أبحاث العدد:
المسار:
الموعود » اعداد المجلة » العدد ١٦ / ربيع الأول / ١٤٤٥ هـ
لتصفح المجلة بـ Flsh
لتحميل المجلة كـ Pdf
العدد 16 / ربيع الأول / 1445 هـ

وظيفة المنتظر

وظيفة المنتظر

علي السيد محمد حسين الحكيم

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمدٍ وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين الى قيام يوم الدين.
ونحن نعيش فترة غيبة إمام العصر والزمان (عجَّل الله فرجه) قد يتساءل الكثير عن دور المؤمن المنتظر وما يلزم عليه من العمل في فترة الانتظار.
وحيث توجد عدَّة نظرياتٍ تُذكر للانتظار فقد يتساءل البعض عن أيٍّ منها يمكن التمسك به حتّى لا نكون مقصرين تجاه إمام العصر والزمان (عجَّل الله فرجه)، وأمام الله تعالى بواجبنا ونحن في حال زمان الانتظار، وكلّ صاحب نظريةٍ منها يحاول أن يجعل نفسه هو الذي يريد أن يعجِّل بظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، لما يطرحه من نظريةٍ وعملٍ في زمان الانتظار، ولمناسبة اختصار الجلسة نسلط الضوء على ثلاث نظرياتٍ لأهميتها.
الأولى: نظرية الإفساد في الأرض:
وهذه النظرية تحاول أن تستمدّ شرعيتها من الحديث الوارد أنَّه (عجَّل الله فرجه) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً بظهوره، ففي الحديث:

↑صفحة 143↑

حدّثنا غير واحدٍ عن أبي نعيم [وحدّثنا] علي بن عبد العزيز وغيره، قال: حدّثنا أبو نعيم، قال: حدّثنا فطر عن حبيب ابن أبي ثابت، عن أبي الطفيل عن علي (عليه السلام) - قال [أبو الطفيل]: أراه - عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال: «لو لم يبقَ من الدنيا إلّا يومٌ واحدٌ لطوَّل الله ذلك اليوم حتّى يبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما مُلئت جوراً»(1). وهذه النظرية بما أنَّها ترتكز على جانبٍ لا أخلاقي وتحاول شرعنته فقد تلاقي تشجيعاً ورواجاً خاصةً بين الشباب ومن يرغب بالمعصية، كما أنَّها قد تُدعم من الجهات الحاقدة والمتربصين بمذهب أهل البيت (عليهم السلام)؛ لأنَّهم يريدون ثغرةً فيه ليمكنهم الولوج منها لتحقيق مآربهم الخبيثة، وترتكز هذه النظرية على مثل ما تقدَّم من النص، من أنَّه لا يظهر الإمام (عجَّل الله فرجه) حتّى ينتشر الظلم والفساد في الأرض، فإذا لم ينتشر ولم تمتلئ الأرض بالفساد والظلم فإنَّه سيتأخر ظهوره الشريف، فنحن إذا لم نساهم في نشر الظلم والفساد سنكون جزءاً ممن يؤخِّر ظهوره (عجَّل الله فرجه)، فلابد من توظيف النفس لأجل التعجيل بالظهور، وذلك بالمساهمة بنشر الرذائل والفساد والظلم حتّى تمتلئ الأرض بذلك فيتعجَّل ظهوره (عجَّل الله فرجه)، وتكون المعاصي والفساد مبرراً لها، بل يعتبر عملاً عظيماً تجاه الغاية المراد منها، وهذا يبتني على نظرية الغاية تبرر الوسيلة(2)، وهي من أخطر النظريات على المجتمع التي تبيح كل شيءٍ من أجل تحقيق الغايات، وعليه لابدّ من العمل بكل الوسائل المتاحة لتعجيل الظهور، وهي بالواقع أخطر نظريةٍ على الدّين؛ لأنَّها تبتني على محو الدين، ومحاربة شريعة سيد المرسلين (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهي فاسدةٌ من وجوهٍ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) - محمد بن سلمان الكوفي: ج2، ح650.
(2) التي ابتدعها الكاتب نيكولو مكيافيلي.

↑صفحة 144↑

الأول: لما اشتهر أنَّه (لا يُطاع الله من حيث يُعصى)(3) و(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)(4)، فلا يمكن طاعة الله (عزَّ وجلَّ) من طريق المعصية التي نهى عنها، ثم كيف يأمر الله (عزَّ وجلَّ) بالمعصية مع شدّة نهيه عن فعلها، فيلزم التناقض منه تعالى في الأمر والنهي؛ لأنَّه يكون شيءٌ واحدٌ مأموراً به ومنهياً عنه، فلا يمكن قبول نشر الظلم والفساد من أجل فعل شيءٍ آخر.
الثاني: أنَّه منافٍ للحكمة من إرسال الأنبياء والرسل والأوصياء (عليهم السلام)، وما جاءت به تعاليم السماء والكتب السماوية، ومنافٍ أيضاً للحكمة من خلق الإنسان، لأنَّ الله (عزَّ وجلَّ) قد أرسل الرسل وجعل تعاليم الدين من أجل إصلاح الأُمم ورفع الفساد ومحاربة الظلم والحث على طاعته (عزَّ وجلَّ) وترك معصيته، فقد قال تعالى: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، ومنافٍ أيضاً لما وعد الله (عزَّ وجلَّ) به المطيع الجنة وأوعد العاصي النار.
الثالث: أنَّه خلاف حكمة خروج الإمام الحجة نفسه (عجَّل الله فرجه)، من أنَّه سوف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، لأنَّ تأخير ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) هو من أجل نشر الإصلاح في الأرض عند ظهوره وأنَّه سوف يقضي على الظالمين والفاسدين بسيفه، فكيف يأمر الله تعالى الصالحين أن يكونوا فاسدين وهو يريد القضاء عليهم بظهوره، وكيف يريد الله (عزَّ وجلَّ) للظلم أن ينتشر وغايته من ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) نشر العدل، فكيف يمكن أن يتناسب الفعل مع النتيجة المطلوبة من رفع الحيف والظلم والفساد.
ونقرّب ذلك بمثل، فإذا كان هناك مئة شخصٍ مرض منهم ثمانون بمرضٍ معيَّن وبقي منهم عشرون أصحّاء لا يعقل من الذي يريد أن يوجد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) لم أجده بنصه ولكنه مشهور على الألسن ولعله مقتبس من الحديث اللاحق.
(4) وسائل الشيعة: باب تحريم إسخاط الخالق في رضا المخلوق، ج16، ح10.

↑صفحة 145↑

الدواء للثمانين حتّى يكونوا أصحّاء كالعشرين أن ينصح العشرين أن يُمرّضوا أنفسهم حتّى يوجد لهم الدواء، إذ الغرض من إنتاج الدواء هو شفاء الثمانين ليكونوا أصحّاء مثل العشرين، فكيف يأمر العشرين بأن يكونوا مرضى مثل الثمانين.
الرابع: أنَّ الإنسان الخالي عن فعل المعصية يكون مطمئناً من عدم عذاب الله وعقوبته، بعد ما تم من أدلة العدالة الإلهية، أمّا إذا ارتكب الإنسان المعصية متعمداً كيف يحرز الضمان من الله (عزَّ وجلَّ) بعدم عذابه وعقوبته بعد انغماسه في المعصية، ثم حتّى لو تاب فلا يضمن قبول توبته بل الأمر متروك له (عزَّ وجلَّ) بقبولها منه لو بانت منه علامات الصدق، أمّا العالم بأنَّه يفعل المعصية باختياره ويتجرأ بها على الله ويموت على ذلك مصراً فلا يُعلم شموله بالرحمة، فهو شبه المتيقن من عدم عقابه من الله تعالى إذا لم يفعل المعصية، أمّا إذا فعلها متعمداً فحتّى لو تاب فلا يحرز قبول توبته يقيناً فلا يكون متيقناً من عدم عقابه تعالى، فكيف يخرج من حال اليقين بعدم العقاب إذا لم يفعل المعصية إلى الشك بعدم العقاب حتّى لو تاب، وخير عبرةٍ ما يُنقل من القصّة للعابد من بني إسرائيل التي رواها في الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن محمد بن سنان، عمن أخبره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان عابد في بني إسرائيل لم يقارف من أمر الدنيا شيئاً فنخر إبليس نخرة فاجتمع إليه جنوده فقال: من لي بفلان؟ فقال بعضهم: أنا له، فقال: من أين تأتيه؟ فقال: من ناحية النساء، قال: لست له لم يجرب النساء، فقال له: آخر: فأنا له، فقال له: من أين تأتيه؟ قال: من ناحية الشراب واللذات، قال: لست له، ليس هذا بهذا، قال آخر: فأنا له، قال: من أين تأتيه؟ قال: من ناحية البر، قال: انطلق فأنت صاحبه، فانطلق إلى موضع الرجل فأقام حذاه يصلي، قال: وكان الرجل ينام والشيطان لا ينام،

↑صفحة 146↑

ويستريح والشيطان لا يستريح، فتحول إليه الرجل وقد تقاصرت إليه نفسه واستصغر عمله، فقال: يا عبد الله بأي شيء قويت على هذه الصلاة؟ فلم يجبه، ثم أعاد عليه، فلم يجبه، ثم أعاد عليه، فقال: يا عبد الله إني أذنبت ذنباً وأنا تائب منه فإذا ذكرت الذنب قويت على الصلاة، قال: فأخبرني بذنبك حتّى أعمله وأتوب فإذا فعلته قويت على الصلاة؟ قال: ادخل المدينة فسل عن فلانة البغية فأعطها درهمين ونل منها، قال: ومن أين لي درهمين؟ ما أدري ما الدرهمين؟ فتناول الشيطان من تحت قدمه درهمين فناوله إياهما، فقام فدخل المدينة بجلابيبه يسأل عن منزل فلانة البغية فأرشده الناس وظنّوا أنَّه جاء يعظها، فأرشدوه، فجاء إليها فرمى إليها بالدرهمين وقال: قومي، فقامت فدخلت منزلها وقالت: ادخل، وقالت: إنَّك جئتني في هيئة ليس يؤتى مثلي في مثلها، فأخبرني بخبرك، فأخبرها، فقالت له: يا عبد الله إنَّ ترك الذنب أهون من طلب التوبة، وليس كل من طلب التوبة وجدها، وإنَّما ينبغي أن يكون هذا شيطاناً مثَّل لك، فانصرف فإنَّك لا ترى شيئاً، فانصرف وماتت من ليلتها فأصبحت فإذا على بابها مكتوب: احضروا فلانة فإنَّها من أهل الجنة، فارتاب الناس، فمكثوا ثلاثاً لم يدفنوها ارتياباً في أمرها، فأوحى الله (عزَّ وجلَّ) إلى نبي من الأنبياء لا أعلمه إلّا موسى بن عمران (عليه السلام) أن ائت فلانة فصلِّ عليها ومر الناس أن يصلّوا عليها، فإنّي قد غفرت لها وأوجبت لها الجنة بتثبيطها عبدي فلاناً عن معصيتي»(5).
الخامس: من المعلوم أنَّه لا يراد من الحديث هو أن يكون جميع سكان الأرض فاسدين بل المراد كثرة انتشار الفساد، وإلّا إذا ظهر الحجة (عجَّل الله فرجه) فبمن يقاتل الفاسدين، إذا كان جميع الناس فاسدين، فلا يعقل أن يقاتلهم بالفاسدين أيضاً ويقيم دولة الحق بهم، فلابد من وجود قلةٍ باقيةٍ من المؤمنين هم من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) الكافي للكليني: حديث العابد، ج8، ص 384.

↑صفحة 147↑

يكونون أنصار الإمام (عجَّل الله فرجه)، وبهم تقام دولة العدل، لماذا لا نكون نحن مع هذه القلة ونترك الفساد والظلم للكثرة، ثمّ وبنظام الحساب فإنَّ العالم مكونٌ من ثمانية ملياراتٍ تقريباً، منهم مليار ونصف مسلمٍ تقريباً، ومن هذا المليار والنصف المسلم خمسمائةٌ منهم شيعةً تقريباً، ومن الشيعة قد يكون هناك مائة ألف متديِّن، فهل يعقل توقف نشر الفساد في الأرض على هؤلاء المائة ألف دون الثمانية مليارات، أم أنَّ العدد الأكبر وهو الباقي هو كاف في نشر الفساد، فإذن هذه النظرية هدفها إبعاد المؤمنين عن الدين والخروج عن شريعة سيد المرسلين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتعاليمه، والانجرار نحو انحطاط المجتمع وفساده، ونشر الرذيلة والفساد.
النظرية الثانية: نظرية الانكماش:
وهذه وإن كانت أهون خطراً من النظرية الأولى، ولكنّها أيضاً تشترك معها في تعطيل الدين واضمحلاله واندراسه وإلغاء الهدف الذي من أجله بعث الله الأنبياء والرسل والأوصياء، حيث تبتني هذه النظرية على الجلوس في البيت والابتعاد عن الناس وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّ كلّ إنسانٍ عليه بنفسه فقط، وأن يكون هو منتظراً ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، وحاولوا الاعتماد على نصوصٍ فهموا منها هذه النظرية الخاطئة.
والظاهر أنَّ تلك النصوص ليس مقتضاها ما ذكروه؛ لأنَّه لا يعقل أن تكون هذه هي وظيفة المنتظر لإمام زمانه الذي يريد نشر تعاليم الدين الذي جاء به جدّه محمدٌ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويبين آثار العقيدة الحقّة على المجتمع، وأن يبيِّن للمجتمع أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) إذا ظهر سوف يحكم بالعدل وسيكون المجتمع أفضل من هذا المجتمع الفعلي إذا التزم الإنسان بتلك التعاليم.

↑صفحة 148↑

فإنَّ هذه النظرية توجب تحجيم شريعة سيد المرسلين، وهذه النظرية توجب اضمحلال الجهود التي قام بها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهداية المجتمع، وتوجب ذهاب التضحيات والدماء الغالية التي استرخصها أهل البيت (عليهم السلام) من أجل الدين وإحياء شريعة سيد المرسلين، فإنَّها سوف تذهب سدى، وتذهب مساعي النبي المختار (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجهوده وجهود أهل بيته في حفظ الدين وبقائه حجة على العالمين أدراج الرياح.
النظرية الثالثة: وهي نظرية البناء العقائدي:
وهي تبتني على الإعداد النفسي والفكري والعقائدي للمجتمع تمهيداً لظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، وذلك بما أنَّه (عجَّل الله فرجه) إذا ظهر فإنَّه سيُحدث تغييراً كبيراً في كثير من المفاهيم العبادية، والعقائدية، والأحكام الشرعية، لما مرَّت به الأُمّة في خلال فترة الغيبة من تضييعٍ للأحكام، واستيلاء الظالمين على الحكم، مما أوجب العمل بالظاهر والممكن من الأدلة دون الرجوع إلى الإمام (عليه السلام) واللقاء به وأخذ الأحكام منه مباشرة، بل حتّى مع وجود الأئمة (عليهم السلام) فإنَّ جملةً من أحكامهم كانت تصدر تقيةً خوفاً من الظالمين، بينما إذا ظهر الإمام (عجَّل الله فرجه) فإنَّه سيُظهر الأحكام الحقيقية من مصادرها فلا توجد تقيةٌ كما ذكر في النصوص أنَّه يخرج ولا يكون في عنقه بيعة لظالم(6)، والحكم سوف يؤخذ من مشرّعه مباشرةً، وعليه لابدّ من الإعداد النفسي والفكري لهذه المرحلة.
ويمكن إعداد النفس بأمور:
الأمر الأول: التحصين العقائدي بمعرفه الإمام (عجَّل الله فرجه) ومقامه ومنزلته ودوره في بيان الأحكام، وإذا عرف الإنسان مقام الإمامة ومنزلتها والدور

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري (رحمه الله) أن يوصل لي كتاباً قد سئلت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخط مولينا صاحب الدار (عليه السلام): «... إنَّه لم يكن أحد من آبائي إلّا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه، وإني أخرج حين أخرج ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي». [الغيبة للشيخ الطوسي: ص290، ح247].

↑صفحة 149↑

الذي لابدّ أن يقوم به الإمام (عجَّل الله فرجه) وما له عند الله من سلطةٍ ومنزلةٍ من أجل تشريع الأحكام يكون مسلّماً للإمام (عجَّل الله فرجه) في كل ما يأمر به وينهى عنه، ومن كمال الإيمان هو التسليم للإمام (عجَّل الله فرجه) في كل أقواله وأفعاله وعدم الاعتراض عليه؛ لأنَّه مسدَّدٌ من الله تعالى، ولأنَّنا مع الإمام (عجَّل الله فرجه) أقلّ مما كان عليه النبي موسى (عليه السلام) مع الخضر (عليه السلام) ومع ذلك فلمّا خفي عليه وجه الحكمة اعترض على فعله، ولذا ينبغي علينا أن ندرك ونسلّم بمقام الإمام (عجَّل الله فرجه) ونُعدَّ أنفسنا لذلك بقراءة الروايات الواردة في ذلك وكيفية تسليم بعض أصحاب الأئمة (عليهم السلام) العارفين بمقام الأئمة (عليهم السلام)، كما ورد عن تسليم سلمان الفارسي حينما عرف مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسكوت عن غصب الخلافة وظلم الزهراء (عليها السلام)، وما حصل مع عبد الله بن يعفور مع الإمام الصادق (عليه السلام): قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): والله لو فلقت رمانة بنصفين، فقلتَ هذا حرام وهذا حلال، لشهدت أنَّ الذي قلتَ حلالٌ حلالٌ، وأنَّ الذي قلتَ حرامٌ حرامٌ، فقال: «رحمك الله، رحمك الله»(7).
بل يمكننا استفادة التسليم حتّى ممّا حصل لكبراء علماء الشيعة في عصر السفراء الأربعة، كما في الواقعة المشهورة من جعفر بن أحمد بن مُتيل مع الحسين بن روح (سلام الله عليهما).
(وسمعت أبا الحسن علي بن بلال بن معاوية المهلبي، يقول في حياة جعفر بن محمد بن قولويه: سمعت أبا القاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمّي يقول: سمعت جعفر بن أحمد بن مُتيل القمّي يقول: كان محمد بن عثمان أبو جعفر العمري (رضي الله عنه) له من يتصرف له ببغداد نحو من عشرة أنفس وأبو القاسم بن روح (رضي الله عنه) فيهم، وكلّهم كان أخصّ به من أبي القاسم بن روح (رضي الله عنه) حتّى أنَّه كان إذا احتاج إلى حاجة أو إلى سبب ينجزه على يد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) اختيار معرفة الرجال للطوسي: ج2.

↑صفحة 150↑

غيره لما لم يكن له تلك الخصوصية، فلمّا كان وقت مُضيّ أبي جعفر (رضي الله عنه)، وقع الاختيار عليه وكانت الوصية إليه)(8).
(قال: وقال مشايخنا: كنّا لا نشك أنَّه إن كان كائنةٌ من أبي جعفر لا يقوم مقامه إلّا جعفر بن أحمد بن مُتيل أو أبوه لما رأينا من الخصوصية به، وكثرة كينونته في منزله حتّى بلغ أنَّه كان في آخر عمره لا يأكل طعاماً إلّا ما أُصلح في منزل جعفر بن أحمد بن مُتيل وأبيه بسببٍ وقع له، وكان طعامه الذي يأكله في منزل جعفر وأبيه.
وكان أصحابنا لا يشكّون إن كانت حادثة لم تكن الوصية إلّا إليه من الخصوصية فلمّا كان عند ذلك (و)وقع الاختيار على أبي القاسم سلّموا ولم ينكروا وكانوا معه وبين يديه كما كانوا مع أبي جعفر (رضي الله عنه)، ولم يزل جعفر بن أحمد بن مُتيل في جملة أبي القاسم (رضي الله عنه) وبين يديه كتصرفه بين يدي أبي جعفر العمري إلى أن مات (رضي الله عنه) فكل من طعن على أبي القاسم فقد طعن على أبي جعفر وطعن على الحجة صلوات الله عليه)(9).
وعن غيبة الشيخ الطوسي: (وبهذا الإسناد، عن محمد بن علي بن الحسين، قال: أخبرنا علي بن محمد بن مُتيل، عن عمّه جعفر بن أحمد بن مُتيل، قال: لما حضرت أبا جعفر محمد بن عثمان العمري الوفاة كنت جالساً عند رأسه أسأله وأحدثه وأبو القاسم بن روح عند رجليه فالتفت إليَّ ثم قال: أُمرت أن أوصي إلى أبي القاسم الحسين بن روح، قال: فقمت من عند رأسه وأخذت بيد أبي القاسم وأجلسته في مكاني وتحولت إلى عند رجليه)(10).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي في حياة الحسين بن روح (رضي الله عنه): ح336.
(9) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي في حياة الحسين بن روح (رضي الله عنه): ح337.
(10) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي في حياة الحسين بن روح (رضي الله عنه): ح339.

↑صفحة 151↑

الأمر الثاني: الاهتمام بأداء الدور التبليغي في عصر الغيبة، من طلب العلم في مسائل الحلال والحرام، والمسائل العقائدية، ومحاولة إيصالها إلى الناس المحتاجين إليها، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأداء العلم لأهله، لكي تبقى رسالة النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والهدف الذي جاء من أجله مستمراً الى ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) التي تُوكل إليه المهمة لاستمرار الرسالة، ولأجل أن لا يتعطّل الدين والأحكام الشرعية، لأنَّ الهدف من إرسال الرسل والأوصياء والأنبياء هو إيصال الحجة إلى جميع البشر وإيصال هذه الأحكام إلى الناس لتكون لله الحجة البالغة، ولا يجوز تعطيل هذه الأحكام كما قال الله تعالى في كتابه: ﴿فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ (التوبة: 122) وقد حثّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناس على طلب العلم ونشره.
الأمر الثالث: الذي يفهم من النصوص التي حثَّت على عدم الخروج والاختلاط بالناس هو التقية من أجل الحفاظ على سلامة أرواح المؤمنين من القتل والهلاك، كما أُمرنا بذلك من أجل الحفاظ على الدّين الحق، وشيعة أهل البيت (عليهم السلام)، ويكون الرجوع في وظيفة العمل بالتقية وكيفية العمل لأهل العلم.
الأمر الرابع: التصدّي لمعرفة الأحكام الشرعية، إمّا من طريق الاجتهاد لمن يجد في نفسه الكفاءة في معرفة استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها طيلة فتره غيبة الإمام، حيث الواجب على الإنسان معرفة أحكامه الشرعية والخروج عن عهدة التكاليف الشرعية، وحيث إنَّ طريق الاجتهاد غير متيسر لجميع الناس فلابد من وجود طريق آخر لمعرفة الأحكام الشرعية، ولا يمكن أن يبقى الإنسان بدون عمل.
وإمّا من طريق التقليد للأعلم من المراجع، بما شاهدناه من الأثر الواضح لتلك الجهود التي قام بها علماؤنا الأعلام في بذل أنفسهم من أجل

↑صفحة 152↑

استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها وإيصالها للمؤمنين، ولولاهم لما قامت لهذا الدين قائمة، فلم يبق دينٌ حقٌ إلّا بجهود أهل العلم الذين أفنوا أنفسهم لخدمة الدين وقاموا بإيصال الأحكام الشرعية إلى المكلفين طوال فترة الغيبة وإلى يومنا هذا.
وهذا الأمر هو الذي يجري عليه جميع الناس في جميع أمورهم الحياتية من الرجوع لأهل الخبرة في كل مجال من مجالات الحياة، فإنَّهم إذا احتاجوا إلى دواء يرجعون إلى الطبيب، وإذا احتاجوا إلى بناء شيءٍ ما يرجعون إلى المهندس، وإذا احتاجوا إلى أيّ شيءٍ في حياتهم فإنَّهم يرجعون لمن له الاختصاص في ذلك، والمراجع هم أهل الخبرة في معرفة واستنباط الأحكام الشرعية، لأنَّهم قد أجهدوا أنفسهم في استنباط الأحكام من مصادرها وإيصالها للمكلفين، ولذا يجب على الناس في عصر الغيبة الرجوع إلى المرجع الأعلم القادر على استنباط الأحكام الشرعية وتقليده، وبذلك يكون المكلف معذوراً مع الله تعالى في حال عدم إمكانه الاجتهاد بنفسه.
الأمر الخامس: التخلّق بأخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، وبيان ذلك للمجتمع، حتّى نكون خير دعاةٍ للمذهب الحق وهو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، والتمهيد لظهوره (عجَّل الله فرجه)، وذلك لنرسم صورةً جميلةً عن كيفية تربية أهل البيت (عليهم السلام) لشيعتهم وأخلاقهم، وليعرف المجتمع أنَّه إذا ظهر الإمام (عجَّل الله فرجه) سوف يكون حال المجتمع نحو الأحسن باتِّباع هذه التعاليم والأخلاق الحميدة، بل سيشتد عندهم الشوق لانتظار ظهوره (عجَّل الله فرجه) ليرون كيف سيكون المجتمع صالحاً بوجوده (عجَّل الله فرجه)، فنكون بذلك نِعْم الممهدين والمرغّبين لظهوره (عجَّل الله فرجه).
والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.

↑صفحة 153↑

العدد ١٦ / ربيع الأول / ١٤٤٥ هـ : ٢٠٢٣/١١/١٥ : ٦٦٣ : ٠
: علي السيد محمد حسين الحكيم
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

محتويات العدد: