إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: «تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم(2) ثم يعمّرون فيكم حتّى يشتري الرجل البعير فيقول: ممن اشتريته؟ فيقول: اشتريته من أحد المخطمين»(3).
2 - من العقائد الممكنة في حدّ نفسها، والتي دلّ الدليل النقلي على وقوعها فيما مضى، وعلى وقوعها في المستقبل، هي عقيدة الرجعة، والتي تعني باختصار: أن الله تعالى يحيي بعض الموتى ليرجعهم إلى الحياة في هذه الدنيا، لهدف ولآخر، ثم بعد أن يستوفوا الفترة المقررة لهم، يموتون مرة أخرى.
هذه العقيدة ليست مستحيلة على قدرة الله تعالى، ولا دليل يدل على امتناعها، بل الدليل على إمكانها بل ووقوعها، وقد بُحثت بالتفصيل في علم الكلام، ونأخذها هنا كأصل موضوعي.
ودابة الأرض - على الصحيح المستفاد من نصوص أهل البيت (عليهم السلام) وبقية الأدلة التي سنذكرها في محلها إن شاء الله تعالى - هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا يعني أنه (عليه السلام) سيكون من الراجعين في آخر الزمان، ولا مانع عقلياً ولا نقلياً من هذا المعنى.
3 - إن القرآن الكريم لم ينزل بلغة خاصة به، أو بأسلوب لا يعرفه العرب، وإنما هو كتاب نزل باللغة العربية، واستعمل نفس الأساليب العربية، ولذا تجد فيه المجاز، والكناية، والتصريح والإضمار، واعتمد القرائن المتصلة والمنفصلة في بيان مطالبه، وغيرها من أساليب اللغة العربية.
وهذا يعني: أن فهمه يقتضي الرجوع إلى اللغة العربية وأساليبها ومعاجمها لفهم ظواهره، بل ومراداته الجدية في بعض الأحيان.
4 - إن اللغة العربية لغة متحركة، بمعنى أن لفظاً ما قد يكون مستعملاً في معنى، ولكنه يتغير معناه بمرور الزمن، بأن يضيق معناه المدلول له، أو يتسع، أو حتى قد يُستعمل في غير ما وُضع له.
وهذا يعني أننا وإن كنا نرجع إلى قوانين اللغة العربية في فهم المعنى المراد من لفظ ما، ولكن علينا أن ننتبه إلى حقيقة، وهي: أن اللفظ قد يكون له معنى لغوي معين نجده في القواميس اللغوية، ولكن وبعد مرور فترة من الزمن، يكتسب ذلك اللفظ معنى جديداً مضافاً إلى معناه اللغوي، أو ربما لا يمتّ إلى المعنى اللغوي بصلة، ومن أمثلة ذلك لفظ (العصابة)، فأي واحد منا اليوم إذا سمع لفظ (عصابة)، فإنه يتبادر إلى ذهنه معنى سلبي تماماً يحكي عن مجموعة من قطّاع الطرق أو المجرمين، ولكن لو رجعنا إلى القواميس اللغوية لوجدنا أن معناها هو فقط: (الجماعة من الناس والخيل والطير)(4) (والعُصْبةُ والعِصابةُ: جماعةُ ما بين العَشَرة إِلى الأَربعين)(5).
ومن ذلك أيضاً لفظ (الحيوان) حيث إنه وضع للدلالة على كل ما يدبّ على الأرض، ولكن اليوم حصل في معناه زحاف واضح بحيث صار يُستعمل في غير الإنسان، أي أنه حصل تضييق في مفهومه بإخراج الإنسان منه.
وهذا يعني: أنه إذا ورد لفظ ما في نص شرعي، فلابد أن نرجع إلى زمن صدور النص لنعرف ما هو المعنى الذي كان يُستعمل فيه اللفظ آنذاك، ونفسّر اللفظ بالمعنى المقصود في ذلك الزمن، والذي قد يكون هو نفس المعنى المستعمل في زمننا، وقد يكون غيره كما أوضحنا.
5 - إن النصوص التي تعرضت لذكر الدابة كثيرة، والملاحظ فيها أنّ كماً معتداً به ورد في روايات العامة، وهي ضعيفة السند، ولكننا سنتعرض لها لأجل:
1 - أنها على كل حال تمثل تراثاً روائياً لا مانع من الاطلاع عليه.
2 - أنها تنفع في محاججة الطرف الآخر بطريقة الإلزام.
3 - أن بعضها يحتوي على تفاصيل لم ترد في رواياتنا الخاصة.
4 - أنها تتفق مع رواياتنا الخاصة في ذكر أصل مسألة الدابة.
بناءً على كل ما تقدم، فإن البحث عن (دابة الأرض) التي ذكرتها الآية الكريمة، يقتضي أولاً البحث في النصوص الواردة فيها، ثم العمل على فهم المقصود منها وبيان ماهيتها بالرجوع إلى النصوص المفسرة، وتقويته من خلال تأييد معاجم اللغة العربية في مدلول لفظ (الدابة).
فهنا نقاط عديدة:
النقطة الأولى: أن الدابة من علامات الساعة:
نصوص عديدة تصرح بأن هناك علامات تسبق القيامة، وإن اختلفت في عددها، بعضها أطلقت عليها عنوان (الآيات)، وبعضها (العلامات)، وبعضها (الأشراط)، وكثير من تلك النصوص تؤكد على أن واحدةً منها هي دابة الأرض، من قبيل:
مرسلة أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: ﴿إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً﴾ (الأنعام: 37): «وسيريكم في آخر الزمان آيات، منها دابة في الأرض، والدجال، ونزول عيسى بن مريم (عليه السلام) وطلوع الشمس من مغربها...»(6).
وروي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنَّه قال: «إِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَ اَلسَّاعَةَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ: طُلُوعَ اَلشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَاَلدَّجَّالَ، وَدَابَّةَ الأَرْضِ، وَثَلَاثَةَ خُسُوفٍ فِي الأَرْضِ: خَسْفٌ بِالمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ العَرَبِ، وَخُرُوجُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ (عليه السلام)، وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَتَكُونُ فِي آخِرِ اَلزَّمَانِ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ اليَمَنِ مِنْ قَعْرِ الأَرْضِ لَا تَدَعُ خَلْفَهَا أَحَداً، تَسُوقُ اَلنَّاسَ إِلَى اَلمَحْشَرِ، كُلَّمَا قَامُوا قَامَتْ لَهُمْ تَسُوقُهُمْ إِلَى اَلمَحْشَرِ»(7).
الملاحظ أن هذا النص ذكر تسع آيات، ولعل العاشرة سقطت أثناء النقل أو النسخ.
قال البيهقي: أمّا انتهاء الحياة الأولى فإن لها مقدمات تسمى أشراط الساعة وهي أعلامها منها خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم (عليه السلام) وقتله الدجال ومنها خروج يأجوج ومأجوج ومنها خروج دابة الأرض ومنها طلوع الشمس من مغربها فهذه هي الآيات العظام(8).
وقال ابن أبي الحديد في معرض حديثه عن ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): (... وتبدو أشراط الساعة، وتظهر دابة الأرض...)(9).
والحاصل: أن كون (خروج دابة الأرض) من علامات الساعة أمرٌ متفق عليه بين الخاصة والعامة.
النقطة الثانية: موضع خروج الدابة:
لم أجد في رواياتنا الخاصة اهتماماً كبيراً بتحديد مكان خروج الدابة، ولعله لأجل أنه ليس أمراً مهماً بقدر ما هو مهم التركيز على أصل خروج الدابة وبيان ماهيتها، بمعنى أن رواياتنا ركزت على إثبات ماهية الدابة أكثر من التفاصيل الأخرى، إذ هي حسب نصوصنا - كما سيأتي - أمير المؤمنين (عليه السلام)، سواء أكان خروجه من مكة أم موضع دفنه في النجف الأشرف أم أي مكان آخر.
إن قلت:
إن الطابع العام للروايات المهدوية هو بيان أدق التفاصيل المتعلقة بالقضية المهدوية، فهذه الروايات التي ذكرت أدق تفاصيل صفات الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) الخُلُقية والخَلْقية، وتفاصيل ثواب المنتظرين والانتظار، وما يتعلق بعلامات الظهور، فلماذا اختلف الأسلوب هنا؟
قلت:
أولاً: لا نسلم أن الطابع العام للروايات المهدوية هو ذلك، بل المسألة تختلف من مورد لآخر، فهناك من الشخصيات المهمة في القضية المهدوية لم يرد في حقها الكثير من التفاصيل، كاليماني، وشعيب بن صالح، والخراساني.
ثانياً: أشرنا إلى أن الأمر المهم في الدابة ليس هو مكان خروجها، بقدر ما هو مهم بيان ماهيتها، وهذا هو ما ركزت عليه نصوصنا الخاصة، فبينا تجد النصوص العامية اهتمت كثيراً بذكر التفاصيل - وبعضها أقرب إلى الأساطير منه إلى الرواية -، تجد نصوصنا الخاصة اهتمت ببيان ماهيتها، وبينا تجد الروايات العامية تركز على أن الدابة مجرد حيوان غير عاقل، إلّا أنه تصدر منه أفعال العقلاء - وهذا ما كان أحد مؤشرات بل أدلة بطلان هذا القول -، تجد نصوصنا تركز على أن الدابة هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، الإنسان الكامل المعصوم، وفرق بين الأمرين كما هو واضح.
وثالثاً: ولو سلّمنا أن التفاصيل المتعلقة بدابة الأرض ضرورية، وأنه لابد من ذكر تفاصيلها، فيمكن القول: لعل النصوص الخاصة ذكرت تلك التفاصيل، ولكنها لم تصل إلينا لسبب ولآخر، كالتقية، وإحراق الكتب، وضياعها، وما شابه من الأسباب التي ذكروها في محلها.
رابعاً: ورغم هذا، فإننا إذا عدمنا التركيز على مكان خروجها، فإنا لا نعدم بعض النصوص الخاصة التي ذكرت ذلك ولو من دون تأكد أو تركيز شديد، من قبيل ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «خروج دابة (من) الأرض من عند الصفا، معها خاتم سليمان بن داود، وعصى موسى (عليهم السلام)...»(10).
ورواية علي بن مهزيار الأهوازي: «... تخرج دابة الأرض من بين الصفا والمروة، ومعه عصا موسى وخاتم سليمان، يسوق الناس إلى المحشر»(11).
هذا، وأمّا روايات العامة، فقد اتفقت العديد من النصوص على خروجها من مكة المكرمة.
من قبيل ما رواه ابن أبي شيبة بسنده عن سماك عن إبراهيم قال: «دابة الأرض تخرج من مكة»(12).
ولكنها اختلفت في تحديد المكان بالضبط:
1 - بعضها حددت مكان خروجها من جبل الصفا: فقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن عطية عن ابن عمرو: «تخرج الدابة من صدع في الصفا...»(13).
والصفا هو الجبل المعروف في مكة، والصدع: الشقّ في شيء صلب(14).
وعن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنه قال: «إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجداً ينادي: إلهي، مرني أن أسجد لمن شئت، قال فتجتمع إليه زبانيته، فيقولون: يا سيدهم، ما هذا التضرع؟ فيقول: أنا سألت ربي (عزَّ وجلَّ) أن ينظرني إلى يوم الوقت المعلوم، وهذا الوقت المعلوم، ثم تخرج دابة الأرض من صدع في الصفا أول خطوة تضعها في أنطاكية فتأتي إبليس فتلطمه»(15).
وهذه الرواية غير معقولة ومربطة المعنى، فكيف يكون خروج الدابة من جبل الصفا في مكة المكرمة، وتكون أول خطوة لها في أنطاكية، وهي حالياً مدينة تركية؟!
وسترى كثيراً من روايات العامة في هذا الشأن فيها من الغرابة ما هو أكثر من هذا.
وفي رواية عقد الدرر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ذكر الدابة قال: ألا وينشر الصفا، وتُخرِجُ منه الدابةُ أولَ رأسِها، ذات وبر وريش، فيها من كل الألوان، معها عصا موسى (عليه السلام)، وخاتم سليمان (عليه السلام)، تسم المؤمن مؤمناً، وتسم الكافر كافراً، تنكت وجه المؤمن بالعصا فتتركه أبيض، وتنكت وجه الكافر بالخاتم، فتتركه أسود، فلا يبقى أحد في سوق ولا برية، إلّا وسمت وجهه(16).
لاحظ أن هذه الرواية العامية(17) في الوقت الذي أكدت على أن الدابة حيوان غير عاقل، هي تصفها بأوصاف متضادة، فكيف تكون الدابة ذات شعر ووبر، ومعلوم أن ذوات الريش من الطيور، وهي تختلف عن ذوات الوبر من الدواب، ثم كيف تصدر منها أفعال لا تصدر إلّا من العقلاء، بل من الأولياء والكُمَّل من البشر؟! إذ إنها تصرح بأن الدابة تعرف المؤمن من الكافر، وهذا ما لا يُتاح إلّا للأولياء الذين ينظرون بعين الله تعالى، فاحفظ هذا المعنى، ولا تغفل عنه، لأنه سينفعنا في تحديد ماهية الدابة.
ومثل هذا التعليق يرد على أكثر الروايات العامية الواردة في شأن الدابة.
2 - وبعضها أنها تخرج من شعب في جبل أجياد القريب من المسجد الحرام، فقد روى المروزي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: تخرج الدابة من شعب بالأجياد...(18).
نعم، ورد في نصٍّ أنها تخرج من جبل حياد: فعن عبد الله بن عمرو، قال: تخرج الدابة من جبل حياد أيام التشريق والناس بمنى...(19).
وهو خطأ في النسخ، إذ لم نجد جبلاً في مكة أو غيرها باسم (حياد) ويبدو أن المقصود هو (أجياد)، وقد يكون الصحيح لفظ (جياد).
فهذه النصوص اتَّفقت على خروجها من مكة المكرمة، وربما الاختلاف المذكور مغتفر لقرب الأماكن المذكورة بعضها من البعض الآخر.
3 - وهناك رواية عبرت بأنها تخرج من أعظم المساجد، في إشارة إلى المسجد الحرام، وهي لا تختلف مع السابقات كما هو واضح في أن الدابة تخرج من مكة المكرمة.
ففي رواية الطبراني بسنده عن حذيفة بن أسيد - أراه رفعه - قال: تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة، فبينا هم قعود إذ رنت الأرض، فبينا هم كذلك إذ تصدعت(20).
4 - عبرت رواية بأنها تخرج من بادية قرب مكة، فقد روى أحمد بسنده عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: ذهب بي رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] إلى موضع بالبادية قريباً من مكة فإذا أرض يابسة حولها رمل، فقال رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] تخرج الدابة من هذا الموضع فإذا فتر في شبر(21).
تخريج الاختلاف في تحديد مكان الدابة:
رأينا أن النصوص مختلفة في تحديد مكان خروج الدابة بالضبط، وهذا الاختلاف يُحتمل فيه أمران:
الأمر الأول: أن يُحمل على أن الدابة تخرج عدة خرجات بالرجعة، أي إنها ترجع أكثر من مرة، وفي كل مرة تخرج في مكان يختلف عن السابق، وهو ما ربما يُستفاد من أمرين:
الأول: ما رواه ابن أبي شيبة الكوفي في مصنفه بسنده عن حذيفة، قال: تخرج الدابة مرتين قبل يوم القيامة حتى يضرب فيها رجال، ثم تخرج الثالثة عند أعظم مساجدكم، فتأتي القوم وهم مجتمعون عند رجل فتقول: ما يجمعكم عند عدو الله، فيبتدرون فتسم الكافر حتى أن الرجلين ليتبايعان، فيقول هذا: خذ يا مؤمن، ويقول هذا: خذ يا كافر(22).
الثاني: بناءً على الصحيح من كون الدابة هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيُستفاد هذا الوجه من الحمل من النصوص الخاصة التي دلت على أن أمير المؤمنين (عليه السلام) يرجع عدة مرات، من قبيل ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «... وإِنِّي لَصَاحِبُ الكَرَّاتِ ودَوْلَةِ الدُّوَلِ وإِنِّي لَصَاحِبُ العَصَا والمِيسَمِ والدَّابَّةُ الَّتِي تُكَلِّمُ النَّاسَ...»(23).
الأمر الثاني: أن يُحمل على أن المراد من خروج الدابة في عدة أماكن هو تواجدها فيها، بأن يكون لها تواجد رسمي مثلاً في مكان ما، ثم تتواجد في مكان آخر وتصدر منها أفعال معينة تختلف أو تُشابه أفعالها في المكان السابق، وهكذا، وهو ما ربما يُستفاد من رواية السيوطي قال: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)]: تخرج دابة الأرض ولها ثلاث خرجات فأول خرجة منها بأرض البادية والثانية في أعظم المساجد وأشرفها وأكرمها ولها عنق مشرف يراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب ولها وجه كوجه إنسان ومنقار كمنقار الطير ذات وير وزغب معها عصا موسى وخاتم سليمان بن داود تنادى بأعلى صوتها أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، ثم بكى رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] قيل: يا رسول الله وما بعد؟ قال: هنات وهنات ثم خصب وريف حتى الساعة(24).
والملاحظ أن هذا النص لم يذكر الخرجة الثالثة، اللهم إلّا أن يكون لفظ (هنات وهنات ثم خصب وريف حتى الساعة) إشارة لها، وليس هذا بالأمر المهم في المقام.
وفي هذا المعنى أيضاً روى المروزي بسنده عن أبي سريحة قال: قال رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)]: «للدابة ثلاث خرجات من الدهر تخرج خرجة في أقصى اليمن فيفشو ذكرها في أهل البادية فلا يدخل ذكرها القرية يعني مكة ثم تمكث زماناً طويلاً بعد ذلك ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ثم تمكث زماناً طويلاً ثم بينما الناس ذات يوم في أعظم المساجد عند الله تعالى حرمة وخيرها وأكرمها على الله مسجداً مسجد الحرام لم يرعهم إلّا ناحية المسجد يربو ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج إلى المسجد فأرفض الناس لها تبثيثاً وتثبت لها عصابة من المسلمين وعرفوا أنهم لن يعجزوا الله خرجت عليهم تنفض عن رأسها التراب فبدت بهم فجلت وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب حتى أن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول أي فلان الآن تصلي فيقبل عليه بوجهه فتسمه في وجهه ثم تذهب فيتجاور الناس في ديارهم ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال ويعرف الكافر من المؤمن حتى أن الكافر ليقول للمؤمن يا مؤمن اقضي حقي ويقول المؤمن للكافر يا كافر اقضي حقي»(25).
النقطة الثالثة: وقت خروج الدابة:
ذكرت النصوص العامية وقتين لخروجها:
الوقت الأول: أنها تخرج ضحى:
فقد روى أحمد بن حنبل في مسنده بسنده عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: «إنَّ أوَّل الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابَّة ضحى، فأيَّتهما ما كانت قبل صاحبتها فالأُخرى على إثرها»(26).
وروى مسلم في صحيحه عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «إنَّ أوَّل الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابَّة على الناس ضحى، وأيّهما ما كانت قبل صاحبتها فالأُخرى على إثرها قريباً»(27).
إشارة: هل تخرج الدابة قبل أو بعد طلوع الشمس من مغربها؟
أشار النصان المتقدمان إلى إمكان أن تخرج قبل أو بعد طلوع الشمس من مغربها، إذ عبرا: (فأيَّتهما ما كانت قبل صاحبتها فالأُخرى على إثرها).
ولكن هناك نص للمروزي يبدو منه أن خروجها بعد طلوع الشمس، إذ روى بسندِه عنِ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: «خروجُ الدّابّةِ بعدَ طلوعِ الشّمسِ...»(28)، ولعل رواية نعيم ذكرت أحد الفردين الممكنين، أو الفرد الذي سيتحقق فعلاً بعلم الله تعالى.
ويمكن تأكيد خروجها بعد طلوع الشمس من مغربها بما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «خروج دابة (من) الأرض من عند الصفا... ثم ترفع الدابة رأسها فيراها من بين الخافقين بإذن الله (عزَّ وجلَّ) وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك ترفع التوبة، فلا توبة تقبل ولا عمل يرفع ﴿لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً﴾ [الأنعام: 158]...»(29).
الوقت الثاني: أنها تخرج ليلة (جُمع) مزدلفة:
يعني ليلة العاشر من ذي الحجة، فقد روى المروزي بسنده عن ابن عمر، قال: تخرج الدابة ليلة جمع يسيرون إلى جمع فتخرج الدابة وعنقها ذكر من طوله فلا تدع منافقاً إلّا خطمته(30).
وفي لفظ الطبري بسنده عن ابن عمر: يبيت الناس يسيرون إلى جمع، وتبيت دابة الأرض تسايرهم، فيصبحون وقد خطمتهم من رأسها وذنبها، فما من مؤمن إلّا مسحته، ولا من كافر ولا منافق إلّا تخبطه(31).
النقطة الرابعة: صفات الدابة:
تبين - وسيتبين - أن نصوصنا الروائية ركزت كثيراً على ماهية الدابة، وعلى ما تفعله بعد خروجها، ولم تعدم شيئاً ولو إجمالياً عن صفاتها.
أمّا روايات العامة، فقد صرحت بالكثير من صفاتها، وهي على نحو الإجمال:
الصفة الأولى: أنها دابة عملاقة:
فرأسها يمس السحاب على ما رواه المروزي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: تخرج الدابة من شعب بالأجياد رأسها يمس السحاب وما خرجت رجلاها من الأرض حتى تأتي الرجل وهو يصلي، فتقول ما الصلاة من حاجتك ما هذا إلّا تعوذا ورياء فتخطمه(32).
وأول خطوة تضعها في أنطاكية على ما رووه عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «... تخرج دابة الأرض من صدع في الصفا أول خطوة تضعها في أنطاكية فتأتي إبليس فتلطمه»(33).
وأن عنقها طويل جداً، ففي رواية السيوطي عن ابن عباس قال: قال رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)]: «تخرج دابة الأرض... ولها عنق مشرف يراها من بالمشرق كما يراها من بالمغرب...»(34).
الصفة الثانية: أنها ملمعة:
ففي رواية حذيفة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم):... وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة...(35).
قال الحربي في غريب الحديث: والملمع: التي أشرق ضرعها للحلب(36).
وقال الجوهري: والملمع من الخيل: الذي يكون في جسده بقع تخالف سائر لونه(37).
ولا أدري ماذا يقصدون من كون الدابة ملمعة، هل المعنى الأول أو الثاني؟
وعلى كل حال، فمثل هذه الصفات هي صفات للدواب الحيوانية، وهو ما لا يتناسب مع ما يصدر من الدابة من أفعال لا تصدر إلّا من الأولياء، كما تقدمت الإشارة إليه وسيأتي الحديث عنه.
الصفة الثالثة: أنها ذات ريش ووبر:
وهذا من غرائب ما وصفوا به الدابة، ففي رواية حذيفة المتقدمة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «... وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش...»(38).
الصفة الرابعة: أنها سريعة جداً بحيث لا يفوتها مطلوب لها:
ففي رواية حذيفة عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «... وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش، لم يدركها طالب، ولن يفوتها هارب...»(39).
وفي بعض النصوص ما ربما يُشير إلى العلة وراء هذه الصفة، وأنها ذات سلطان من الله تعالى، فقد روى المتقي الهندي عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «... كذلك أمتي عند خروج الدابة لا يفر منها أحد إلّا مثلت بين عينيه، ولها سلطان من ربنا عظيم»(40).
الصفة الخامسة: أن لها وجهاً كوجه الإنسان، ومنقاراً كمنقار الطير:
فقد روى السيوطي عن ابن عباس قال: قال رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)]: «تخرج دابة الأرض... ولها وجه كوجه إنسان ومنقار كمنقار الطير...»(41).
الصفة السادسة: فيها من كل الألوان:
ففي رواية عقد الدرر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ذكر الدابة قال: «ألا وينشر الصفا، وتُخرِجُ منه الدابةُ أولَ رأسِها، ذات وبر وريش، فيها من كل الألوان...»(42).
ولا ندري ما المقصود من (كل الألوان)، أهو المعنى الحقيقي، بحيث تكون الدابة ملونة بأكثر من اثني عشر لوناً (وهي الألوان الرئيسية كما يقولون في هذا الفن)، وربما كانت الألوان مع تدرجاتها تزيد على العشرات بل المئات، ولعمري كيف سيكون شكل الدابة آنذاك!
أو أن المقصود الكناية عن جمال الدابة، أو عن أمر آخر، لم يُبين في النص، ولا أستطيع تبيّن حقيقته!
ويبدو أن الروايات العامية كانت في صدد رسم دابة فيها من كل حيوان صفة، ليتوهم القارئ للنصوص حيواناً خرافياً أغرب من (العنقاء) وأضخم من (الديناصور) وأسرع من (الفهد) و...
انظر إلى ما ذكره السمرقندي في تفسيره قال: وروى ابن جريج عن أبي الزبير، قال: رأسها رأس ثور وعيناها عينا خنزير وأذناها أذنا فيل وقرناها قرنا أيل وعنقها عنق نعامة وصدرها صدر أسد ولونها لون نمر وخاصرتها خاصرة هرة وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصلين منها اثني عشر ذراعاً بذراع آدم (عليه السلام)...(43).
ولربما سيجيبك من تسأله عن ذلك بأن الدابة من عجائب خلق الله تعالى، والله تعالى لا يُسأل عما يفعل!
وعتبنا على العقول التي تقبلت مثل هذه الروايات، كيف غفلت عن أن الدين الإسلامي هو دين الوضوح والبيان والتأمل، هو دين خاطب العقول وجعلها محور التكليف، أفهل يتقبل العقل مثل هذه الصفات لحيوان ضبابي غريب لم نسمع به حتى في أساطير القصاصين؟!
ولذلك فرّ بعضهم من تلك النصوص المضحكة للثكلى بقوله: (ولم يرد في السنة النبوية الصحيحة ما يحدد أوصاف هذه الدابة، ولا مكان خروجها ولا كيفية خروجها(44) ولذلك نكل علم وصف هذه الدابة وكيفياتها إلى عالم السر سبحانه وتعالى، ولعل في إبهامها زيادة تفخيم لها وتخويف منها(45)، ووردت بعض الأقوال في صفة ومخرج الدابة قال عنها ابن كثير: فهذه أقوال متعارضة، فالله أعلم(46))(47).
وقال بعد ذلك: (وبالعموم فخروج الدابة على شكل غير مألوف للناس ومخاطبتها إياهم ووسمها لأهل الإيمان ولأهل الكفر، كل ذلك خرج عن مجاري العادات(48)، وهو آية من آيات الله حذرنا الله (عزَّ وجلَّ) ورسوله [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] إياها، وأمرنا بالمبادرة بالأعمال قبل خروجها، فعن أبي هريرة عن النبي [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] قال:... بادروا بالأعمال ستاً: الدجال، والدخان، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة(49)، وخويصة أحدكم.(50))(51).
النقطة الخامسة: ما يكون مع الدابة:
اتَّفقت الروايات العامية والخاصة على أن الدابة تخرج ومعها موروثان من مواريث الأنبياء، وهما: عصا موسى، وخاتم سليمان.
فمن الخاصة ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «خروج دابة (من) الأرض من عند الصفا، معها خاتم سليمان بن داود، وعصى موسى (عليهم السلام)...»(52).
ومن روايات العامة ما رواه في عقد الدرر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ذكر الدابة قال: «ألا وينشر الصفا، وتُخرِجُ منه الدابةُ أولَ رأسِها، ذات وبر وريش، فيها من كل الألوان، معها عصا موسى (عليه السلام)، وخاتم سليمان (عليه السلام)...»(53).
أمّا عصا موسى (عليه السلام): فهي - كما في رواية أبي عبد الله (عليه السلام) - «قَضِيبُ آسٍ مِنْ غَرْسِ الجَنَّةِ، أَتَاهُ بِهَا جَبْرَئِيلُ (عليه السلام) لَـمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ، وَهِيَ وَتَابُوتُ آدَمَ فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، ولن يبليا، ولن يتغيرا حتى يخرجهما القائم (عليه السلام) إذا قام»(54).
وجاء في رواية أُخرى عن الإمام محمد بن علي (عليه السلام) قال كان عصى موسى لآدم فصارت إلى شعيب ثم صارت إلى موسى بن عمران وأنها لعندنا وأن عهدي بها آنفاً وهي خضراء كهيئتها حين انتزعت من شجرها وأنها لتنطق إذا استنطقت أعدت لقائمنا ليصنع كما كان موسى يصنع بها وأنها لتروع وتلقف(55).
وفي نقل الإمامة والتبصرة:.... وإنها تصنع ما تؤمر، وإنها حيث ألقيت تلقف ما يأفكون بلسانها...(56).
وأمّا عن خاتم سليمان (عليه السلام)، فهو الخاتم الذي مَلَكَ به سليمان النبيُّ (عليه السلام) مشارق الأرض ومغاربها، وروي أنَّ نقشه (أنا الله لا إله إلَّا أنا، محمّد عبدي ورسولي)(57).
وهو من مواريث الأنبياء (عليهم السلام)، وقد جاء في الروايات أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عندما يخرج، سيكون عنده خاتم سليمان (عليه السلام)، ففي رواية عن الريان بن الصلت عن الإمام الرضا (عليه السلام)أنه قال:... وإن القائم... يكون معه عصا موسى، وخاتم سليمان (عليهما السلام)...»(58).
هذه النصوص تقول بأن العصا - وكذا الخاتم - مذخوران للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ولا يتعارض هذا مع كون الدابة تخرج ومعها العصا وخاتم سليمان، إذ ربما يُعطيها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لأمير المؤمنين (عليه السلام) قبل خروجه علناً للناس، فيخرج والعصا والخاتم معه، سواء كان إعطاؤه العصا بطريق غيبي أو مادي.
وقد أشارت بعض نصوصنا إلى أن الدابة ستستعمل الخاتم في وسم المؤمن والكافر، ففي رواية الشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «خروج دابة (من) الأرض من عند الصفا، معها خاتم سليمان بن داود، وعصى موسى (عليهم السلام)، يضع الخاتم على وجه كل مؤمن فينطبع فيه: هذا مؤمن حقاً، ويضعه على وجه كل كافر فينكتب هذا كافر حقاً...»(59).
إشارة:
إنَّ وجود هذين الموروثين لدى دابة الأرض يرمز إلى القوة والحكم، فإن عصا موسى كانت رمز قوته وانتصاره على السحرة، وبها شق البحر، وفجّر من الصخور عيوناً، وحكم سليمان (عليه السلام) الأرض بخاتمه، وهذا المعنى هو ما أشار له الشيرازي في تفسيره بقوله: وهذا التعبير الوارد في الروايات الإسلامية بأن معه عصا موسى (عليه السلام) التي هي رمز القوة والانتصار، وخاتم سليمان (عليه السلام) الذي يرمز للحكومة الإلهية، قرينة على أن دابة الأرض إنسان نشط فعال فوق العادة...(60)!
النقطة السادسة: أفعال الدابة:
ذكرت النصوص عدة أفعال تقوم بها الدابة، وهي:
الفعل الأول: (تكلمهم):
نصت القرآن الكريم على أن دابة الأرض تكلم الناس، قال تعالى: ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ﴾ (النمل: 82).
وفي معنى (تكلمهم) تفسيران:
التفسير الأول: أنها تُكَلّمهم:
من الكلام، أي المحاججة، فالدابة تخرج تحاجج الناس، وعليه ظاهر القراءة في المصحف.
وقد روي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «انتهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو نائم في المسجد قد جمع رملاً ووضع رأسه عليه، فحرَّكه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) برجله، ثم قال: يا دابة الله فقال رجل من أصحابه يا رسول الله أيسمى بعضنا بعضاً بهذا الاسم، فقال: لا والله ما هو إلّا له خاصة وهو الدابة التي ذكر الله تعالى في كتابه: ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ﴾ ثم قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعدائك، فقال الرجل لأبي عبد الله (عليه السلام): إن العامة يقولون: هذه الآية إنما تَكْلِمُهم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كلمهم الله في نار جهنم إنما هو تُكَلِّمُهم من الكلام»(61).
فالرواية صريحة في أن الإمام (عليه السلام) يفسر (تُكَلِّمُهم) من الكلام، لا من الكَلْم وهو الجرح.
التفسير الثاني: أنها تَكْلِمُهم أي تجرحهم:
قال الفيض الكاشاني: وقرئ تكلمهم بالتخفيف من الكلم بمعنى الجرح(62).
وربما تشير إليه النصوص التي نصَّت على أن الدابة تسم المؤمن والكافر، فإنها بذلك تجرحهم، إذ إن الوسم هو الكي الذي يترك علامة على الوجه - كما سيأتي -، ومعه، فإن الدابة تكْلم الكافر وتجرحه.
ويمكن الجمع: بأن الدابة تعمل كلا الأمرين، فهي تحاجج الناس، وتكْلم الكافر والمنافق.
الفعل الثاني: قتل إبليس:
جاء ذلك فيما رواه نعيمٌ بنُ حمّاد بسندِه عنِ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قالَ: «خروجُ الدّابّةِ بعدَ طلوعِ الشّمسِ، فإذا خرجَت قتلَت الدّابّةُ إبليسَ وهوَ ساجدٌ...»(63).
روايات عامية أخرى عبرت بأن الدابة تلطم إبليس، (واللَّطْمُ: الضرب على الوجه بباطن الراحة)(64)، من قبيل ما رووه عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أنه قال: «إذا طلعت الشمس من مغربها... ثم تخرج دابة الأرض من صدع في الصفا أول خطوة تضعها في أنطاكية فتأتي إبليس فتلطمه»(65).
إشارة: من الذي يقتل إبليس؟
دلَّت بعض النصوص على أن الوقت المعلوم الذي أُجِّل له الشيطان ليس هو يوم القيامة، وإنما هو يوم يكون قبله، وقد تعددت النصوص في بيان ذلك اليوم الذي تنتهي فيه مهلة الشيطان ويُقتل فيه:
النص الأول: أن الذي يقتله هو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عند قيامه:
ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ (الحجر: 36 - 38)، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنَّه قال: «الوقت المعلوم يوم قيام القائم، فإذا بعثه الله كان في مسجد الكوفة وجاء إبليس حتَّى يجثو على ركبتيه، فيقول: يا ويلاه من هذا اليوم، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه، فذلك يوم الوقت المعلوم منتهى أجله»(66).
وقريب منه ما عن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً: «يا وهب، أتحسب أنَّه يوم يبعث الله فيه الناس؟ إنَّ الله أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا، فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد وجاء إبليس حتَّى يجثو بين يديه على ركبتيه فيقول: يا ويله من هذا اليوم، فيأخذ بناصيته فيضرب عنقه، فذلك اليوم هو الوقت المعلوم»(67).
النص الثاني: أنَّ الذي يقتله هو الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في الرجعة:
وذلك بعد معركة تدور له مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيهرب فيتبعه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فيقتله، فقد روي عن عبد الكريم بن عمر والخثعمي، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن إبليس قال: ﴿أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ فأبى الله ذلك عليه، فقال: ﴿إِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ فإذا كان يوم الوقت المعلوم ظهر إبليس لعنه الله في جميع أشياعه منذ خلق الله آدم إلى يوم الوقت المعلوم وهي آخر كرَّة يكرها أمير المؤمنين (عليه السلام)»، فقلت: وإنها لكرات؟ قال: «نعم إنها لكرّات وكرّات، ما من إمام في قرن إلّا ويكر البر والفاجر في دهره حتى يديل الله المؤمن الكافر، فإذا كان يوم الوقت المعلوم كرَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في أصحابه وجاء إبليس في أصحابه ويكون ميقاتهم في أرض من أراضي الفرات، يقال لها: الروحا، قريب من كوفتكم، فيقتتلون قتالاً لم يقتتل مثله منذ خلق الله (عزَّ وجلَّ) العالمين، فكأني أنظر إلى أصحاب علي أمير المؤمنين قد رجعوا إلى خلفهم القهقري مائة قدم، وكأني أنظر إليهم وقد وقعت بعض أرجلهم في الفرات، فعند ذلك يهبط الجبار (عزَّ وجلَّ) في ظلل من الغمام والملائكة، وقضى الأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بيده حربة من نور، فإذا نظر إليه إبليس رجع القهقري ناكصاً على عقبيه، فيقولون له أصحابه أين تريد وقد ظفرت، فيقول: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله رب العالمين، فيلحقه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فيطعنه طعنة بين كتفيه، فيكون هلاكه وهلاك جميع أشياعه، فعند ذلك يعبد الله (عزَّ وجلَّ) ولا يشرك به شيئاً، ويملك أمير المؤمنين (عليه السلام) أربعاً وأربعين ألف سنة حتى يلد الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ألف ولد من صلبه ذكراً في كل سنة ذكراً، وعند ذلك تظهر الجنتان المدهامتان عند مسجد الكوفة وما حوله بما شاء الله»(68).
وروى القُمّيُّ بسندِه عَن أبي عبدِ اللهِ (عليه السلام) في قولِ اللهِ تباركَ وتعالى: ﴿فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ قالَ: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ قالَ: «يومُ الوقتِ المعلومِ يومَ يذبحُه رسولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) على الصّخرةِ التي في بيتِ المقدس»(69).
النص الثالث: أن الذي يقتله هو أمير المؤمنين (عليه السلام) في الرجعة:
روى نعيمٌ بنُ حمّاد بسندِه عنِ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قالَ: «خروجُ الدّابّةِ بعدَ طلوعِ الشّمسِ، فإذا خرجَت قتلَت الدّابّةُ إبليسَ وهوَ ساجدٌ ويتمتّعُ المؤمنونَ في الأرضِ بعدَ ذلكَ أربعينَ سنةً لا يتمنّونَ شيئاً إلّا أُعطوهُ ووجدوهُ، فلا جورَ ولا ظُلمَ، وقد أسلمَ الأشياءُ لربِّ العالمينَ طوعاً وكرهاً والمؤمنونَ طوعاً والكُفّارُ كرهاً والسّبعُ والطّيرُ كرهاً، حتّى أنَّ السّبعَ لا يؤذي دابّةً ولا طيراً، ويلدُ المؤمنُ فلا يموتُ حتّى يتمَّ أربعينَ سنةً بعدَ خروجِ دابّةِ الأرضِ ثمَّ يعودُ فيهم الموتُ فيمكثونَ بذلكَ ما شاءَ الله...»(70).
ويمكن أن يُجمع هذا الاختلاف بين الروايات بأنه محمول على رجعة إبليس وقتله في كل رجعة.
ويمكن الجمع بأن القتل يقع مرة واحدة، إلّا أنه يُنسب مرة للرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأخرى لأمير المؤمنين (عليه السلام) وثالثة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ولو بمعنى أن الأول آمر، والثاني ناقل للأمر، والثالث هو المنفِّذ.
الفعل الثالث: أنها تسم المؤمن والكافر:
وهذا ما تردد في النصوص العامية والخاصة، فمن الخاصة ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «خروج دابة (من) الأرض من عند الصفا، معها خاتم سليمان بن داود، وعصى موسى (عليهم السلام)، يضع الخاتم على وجه كل مؤمن فينطبع فيه: هذا مؤمن حقاً، ويضعه على وجه كل كافر فينكتب هذا كافر حقاً...»(71).
ومن العامة روى الطبراني بسنده عن ربعي بن حراش، قال: سمعت حذيفة بن اليمان يقول: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يقول: وذكر الدابة... تسم الناس مؤمن وكافر، أمّا المؤمن فتترك وجهه كأنه كوكب دري، وتكتب بين عينيه مؤمن، وأمّا الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء: كافر»(72).
وفي رواية عقد الدرر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ذكر الدابة قال:... معها عصا موسى (عليه السلام)، وخاتم سليمان (عليه السلام)، تسم المؤمن مؤمناً، وتسم الكافر كافراً، تنكت وجه المؤمن بالعصا فتتركه أبيض، وتنكت وجه الكافر بالخاتم، فتتركه أسود، فلا يبقى أحد في سوق ولا برية، إلّا وسمت وجهه»(73).
والوَسْمُ: أَثرُ الكَيّ، والجمع وُسومٌ... وفي الحديث: أَنه كان يَسِمُ إِبلَ الصدقةِ أَي يُعلِّم عليها بالكيّ... الوَسْمُ أَثرُ كيّةٍ، تقول مَوْسومٌ أَي قد وُسِم بِسِمةٍ يُعرفُ بها(74).
فمن أفعال الدابة أنها تضع علامة على وجه المؤمن لتدل على أنه مؤمن، وعلامة على وجه الكافر لتدل على أنه كافر، وهذه الأفعال - كما أشرنا أكثر من مرة - لا تصدر من حيوان غير عاقل، بل ولا تصدر من إنسان عادي، وإنما تصدر من إنسان كامل، وولي من أولياء الله تعالى، يرى بنوره (جل وعلا) ليعرف المؤمن من الكافر.
وهو ما يُعبر عنه بالتوسم، (والتوسم التفرس والانتقال من سيماء الأشياء على حقيقة حالها)(75)، الأمر الذي دلت النصوص على أنه من صفات أهل البيت (عليهم السلام)، وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ (الحجر: 75): «فَكَانَ رَسُولُ اللهِ المُتَوَسِّمَ وَالأَئِمَّةُ مِنْ ذُرِّيَّتِي المُتَوَسِّمُونَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، ﴿وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ [الحجر: 76]، فَذَلِكَ السَّبِيلُ المُقِيمُ هُوَ الوَصِيُّ بَعْدَ النَّبِيِّ»(76).
نصوص أخرى عبرت عن هذا المعنى في خصوص الكافرين والمنافقين بالخطم، أي إنها تخطم المرائين والمنافقين.
ففي رواية المروزي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: تخرج الدابة من شعب بالأجياد رأسها يمس السحاب وما خرجت رجلاها من الأرض حتى تأتي الرجل وهو يصلي، فتقول ما الصلاة من حاجتك ما هذا إلّا تعوذا ورياء فتخطمه(77).
وروى بسنده عن ابن عمر قال تخرج الدابة ليلة جمع يسيرون إلى جمع فتخرج الدابة وعنقها ذكر من طوله فلا تدع منافقاً إلّا خطمته(78).
قال ابن الأثير: أي تسمه بها، من خطمت البعير إذا كويته خطًّا من الأنف إلى أحد خديه، وتسمى تلك السمة الخطام(79).
وقال ابن منظور: ومعناه أَنها تُؤثِّرُ في أَنفه سِمَة يُعرف بها، ونحو ذلك قيل في قوله: سَنَسِمُه على الخُرْطومِ(80).
الفعل الرابع: أنها العذاب الأدنى على الكفار:
فقد روي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذابِ الأَدْنى دُونَ العَذابِ الأَكْبَرِ﴾ (السجدة: 21) عن زيد الشحَّام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «العَذابِ الأَدْنى دَابَّةُ الأَرْضِ»(81).
وربما يكون المعنى مرتبطاً بوسم الكفار بوجوههم على أنهم كفار، فيكون عذاباً عليهم في الدنيا، وهو عذاب أدنى لأنه بلا شك أدنى من عذاب نار جهنم (والعياذ بالله).
الفعل الخامس: أنها تسوق الناس إلى المحشر:
ففي رواية علي بن مهزيار الأهوازي: «... تخرج دابة الأرض من بين الصفا والمروة، ومعه عصا موسى وخاتم سليمان، يسوق الناس إلى المحشر»(82).
وربما يكون المقصود من ذلك أن خروج دابة الأرض حيث إنه من علامات الساعة - كما تقدم في النقطة الأولى -، فيكون خروجها دالاً على قرب قيام القيامة، لا فعلية قيام القيامة، فكأن خروجها يسوق الناس إلى المحشر، والمحشر من الحشر وهو الجمع، والمَحْشَرُ: المجمع الذي يحشر إِليه القوم، وكذلك إِذا حشروا إِلى بلد أَو مُعَسْكَر أَو نحوه(83)، ومعه، فتكون الدابة من العلامات الدالة على قرب القيامة.
النقطة السابعة: ما يترتب على خروج الدابة:
الأمر الأول: أن خروج الدابة يُفرق بين الحق والباطل:
ففي خطبة المخزون المنسوبة لأمير المؤمنين (عليه السلام): «... واليوم الثالث يفرق بين الحق والباطل بخروج دابة الأرض...»(84).
الأمر الثاني: تمتع المؤمنين بعد خروجها:
ذكرت بعض النصوص العامية على أن الدابة بعد أن تقتل إبليس، فإن الناس يتمتعون أربعين سنة، جاء ذلك فيما رواه نعيمٌ بنُ حمّاد بسندِه عنِ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قالَ: «خروجُ الدّابّةِ بعدَ طلوعِ الشّمسِ، فإذا خرجَت قتلَت الدّابّةُ إبليسَ وهوَ ساجدٌ ويتمتّعُ المؤمنونَ في الأرضِ بعدَ ذلكَ أربعينَ سنةً لا يتمنّونَ شيئاً إلّا أُعطوهُ ووجدوهُ، فلا جورَ ولا ظُلمَ، وقد أسلمَ الأشياءُ لربِّ العالمينَ طوعاً وكرهاً والمؤمنونَ طوعاً والكُفّارُ كرهاً والسّبعُ والطّيرُ كرهاً، حتّى أنَّ السّبعَ لا يؤذي دابّةً ولا طيراً، ويلدُ المؤمنُ فلا يموتُ حتّى يتمَّ أربعينَ سنةً بعدَ خروجِ دابّةِ الأرضِ ثمَّ يعودُ فيهم الموتُ فيمكثونَ بذلكَ ما شاءَ الله...»(85).
ولا مانع من قبول هذا المعنى في حد نفسه، وإن كان الثابت في رواياتنا أنه يحصل إبان قيام الدولة المهدوية على يدي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
الأمر الثالث: غلق باب التوبة:
هذا ما جاء في بعض الروايات الخاصة والعامية.
فمن الخاصة ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «خروج دابة (من) الأرض من عند الصفا... ثم ترفع الدابة رأسها فيراها من بين الخافقين بإذن الله (عزَّ وجلَّ) وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك ترفع التوبة، فلا توبة تقبل ولا عمل يرفع ﴿لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً﴾ [الأنعام: 158]...»(86).
ومن العامة روى مسلم بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)]: ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض(87).
ويمكن القول: إن غلق باب التوبة لا يمكن قبوله على إطلاقه، خصوصاً مع أدلة فتح باب التوبة المطلقة، والشاملة حتى لزمن ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وخروج الدابة، ويمكن حمله على أن المقصود عدم قبول التوبة لأنها تقع بعد رؤية الآيات، أي إن قبول التوبة مشروط بعدم نزول العذاب الإلهي، أمّا إذا نزل العذاب فلا تقبل، كما حصل مع فرعون، وغيرها من الوجوه التي يمكن أن يُحمل عليها عدم قبول التوبة.
النقطة الثامنة: ماهية الدابة:
اختُلف في ماهية هذه الدابة، فقد ذهب بعضهم إلى أنها دابة لها مواصفاتها الخاصة تكلّم الناس، كما يبدو من النصوص العامية المتقدمة.
قال المباركفوري في (تحفة الأحوذي) ما نصّه:
((والدابَّة) وهي المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ...﴾ [النمل: 82] الآية، قال المفسِّرون: هي دابَّة عظيمة تخرج من صدع في الصفا، وعن ابن عمرو بن العاص: أنَّها الجساسة المذكورة في حديث الدجّال، قاله النووي. وقال الجزري في النهاية: دابَّة الأرض قيل: طولها ستّون ذراعاً ذات قوائم ووبر، وقيل: هي مختلفة الخلقة تشبه عدَّة من الحيوانات ينصدع جبل الصفا فتخرج منه ليلة جُمَع والناس سائرون إلى منى، وقيل: من أرض الطائف، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان (عليهما السلام)، لا يُدركها طالب ولا يعجزها هارب، تضرب المؤمن بالعصا، وتكتب في وجهه: مؤمن، وتطبع الكافر بالخاتم وتكتب في وجهه: كافر)(88).
ثم علّق على ذلك فقال: (اعلم أن المفسرين قد ذكروا لدابة الأرض أوصافاً كثيرة من غير ذكر ما يدل على ثبوتها، فكل ما ثبت بالكتاب أو السنة الصحيحة فهو المعتمد وما لا، فلا اعتماد عليه)(89).
وقال في أشراط الساعة الكبرى: أمّا ما ورد من الأقوال عن ماهية هذه الدابة فمنهم من قال: هذه الدابة هي الجساسة، روي هذا القول عن ابن عمرو، وجزم به البيضاوي وغيره(90).
ومنهم من قال: إن هذه الدابة هي الثعبان الذي كان في بئر الكعبة فاختطفته العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام، روي هذا القول عن ابن عباس(91).
ومنهم: من أبعد وزعم أن الدابة كناية عن الأشرار الذين هم في الجهل بمنزلة الدواب(92).
ومنهم: من افترى وزعم أن هذه الدابة هي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [(عليه السلام)](93).
ومنهم: من قال غير ذلك(94).
أقول:
لا أدري لماذا عبّر عن كون الدابة هي أمير المؤمنين (عليه السلام) بأنه افتراء! رغم ما ستسمعه من أدلة على هذا الرأي، ورغم أن ما ذكرته نصوص العامة لا يكاد يصدقه العقل!
وعلى كلِّ حالٍ، فنحن نجزم بأنَّ المقصود من الدابَّة هو إنسان معيَّن، وذلك بملاحظة التالي:
أوَّلاً: إنَّ القرآن الكريم وصف دابَّة الأرض بأنَّها تُكلِّم الناس، والكلام لا يصدر إلَّا من الآدميين، وليس من صفات الدواب الحيوانية.
فهذه قرينة لفظية تحدد معنى الدابة وتضيّقه، بمعنى أن الدابة وإن كانت مشتركة بين الإنسان والحيوان، كون معناها هو ما يدبّ على الأرض، إلّا أن لفظة ﴿تُكَلِّمُهُمْ﴾ قرينة لفظية على أن المقصود من الدابة هي حصة خاصة، وهي الدابة التي تكلم الناس، والكلام لا يكون إلّا من الآدميين.
لا يُقال: إن القرآن الكريم ذكر تكلم بعض الحيوانات، كالنملة التي تحدث مع النبي سليمان (عليه السلام)، والواقع أيضاً يشهد بتحدث بعض الحيوانات، كبعض الببغاوات.
لأنه يُقال: هذا قياس مع الفارق، فإن تكلم الدابة عام يفهمه جميع الناس كما هو ظاهر الآية، لا لشخص بعينه كما حصل مع النبي سليمان (عليه السلام)، وحديث مثل بعض الببغاوات إنما يكون بعد التعليم، ولكلمات معدودة، ولا تتحدث حديثاً عاماً وفي مقام المحاججة كما هو الحال في دابة الأرض.
ثانياً: إنَّ مهمَّة هذه الدابَّة هي محاججة الناس، أي إنَّ من مهامها هي مهمة حوارية، فمن غير المقبول ولا المعقول أن نُقنِع أنفسنا بأنَّ هذه الدابَّة حيوان يتصدّى لمحاججة المنحرفين ويحاول إلقاء الحجَّة عليهم.
لاحظ أن الآية التي ذكرت الدابة ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ﴾ (النمل: 82) تصرح بأن الدابة تخرج لتكلم الناس، عندما يبتعدون عن الحق، هي تخرج عندما يكون الناس غير مؤمنين بآيات الله تعالى، مما يعني أنها تخرج لإثبات ما نفاه أو شكّك فيه الناس، ومثل هذه المهمة لا تكون لحيوان لا يعقل، بل ليس من المناسب إيكال مثل هذه المهمة الكبرى لحيوان مخيف لا عقل له!
ثالثاً: أنَّ لهذه الدابَّة شأناً إنسانياً ولها مقاماً رفيعاً بقرينة حملها لعصا موسى وخاتم سليمان وهي من مواريث الأنبياء، ولا يتناسب لمثل هذه المواريث أن تكون لدى دابَّة حيوانية.
رابعاً: تقدم أن للدابة القدرة على تمييز المؤمن عن الكافر والمنافق، وأنها تسم المؤمن فتجعل وجهه كالكوكب الدري، وتسم الكافر والمنافق بعلامة تميزه عن غيره وبحيث يرفه كل من نظر إليه، ومثل هذا التمييز للبواطن لا يليق بحيوان، بل ولا بإنسان عادي، وإنما هو - كما تقدمت الإشارة إليه - لا يستقيم إلّا مع عبد من عبيد الله تعالى الكاملين الذين ينظرون بنوره، ويعلمون البواطن بإذنه، فكيف يُمكن أن نتعقل أن مثل هذه المهمة تقوم بها دابة حيوانية لا تعقل!
بل لا يمكن أن نتصور أن الله تعالى يوكل مثل هذه المهمة لدابة حيوانية، فإنه فضلاً عن كونه لا معنى له مع وجود الأولياء.
إذن فلا مناص من القول بأن الدابة هي إنسان يخرج لمحاججة الناس وإلقاء الحجة عليهم، وقد ذكرت رواياتنا على أن هذا الإنسان الذي سيقوم بهذه المهمة هو الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
ويُمكن إثبات ذلك روائياً من خلال متابعة النصوص العديدة التي وردت ونصت على أن الدابة هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهي بمجموعها تولد حجة قطعية - إن لم تولد تواتراً أو استفاضة - تورث الاطمئنان - بل وما فوق الاطمئنان - بصحتها، والروايات هي:
الرواية الأولى:
عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) أن رجلاً قال لعمار بن ياسر: «يا أبا اليقظان، آية في كتاب الله (عليه السلام) أفسدت قلبي وشككتني. قال عمّار: وأية آية هي؟ قال قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ...﴾ فأي دابة هذه؟ قال عمّار: والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتّى أريكها، فجاء عمّار مع الرجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يأكل تمراً وزبداً فقال: يا أبا اليقظان اجلس فجلس عمّار وجعل يأكل معه، فتعجب الرجل منه فلما قام عمّار قال الرجل: سبحان الله يا أبا اليقظان حلفت أن لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس حتّى ترينيها. قال عمّار: قد أريتكها إن كنت تعقل»(95).
الرواية الثانية:
ما تقدم من رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «انتهى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو نائم في المسجد قد جمع رملاً ووضع رأسه عليه، فحركه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) برجله ثم قال: يا دابة الله، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله أيسمى بعضنا بعضاً بهذا الاسم؟ فقال: لا والله ما هو إلّا له خاصة، وهو الدابة التي ذكر الله تعالى في كتابه: ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ﴾ [النمل: 82]...»(96).
الرواية الثالثة:
في رواية أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «... وإِنِّي لَصَاحِبُ الكَرَّاتِ ودَوْلَةِ الدُّوَلِ وإِنِّي لَصَاحِبُ العَصَا والمِيسَمِ والدَّابَّةُ الَّتِي تُكَلِّمُ النَّاسَ...»(97).
الرواية الرابعة:
عن الأصبغ بن نباتة، قال: قال لي معاوية: يا معشر الشيعة تزعمون أن علياً دابة الأرض؟ فقلت: نحن نقول؟! اليهود تقوله، فأرسل إلى رأس الجالوت، فقال: ويحك تجدون دابة الأرض عندكم؟ فقال: نعم، فقال: ما هي؟ فقال: رجل، فقال: أتدري ما اسمه؟ قال: نعم اسمه إليا، قال: فالتفت إليَّ فقال: ويحك يا أصبغ، ما أقرب إليا من علياً(98).
الرواية الخامسة:
عن الأصبغ بن نباتة أيضاً قال: دخلت على أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يأكل خبزاً وخلاً وزيتاً فقلت: يا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال الله (عزَّ وجلَّ) ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾ [النمل: 82] فما هذه الدابة؟ قال: «هي دابة تأكل خبزاً وخلاً وزيتاً»(99).
الرواية السادسة:
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «وأنا المؤذن على الأعراف وأنا بارز الشمس وأنا دابة الأرض وأنا قسيم النار وأنا خازن الجنان وصاحب الأعراف وأنا أمير المؤمنين ويعسوب المتقين»(100).
الرواية السابعة:
عن أبي عبد الله الجدلي قال دخلت على علي (عليه السلام) يوماً فقال: «أنا دابة الأرض».
وفي نقل آخر عنه أنه قال: دخلت على علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: «ألا أحدثك ثلاثاً قبل أن يدخل علي وعليك داخل، أنا عبد الله، أنا دابة الأرض صدقها وعدلها وأخو نبيها، أنا عبد الله...»(101).
الرواية الثامنة:
عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) أي شيء يقول الناس في هذه الآية ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾ فقال: «هو أمير المؤمنين (عليه السلام)»(102).
الرواية التاسعة:
الحسين بن بشار، قال سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الدابة، قال: «أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) الدابة»(103).
الرواية العاشرة:
عن جابر عن مالك بن حمزة الرواسبي، قال: سمعت أبا ذر يقول علي (عليه السلام) دابة الأرض...(104).
الرواية الحادية عشرة:
عن صالح بن ميثم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: حدثني، قال: «أليس قد سمعت الحديث من أبيك»؟ قلت: هلك أبي وأنا صبي، قال: قلت: فأقول: فإن أصبت، قلت: نعم، وإن أخطأت رددتني عن الخطأ، قال: هذا أهون، قلت: فإني أزعم أن علياً (عليه السلام) دابة الأرض، قال: فسكت، قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): «وأراك والله ستقول إن علياً (عليه السلام) راجع إلينا وقرأ ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ﴾ [القصص: 85]»، قال: قلت: والله لقد جعلتها فيما أريد أن أسألك عنها فنسيتها، فقال أبو جعفر (عليه السلام): «أفلا أخبرك بما هو أعظم من هذا؟ ﴿وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ [سبأ: 28] لا تبقى أرض إلّا نودي فيها بشهادة أن لا إله إلّا الله وأن محمداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأشار بيده إلى آفاق الأرض»(105).
الرواية الثانية عشرة:
في حديث المعراج روي عن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): لقد أسرى بي ربي (عزَّ وجلَّ) فأوحى إليَّ من وراء حجاب ما أوحى وكلمني بما كلم به وكان مما كلمني به أن قال: يا محمد إني أنا الله لا إله إلّا أنا عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم... يا محمد، عليٌّ أول ما آخذ بميثاقه من الأئمة يا محمد، عليٌّ آخر من أقبض روحه من الأئمة وهو الدابة التي تكلمهم...»(106).
الرواية الثالثة عشرة:
عن أبي الطفيل أنه قال: يا أمير المؤمنين قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَإِذا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ﴾ [النمل: 82]، ما الدابة؟ قال: «يا أبا الطفيل اله عن هذا»، فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرني به جعلت فداك، قال: «هي دابة تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وتنكح النساء»، فقلت: يا أمير المؤمنين من هو؟ قال: «هو زرُّ الأرض(107) الذي تسكن الأرض به»، قلت: يا أمير المؤمنين من هو؟ قال: «صدّيق هذه الأُمة وفاروقها وربيها وذو قرينها»، قلت: يا أمير المؤمنين من هو؟ قال: «الذي قال الله تعالى: ﴿وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ﴾ [هود: 17] والذي ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ [الرعد: 43]، ﴿وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ﴾ والذي ﴿صَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر: 33] أنا، والناس كلهم كافرون غيري وغيره»، قلت: يا أمير المؤمنين فسمِّه لي، قال: «قد سميته لك يا أبا الطفيل...»(108).
الرواية الرابعة عشرة:
عن عباية قال: أتى رجل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: حدثني عن الدابة، قال: «وما تريد منها»؟ قال: أحببت أن أعلم علمها، قال: «هي دابة مؤمنة تقرأ القرآن، وتؤمن بالرحمن، وتأكل الطعام، وتمشي في الأسواق».
وفي نص آخر أنه قال في آخره: من هو يا أمير المؤمنين؟ قال: «هو علي ثكلتك أمك»(109).
الرواية الخامسة عشرة:
روي أنه قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَنَا قَسِيمُ الله بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، لَا يَدْخُلُهَا دَاخِلٌ إِلَّا عَلَى حَدِّ قَسْمِي، وأَنَا الفَارُوقُ الأَكْبَرُ، وأَنَا الإِمَامُ لِمَنْ بَعْدِي والمُؤَدِّي عَمَّنْ كَانَ قَبْلِي، لَا يَتَقَدَّمُنِي أَحَدٌ إِلَّا أَحْمَدُ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإِنِّي وإِيَّاه لَعَلَى سَبِيلٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّه هُوَ المَدْعُوُّ بِاسْمِه، ولَقَدْ أُعْطِيتُ السِّتَّ: عِلْمَ المَنَايَا والبَلَايَا والوَصَايَا وفَصْلَ الخِطَابِ وإِنِّي لَصَاحِبُ الكَرَّاتِ ودَوْلَةِ الدُّوَلِ وإِنِّي لَصَاحِبُ العَصَا والمِيسَمِ والدَّابَّةُ الَّتِي تُكَلِّمُ النَّاسَ»(110).
فكل هذه النصوص - وربما هناك غيرها - تدل على أن الدابة بشر، بل هو أمير المؤمنين (عليه السلام).
الرواية السادسة عشرة:
روى الذهبي عن جابر الجعفي أنه كان يقول: دابة الأرض عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)(111).
إن قلت:
كيف يُعقل أن تكون الدابة هو أمير المؤمنين (عليه السلام)، والحال أنه قد مات سنة (40) للهجرة؟
قلت:
إنه سؤال سهل المؤونة، بعد ثبوت إمكان الرجعة، بل ووقوعها في الأُمم السابقة، بل والأدلة الدالة على وقوعها في المستقبل.
أو قل: إن الروايات دلت على أنه (عليه السلام) يرجع في آخر الزمان، وهو دابة الأرض.
والنصوص الدالة على رجعته (عليه السلام) - غير نصوص الدابة - عديدة، منها:
النص الأول:
عن سعيد بن عمار، عن أبي مروان، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ﴾ [القصص: 85]، قال: فقال لي: «لا والله لا تقضي الدنيا ولا تذهب حتى يجتمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعلي (عليه السلام) بالثوية فيلتقيان ويبنيان بالثوية مسجداً، له اثني عشر ألف باب يعني موضعاً بالكوفة»(112).
النص الثاني:
عن سليمان بن خالد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ﴾ [النازعات: 7-8] قال: «الراجفة الحسين بن علي (عليه السلام)، والرادفة علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأول من ينفض عن رأسه التراب الحسين بن علي (عليه السلام) في خمسة وسبعين ألفاً، وهو قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غافر: 51-52]»(113).
النص الثالث:
روي أنه قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «أَنَا قَسِيمُ الله بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، لَا يَدْخُلُهَا دَاخِلٌ إِلَّا عَلَى حَدِّ قَسْمِي، وأَنَا الفَارُوقُ الأَكْبَرُ، وأَنَا الإِمَامُ لِمَنْ بَعْدِي والمُؤَدِّي عَمَّنْ كَانَ قَبْلِي، لَا يَتَقَدَّمُنِي أَحَدٌ إِلَّا أَحْمَدُ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإِنِّي وإِيَّاه لَعَلَى سَبِيلٍ وَاحِدٍ، إِلَّا أَنَّه هُوَ المَدْعُوُّ بِاسْمِه ولَقَدْ أُعْطِيتُ السِّتَّ عِلْمَ المَنَايَا والبَلَايَا والوَصَايَا وفَصْلَ الخِطَابِ، وإِنِّي لَصَاحِبُ الكَرَّاتِ ودَوْلَةِ الدُّوَلِ، وإِنِّي لَصَاحِبُ العَصَا والمِيسَمِ والدَّابَّةُ الَّتِي تُكَلِّمُ النَّاسَ»(114).
النص الرابع:
عن بكير بن أعين، قال: قال لي: من لا أشك فيه يعني أبا جعفر (عليه السلام) أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وعلياً (عليه السلام) سيرجعان(115).
النص الخامس:
عن فيض بن أبي شيبة، قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وتلى هذه الآية ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ﴾ [آل عمران: 81] قال: «ليؤمنن برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ولينصرن علياً أمير المؤمنين (عليه السلام)»، قال: «نعم والله من لدن آدم (عليه السلام) فهلم جرا، فلم يبعث الله نبياً ولا رسولاً إلّا رد جميعهم إلى الدنيا حتى يقاتلوا بين يدي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام)»(116).
النص السادس:
أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال لي: «يا أبا حمزة لا ترفعوا علياً فوق ما رفعه الله ولا تضعوا علياً دون ما وضعه الله كفى بعلي (عليه السلام) أن يقاتل أهل الكرة ويزوج أهل الجنة»(117).
النص السابع:
عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال الحسين بن علي (عليهما السلام) لأصحابه قبل أن يقتل: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لي: يا بني إنك ستساق إلى العراق وهي أرض قد التقى فيها النبيون وأوصياء النبيين وهي أرض تدعى عمورا، وأنك تستشهد بها يستشهد جماعة معك من أصحابك لا يجدون ألم مس الحديد، وتلى: ﴿قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69] يكون الحرب برداً وسلاماً عليك وعليهم، فأبشروا، فوالله لئن قتلونا فإنا نرد على نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ثم أمكث ما شاء الله فأكون أول من تنشق الأرض عنه فأخرج خرجة يوافق ذلك خرجة أمير المؤمنين (عليه السلام) وقيام قائمنا (عليه السلام) وحياة رسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)...»(118).
النص الثامن:
عن عبد الكريم بن عمر والخثعمي، قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «... رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بيده حربة من نور، فإذا نظر إليه إبليس رجع القهقري ناكصاً على عقبيه فيقولون له أصحابه: أين تريد وقد ظفرت؟ فيقول: إني أرى ما لا ترون، إني أخاف الله رب العالمين، فيلحقه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) فيطعنه طعنة بين كتفيه فيكون هلاكه وهلاك جميع أشياعه، فعند ذلك يعبد الله (عزَّ وجلَّ) ولا يشرك به شيئاً ويملك أمير المؤمنين (عليه السلام) أربعاً وأربعين ألف سنة حتى يلد الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ألف ولد من صلبه ذكراً في كل سنة ذكراً، وعند ذلك تظهر الجنتان المدهامتان عند مسجد الكوفة وما حوله بما شاء الله»(119).
النص التاسع:
في رواية أسئلة المفضل مع الإمام الصادق (عليه السلام) أنه (عليه السلام) قال له: «يا مفضل، والله ليردن وليحضرن السيد الأكبر محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والصديق الأكبر أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة (عليهم السلام) وكل من محض الإيمان محضاً أو محض الكفر محضاً...»(120).
هذا فضلاً عن النصوص التي دلت على رجعة كل من محض الإيمان، فإنها وبلا شك تشمل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وذلك من قبيل ما روي عن ابن أبي عمير عن المفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾ [النمل: 83] قال: «ليس أحد من المؤمنين قتل إلّا ويرجع حتى يموت ولا يرجع إلّا من محض الإيمان محضاً ومحض الكفر محضاً»(121).
والحاصل:
إن رجعة أمير المؤمنين (عليه السلام) وكونه هو دابة الأرض التي ذكرها القرآن الكريم، هو مما لا يُنكره العقل، ولا مانع نقلياً منه، بل الأدلة الروائية الكثيرة - والتي تصل إلى حد التواتر أو الاستفاضة - تدل عليه أيضاً.
النقطة التاسعة: هل تخرج الدابة قبل ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أو بعده؟
يمكن القول: إن الدابة تخرج بعد أن يظهر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ونذكر لذلك بيانين:
البيان الأول:
إن المستفاد من النصوص هو أنَّ أول من يرجع هو الإمام الحسين (عليه السلام)، وهذا يلازم خروج الدابة بعد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وبيانه من خلال المقدمتين التاليتين:
المقدمة الأولى:
إن أول من يرجع هو الإمام الحسين (عليه السلام)، دلَّت على ذلك بعض النصوص، من قبيل ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أوَّل من تنشقُّ الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام)»(122).
وعنه (عليه السلام): «إنَّ أوَّل من يكرُّ في الرجعة الحسين بن عليٍّ (عليهما السلام)، ويمكث في الأرض أربعين سنة حتَّى يسقط حاجباه على عينيه»(123).
المقدمة الثانية:
إن الإمام الحسين (عليه السلام) يرجع بعد ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، بل ربما يمكن القول بأنه يرجع في أواخر حياته (عجَّل الله فرجه)، وهو ما يُستفاد مما روي من أنه (عليه السلام) هو الذي يتولى تغسيل ودفن الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فقد روي عَنْ عَبْدِ الله بْنِ القَاسِمِ البَطَلِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي قَوْلِه تَعَالَى: ﴿وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرضِ مَرَّتَيْنِ﴾ (الإسراء: 4) قَالَ: «قَتْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وطَعْنُ الحَسَنِ (عليه السلام) ﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً﴾ قَالَ: قَتْلُ الحُسَيْنِ (عليه السلام): ﴿فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما﴾ فَإِذَا جَاءَ نَصْرُ دَمِ الحُسَيْنِ (عليه السلام) ﴿بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ﴾ قَوْمٌ يَبْعَثُهُمُ الله قَبْلَ خُرُوجِ القَائِمِ (عليه السلام) فَلَا يَدَعُونَ وَتْراً لآِلِ مُحَمَّدٍ إِلَّا قَتَلُوه، ﴿وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً﴾ خُرُوجُ القَائِمِ (عليه السلام): ﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ﴾ خُرُوجُ الحُسَيْنِ (عليه السلام) فِي سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِه عَلَيْهِمُ البَيْضُ المُذَهَّبُ لِكُلِّ بَيْضَةٍ وَجْهَانِ المُؤَدُّونَ إِلَى النَّاسِ أَنَّ هَذَا الحُسَيْنَ قَدْ خَرَجَ؛ حَتَّى لَا يَشُكَّ المُؤْمِنُونَ فِيه وأَنَّه لَيْسَ بِدَجَّالٍ ولَا شَيْطَانٍ والحُجَّةُ القَائِمُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَإِذَا اسْتَقَرَّتِ المَعْرِفَةُ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ أَنَّه الحُسَيْنُ (عليه السلام)، جَاءَ الحُجَّةَ المَوْتُ فَيَكُونُ الَّذِي يُغَسِّلُه ويُكَفِّنُه ويُحَنِّطُه ويَلْحَدُه فِي حُفْرَتِه الحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، ولَا يَلِي الوَصِيَّ إِلَّا الوَصِيُّ»(124).
ويشير إليه أيضاً ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سُئل عن الرجعة أحق هي؟ قال: «نعم»، فقيل له: من أول من يخرج؟ قال: «الحسين (عليه السلام) يخرج على أثر القائم (عليه السلام)»، قلت: ومعه الناس كلهم؟ قال (عليه السلام): «لا، بل كما ذكر الله تعالى في كتابه ﴿يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً﴾ [النبأ: 18] قوم بعد قوم»(125).
وفي نص ثالث عن أبي عبد الله (عليه السلام): «ويقبل الحسين (عليه السلام) في أصحابه الذين قُتلوا معه، ومعه سبعون نبياً كما بعثوا مع موسى بن عمران (عليه السلام)، فيدفع إليه القائم (عليه السلام) الخاتم، فيكون الحسين (عليه السلام) هو الذي يلي غسله وكفنه وحنوطه ويواري به في حفرته»(126).
ينتج:
إن دابة الأرض (أو قل: أمير المؤمنين (عليه السلام)) يخرج بعد ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، إذ إن أول الراجعين وهو الإمام الحسين (عليه السلام) يخرج بعد ظهوره (عجَّل الله فرجه)، فمعناه أن غيره من الأئمة (عليهم السلام) يخرجون بعده.
البيان الثاني:
إنَّ بعض النصوص دلَّت على أن خروج الدابة يكون بعد طلوع الشمس من مغربها، وهذا يلازم خروجها بعد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وبيانه من خلال المقدمتين التاليتين:
المقدمة الأولى:
إن دابة الأرض تخرج بعد طلوع الشمس من مغربها.
دلّ على ذلك نصوص، من قبيل ما رواه المروزي بسندِه عنِ النّبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قالَ: «خروجُ الدّابّةِ بعدَ طلوعِ الشّمسِ...»(127).
وتقدم أنه يمكن تأكيد خروجها بعد طلوع الشمس من مغربها بما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «خروج دابة (من) الأرض من عند الصفا... ثم ترفع الدابة رأسها فيراها من بين الخافقين بإذن الله (عزَّ وجلَّ) وذلك بعد طلوع الشمس من مغربها، فعند ذلك ترفع التوبة، فلا توبة تقبل ولا عمل يرفع و﴿لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً﴾ [الأنعام: 158]...»(128).
المقدمة الثانية:
إن أحد معاني (طلوع الشمس من مغربها) هو خروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من غيبته(129)، فالشمس كناية عنه (عجَّل الله فرجه)، والمغرب كناية عن الغيبة، فيكون المعنى: انتهاء الغيبة الكبرى وخروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
ومن الروايات التي يمكن أن يستفاد منها ذلك ما روي عن النزال بن سبرة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يذكر فيه أمر الدجال ويقول في آخره:
«لا تسألوني عما يكون بعد هذا فإنه عهد إليَّ حبيبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) أن لا أخبر به غير عترتي»، قال النزال بن سبرة: فقلت لصعصعة بن صوحان: ما عنى أمير المؤمنين بهذا القول؟
فقال صعصعة: يا بن سبرة، إن الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه هو الثاني عشر من العترة، التاسع من ولد الحسين بن علي (عليهما السلام) وهو الشمس الطالعة من مغربها، يظهر عند الركن والمقام، فيطهر الأرض ويضع الميزان بالقسط فلا يظلم أحد أحداً...»(130).
ينتج:
إن الدابة تخرج بعد خروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
إن قلت: هل معنى ذلك أن الدابة تخرج بعد وفاة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)؟
قلت: ظاهر ما تقدم من البيان الأول هو ذلك.
فإن قلت: فماذا تفعل بالروايات التي دلت على معاصرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) للإمام علي (عليه السلام)؟
قلت: هذا يُحمل على تعدد رجعات الأئمة (عليهم السلام)، ففي واحدة أو أكثر من الرجعات يُمكن أن يتعاصر الأئمة (عليهم السلام) كلهم في زمن واحد، وإليه يُعزى ما روي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال الحسين بن علي (عليهما السلام) لأصحابه قبل أن يقتل: «... فأكون أول من تنشق الأرض عنه فأخرج خرجة يوافق ذلك خرجه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقيام قائمنا (عليه السلام) وحياة رسول (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)...»(131).
هذا، ولكن توجد رواية تدل على أن خروج الدابة هو من علامات ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهي رواية عباد بن محمد المدايني أنه قال للإمام الصادق (عليه السلام) ضمن حديث: متى يكون خروجه جعلني الله فداك؟ قال: «إذا شاء من له الخلق والأمر»، قلت: فله علامة قبل ذلك؟ قال: «نعم، علامات شتى»، قلت: مثل ماذا؟ قال: «خروج دابة من المشرق، وراية من المغرب، وفتنة تظل أهل الزورا، وخروج رجل من ولد عمي زيد باليمن، وانتهاب ستارة البيت، ويفعل الله ما يشاء»(132).
ولو صحت هذه الرواية، فهي لا تدل على أكثر من كون خروج الدابة علامة على خروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ولا تدل على قبلية خروجها، بمعنى أن العلامة يمكن أن تسبق خروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، كما في بناء جسر في بغداد مثلاً، ويمكن أن تكون معاصرة لظهوره (عجَّل الله فرجه)، أي تكون بعد خروجه، ولو الخروج الجزئي أو غير الرسمي أو غير العلني، كما في الخسف في البيداء، فإنه يكون بعد أن يعلم جيش السفياني بتواجد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في مكة، فيتبعه، فيُخسف به في البيداء.
فلتكن الدابة من القبيل الثاني.
ولكن هل يعني هذا أنها تدل على أن الدابة تخرج قبل وفاة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)؟
ربما يكون كذلك.
وعلى كل حال، فيمكن أن يكون للدابة عدة خرجات - كما أشارت لذلك بعض النصوص المتقدمة -، وبعضها يكون معاصراً للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وبعضها بعد وفاته، فإن الرجعة لو صحت مرة لصحت أكثر من مرة، ولا مانع عقلياً ولا نقلياً من ذلك، بل هناك نصوص تشير إلى هذا المعنى كما تقدم.
فتحصل من كل ما سبق:
أولاً: أن خروج الدابة في آخر الزمان أمر متفق عليه بين الفرق الإسلامية، والخلاف هو في تحديد ماهيتها وبعض صفاتها.
ثانياً: أن نصوص العامة في توصيف الدابة، ولا يكاد يصدقها العقل وهي بالأساطير والأراجيف أقرب منها إلى الروايات، في حين أن روايات الخاصة في هذا المجال واضحة لا لبس فيها، وهي تدل على أن الدابة ولي من أولياء الله تعالى.
ثالثاً: أن الأدلة العقلية والنقلية تدل على أن الدابة ولي من أولياء الله تعالى، وله القدرة على تمييز المؤمن من غيره، وقد دلَّت الأدلة على أن هذا الولي هو أمير المؤمنين (عليه السلام).
رابعاً: أن له (عليه السلام) عدة رجعات، بعضها يكون مزامناً للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وللإمام الحسين (عليه السلام).
الهوامش:
(1) أشراط الساعة الكبرى ص127 - د. فهد بن عبد العزيز الفاضل - دار طيبة للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1425هـ/2004م.
(2) الخرطوم: مقدم الأنف والفم؛ انظر: لسان العرب: ج2، ص1203.
(3) مسند الإمام أحمد 5/286؛ والتاريخ الكبير للبخاري: 6/172؛ ومسند الجعدِ، لعلي بن الجعد الجوهري 2/1045، 1046؛ وذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم الأصبهاني 2/124؛ قال الهيثمي: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح غير عمر بن عبد الرحمن بن عطية وهو ثقة؛ مجمع الزوائد 8/6؛ وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/576.
(4) صحاح الجوهري مادة (عصب).
(5) لسان العرب مادة (عصب)
(6) تفسير القمي ج1 ص198.
(7) الخصال (ص 449/ ح52).
(8) شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي: ج1، ص307.
(9) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج7، ص59.
(10) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص527، ب47، ح1.
(11) الغيبة للطوسي: ص255، ح228.
(12) المصنف - ابن أبي شيبة الكوفي: ج8، ص671/152.
(13) المصنف - ابن أبي شيبة الكوفي: ج8، ص619/179.
(14) القاموس المحيط: ج3، ص49.
(15) سبل الهدى والرشاد: ج10، ص193.
(16) عقد الدرر للمقدسي: ص317.
(17) الرواية وإن رواها المقدسي عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، إلّا أنها أولاً ضعيفة بالإرسال، وثانياً لم ترد في كتبنا، بل رواتها من العامة، لذا عبرنا عنها بالعامية.
(18) الفتن للمروزي: ص402.
(19) المصنف - ابن أبي شيبة الكوفي: ج8، ص619/178.
(20) المعجم الأوسط للطبراني: ج2، ص176.
(21) مسند أحمد: ج5، ص357.
(22) المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج8، ص618، رقم 177.
(23) الكافي للكليني: ج1، ص198، بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ هُمْ أَرْكَانُ الأَرْضِ، ح3.
(24) الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي: ج5، ص116.
(25) الفتن لنعيم بن حماد المروزي: ص401.
(26) مسند أحمد (ج 2/ ص201).
(27) صحيح مسلم (ج 8/ ص202).
(28) الفتنُ لنعيمٍ بنِ حماد: ص402.
(29) كمال الدين للشيخ الصدوق ص527 ب47 ح1.
(30) الفتن لنعيم المروزي: ص404.
(31) جامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد بن جرير الطبري: ج20، ص19، رقم 20621.
(32) الفتن للمروزي: ص402.
(33) سبل الهدى والرشاد: ج10، ص193.
(34) الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي: ج5، ص116.
(35) جامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد بن جرير الطبراني: ج20، ص19، ح20623.
(36) غريب الحديث للحربي: ج1، ص102.
(37) الصحاح للجوهري: ج3، ص1281.
(38) جامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد بن جرير الطبراني: ج20، ص19، ح20623.
(39) جامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد بن جرير الطبراني: ج20، ص19، ح20623.
(40) كنز العمال للمتقي الهندي: ج14، ص343، رقم 38881.
(41) الدر المنثور في التفسير بالمأثور لجلال الدين السيوطي: ج5، ص116.
(42) عقد الدرر للمقدسي: ص317.
(43) تفسير السمرقندي لأبي الليث السمرقندي: ج2، ص593.
(44) انظر محاسن التأويل 8/86؛ وصحيح أشراط الساعة: 303.
(45) انظر فتح البيان في مقاصد القرآن 10/71.
(46) البداية والنهاية 19/ 251.
(47) أشراط الساعة الكبرى ص127 - 128 - د. فهد بن عبد العزيز الفاضل.
(48) انظر البداية والنهاية 19/ 254.
(49) أمر العامة: يعني قيام الساعة؛ انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 18/87.
(50) خويصة أحدكم: أي موته؛ انظر شرح صحيح مسلم للنووي 18/87.
(51) صحيح مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في بقية من أحاديث الدجال: 4/2267؛ أشراط الساعة الكبرى ص129 - د. فهد بن عبد العزيز الفاضل.
(52) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص527، ب47، ح1.
(53) عقد الدرر للمقدسي: ص317.
(54) الغيبة للنعماني (ص 243/ باب 13/ ح27).
(55) بصائر الدرجات للصفار: ص204 ب4 ح36؛ الكافي (ج 1/ ص231/ باب ما عند الأئمَّة من آيات الأنبياء (عليهم السلام)/ ح1).
(56) الإمامة والتبصرة لابن بابويه القمي: ص116، ب31، ح108.
(57) مسند الشاميِّين (ج 1/ ص405/ ح703).
(58) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص376، ب35، ح7.
(59) كمال الدين للشيخ الصدوق ص527 ب47 ح1.
(60) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج12، ص140.
(61) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص43.
(62) التفسير الصافي للفيض الكاشاني: ج4، ص74.
(63) الفتنُ لنعيمٍ بنِ حماد: ص402.
(64) لسان العرب لابن منظور: ج12، ص543.
(65) سبل الهدى والرشاد: ج10، ص193.
(66) بحار الأنوار 52: 376 و377/ ح178.
(67) تفسير العيّاشي 2: 242/ ح14.
(68) مختصر بصائر الدرجات: ص26 و27.
(69) تفسيرُ القُمّي: 2 - 245.
(70) الفتنُ لنعيمٍ بنِ حماد: ص402.
(71) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص527، ب47، ح1.
(72) جامع البيان عن تأويل آي القرآن لمحمد بن جرير الطبراني: ج20، ص19، ح20623.
(73) عقد الدرر للمقدسي: ص317.
(74) لسان العرب لابن منظور: ج12، ص635 و 636.
(75) تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ج12، ص185.
(76) مناقب آل أبي طالب (ج 3/ ص404).
(77) الفتن للمروزي: ص402.
(78) الفتن لنعيم المروزي: ص404.
(79) النهاية في غريب الحديث والأثر لمجد الدين ابن الأثير: ج2، ص50.
(80) لسان العرب لابن منظور: ج12، ص188.
(81) مختصر بصائر الدرجات: ص210.
(82) الغيبة للطوسي: ص255، ح228.
(83) لسان العرب لابن منظور ج4 ص190.
(84) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص210.
(85) الفتنُ لنعيمٍ بنِ حماد: ص402.
(86) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص527، ب47، ح1.
(87) صحيح مسلم: ج1، ص95 و96.
(88) تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج6، ص344.
(89) تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج6، ص344.
(90) انظر الإشاعة لأشراط الساعة: 358.
(91) انظر لوامع الأنوار البهية 2/149.
(92) انظر مفردات ألفاظ القرآن 306؛ ومحاسن التأويل 13/87.
(93) انظر مجمع البيان 5/251؛ والمروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في التفسير 2/663 - 670.
(94) انظر الجامع لأحكام القرآن 13/236؛ وإتحاف الجماعة 2/305 - 331.
(95) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص43.
(96) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص43.
(97) الكافي للكليني: ج1، ص198، بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ هُمْ أَرْكَانُ الأَرْضِ، ح3.
(98) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص208.
(99) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص208.
(100) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص34.
(101) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص206 و207.
(102) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص209.
(103) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص209.
(104) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص209.
(105) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص209 و210.
(106) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص36.
(107) في الأصل المطبوع: رب الأرض، وهو تصحيف ظاهر، والمراد بالزر ما به قوام الشيء يقال: هو زر الدين، أي قوامه. [هامش بحار الأنوار ج53 ص 69].
(108) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص40 و41.
(109) بحار الأنوار: ج53، ص111.
(110) الكافي للكليني: ج1، ص198، بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ هُمْ أَرْكَانُ الأَرْضِ، ح3.
(111) ميزان الاعتدال للذهبي 1: 384.
(112) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص210.
(113) مختصر بصائر الدرجات للحلي: ص211.
(114) الكافي للكليني: ج1، ص198، بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ هُمْ أَرْكَانُ الأَرْضِ، ح3.
(115) مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 24.
(116) مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 24 و25.
(117) مختصر بصائر الدرجات للحلي ص25.
(118) مختصر بصائر الدرجات للحلي ص37.
(119) مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 26 و27.
(120) مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 188.
(121) مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 43.
(122) مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلّي: 24.
(123) مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلّي: 18.
(124) الكافي للكليني: ج8، ص206 و 207، ح250.
(125) مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي: ص48.
(126) مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي: ص48 و49.
(127) الفتنُ لنعيمٍ بنِ حماد: ص402.
(128) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص527، ب47، ح1.
(129) ويمكن أن يكون المقصود منها علامة كونية حقيقية، فالشمس بدلاً من أن تشرق من المشرق، هي تشرق من المغرب، فتكون علامة كونية واضحة للعيان، ولكنها ليست من علامات الظهور، إنما هي من علامات الساعة، وهذا ما صرحت به بعض الروايات، ومنها التالي: فقد جاء في كتاب الغيبة للشيخ الطوسي: ص436 عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): عشر قبل الساعة لابد منها: السفياني، والدجال، والدخان، والدابة وخروج القائم، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى (عليه السلام)...».
(130) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص77 – 78، ب47، ح1.
(131) مختصر بصائر الدرجات للحلي ص 37.
(132) بحار الأنوار: ج83، ص62.