أبحاث العدد:
المسار:
الموعود » اعداد المجلة » العدد ١٥ / جمادى الآخرة / ١٤٤٤ هـ
لتصفح المجلة بـ Flsh
لتحميل المجلة كـ Pdf
العدد 15 / جمادى الآخرة / 1444 هـ

ضرورة الحكومة المهدوية بين نظرية العَقد الاجتماعي وارتكازية العصمة

ضرورة الحكومة المهدوية
بين نظرية العَقد الاجتماعي وارتكازية العصمة

الشيخ حميد الكلابي

تمهيد:
يبدأ البحث في القضايا المختلف عليها بتصوير أصل القضية ومفرداتها تصويراً دقيقاً، لئلا ينزلق الأمر إلى منخفضات النزاع اللفظي، ثم تناقش القضية إثباتاً أو نفياً بالأدلة تارة، وبنقض أدلة الطرف الآخر تارة أخرى، أو حلها، وبذلك يُثرى البحث وتكون له سعة من الكلام، لأجل الوصول إلى النتيجة المطلوبة.
أمّا القضايا البديهية والمتفق عليها، فلا يجد الباحث تلك السعة، بل لا معنى لبحثها، لمكان وضوحها، وعدم الخلاف فيها غالباً، إلّا أنه يبقى مجال آخر للبحث فيها، وهو تصوير القضية من جوانب مغفول عنها، تحتاج في إظهارها، والتنبيه عليها، ليتجلى ما يخفى منها على الأذهان، إلى تحليل لمقولاتها وتلمسها من هنا وهناك، وهذا مجال واسع أيضاً للبحث في أمثال هذه القضايا.
إن من هذه القضايا ضرورة الحاكم، وأن له التصرف بما يتعدى إلى التصرف في النفوس، فضلاً عن الأموال وغيرها، وهذا متفق عليه بين المسلمين في خصوص النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، بل هو مما تقتضيه الحياة عموماً.
وأمّا في الإمام من بعده، فقد اختلف المسلمون في ذلك، إذ ذهبت الشيعة الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى عصمة الإمام بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأن له ما للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) في التصرف، للحديث المشهور المعروف المتواتر عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قوله في غدير خُمٍّ، آخذاً بيد علي (عليه السلام): «يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ وَلِيُّكُمْ وأَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ»؟ فَقَالُوا: الله ورَسُولُه، فَقَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاه وعَادِ مَنْ عَادَاه»(1)، وغيرها من النصوص الصريحة.
وهذا التصرف على سعته محدود بحدود الشريعة ومصلحة المولّى عليهم، بل إن هذه الحدود مأخوذة في معنى الولاية وحقيقتها، وإلّا لانخرمت ولايته من رأس، ولم يستحق إطلاق اسم الوالي عليه، ومن هنا لا ولايةَ للأب على ولده فيما لو تصرف فيما هو مفسدة فيه أو في أمواله.
وذهبت سائر المذاهب الإسلامية إلى عدم العصمة في الخليفة بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبالتالي عدم وجوب طاعته بهذه السعة التي يتمتع بها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإن صرحوا بوجوب طاعة الحاكم وإن كان فاسقاً(2)، فقد أنكروا العصمة في الحاكم، وأضحت هذه القضية من القضايا التي لها الصدارة في الخلاف بين الشيعة الإمامية، وباقي الفرق الإسلامية.
إلّا أننا لما رأينا بعض علماء العامة - كالفخر الرازي وغيره - يقولون بالعصمة وإن أخفق الرازي في مصداقها بل الذين كتبوا عن علي (عليه السلام)، لم يجدوا عليه أدنى مغمزٍ يغمزونه فيه مع كثرة أعدائه، بل حتى أعدائه يشهدون له بالولاية والفضل وأنه مع الحق والحق معه(3)، وهذا كاشف عن عصمته وإن لم يصرحوا بها.
إضافة إلى أن (جان جاك روسو) في نظريته (العقد الاجتماعي) ينظِّر للطاعة المطلقة للحاكم بالعقد بين الرعية وبينه - كما سيأتي -، فجال في ذهني عند تصفح كتابه وبيان مرامه أنه يقترب من القول بالعصمة في الحاكم في قوله بالطاعة المطلقة له وإن لم يلتفت إلى ذلك.
من هنا حاولت الربط بين تلك المرتكزات والاعترافات، وبين ما يعتقده الإمامية في الحاكم بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهو الطاعة المطلقة عند (جان جاك روسو) الملازمة للعصمة أو قل لو صححنا له ذلك: أن الحاكم يجب طاعته مطلقاً لعصمته، لكي يصل المولَّى عليهم إلى مبتغاهم المنشود، والسعادة المطلقة واللذة الخالصة في عالم الدنيا، هذا من جهة، وأن العصمة التي اعترف بها الرازي إنما هي في شخص الحاكم، لا ما ذهب إليه من كونها في أهل الحل والعقد، من جهة أخرى، ونحن يكفينا هذان المنطلقان - أعني العصمة والطاعة المطلقة - في تصوير الارتكاز عندهما وعند من يقبل مقولتيهما.
إن قضية الولاية والحكومة من الأمور البديهية الضرورية للمجتمع البشري(4)، لأن النزعات البشرية والرغبات الشخصية، وحب الإنسان لنفسه ومصالحه، يلازمها ويرافقها أن يعتدي أحدهم على الآخر غالباً، بحكم التزاحمات الحاصلة في عالم المادة، إضافة إلى تحكّم الأهواء والعصبية والقوة، فيُضطهد المستضعف، ويَستبد القوي، وتنعدم المساواة، وتبرز الطبقية، لعدم الرادع تنظيرا وتطبيقا، ومن هنا يحكم العقل بضرورة الإمامة والحكومة، لأجل حفظ النظام والنوع البشري، وبسط العدل والأمن.
ومن هنا نظَّر أفلاطون لجمهوريته، والفارابي لمدينته، وكما هو أمل الرسالات السماوية وهدفها، وغاية المنظّرين للحكومات من الفلاسفة والمفكرين أمثال (هوبز) و(روسو)، لأجل الحد من اختلال النظام بوضع دستور ضامن للحقوق، والتنظير لحاكم مطاع بالبيعة والانتخاب.
إن الفكر الإسلامي وفّر على البشرية دستورها، وهو القرآن الكريم والسنة المتمثلة بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأهل بيته الطاهرين المعصومين (عليهم السلام)، وبَيَّن القرآن الكريم وصاحب الرسالة النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) الحاكمَ المطلق من بعده، بالنص الصريح، وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام) للقيام بمهمة تطبيق قانون الإسلام، إلّا أن الأُمة انحرفت عن مسارها، وانقلبت على الأعقاب ﴿أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ﴾ (آل عمران: 144).
وهذا الانحراف أدى إلى تخبط المسلمين في ماهية الحاكم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وهذا التخبط أصبح الآن من المدونات المسطورة فقط، لأن الحكومات أضحت بعد الانحراف إلى يومنا هذا لا صلة لها بالتنظير الذي يذكرونه لتبرير الحكومات التي جاءت بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، بل ابتعدت عن كل القراءات المنظّرة للحاكم والحكم بين المسلمين، فصار الحكم بعد الانحراف ملكاً عضوضاً(5)، أخبرت به الشريعة، وصار الدستور بيد الحاكم يتقاطع في كثير من فقراته مع القرآن والسنة، إن لم يكن معادياً لهما.
اشتدت الأزمة لسوء التنظير والتنظيم، وأصبحت الأُمة بين مستضعف لا حيلة له، ومستبد متسلط، مع إقرارهم بأن وجود المعصوم بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) يحفظ الأُمة من الضلال بوجوب طاعته، وربما يظهر من نص أبي محمد بن متويه رحمه الله تعالى في كتاب الكفاية على أن علياً (عليه السلام) معصوم، وإن لم يكن واجب العصمة(6)، إلّا أنه لم يشترط العصمة في الإمامة، حيث قال: (ولا العصمة شرط في الإمامة، لكن أدلة النصوص قد دلت على عصمته، والقطع على باطنه ومغيبه، وأن ذلك أمر اختص هو به دون غيره من الصحابة...)(7)، إلّا أنه يكفينا أنه أقرّ بدلالة النصوص على عصمة أمير المؤمنين (عليه السلام).
ثم إنه لابد أن يرافق ذلك الحاكم نظام عادل ودستور ماثل يطبقه، وهذا بدوره يحتاج إلى قوة وقدرة تمكّنه من تطبيق القوانين على الرعية، بالبيعة، أو بالعقد الاجتماعي كما يُسمّيه (روسو)، لإعطاء الإطلاق للحاكم في تصرفه، ظناً منه أن ذلك يوجب العدل بين البشرية.
ولابد من ذكر عدة أمور تُبيّن ما ذكرناه، نتلمَّس منها ارتكازية العصمة، ووجوب طاعة الحاكم طاعة مطلقة في وجدان بعض العلماء المسلمين والمفكرين من غيرهم ومنهم (جان جاك روسو) ومن قبله (هوبز)، ليلتقي هذا الارتكاز مع ما يعتقده الشيعة الإمامية في وجوب العصمة في الإمام، وأنه الحاكم المطلق ولابدية وجوده بين البشرية، لتطبيق المشروع الإلهي على البسيطة وإن غاب عن الأنظار، وهو الإمام الحجّة المهدي (عجَّل الله فرجه).
مركز الخطأ بين النظرية والتطبيق:
تقسم العلوم إلى علوم إنسانية وعلوم طبيعية:
لا تعنينا هنا العلوم الطبيعية، وأما العلوم الإنسانية، فإنها معنيّة بوصف الواقع، لأجل تنظيمه بنظام معين، للوصول إلى نتائج معينه، ومن ذلك نظام الحكومة الذي حاولت البشرية وضع نظرية ناجعة للحكم، للحفاظ على العدالة الفردية والمجتمعية وحفظ الحقوق والحريات وغير ذلك، وللتخلص من السلبيات المرافقة للمجتمع، بسبب التزاحمات التي تحصل بين البشرية لمدنية الإنسان بالطبع، وحب كل إنسان لنفسه، ومصالحه، وهذا يوجب التشاح والاختلاف والتعدي على الحقوق، لذا نجد السعي الحثيث من الخبراء والمقننين النظر في النظريات المطروحة بتعديلها أو وضع نظريات جديدة خالية مما تجده من خلل في سابقتها، أي في نفس النظرية لا في تطبيقها.
إن ما حصل ويحصل من الفشل في الحكومات - ومنها الإسلامية - على مر التاريخ، ليس هو من الخطأ في التطبيق فقط، وإنما للخلل في نفس النظرية، وفي كثير من الحكومات الإسلامية نجد أنهم لم يأخذوا بنظام الإسلام الأصيل المتمثل بالقرآن وسُنة المعصوم (عليه السلام)، بل أبعدوه أيَّما بُعد، وأتوا بنظام تحت غطاء الإسلام بتغييرات تتقاطع مع الفكر الإسلامي الأصيل، فلم يدونوا حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) المفسِّر للقرآن الكريم، بل منعوا تدوينه بحجج واهية منذ صدر الإسلام، فبرزت نظرية الاجتهاد مقابل النص، بل استحدثوا نصاً موازياً للنص الأصيل، ممن ليسوا أهلاً لحفظ أحاديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وركنوا إليه جاعلينه هو الأصل مستمدين منه، فصارت نظريتهم النص مقابل النص في كثير من الموارد، والرأي مقابل النص، والاستحسان والقياس، فضلاً عن الاجتهاد مقابل النص.
وقد تكونت نظرية موازية للنظرية الأُم في الحاكم، فأحدثوا الشورى، وإجماع الأُمة، وأهل الحل والعقد، ووجوب إطاعة الحاكم وإن كان جائراً، وأنه لا ينعزل بالفسق أو بالخروج عن طاعة الله(8)، وإن ظلم وغصب الأموال وضرب الأبشار وتناول النفوس المحرمة(9) و...، إلى غير ذلك من النظريات المحايدة للفكر المحمدي الأصيل المتمثل بالمعصوم (عليه السلام)، فأنتج ذلك كما قال التفتازاني:
(إن اختلاف الصحابة فيما بينهم أمر معلوم، وقتل بعضهم بعضاً مسألة تعج بها صفحات التاريخ، وانحراف الكثير منهم عن الحق تثبته كتب السير والأخبار)(10).
عندئذٍ يكون الفشل والخطأ في الحكومات الإسلامية مرجعه إلى النظرية، التي أخذوها بفهمهم عن الإسلام، متعمدين كانوا أم لا، بل رجعوا إلى الجاهلية، كما روي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): من مات وليس له إمام(11) من ولدي مات ميتة جاهلية. ويؤخذ بما عمل في الجاهلية والإسلام»(12)، ونزوا نزو القردة على منبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)(13)، لا الخطأ في التطبيق فحسب، وإنما أخذوا ما يحلو لهم ولغاية يرونها.
من هنا نعرف أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) قد تكفل هذه المهمة بأمر السماء، ولا دور للبشرية في اختيار دستورها وإمامها، لمعرفة السماء بمصالح البشرية ومفاسدها.
وجوب العصمة في الحاكم:
إن ضرورة وجود الحاكم على البشرية أمر يقبله العقل والعقلاء بوضوح، ولولاه لما استقام النظام العام، ويشهد لذلك الواقع عند وجود أُمة بدون حاكم أو دستور، ولكنَّ وجود الحاكم لا يكفي لوحده لسد فجوة اختلال النظام ما لم يكن معصوماً، وإلّا لرجع الاختلال في النظام بسبب عدم العصمة المقتضية للخطأ واتِّباع الأهواء والرغبات، من هنا كانت العصمة ضرورة للحاكم، وهي توجب الطاعة المطلقة له، لاطمئنان الاتباع به لعلمهم بعصمته، فالعصمة ملازمة لوجوب الطاعة المطلقة للمعصوم، لحقانيتها في كل أمر ونهي ومطابقتها للواقع، وضمان تلك المطابقة.
هذه العصمة ووجوب الطاعة المطلقة نجدها في بعض من التنظيرات للحاكم، فقد اعترف الفخر الرازي بمبدأ العصمة في (أولي الأمر) في تفسير قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 59)، كما اعترف ابن متويه في عصمة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكنه يختلف عن الرازي في تشخيص المصداق.
قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة:
(يدل عندنا على أن إجماع الأُمة حجة، والدليل على ذلك أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لابد وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنه محال، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ، فثبت قطعاً أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لابد وأن يكون معصوماً، ثم نقول: ذلك المعصوم إمّا مجموع الأُمة أو بعض الأُمة، لا جائز أن يكون بعض الأُمة؛ لأنا بينا أن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية قطعاً، وإيجاب طاعتهم قطعاً مشروط بكوننا عارفين بهم قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم، ونحن نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم، عاجزون عن الوصول إليهم، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منهم، وإذا كان الأمر كذلك علمنا أن المعصوم الذي أمر الله المؤمنين بطاعته ليس بعضاً من أبعاض الأُمة، ولا طائفة من طوائفهم. ولما بطل هذا وجب أن يكون ذلك المعصوم الذي هو المراد بقوله: ﴿وَأُولِي الأَمْرِ﴾ أهل الحل والعقد من الأُمة، وذلك يوجب القطع بأن إجماع الأُمة حجة)(14).
قد توهم الرازي في زعمه أن أولي الأمر هم أهل الحل والعقد، بعد زعمه عدم إمكان أن يكون مجموع الأُمة ولاةً للأمر، وعدم كونه بعض الأُمة، وغفل عن أن أهل الحل والعقد بعض الأُمة، فكيف نعرفهم؟
وكيف نصل إليهم؟
فوقع بما فرَّ منه، وهل أهل الحل والعقد عند المذهب الفلاني، أو المذهب الآخر أو الثالث...؟
وهل الشيعة من جملة أهل الحل والعقد أم لا؟
والمهم في الأمر أنه لا يمكن للرازي إنكار أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من أولي الأمر الذين يجب طاعتهم على حد طاعة الله تعالى ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد كونه حسب نظره قد تسنَّم زمام خلافة المسلمين، إضافة إلى أن العطف في الآية الكريمة ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 59) يقتضي الاشتراك في الأعراب والحكم، والحكم هو أن الطاعة لرسول الله واجبةٌ مطلقاً بما يعم التصرف في الأنفس، لصريح القرآن الكريم ﴿النَّبِيُّ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ...﴾ (الأحزاب: 6)، فكذلك أولي الأمر، وأين هذا من إجماع الأُمة أو أهل الحل والعقد، لأنهم ليس لهم طاعة مطلقة على المولّى عليهم ولا تصرف في شؤونهم.
لم يتفقوا على قول:
ثم إن أهل السنة أنفسهم اختلفوا في الإمامة على أقوال ذكرها الجويني في كتابه غياث الأُمم في التياث الظلم، حيث قال: (قد كثر في أبواب الإمامة الخبط والتخليط والإفراط والتفريط ولم يخل فريق إلّا من شاء الله عن السرف والاعتساف ولم يسلم طائفة إلّا الأقلون عن مجانبة الإنصاف...)(15).
وقال: (قد ذهبت طوائف من أهل السنة إلى أنه لا يصلح لعقد الإمامة إلّا المجتهد المستجمع لشرائط الفتوى، وذهب القاضي الباقلاني في عُصب من المحققين إلى أن لا نشترط بلوغ العاقد مبلغ المجتهدين، بل يكفي أن يكون ذا عقل، وكيس، وفضل، وتهد إلى عظائم الأمور...)(16)، ثم اعترف بقوله: (مما نقطع به أن الإجماع ليس شرطاً في عقد الإمامة بالإجماع...)(17)، ومن هنا نعرف أنه لا إجماع هنا لكي يحفظ الأُمة من الضلال الذي يزعمه الرازي.
ثم من هم أهل الحل والعقد بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، بعد العلم بتخلف علي (عليه السلام) عن البيعة وهو من أهل الحل والعقد قطعاً.
ألا يمكن معرفة المعصوم بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) والوصول إليه، بالنظر إلى الإخبارات المتعددة المتنوعة في عدة مواطن، وعلى طول خط الرسالة، بفضل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ووضوح عصمته يدور معه الحق حيثما دار؟!
ثم قال الرازي: (فإن قيل: المفسرون ذكروا في (أولي الأمر) وجوهاً أخرى سوى ما ذكرتم: أحدها: أن المراد من أولي الأمر الخلفاء الراشدون، والثاني: المراد أمراء السرايا، قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عبد الله بن حذافة السهمي إذ بعثه النبي [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] أميراً على سرية. وعن ابن عباس أنها نزلت في خالد بن الوليد بعثه النبي [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] أميراً على سرية وفيها عمار بن ياسر، فجرى بينهما اختلاف في شيء، فنزلت هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر. وثالثها: المراد العلماء الذين يفتون في الأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم، وهذا رواية الثعلبي عن ابن عباس وقول الحسن ومجاهد والضحاك. ورابعها: نقل عن الروافض أن المراد به الأئمة المعصومون، ولما كانت أقوال الأُمة في تفسير هذه الآية محصورة في هذه الوجوه، وكان القول الذي نصرتموه خارجاً عنها كان ذلك بإجماع الأُمة باطلاً)(18)، فإنه نقض على نفسه بنفسه، وأجاب بجواب لا ينفعه في شيء ولا محل لذكره هنا.
وقد ذكر الشيخ المفيد في الفصول المختارة(19) عن الفضل بن شاذان ما يناسب الرد على الرازي:
(أليس علي بن أبي طالب من أمراء السرايا...؟ ألم يكن عليٌ (عليه السلام) من العلماء؟... أليس عليٌ (عليه السلام) قد كان من القوام على الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟... فصار أمير المؤمنين (عليه السلام) معنياً بالآية باتفاق الأُمة وإجماعها، وتيقنا ذلك بإقرار المخالف لنا في إمامته (عليه السلام) والموافق عليها، فوجب أن يكون إماماً بهذه الآية لوجود الاتفاق على أنه معني بها)(20) على طريقة الرازي ومنطقه.
نظرية العقد الاجتماعي:
العقد الاجتماعي نظرية اشتهر بها الفيلسوف الفرنسي (جان جاك روسو) (1712-1778م)، وقد سبقه إليها كل من الفيلسوف البريطاني (جون لوك) و (توماس هوبز) (1588-1679م).
اشتهرت النظرية وعرف بها (روسو) وكان من أهم أسباب اشتهارها هو قيام الثورة الفرنسية واتخاذها منهجاً في عملها.
أسس نظرية العقد الاجتماعي عند (جان جاك روسو)(21):
يرى (جان جاك روسو) أن الناس كلهم يولدون أحراراً، فليس لأي إنسان سلطان طبيعي على إنسان آخر سواء أكان فرداً أم شعباً، وليس للاسترقاق وجه شرعي يسوّغ وجوده، سواء أتعلق بالأفراد أم بالشعوب، وليس للقوي (أو الأقوى) حق طبيعي ولا أدبي يفرض له الطاعة في رقاب الآخرين، وأن الأساس الصحيح للدولة ولكل سلطان شرعي يكون بين الناس إنما هو العهد الاختياري الذي يقع في ما بينهم.
وتوضيح ذلك: أن الطبيعة زودت الإنسان بقوى محدودة تساعده على الحفاظ على نفسه بين الموجودات والبقاء بينها، وهذه القوى لا يتعداها ولا يستطيع زيادتها، بل وهبته الطبيعة بمقدار، وبالنظر لما يعاني في الحياة من عوائق كثيرة وصعوبة التأقلم معها برصيده من القوى المحدودة التي منحتها له الطبيعة فإنه مهدد بالانقراض مع اشتداد هذه العوائق.
فإن القوى العامة الموجودة عادة تتغلب على القوى الخاصة التي يمتلكها الإنسان حال كونه منفرداً منعزلاً، وعليه فإن الإنسان بلحاظ نفسه أي كل فرد فرد يصعب بقاؤه ويسير إلى الهلاك.
وتطرح النظرية حلاً للبقاء والمقاومة في ظل هذه المعوقات من أجل البقاء والتغلب عليها وهو وسيلة التكتل.
وكيفية ذلك من خلال اجتماع الأفراد وتشكيل قوة كبيرة، فبدل الفرد الذي يتحرك منعزلاً عن الآخرين بعد تحديد هدفه والذي يمتلك قابليات محدودة لا يمكن تجاوزها أو زيادتها، والضعيفة بلحاظ المعوقات العامة، والتي يتعذر بقاؤه معها، هنا في هذه النظرية يتم تشكيل قوة كبيرة موحدة تتحرك باتجاه وهدف واحد وبمحرك واحد وهذه القوة أو هذا التكتل يستطيع الوقوف والتغلب على المعوقات بل على كل مقاومة.
والسبيل إلى ذلك هو العقد الاجتماعي، فبه يحفظ الإنسان نفسه وماله وحقوقه، وبنفس الوقت يحفظ حريته.
أمّا بخصوص شروط العقد الاجتماعي فيذكر هذا الفيلسوف شرطاً مهماً ترجع إليه كل الشروط وهو: أن يبيع كل فرد من المشتركين في هذا التكتل نفسه وجميع حقوقه بيعاً شاملاً إلى إدارة هذا التجمع، وبهذا الشرط يتساوى الجميع، فلا يكون هذا الشرط ثقيلاً عليهم ويعود بالمصلحة للجميع، لأن كل واحد منهم يهبُ نفسَه للجميع، وليس لأحد منهم، فكل واحد يشترك بهذا الحق، فما تنازل عنه، يظفر به من الجميع وبزيادة قوة يحفظ بها نفسه ومتعلقاته.
نقطة الاشتراك الارتكازية:
نحن نركز على شيء واحد من كل ما سبق من القراءات المنظّرة لماهية الحاكم، الذي هو نقطة مشتركة بين جميع النظريات الإسلامية والدينية والمدنية، هي التصرف المطلق للحاكم وفق التعاقد المبرم بين الحاكم والرعية.
إن التصرف المطلق والصلاحيات المطلقة للحاكم الإسلامي من ضروريات الإسلام وبداهاته بالنسبة إلى الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، عند المسلمين قاطبة، لقوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب: 6) وعند الشيعة الإمامية ومن ضرورياتهم لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وعند بعض علماء العامة كما تقدم لأن المعصوم يجب طاعته مطلقاً، وإن أخطأ الرازي في تشخيص المصداق.
وإن جميع الأديان السماوية تنتظر المخلص للبشرية، ولا معنى لانتظاره إلّا الائتمار بأمره مطلقاً، لعلمهم بمنصبه الإلهي المستبطن للعصمة ووجوب الطاعة له.
وكذلك الحال في نظرية العقد الاجتماعي التي ذهبت إلى وجوب الطاعة المطلقة للدولة والحاكم، لتلمسه ارتكازاً ضرورة إطلاق الحاكم قوة وتطبيقاً وإن كان بالتعاقد الاجتماعي، مما يعني أنه يرغَب بوجود حاكم أو سلطة يجب التسليم إليها، تمثل القوة العامة التي تحفظ القوى الخاصة، وبدونها لا يمكن بسط العدالة والأمن والمساواة بين البشرية، بل تتعرض الأُمة للهلاك بدون ذلك العقد.
النظرية المختارة في الإمامة:
يمكن القول بضرورة قضية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الفكر الإسلامي، ومعنى ذلك أن كل المسلمين يعتقدون بضرورة الاحتياج إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من أجل الحفاظ على دين الله (عزَّ وجلَّ) وتطبيقه على كل البسيطة، وبسط العدالة الاجتماعية بين الناس، وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف (روسو) في نظريته مع فارق هو: عدم المعرفة بدين الإسلام ونظامه السماوي وحكومته العادلة على جميع سكان الأرض بلا حدود تحده، ولا دين يميزه في إنسانيته وحقوقه، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في تصنيف الناس: «إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»(22)، ورغم عدم إيمانه بمقولات الإسلام، إلّا أنه ذهب إلى الحاجة إلى الدولة وأن على المواطن أن يبيع نفسه إليها مطلقاً، لأجل تحقيق العدالة، ويرى أن من دون ذلك لا يمكن إنهاء الأزمات والنزاعات الموجودة، ولكنه مع ذلك لم تسعفه نظريته التي ما برحت تُبيد الشعوب الضعيفة، فضلاً عن الدول الكبرى، لأن صرف البيعة للحاكم والطاعة المطلقة له غير كافية ما لم يكن الحاكم معصوماً.
والخلاصة: إن الذي يحقق العدالة التامة يتمتع بقوة غير محدودة، متصلة بالسبب الرئيسي للوجود، وأن يبيع الفرد نفسه إليها ﴿النَّبِيُّ أَوْلى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب: 6) والبيعة له، والذي لابد من وجوده في الأرض «إن الأرض لا تخلو من حجة»(23)، ويمكن الرجوع إليه هو الإمام المنصوص عليه، فبيعة المجتمع له لأجل تمكينه من فرض سيطرته باختيارهم لا بالإجبار.
قال السيد كاظم الحائري: (إن المعصوم (عليه السلام) على رغم أن له ولاية الأمر والحكومة بتشريع من قبل الله تعالى لم يكن من المقرر إلهياً أن يرضخهم لما له من حق الحكومة بالإكراه الإعجازي، كما أنه لا تجبر الأُمة على الأحكام الأخرى كالصلاة والصوم بالجبر الإعجازي وإلّا لبطل الثواب والجزاء، لأن الناس يصبحون مسيَّرين عن غير اختيار، بل كان من المقرر أن يصل المعصوم إلى السلطة بالطرق الاعتيادية، ومن الواضح الوصول إلى السلطة بالطريق الاعتيادي وبغير الإعجاز ينحصر في وجود ناصرين له من البشر، فكان أخذ البيعة منهم لأجل التأكد من وجود ثلة كافية من الأُمة تعهدوا بنصر المعصوم والعمل معه في جهاده وسائر أموره الحكومية ولولاهم لعجز المعصوم حسب القوة البشرية ومن دون الإعجاز عن تحقيق السلطة والحكومة خارجاً)(24).
إن الدين الإسلامي لم يهمل قضية الحكومة والإمامة، لضرورتها وخطورتها، وقد ذكرت الشريعة أرش الخدش، فلا يعقل تركها لمثل هذه القضية المصيرية، التي بات «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»، فعرّفت بالإمام بشكل واضح، وبمواطن متعددة، إلّا أن الأُمة هي التي ضيَّعت هذا المنصب عن صاحبه الحق بعد رحيل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، بل في حياته، ورزية الخميس شاهد حيٌّ في مسطورات الكتب على ذلك(25)، ذلك المنصب الذي كان أمل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبغية الأنبياء (عليهم السلام)، لحفظ الأُمة من الضلال والسير نحو العدالة الإلهية، فأفشلت الأُمة المشروع الحكومي الإلهي بتقاعسها، وخذلانها وعدم وقوفها إلى جانب قمة العلم والقرآن الناطق، ولسان الصدق العلي، ومنبع فن القدرة والإدارة السياسية والقضاء العدل(26)، فساء طالعها وتفتتت آراؤها وبان فشلها وذهب ريحها.
إن هذه النظرية الإلهية للحكومة تظهر آخر الزمان، وهي ليست أطروحة شيعية فقط، وإنما هي أطروحة دينية بشَّرت بها الرسالات، ولا تختص ببقعة معيَّنة من الأرض، وإنما يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، تلمسته النظريات الوضعية بالقول بالطاعة المطلقة للحاكم وإن لم تنظر إلى المصداق الحقيقي لعدم إيمانها به.
تجسد الإمامة في المهدوية:
تُعد قضية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الفكر الإسلامي من القضايا المتفق عليها، وقضية انتظاره محسومة، والخلاف الذي وقع بين المسلمين ليس في أصل القضية، وإنما في تفاصيلها، وبعض خصوصياتها، وهذا خلاف طبيعي، نشأ أيضاً من سوء السلطة وانحرافها، وتمتد جذوره إلى الخلاف العقائدي في أصل الإمامة، لكن هذا الخلاف لا يُخرِج القضية عن كونها ضرورة نجدها في أقوال علماء المسلمين، فقد قال ابن حجر: (قال بعض الأئمة: قد تواترت الأخبار واستفاضت بكثرة عن المصطفى [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] بمجيء المهدي، وأنه من أهل بيته وأنه سيملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلاً، وأنه يخرج مع عيسى عليه الصلاة والسلام...)(27).
وفي كتاب القول المختصر قال ابن حجر: (الذي يتعين اعتقاده ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة من وجود المهدي المنتظر [(عجَّل الله فرجه)] الذي يخرج الدجال وعيسى في زمانه، ويصلي عيسى خلفه)، فالإيمان بضرورة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من عقائد المسلمين التي لا يجوز التشكيك فيها.
الغيبة لا تنافي الإمامة:
ومن هنا نعلم أن الإمام (عجَّل الله فرجه) وإن كان غائباً إلّا أنه هو الحاكم الفعلي والمتصرف الحقيقي.
إنَّ الغيبة لا تلازم عدم التصرّف في الأمر مطلقاً، بل قد دلَّت الروايات على وجه الانتفاع في غيبته: «أمَّا وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيَّبتها عن الأبصار السحاب»(28).
وروى علان قال: حدثني ظريف أبو نصر الخادم قال: دخلت عليه - يعني صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه) - فقال لي: «عليَّ بالصندل الأحمر»، فقال: فأتيته به، فقال (عليه السلام): «أتعرفني»؟ قلت: نعم، قال: «من أنا»؟ فقلت: أنت سيدي وابن سيدي، فقال: «ليس عن هذا سألتك»، قال ظريف: فقلت جعلني الله فداك فسِّر لي، فقال: «أنا خاتم الأوصياء، وبي يدفع الله البلاء عن أهلي وشيعتي»(29).
وقوله: «إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء»(30).
وعن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: لما أنزل الله (عزَّ وجلَّ) على نبيه محمد (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولوا الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «هم خلفائي يا جابر، وأئمة المسلمين (من) بعدي، أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن والحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم سميي وكنيي حجة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن بن علي، ذاك الذي يفتح الله (تعالى ذكره) على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلّا من امتحن الله قلبه للإيمان»، قال جابر: فقلت له: يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «إي والذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره، وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس وإن تجللها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله ومخزون علمه، فاكتمه إلّا عن أهله...»(31)، فإنها سر من أسرار الله (عزَّ وجلَّ) وإن لم نعرف الحكمة منها كما في الحديث.
حتمية الحكومة المهدوية:
بنظرة إلى تاريخ البشرية عموماً وحكوماتها، لم نجد حكومة حققت للبشرية مبتغاها، إلّا بعض المراحل وبحدود ضيقة، والغالب منها: إمّا حكومات قاهرة لرعاياها ظالمة لمن تسودها، وإمّا متسلطة عليها بذرائع دينية استغفلت بها الرعية، وإما حكومات مدنية مستحدثة بقوانين وضعية شعارها بسط العدالة لرعيتها، ولكنها لم تحقق ذلك لهم، فإنا نجد المعارضات، والثورات بين فينة وأخرى، وحتى لو ادَّعت تلك الحكومات الحرية والديمقراطية لشعوبها، فإنا لم نجد ذلك في حساب تلك الحكومة بالنسبة لغير شعبها، فنجد كثرة الحروب، واحتلال دولة لدولة أخرى، بحكم القوة والهيمنة التي تمتلكها الدولة المحتلة، وبتملُّكها الأسلحة الفتاكة، وقد تتذرع للاحتلال بذرائع براقة، كالاستعمار، والحماية، واستتباب الأمن في المنطقة، وغير ذلك من شعارات، مما يعني للمفكر والناظر أن هذه النزاعات لا تنتهي، وهذه القوانين غير مجدية لصلاح البشرية.
وقد يرجو البعض متفائلاً في تطور الدساتير والفكر البشري والمجتمعات، وتحصل حالة الإصلاح لجميع البشرية بمرور الزمن، فلا حروب ولا نزاعات، ولا محل لليأس في مثل هذه الأمور بعد أن لم نعلم المستقبل، ولم تنته الدنيا بعد.
ولكن ذلك التفاؤل ليس في محله، وذلك لإخبار المعصوم (عليه السلام) بأن الدنيا سوف تمتلئ ظلماً وجوراً، فقد ذكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) بلاءً يُصيب هذه الأُمة، حتى لا يجد الرجل ملجأً يلجأُ إليه من الظلم، فيبعث الله رجلاً من عترتي من أهل بيتي فيملأ به الأرض قسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، لا تدع السماء من قطرها شيئاً إلّا صبَّته مدراراً، ولا تدع الأرض من مائها شيئاً إلّا أخرجته، حتى تتمنى الأحياء الأموات. يعيش في ذلك سبع سنين أو ثمان أو تسع سنين(32)، والأحاديث بهذا المضمون كثيرة مستفيضة مشهورة.
خاتمة: ملامحٌ من حكومة الإمام المعصوم (عليه السلام):
لم نجد في تاريخ الإسلام حكومة للمعصوم (عليه السلام) إلّا في فترة قليلة جداً، تمثلت في حكومة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولكنها - أي حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) - ابتليت بمعارضات مبكّرة أدَّت إلى حروب داخلية بين المسلمين - الجمل وصفين والنهروان -، ورغم ذلك نتمكَّن من خلال ما نُقل من أحداث حكومة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلَّم) وحكومة أمير المؤمنين (عليه السلام)، ووصاياه وعهوده (عليه السلام)، نتمكَّن أن نقرأ التجربة الإسلامية في الحكومة ونستشرف من خلال ذلك، وما موجود من روايات تتحدَّث عن ملامح حكومة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ومن ذلك ما جاء في صفة الولاة من قِبَل المعصوم (عليه السلام)، وأنهم لابد أن يكونوا في أعلى درجة من التقوى، فإن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وصف الوالي الخائن للأمانة بأبشع صورة، فنزَّله إلى ما هو أدنى من شسع النعل، وأن أمثاله لا يصلح للجهاد ولا لتنفيذ الأوامر ولا ينبغي إعلاء قدره بين الناس ولا يصلح شريكاً، إن صحَّ ما بلغه عنه من خبر الخيانة باتِّباع الهوى بعدم المساواة بين رعيته بتقديمه عشيرته على غيرها، بعد أن استدعاه للتثبت من أمره، ففي كتاب له (عليه السلام) إلى المنذر بن الجارود العبدي، وقد كان استعمله على بعض النواحي، فخان الأمانة في بعض ما ولاه من أعماله:
«أمّا بعد، فإن صلاح أبيك غرَّني منك، وظننت أنك تتبع هديه، وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقى إليَّ عنك لا تدع لهواك انقياداً، ولا تبقي لآخرتك عتاداً، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة دينك، ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس بأهل أن يسد به ثغر، أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر، أو يشرك في أمانة، أو يؤمن على جباية، فأقبل إليَّ حين يصل إليك كتابي هذا إن شاء الله»(33).
ونجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يرغّب الحاكم عن مأدبة أهل البصرة، الذين يدعون الأغنياء لولائمهم ويجفون الفقراء، ويعاتبه على فعل ذلك، ولم يتوقع من عامله تلبيةَ أمثال هذه الدعوة، لما فيه من الشائبة على حكومة الإمام (عليه السلام) بأن عامله يُدعى إلى أمثال هذه المأدبة والطعام المستطاب بين الأغنياء، فينظر الفقير المتحسّر إلى ذلك نظرةَ اشمئزازٍ قد تسري إلى الحاكم الأصل، ومن هنا ردعه الإمام علي (عليه السلام) عن مثلها بأروع عتاب، لأنه فيه تعظيم لشانه بقوله: «ما ظننتُ أنك تجيب إلى طعام قوم...»، ثم بيَّن له صفاته (عليه السلام) من الإعراض عن الدنيا وملذاتها، والأخذ منها قدر الحاجة، وقد تجسدت تلك الصفات في شخصه (عليه السلام)، ليكون قدوة للمقتدين به (عليه السلام) ففي كتاب له (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري - كان عامله على البصرة وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها - قوله:
«أمّا بعد، يا بن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجهه فنل منه.
ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدى به، ويستضيء بنور علمه، ألا وأن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادَّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى من عفصة مقرة»(34).
وأنه لا يصلح للحكومة البخيل لما فيه من النهمة(35)، والجاهل والجافي والحائف والمرتشي والمعطل للسنة، كما في قوله (عليه السلام):
«وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأُمة»(36).
وتتجلى في الحكومة الإسلامية التسوية في الحقوق بين الرعية إلّا ما خرج بالدليل بالرحمة والمحبة واللطف، وأن هذه الأوصاف شعار للحكومة الإسلامية، من دون فرق بين المسلم وغيره.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «وأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، والمَحَبَّةَ لَهُمْ، واللُّطْفَ بِهِمْ، ولا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً، تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الخَلْقِ»(37).
وفي حكومة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) نجد من الملامح البارزة القسمة بالسوية، والعدل في الرعية، لأنه يحكم بين كل أهل ملّة بشريعتهم(38)، فيحكم بين أهل التوراة بكتابهم، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وهكذا لأهل الزبور، ويحكم بين المسلمين بالقرآن، وهذا التعدد في الحكم كاشف عن عالمية حكومة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في أرجاء المعمورة، فقد روي عن جابر، قال: دخل رجل على أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فقال له: عافاك الله، اقبض مني هذه الخمسمائة درهم فإنها زكاة مالي، فقال له أبو جعفر (عليه السلام): «خذها أنت فضعها في جيرانك من أهل الإسلام والمساكين من إخوانك المسلمين»، ثم قال: «إذا قام قائم أهل البيت قسم بالسوية، وعدل في الرعية، فمن أطاعه فقد أطاع الله ومن عصاه فقد عصى الله، وإنما سمي المهدي مهدياً لأنه يهدي إلى أمر خفي، ويستخرج التوراة وسائر كتب الله (عزَّ وجلَّ) من غار بأنطاكية، ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة، وبين أهل الإنجيل بالإنجيل، وبين أهل الزبور بالزبور، وبين أهل القرآن بالقرآن، وتجمع إليه أموال الدنيا من بطن الأرض وظهرها، فيقول للناس: تعالوا إلى ما قطعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء الحرام، وركبتم فيه ما حرم الله (عزَّ وجلَّ)، فيعطي شيئاً لم يعطه أحد كان قبله، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً كما ملئت ظلماً وجوراً وشراً»(39).

الهوامش:

(1) الكافي للشيخ الكليني: ج1، ص295، ح3.
(2) هذا أيضاً يعني أنهم يرون الإطلاق في تصرف الحاكم.
(3) روى الخطيب البغدادي في تاريخه ج14، ص322 عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلَّم): «علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض يوم القيامة» وكذا في الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج1، ص109: أن عمرو بن العاص سئل عن خبر الولاية فقال: إنه حق، وقال للسائل: أزيدك: ليس أحد من صحابة النبي [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] له مناقب مثل مناقب علي. وفيه: أن سعد بن أبي وقاص قال: إن علياً شاركنا في محاسننا ولم نشاركه في محاسنه، وكان أحقنا كلنا بالخلافة. [بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، العلامة الشيخ محمد تقي التستري: مج4، ص64].
(4) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل». [نهج البلاغة: ج1، ص91]
(5) كما في حديث السفينة الذي أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً) [صحيح ابن حبان: ج15، ص392].
(6) شرح نهج البلاغة: ج6، ص376.
(7) شرح نهج البلاغة: ج6، ص376-377.
(8) شرح المقاصد النسفية: 185.
(9) التمهيد للقاضي الباقلاني: ص181.
(10) شرح المقاصد: ج5، ص302.
(11) المقصود هو الإمام المعصوم المفترض الطاعة.
(12) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج٢، ص٥٨، ب٣١، ح٢١٤.
(13) قال السيوطي في الدر المنثور: (أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد (رضي الله عنه) قال: رأى رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلَّم)] بني فلان ينزون على منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استجمع ضاحكاً حتى مات...). [الدر المنثور - السيوطي: ج4، ص191].
(14) تفسير الرازي: ج10، ص144.
(15) غياث سلطان الأُمم في التياث الظلم - إمام الحرمين أبي المعالي الجويني: ص46.
(16) نفس المصدر: ص49.
(17) نفس المصدر: ص52.
(18) تفسير الرازي: ج10، ص144.
(19) الفصول المختارة: ص118.
(20) بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة - الشيخ محمد تقي التستري: مج4، ص65.
(21) العقد الاجتماعي - جان جاك روسو، ترجمة عادل زعيتر. وملخص النظرية من كتاب إلى الطليعة المؤمنة، الشيخ محمد أمين زين الدين: ص97 وما بعدها، بتصرف.
(22) نهج البلاغة - تحقيق صالح: خطبة 53، ص427.
(23) الكافي للكليني: ج1، ص179، باب أن الأرض لا تخلو من حجة.
(24) رسالة الثقلين العدد 12، مغزى البيعة مع المعصومين.
(25) صحيح البخاري:ج4، ص29.
(26) (أقضاكم علي) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي: ج1، ص76.
(27) القول المختصر في علامات المهدي المنتظر - ابن حجر الهيتمي: ص23.
(28) الغيبة للشيخ الطوسي: ص315.
(29) الغيبة للشيخ الطوسي: ص270.
(30) الاحتجاج - أحمد بن أبي طالب: ص495.
(31) كمال الدين للشيخ الصدوق: ج1، ص253.
(32) المصنف - عبد الرزاق الصنعاني: ج11، ص372.
(33) نهج البلاغة: ج71، ص132.
(34) نهج البلاغة: الخطبة 45.
(35) (الهمة الشديدة بالأمر، أو إفراط الشهوة في الطعام)، كما في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج8، ص266.
(36) نهج البلاغة: ١٣٤، كتاب ١٣١.
(37) نهج البلاغة: الخطبة 53.
(38) وإن كان هذا في بعض مراحل ظهوره المبارك، لأن الناس من غير أهل الإسلام بعد اطلاعهم على الإسلام الأصيل سيتخذونه ديناً وبه يظهر على بقية الأديان كما نصَّت الأخبار.
(39) الغيبة للشيخ النعماني: ج1، ص241.

العدد ١٥ / جمادى الآخرة / ١٤٤٤ هـ : ٢٠٢٣/٠١/٠٤ : ١.٧ K : ٠
: الشيخ حميد الكلابي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

محتويات العدد: