الانتظار والتمهيد / الأدوار والمكتسبات
الانتظار والتمهيد
الأدوار والمكتسبات
مرتضى علي الحلي
قبل الشروع في بيان مقاصد البحث وأغراضه، لابد من توضيح المبادئ التصورية فيه، وهي المفاهيم العقدية التي تدور حولها وظيفة الإنسان المؤمن في عصر الغيبة الكبرى، من الترقب والانتظار والتمهيد، بحسب لسان الروايات المأثورة، حتى يكون القارئ على بصيرة في تلقي الدلالات التصديقية من هذه المفاهيم، وما يترتب عليها من آثار ومعطيات، لها مساس مباشر بآلية التعاطي الاعتقادي السليم مع ما يعتقد به في عصر غيبة إمام العصر الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
بيان المصطلحات - لغةً ومفهوماً:
1 - الترقب:
قال ابن منظور في لسان العرب: وارتَقَبَه: انتَظَرَه ورَصَدَه.
والتَّرَقُّبُ: الانتظار، وكذلك الارتِقابُ.
والرَّقِيبُ: المُنتَظِرُ)(1).
وذكر الزبيدي في تاج العروس: (والرَّقِيبُ: المُنتَظِرُ)(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لسان العرب: ابن منظور، ج1، ص 425، مادة رقب.
(2) تاج العروس: الزبيدي، ج2، ص 30، مادة رقب.
↑صفحة 155↑
2 - الانتظار:
ذكر ابن منظور في لسان العرب: (والنَّظَرُ: الانتظار. ويقال: نَظَرتُ فلاناً وانتَظَرتُه بمعنى واحد)(3).
وقال ابن الأثير: (يقال نظرته وانتظرته، إذا ارتقبت حضوره)(4).
3 - التمهيد:
قال ابن منظور: (مَهَدتُ لنَفسي ومَهَّدت أَي جعلت لها مكاناً وَطيئاً سهلًا.
ومَهَدَ لنفسه خيراً وامتَهَدَه: هَيّأَه وتَوَطَّأَه(5).
وذكر الشريف الرضي (رحمه الله): (والمهد أيضاً: مصدر مهد، يمهد، مهداً. إذا مكن موضعاً لقدمه)(6).
وبيَّن الشيخ الطوسي (رحمه الله): (الماهد الموطئ للشيء المهيئ لما يصلح الاستقرار عليه، مهد يمهد مهداً، فهو ماهد، ومهد تمهيداً، مثل وطأ توطئة)(7).
التداخل الدلالي بين هذه المفاهيم الثلاثة:
إنَّ تداخل هذه المفاهيم الثلاثة (الترقب - الانتظار - التمهيد) في دلالاتها المعطاة، مع بعض الفارق النفسي والعملي بينها في حدِّ ذاتها، يمكن أن يجعلها مندرجةً تحت جامع مفهوم الانتظار، والذي أخذته الروايات المأثورة في لسانها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) لسان العرب: ابن منظور، ج5، ص 216.
(4) النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير، ج5، ص 78، ط - مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم، إيران.
(5) لسان العرب: ابن منظور، ج3، ص 411، مادة مهد.
(6) تلخيص البيان في مجازات القرآن: الشريف الرضي، ص 226، ط1، القاهرة - 1955م.
(7) التبيان في تفسير القرآن، الشيخ الطوسي، ج9، ص 395، ط1 - 1409 هجري.
↑صفحة 156↑
أخذاً إطلاقياً، توسعةً لمعناه، واستيعاباً لمصاديقه، بحسب مقتضيات الحكمة والظروف الموضوعية والقدرة والإمكانات عند المؤمنين.
وقد ذكر الراغب الأصفهاني صاحب المفردات في مادة (نظر) ما يفيد ذلك، فقال: (النظر تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، والنظر الانتظار، يقال نظرته وانتظرته، قال تعالى: ﴿وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ (هود: 122)، وقال تعالى: ﴿فَهَل يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلِهِم قُل فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ﴾ (يونس: 102))(8).
وعلى أساس ذلك التداخل المفاهيمي دلالياً، فإنَّ فهمنا لمعنى الانتظار لغةً واستظهاراً يجعلنا قادرين على فهم معناه اعتقاداً وتعبداً، لأنَّ مفهوم انتظار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، قد أخذ موقعاً مكيناً في المنظومة العقائدية والعبادية للإنسان المسلم والمؤمن معاً في لسان الروايات المعتبرة والمتكاثرة، حتى أصبح حقيقةً عقديةً، تحددت معالمها وثمراتها في عصر النبي الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، فعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، أنه قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفضل العبادة انتظار الفرج»(9).
فالانتظار يستبطن الترقب والتهيؤ للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهو وظيفة عقدية للمنتظر والمترقب، لأنه مرتكز على الاعتقاد الحق بالإمامة الواجبة الباقية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) مفردات غريب القرآن - الراغب الأصفهاني: مادة نظر/ ص497 - 498.
(9) كمال الدين وتمام النعمة - الصدوق: ص287، مؤسسة النشر الإسلامي، التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران.
↑صفحة 157↑
وطبقاً لما حدده المعصومون (عليهم السلام) لنا من معالم مفهوم انتظار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وبيان صبغته التعبدية، يمكن لنا إدراك ماهية الانتظار ومقتضياته، وتجليه في صورة التزام الإنسان المؤمن بالعقيدة الحقة والسلوك الصالح في عصر الغيبة الكبرى، فضلاً عن اشتمال معناه اللغوي على التفحص والترقب الفطن في شأن العقيدة والتشريع والحياة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنَّ مفهوم الانتظار قد تم بيانه قرآنياً، قال الله تعالى: ﴿هَل يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَو يَأتِيَ رَبُّكَ أَو يَأتِيَ بَعضُ آياتِ رَبِّكَ يَومَ يَأتِي بَعضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفساً إِيمانُها لَم تَكُن آمَنَت مِن قَبلُ أَو كَسَبَت فِي إِيمانِها خَيراً قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ (الأنعام:158)، ﴿فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ﴾ (الأعراف:71)، ﴿وَيَقُولُونَ لَو لا أُنزِلَ عَلَيهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ فَقُل إِنَّمَا الغَيبُ للهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ﴾ (يونس:20)، ﴿فَهَل يَنتَظِرُونَ إِلَّا مِثلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوا مِن قَبلِهِم قُل فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِنَ المُنتَظِرِينَ﴾ (يونس: 102)، ﴿وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ (هود: 122).
فالانتظار في مفهومه القرآني يرتبط كلياً بحتمية تحقق الشيء المنتظر وقوعاً، وصدقيته من أول وهلة إلى يوم تحققه بإذن الله تعالى.
والملاحظ في سياقية الآيات القرآنية المتقدمة هو أن الانتظار قد يأخذ بُعداً زمانياً طويلاً في امتداده، وبُعداً عقدياً عميقاً، يستدعي الإعداد والعمل المسبق، والتوطئة للمكان والظرف والتقبل، ليتجلى اختبار المنتظرين به إيماناً وسلوكاً، إلى أن يتحقق استقرار الأمر بالهدى وإقامة الحق والعدل في الأرض، وتترجح كفته على جانب الباطل والظلم.
↑صفحة 158↑
مدخل تصديقي في مطلبين:
المطلب الأول: تصيد العنوان وانتزاعه من الأدلة اللفظية روائياً، كما هو معهود عند الفقهاء:
إنَّ مفهوم التمهيد، وإن لم يرد بلفظه نصاً في لسان الروايات الخاصة في بيان وظيفة المكلف المؤمن في عصر الغيبة الكبرى، وطريقة تعاطيه الاعتقادي مع ما يؤمن به من غيبة إمام زمانه، الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، إلّا أنَّه يمكن تصيد هذا العنوان وانتزاعه من مجمل إطلاقات بعض الروايات المأثورة في هذا المجال، والتي سنذكرها ضمناً.
أو يمكن انتزاع مفهومه ودلالاته من بعض المفاهيم العقدية المناظرة المذكورة نصاً في متن بعض الروايات، بما يساوقه في الإفادة والمعطى، وذلك بحكم التناظر اللغوي استعمالاً بين مفهومي التمهيد والتوطئة، كمفهوم (التوطئة للمهدي سلطانه)، الذي ورد في لسان روايات مختلفة، نذكر نماذج منها:
1 - ما رواه السيد ابن طاووس عن محمد بن الحنفية، قال: تخرج راية سوداء لبني العباس، ثم تخرج من خراسان أخرى سوداء، قلانسهم سود، وثيابهم بيض، على مقدمتهم رجل يقال له: شعيب بن صالح، أو: صالح بن شعيب من تميم، يهزمون أصحاب السفياني حتى ينزل بيت المقدس، يوطئ للمهدي سلطانه، ويمد إليه ثلاثمائة من الشام، يكون بين خروجه وبين أن يسلم الأمر للمهدي اثنان وسبعون شهراً)(10).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) التشريف بالمنن في التعريف بالفتن: السيد ابن طاووس، ص 118، مؤسسة صاحب الأمر، الطبعة الأولى، - 1416 ه.
↑صفحة 159↑
وهذه الرواية تنص على مفهوم التوطئة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وتكشف عن الإعداد المسبق من قبل المنتظرين له، قبل خروجه وظهوره، بحيث يسهم في تثبيت دعائم القيام، واستقرار سلطة الدولة المهدوية الموعودة.
2 - وعن محمد بن الحنفية، قال: (تخرج راية من خراسان، ثم تخرج أخرى، ثيابهم بيض، على مقدمتهم رجل من بني تميم، يوطئ للمهدي سلطانه، بين خروجه وبين أن يسلم الناس للمهدي سلطانه اثنان وسبعون شهراً)(11).
وهذه الرواية أيضاً تؤكد نفس مضمون الرواية الأولى آنفة الذكر في التوطئة للمهدي من قبل المنتظرين، بفارق عدم ذكر اسم الرجل من بني تميم، وهو شعيب بن صالح، أو: صالح بن شعيب، على الاختلاف في اسمه.
3 - عن عبد الله بن الحرث، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي - يعني سلطانه)(12).
وبحكم منطوق هذه الرواية في عدم ذكر راية التوطئة أو اسم صاحبها، يمكن استظهار أن التوطئة للمهدي لا تنحصر براية معينة أو برجل ما، وإن حددت جهة التوطئة مكانياً، كما في سابقاتها من الروايات، بل تتوسع لتشمل عامة المنتظرين المؤمنين المعتقدين بالظهور والقيام بالحق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) عقد الدرر في أخبار المنتظر: المقدسي الشافعي السلمي (من علماء القرن السابع الهجري)، تحقيق الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو - 126 - الطبعة الأولى 1399 ه - 1979م.
(12) شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: القاضي أبي حنفية النعمان المغربي، ج3، ص 563، مؤسسة النشر الاسلامي، التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة - إيران.
↑صفحة 160↑
4 - روى العلامة المجلسي (طاب ثراه) في بحار الأنوار، في باب نصرة أهل المشرق للمهدي (عجَّل الله فرجه): (عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يخرج ناس من المشرق، فيوطئون للمهدي يعني سلطانه)(13).
5 - قد بين الشيخ علي الكوراني في المعجم الموضوعي أن معنى التوطئة في حديث (يخرج ناس من المشرق فيوطئون للمهدي سلطانه)، هو التجهيز والتهيأة، طبقاً لما ذكرته طرق العامة، والتي خرج أسانيدها ومصادرها وتوثيقها من كتبهم.
فقال: (حديث: يخرج ناس من المشرق يوطئون للمهدي (عليه السلام) رواه ابن ماجة: 2 / 1368 عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
«يخرج ناس من المشرق، فيوطئون للمهدي»، ومعنى وطأ له الأمر: جهزه وهيأه، ومثله الطبراني في الأوسط: 1 / 200، بتفاوت يسير، وعنه بيان الشافعي/ 490، وقال: هذا حديث حسن صحيح، روته الثقات والأثبات)(14).
وبناءً على ما ذكره الشيخ الكوراني هنا في بيان معنى التوطئة وتفسيرها بالتجهيز والتهيأة، ومن مجمل الروايات المذكورة، يتضح المراد بالتمهيد المساوق والمناظر لغةً للتوطئة، ويمكن تصيده عنواناً منتزعاً من سياقاتها اللفظية والدلالية، دون أي مشاحة في الأخذ به، كاصطلاح غير مذكور نصاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج51، ص 87، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة المصححة، 1403ه. - 1983م.
(14) المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): علي الكوراني العاملي، ص 600، الطبعة الأولى 1426هـ - 2006م.
↑صفحة 161↑
المطلب الثاني: معهودية انتظار بعثة النبي، وانتظار ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وأثر ذلك:
لم يكن مفهوم الترقب أو الانتظار من جانب الأنبياء والمؤمنين لنبي ما، أو حتى التمهيد والتوطئة من قبل الله تعالى لبعثة نبي أو تنصيب وصي، أمراً مستبعداً عن أحداث حراك النبوة والوصاية على مر التاريخ المنصرم.
بل كان أمراً معهوداً ومعروفاً، ولم يكن أيضاً هناك مانع عقلي أو شرعي، يحول دون تعاهد الأنبياء بالتبشير والانتظار والتمهيد لبعضهم بعضاً، سيما مع وجود مقتض عقدي، وهو تبليغ الرسالات وإتمام الحجة الإلهية على الناس أجمعين.
وقد نص عليه القرآن الكريم في آيات شريفة عدة، منها ذكر اسم النبي الأكرم محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) باسمه ووصفه: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكتُوباً عِندَهُم فِي التَّوراةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلالَ الَّتِي كانَت عَلَيهِم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَـرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ﴾ (الأعراف: 157).
﴿وَإِذ قالَ عِيسَـى ابنُ مَريَمَ يا بَنِي إِسرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيكُم مُصَدِّقاً لِما بَينَ يَدَيَّ مِنَ التَّوراةِ وَمُبَشِّـراً بِرَسُولٍ يَأتِي مِن بَعدِي اسمُهُ أَحمَدُ فَلَمَّا جاءَهُم بِالبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحرٌ مُبِينٌ﴾ (الصف: 6).
وفي الرواية المفصلة عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) ما ينص على ذلك التعاهد والتبشير والانتظار، وفيها أيضاً دلالات تصديقية، تاريخية التحقق، ومستقبلية الوقوع حتماً: (فلما نزلت التوراة على موسى (عليه السلام)، بشر بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان بين يوسف وموسى من الأنبياء، وكان وصي
↑صفحة 162↑
موسى يوشع بن نون (عليه السلام)، وهو فتاه الذي ذكره الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه، فلم تزل الأنبياء تبشر بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حتى بعث الله تبارك وتعالى المسيح عيسى بن مريم فبشر بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذلك قوله تعالى: ﴿يَجِدُونَهُ﴾ يعني اليهود والنصارى: ﴿مَكتُوباً﴾ يعني صفة محمد ﴿عِندَهُم﴾ يعني ﴿فِي التَّوراةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعرُوفِ وَيَنهاهُم عَنِ المُنكَرِ﴾ وهو قول الله (عزَّ وجلَّ) يخبر عن عيسى:
﴿وَمُبَشِّـراً بِرَسُولٍ يَأتِي مِن بَعدِي اسمُهُ أَحمَدُ﴾، وبشر موسى وعيسى بمحمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما بشر الأنبياء (عليهم السلام)، بعضهم ببعض، حتى بلغت محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فلما قضى محمد نبوته واستكملت أيامه، أوحى الله تبارك وتعالى إليه يا محمد قد قضيت نبوتك واستكملت أيامك، فاجعل العلم الذي عندك والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة في أهل بيتك عند علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإني لم أقطع العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار علم النبوة من العقب من ذريتك كما لم أقطعها من بيوتات الأنبياء الذين كانوا بينك وبين أبيك آدم....)(15).
فمفاهيم الترقب والانتظار والتوطئة والتمهيد تمثل في حد ذاتها عند المؤمنين نوعاً من الاستجابات العقدية للإيمان والعمل الصالح في تقريب تحقق الهدى والعدل المنتظر في الأرض، رفضاً للضلال والظلم على يد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
ولقائل أن يقول: إنَّ انتظار بعثة الأنبياء والتبشير بهم، لا يسبقه تمهيد أو توطئة فعلية من قبل الأنبياء أنفسهم، وإنما يقتصر فقط على ذكر أسمائهم وصفاتهم في الكتب السماوية المنزلة بين الأديان الإلهية، كما في مورد الآيات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(15) الكافي: الكليني، ج8، ص 117، الطبعة الثالثة 1388 ه - الناشر: دار الكتب الاسلامية - طهران.
↑صفحة 163↑
القرآنية آنفة الذكر، فكذلك في جانب الترقب والانتظار للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) فقد لا تسبقه التوطئة الفعلية أو التمهيد أيضاً، بل يقتصر على ذكر العلامات قبيل ظهوره؟
والجواب: يكمن في عدم وجود المانع من الاستجابة الفعلية لمقتضيات التقريب والتمكين للإمام المنتظر الموعود في الواقع على مستوى الاستعداد والطاعة، بوصفها توطئةً معقولة ومشروعة، لها تأثيرها الموضوعي والظرفي في ما يرتجى حصوله وتحققه يقيناً، بحسب ما أشارت إليه دلالات روايات الانتظار والترقب، والدعاء بتعجيل الفرج وتقريبه له (عجَّل الله فرجه) بوصفه خاتم الأوصياء والحجج الإلهية.
وهذا المعنى القيم والمعقول والمشروع بيَّنه الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في كتابه (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل)، وقال ما نصه: (فإن مسألة انتظار حكومة الحق والعدل، أي حكومة المهدي (عليه السلام) وظهور المصلح العالمي، مركبة في الواقع من عنصرين: عنصر نفي، وعنصر إثبات، فعنصر النفي هو الإحساس بغرابة الوضع الذي يعانيه المنتظر، وعنصر الإثبات هو طلب الحال الأحسن!
وإذا قدر لهذين العنصرين أن يحلا في روح الإنسان، فإنهما يكونان مدعاة لنوعين من الأعمال وهذان النوعان هما:
1 - ترك كل شكل من أشكال التعاون مع أسباب الظلم والفساد، بل عليه أن يقاومها، هذا من جهة.
2 - وبناء الشخصية والتحرك الذاتي وتهيئة الاستعدادات الجسمية والروحية والمادية والمعنوية، لظهور تلك الحكومة العالمية الإنسانية، من جهة أخرى.
↑صفحة 164↑
ولو أمعنّا النظر لوجدنا أن هذين النوعين من الأعمال، هما سبب في اليقظة والوعي والبناء الذاتي.
ومع الالتفات إلى مفهوم الانتظار الأصيل، ندرك بصورة جيدة معنى الروايات الواردة في ثواب المنتظرين وعاقبة أمرهم، وعندها نعرف لم سمّت الروايات المنتظرين بحق، بأنهم بمنزلة من كان مع القائم تحت فسطاطه (عجَّل الله فرجه)، أو أنهم تحت لوائه، أو أنهم كمن يقاتل في سبيل الله بين يديه أو كالمستشهد بين يديه، أو كالمتشحط بدمه!
ترى أليست هذه التعابير تشير إلى المراحل المختلفة ودرجات الجهاد في سبيل الحق والعدل، التي تتناسب ومقدار الاستعداد ودرجة انتظار الناس؟
كما أنَّ ميزان التضحية ومعيارها ليس في درجة واحدة، إذا أردنا أن نزن تضحية المجاهدين، في سبيل الله ودرجاتهم وآثار تضحياتهم، فكذلك الانتظار وبناء الشخصية والاستعداد، كل ذلك ليس في درجة واحدة، وإن كان كل من هذه العناوين من حيث المقدمات والنتائج يشبه العناوين آنفة الذكر، فكل منهما جهاد، وكل منهما استعداد وتهيؤ لبناء الذات...)(16).
وبناءً على ما تقدم من المدخل، يقع البحث في محاور أساسية ثلاثة، هي:
المحور الأول: قراءة في الوظيفة العامة للمؤمن في تحريه عن إمام زمانه من خلال الأدلة الروائية، ودخالة ذلك في الترقب والانتظار والتمهيد، على هدى وبصيرة ويقين:
المحور الثاني: بيان منظومة العلامات في العقيدة المهدوية، ولماذا التركيز على العلامة؟ وماذا تعني لنا وما فائدتها، فهل هي لتطمئن القلوب دون التمهيد المسبق أم ماذا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج6، ص25.
↑صفحة 165↑
المحور الثالث: قد يقال: نحن مأمورون بالانتظار، ولا يوجد أمر بالتمهيد، فهل الانتظار بإطلاقه وبمعناه الواسع يشمل التمهيد فعلاً؟
المحور الأول:
نماذج من بحث بعض الأصحاب، وتحريهم عن الإمام المعصوم بعد الإمام السابق:
1 - نموذج في وقت الإمام علي بن الحسين (عليه السلام):
(ما روي عن أبي خالد الكابلي أنه قال: قلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام): من الإمام بعدك؟ قال: محمد ابني، يبقر العلم بقراً، ومن بعد محمد جعفر اسمه عند أهل السماء (الصادق). قلت: كيف صار اسمه الصادق، وكلكم الصادقون(17)؟ قال: حدثني أبي، عن أبيه أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسموه (الصادق) فإن الخامس الذي من ولده الذي اسمه جعفر يدعي الإمامة اجتراءً على الله وكذباً عليه، فهو عند الله، جعفر الكذاب المفتري على الله، ثم بكى علي بن الحسين (عليه السلام)، فقال: كأني بجعفر الكذاب، وقد حمل طاغية زمانه على تفتيش أمر ولي الله والمغيب في حفظ الله، فكان كما ذكر)(18).
إنما كانت وتكون وظيفة المؤمن مرتكزة في التحري والبحث عن الإمام اللاحق بعد السابق، اسماً ونصاً وتعييناً وعلامةً، وذلك لقطع الطريق على المدعين للإمامة، كذباً وزوراً في كل زمان، وحتى يكون مصب اعتقاده في محله واقعاً وإجزاءً، وهذه الوظيفة هي في حد نفسها تمثل نحواً من أنحاء الترقب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17) وفي نسخة الاحتجاج: ج2، ص49، ورد: (صادقون).
(18) الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي، ج1، ص 269، تحقيق ونشر مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) قم المقدسة.
↑صفحة 166↑
والانتظار والتمهيد في طول تسلسل الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، عبر مراحل التاريخ والغيبة حتى الظهور الشريف.
2 - نموذج في وقت الإمام محمد الباقر (عليه السلام):
(عن أبي حمزة الثمالي(19)، قال: كنت عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ذات يوم، فلما تفرق من كان عنده قال لي: يا أبا حمزة، من المحتوم(20) الذي لا تبديل له عند الله قيام قائمنا، فمن شك فيما أقول لقي الله سبحانه، وهو به كافر، وله جاحد، ثم قال: بأبي وأمي المسمى باسمي، والمكنى بكنيتي، السابع من بعدي، بأبي من يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجورا - ثم قال: يا أبا حمزة، من أدركه فلم يسلم له فما سلم لمحمد وعلي (عليهما السلام)، وقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وبئس مثوى الظالمين)(21).
وهنا يبين الإمام محمد الباقر (عليه السلام) للمؤمنين المنتظرين وظيفة التسليم المطلق بإمامة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وحتمية ظهوره وقيامه يقيناً، وخطورة عدم التسليم له في حال إدراك ظهوره وعصره، من حيث المصير والعاقبة والجزاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) هو ثابت بن دينار، الثقة الجليل صاحب التفسير، وراوي الدعاء المعروف في أسحار شهر رمضان، كان من زهاد أهل الكوفة ومشايخها، وكان عربيا أزديا، خدم علي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد (عليهم السلام) - انظر الكافي: الكليني، ج1، ص34 - الهامش.
وقال النجاشي العالم الرجالي عنه: هو كوفي، ثقة، لقي علي بن الحسين وأبا جعفر الباقر وأبا عبد الله الصادق، وأبا الحسن الرضا (عليهم السلام) وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم - انظر: رجال النجاشي: ص115.
(20) المحتوم: هو القضاء الذي يكون فيه تقدير الله تعالى للأمور مبرماً وقطعياً، لا يرد، ولا يبدل، ولا يتغير، وهو الذي عبر عنه القرآن الكريم بالسنة الإلهية في قوله تعالى: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحوِيلاً﴾ (فاطر: 43)، ﴿سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَد خَلَت مِن قَبلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبدِيلاً﴾ (الفتح: 23).
(21) الغيبة: ابن أبي زينب النعماني، ص 89، منشورات أنوار الهدى - إيران - قم، الطبعة الأولى - 1422 ه. ق.
↑صفحة 167↑
وأمّا لماذا يجب أن يكون قيام القائم بأمر الله تعالى وبإذنه، وهو الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) من المحتوم الذي لا تبديل له عند الله تعالى؟
فالجواب: ذلك لأن عدم حتمية قيام القائم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) سوف يلزم منها المعذرية والحجية للناس في آخر الزمان على الله تعالى، في حال تركه الناس من دون حجة منصوبة لهم، وحاشاه سبحانه، إذ إنه هو العزيز الحكيم، ولذلك ركز القرآن الكريم على هذه الحقيقة الدينية، حقيقة حتمية نصب الحجج الإلهية، أنبياءً وأئمةً، وحتمية قيامهم بأمر الله تعالى في هذه الحياة الدنيا، فقال الله تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّـرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء: 165).
3 - نموذج في وقت الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
(عن المفضل بن عمر قال: دخلت على الصادق (عليه السلام) فقلت: لو عهدت إلينا في الخلف من بعدك، فقال: الإمام بعدي ابني موسى، والخلف المأمول، المنتظر محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى)(22).
ويلاحظ في هذه الرواية أن جواب الإمام الصادق (عليه السلام) على سؤال الراوي، قد ذكر بالتفصيل مجموع الأئمة المعصومين المنصوبين من بعده اسماً ونصاً، بما فيهم خاتمهم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، بما تكتمل به وظيفة البحث والتحري لكل من يعتقد بهم جميعاً، وحتى يكون الانتظار ومقتضياته العقدية على بصيرة وهدى ويقين.
4 - نموذج في وقت الإمام الكاظم (عليه السلام):
ذكر الشيخ الكليني في الكافي: عن داود بن سليمان، قال قلت لأبي إبراهيم - الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، إني أخاف أن يحدث حدث، ولا ألقاك فأخبرني من الإمام بعدك، فقال ابني فلان، يعني أبا الحسن - الإمام الرضا (عليه السلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(22) وسائل الشيعة: الحر العاملي، ج 16، ص 246، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث.
↑صفحة 168↑
وعن النصر بن قابوس قال قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام)، إني سألت أباك (عليه السلام)، من الذي يكون من بعدك فأخبرني أنك أنت هو فلما توفي أبو عبد الله (عليه السلام)، ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: فيك أنا وأصحابي فأخبرني من الذي يكون من بعدك من ولدك، فقال: ابني فلان - يعني أبا الحسن الرضا (عليه السلام)(23)،(24).
(عن داود الرقي قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفر (عليه السلام) جعلت فداك قد كبر سني فحدثني من الإمام بعدك؟ قال: فأشار إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، وقال: هذا صاحبكم من بعدي)(25).
وهكذا يستمر البحث والتحري عن معرفة الإمام اللاحق للسابق، بحكم المنعطفات التي قد تحدث نتيجة إلقاء الشبهات وكثرة الفتن ووقوع الانحراف العقائدي، كما حصل بعد استشهاد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وظهور القائلين بالوقف، أمثال علي بن أبي حمزة البطائني وغيره.
بحيث وصل بهم الحال إلى إنكار موت الإمام الكاظم (عليه السلام) وابتداع عقيدة الوقف، طمعاً بالمال.
5 - نموذج في وقت الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام):
(عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول: أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى (عليهما السلام)، قصيدتي التي أولها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) شرح أصول الكافي: المولى المازندراني، ج6، ص 184 - ط1 - مؤسسة إحياء التراث العربي - بيروت، 1421هـ.
(24) الكافي: الكليني، ج1، ص 313، الطبعة الثالثة 1388 ه - الناشر: دار الكتب الاسلامية - طهران.
(25) عيون أخبار الرضا، الصدوق، ج1، ص 33، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت، الطبعة الأولى، 1404هـ.
↑صفحة 169↑
مدارس آيات خلت من تلاوة * * * ومنزل وحي مقفر العرصات
فلما انتهيت إلى قولي:
خروج إمام لا محالة خارج * * * يقوم على اسم الله والبركات
يميز فينا كل حق وباطل * * * ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الرضا (عليه السلام)، بكاءً شديداً، ثم رفع رأسه إليَّ فقال لي: «يا خزاعي نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام، ومتى يقوم»؟ فقلت: لا يا مولاي، إلّا أني سمعت بخروج إمام منكم، يطهر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً، كما ملئت جوراً.
فقال: «يا دعبل الإمام بعدي محمد ابني، وبعد محمد ابنه علي، وبعد علي ابنه الحسن، وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته، المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطول الله (عزَّ وجلَّ)، ذلك اليوم حتى يخرج، فيملأ الأرض عدلاً، كما ملئت جوراً، وأمّا متى، فإخبار عن الوقت، فقد حدثني أبي، عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام)، أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قيل له: يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال (عليه السلام): مثله مثل الساعة التي لا يجليها لوقتها إلّا هو، ثقلت في السماوات والأرض، لا تأتيكم إلّا بغتة»(26).
ونموذج هذه الرواية المأثورة عن الإمام الرضا (عليه السلام) يضعنا أمام معطيات مختلفة وقيمة في مجمل وظائف المؤمن، وحراك الترقب والانتظار والتمهيد، من لزوم الاعتقاد بحتمية خروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بعد مضي سلسلة الأئمة المنصوبين من قبله، كالجواد والهادي والعسكري (عليهم السلام)، مهما طال الزمان، وحتمية قيامه بالحق وتطهيره للأرض من الفساد، والعمل على إقامة العدل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(26) كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق، ص 373، الناشر - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة.
↑صفحة 170↑
فيها، وأن الجهل بوقت ظهوره الشريف لا يكون مدعاة للغفلة عن انتظاره، فظهوره حتمي وقطعي كقيام الساعة، لا محالة، يأتي فجأةً وبغتةً، مثله مثلها.
6 - نموذج في وقت الإمام الحسن العسكري (عليه السلام):
عن (يعقوب بن منقوش قال: دخلت على أبي محمد الحسن بن علي (عليهما السلام)، وهو جالس على دكان في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل، فقلت له: يا سيدي من صاحب هذا الأمر؟ فقال: ارفع الستر، فرفعته فخرج إلينا غلام خماسي، له عشر أو ثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، دري المقلتين، شثن الكفين، معطوف الركبتين، في خده الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس على فخذ أبي محمد (عليه السلام)، ثم قال لي: هذا صاحبكم، ثم وثب، فقال له: يا بني ادخل إلى الوقت المعلوم، فدخل البيت، وأنا أنظر إليه، ثم قال لي: يا يعقوب انظر من في البيت، فدخلت فما رأيت أحداً)(27).
وفي هذه الرواية نتلقى انطباعاً دقيقاً عن وظيفة المؤمنين في البحث والتحري عن إمام زمانهم، كما حدث مع الراوي يعقوب بن منقوش، وتمكين الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) له من رؤية إمام زمانه رأي العين، ومعرفته بالوصف والتنصيص.
المحور الثاني:
من المعلوم بداهةً وعند العقلاء، أن العلامات إنما تنصب وتجعل للاهتداء بها في الطريق الموصل إلى المطلوب، أو أنها تفيد الإراءة والكشف عن معالم الطريق من أول السلوك والشروع فيه، فتكون أسباباً للإرشاد إلى المبتغى والمقصد، وهو معرفة الإمام المنتظر الموعود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(27) كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق، ص 408، الناشر - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة.
↑صفحة 171↑
وفي نطاق العقيدة المهدوية قد جعل النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة المعصومون (عليهم السلام) علامات منصوصة وموثوقة، للتمييز بين الحق والباطل، وللإرشاد إلى الحق وأهله، والتي من خلالها تتم المعرفة اللازمة اعتقاداً وانتظاراً في التعاطي مع مقتضيات الإيمان بإمامة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ومجريات الغيبة الكبرى والتطلع الراشد والتوطئة الفعلية للظهور والقيام بالحق والعدل والهدى.
ولسنا بصدد الخوض في تفاصيل هذه العلامات بقدر ما نقصد التركيز على حكمة العلامة، والمراد منها وأغراضها البنيوية في حراك المؤمن المنتظر، وتكليفه في حينها، ومدى ارتباطها بالتمهيد.
وحتى أنَّ القرآن الكريم قد جعل العلامات في حد نفسها، مفهوماً ومصداقاً في نظره الحكيم للاهتداء بها في الوصول إلى المطلوب فعلاً وغرضاً وقصداً.
قال الله سبحانه: ﴿وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجمِ هُم يَهتَدُونَ﴾ (النحل: 16).
وإلى هذا المعنى القويم أشارت الروايات، كبيان لغرض جعل العلامات والمراد منها، فعن معلى بن محمد عن الوشاء، قال سألت الرضا (عليه السلام) عن قول الله تعالى: ﴿وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجمِ هُم يَهتَدُونَ﴾، قال: «نحن العلامات، والنجم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(28).
ويمكن بيان جملة من الأغراض المترتبة على جعل العلامة:
1 - إن جعل العلامة المنصوصة والموثوقة مصداقاً، يمثل ضماناً عقدياً لمعرفة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في وقت ظهوره، ولسد الباب على المدعين أو المشككين أو الجاحدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) الكافي: الكليني، ج1، ص 207، الطبعة الثالثة 1388 ه - الناشر: دار الكتب الاسلامية - طهران.
↑صفحة 172↑
وهذا ما يستدعي ركوز الطمأنينة النفسية والعقائدية عند المؤمن المنتظر، ليتقبل عصراً جديداً لم يعهده من قبل.
وفي الرواية المأثورة في باب من ادَّعى الإمامة، وليس لها بأهل، ومن جحد الأئمة أو بعضهم، ومن أثبت الإمامة لمن ليس لها بأهل، عن عمر بن أبان، قال سمعت أبا عبد الله - الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) -، يقول: «اعرف العلامة، فإذا عرفته لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر، إن الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿يَومَ نَدعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِم﴾، فمن عرف إمامه كان كمن كان في فسطاط المنتظر (عليه السلام)»(29).
وقد بين الفيض الكاشاني في كتابه الوافي مفهوم العلامة في هذه الرواية، وقال ما نصه:
(يعني بالعلامة الإمام، كما ورد عنهم (عليهم السلام)، في قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجمِ هُم يَهتَدُونَ﴾، إن العلامات هم الأئمة والنجم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو يعني بها علامة الإمام ونعته المختص به، وأنه من، وابن من، وفي نسخة الشيخ الشهيد الثاني زين الدين العاملي، اعرف الغلام يعني المهدي (عليه السلام)، فإنه قد مضى ذكره بهذا العنوان، والفسطاط الخيمة، وفي بعض النسخ المهدي بدل المنتظر، وفي بعضها فسطاطه بالإضمار)(30).
وفصل الميرزا محمد تقي الأصفهاني في بيان مفهوم العلامة في لسان الروايات أكثر، بما يؤكد ضرورة تحصيل المعرفة بها عقائدياً، فذكر (قوله: اعرف العلامة، كلمة جامعة في معرفة الإمام...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29) الكافي: الكليني، ج1، ص 372، الطبعة الثالثة 1388 ه - الناشر: دار الكتب الاسلامية - طهران.
(30) الوافي: الفيض الكاشاني، ج2، ص 436، منشورات مكتبة الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) العامة - أصفهان.
↑صفحة 173↑
بيان ذلك: أن المراد بالعلامة ما يمتاز به صاحبها عن غيره، بحيث لا يشتبه على من عرف علامته، وعلامة الإمام إمّا راجعة إلى نسبه، أو إلى بدنه أو إلى علمه وأخلاقه، أو إلى خصائصه في حال ظهوره، والعلامات المحتومة التي أخبر بها الأئمة الأطهار...
لا ريب أنَّ المقصود من المعرفة التي أمرنا أئمتنا (عليهم السلام)، بتحصيلها بالنسبة إلى إمام زماننا هو أن نعرفه على ما هو عليه، بحيث يكون سبباً لسلامتنا من شبهات الملحدين، ونجاةً لنا من إضلال المفترين المضلين، وذلك لا يحصل إلّا بأمرين:
أحدهما: معرفة شخص الإمام باسمه ونسبه.
والثاني: معرفة صفاته وخصائصه، وتحصيل هاتين المعرفتين من أهم الواجبات)(31).
2 - إن معرفة العلامات والتيقن منها اعتقاداً يستدعي التوطئة والتمهيد المسبق فعلاً، لما يرجى وقوعه منها مصداقاً، ففي الروايات المأثورة يوجد تركيز على هذا البعد العملي من والاستعداد لنصرته عند خروجه وفرجه.
فـ(عن أبي عبد الله الجعفي، قال، قال لي أبو جعفر محمد بن علي - الإمام الباقر (عليه السلام)، كم الرباط عندكم؟ قلت: أربعون، قال: لكن رباطنا رباط الدهر، ومن ارتبط فينا دابةً كان له وزنها ووزن وزنها ما كانت عنده، ومن ارتبط فينا سلاحاً كان له وزنه ما كان عنده، لا تجزعوا من مرة، ولا من مرتين، ولا من ثلاث، ولا من أربع.....)(32).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(31) مكيال المكارم: ميرزا محمد تقي الأصفهاني، ج2، ص97، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.
(32) الكافي: الكليني، ج8، ص 382، الطبعة الثالثة 1388 ه - الناشر: دار الكتب الاسلامية - طهران.
↑صفحة 174↑
وبين العلامة المجلسي (رحمه الله) في شرح قوله: رباطنا رباط الدهر: (أي يجب على الشيعة أن يربطوا أنفسهم على طاعة إمام الحق، وانتظار فرجه، ويتهيأوا لنصرته)(33).
وقد ذكر الفقهاء مفهوم المرابطة في كتاب الجهاد، وقالوا: (والمرابطة مستحبة، وحدُّها ثلاثة أيام إلى أربعين يوماً، فإذا زاد على ذلك كان جهاداً)(34).
وبينوا المراد بها: (وهو أن يقيم المؤمن ويربط دابته في ثغر من الثغور، لحفظ بلاد الإسلام من تهاجم الكفار، فيدفعهم إذا هجموا على المسلمين، وأقل زمان هذه المرابطة ثلاثة أيام، وأكثره أربعون يوماً، فإذا تجاوز الأربعين كان ثوابه ثواب المجاهدين ولا فرق في استحباب هذه المرابطة بين زمان حضور الإمام (عليه السلام) وغيبته، وفيها فضل كثير)(35).
وقد أشار القرآن الكريم نصاً إلى معنى المرابطة ودورها في حفظ الدين والثغور من الأعداء، من خلال الثبات والجهاد، قال الله تعالى: ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200).
وكذلك في الرواية عن بريد بن معاوية العجلي، عن أبي جعفر محمد بن علي - الإمام الباقر (عليه السلام) في معنى قوله تعالى: ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ﴾، قال: «اصبروا على أداء الفرائض، وصابروا عدوكم، ورابطوا إمامكم المنتظر»(36).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: العلامة المجلسي، ج26، ص 582.
(34) الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، الشيخ الطوسي، ص 312، منشورات مطبعة الخيام - قم، 1400ه.
(35) مكيال المكارم: ميرزا محمد تقي الأصفهاني، ج2، ص 397 - 398، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان.
(36) الغيبة: النعماني، ص34، منشورات أنوار الهدى، إيران - قم المقدسة.
↑صفحة 175↑
وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في معنى ﴿رابِطُوا﴾، قال: «المقام مع إمامكم»(37).
وللشيخ حسين الكوراني العاملي (رحمه الله) بيان قيم لمفهوم المرابطة في عصر الغيبة الكبرى وارتباطها الوثيق بالانتظار والتمهيد والإعداد.
قال ما نصه: (ولا شك أنَّ الوقوف مع الإمام المنتظر (عجَّل الله فرجه) أثناء غيبته إنما يتحقق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله مع نائبه الفقيه الجامع للشرائط، انطلاقاً من الاهتمام بأمور المسلمين ومواجهة الطواغيت الذين يريدون ليطفؤوا نور الله تعالى.
وفي هذا السياق يمكن فهم الروايات التي تتحدث عن إعداد السلاح، أو واسطة النقل (الدابة وغيرها)، فالانتظار عمل دائب باتجاه تزكية النفس (الجهاد الأكبر)، وحمل همّ المسلمين لا ينفك عن الجهاد الأصغر.
إنَّ الانتظار لا يعني على الإطلاق تأجيل الصراع مع أعداء الله حتى إشعار آخر، وإنما يعني استمرار الصراع حتى تكون الجولة الفاصلة بإذن الله على يدي وليه الإمام المنتظر.
ومن النتائج العملية المترتبة على ذلك الاهتمام بالتدريب العسكري، وإن المرابطة مع عدم القدرة على القتال أمر عبثي.
وإن المرابطة في غيبة الإمام المنتظر تعني امتلاك الأمة رصيداً كبيراً من الإحساس بالمسؤولية، يحملها على تحصين ساحتها بالإعداد العسكري، الذي يمكنها من حماية ثغورها، والمرابطة عليها في مواجهة كل قوى الكفر والنفاق)(38).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(37) بحار الأنوار: العلامة المجلسي، ج24، ص 217، دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان، الطبعة الثالثة المصححة، 1403هـ - 1983م.
(38) آداب عصر الغيبة الكبرى: الشيخ حسين الكوراني، ص 52، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان.
↑صفحة 176↑
3 - للعلامات - ولو البعض منها كاليماني - دور مكين وراسخ وفاعل في تربية المؤمنين المنتظرين تربيةً روحيةً وفكريةً وسلوكيةً، قادرةً على تحمل انتظار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وتلقي فرجه الموعود، طبقاً لمقتضيات الظروف الزمانية والمكانية، والحيثيات الموضوعية.
المحور الثالث: قد يقال: نحن مأمورون بالانتظار، ولا يوجد أمر بالتمهيد:
وهل الانتظار بإطلاقه وبمعناه الواسع يشمل التمهيد فعلاً، بحيث يكون من أعلى مراتبه؟
مما لا ريب فيه اعتقاداً هو أننا مأمورون بانتظار إمامنا المهدي الموعود (عجَّل الله فرجه)، بحسب ما جاء في لسان الروايات الكثيرة والمعتبرة والصحيحة، انتظاراً يتقوم بحيثيات عبادية ونفسية وفكرية وسلوكية، لها تأثيرها المؤكد في بناء الشخصية القادرة على تحمل التكليف الشرعي والعقائدي، في وقت الغيبة والظهور، وقيام الحق فعلاً.
وإنَّ طبيعة الانتظار غير قاصرة عن شمول التمهيد كحصة أو مصداق عملي، بحكم إطلاقه مفهوماً وتطبيقاً.
ووجه كون الانتظار واجباً عقائدياً، لما يمثله من كونه محققاً لما هو المطلوب بحسب المرتكزات الشرعية والعقلائية في التعاطي مع ما يرجى وقوعه حقاً، ويرغب فيه أملاً، ويتيقن به وعداً وحتماً.
وإلى هذا المعنى المعقول أشار الشيخ بشير النجفي (حفظه الله تعالى) في كتابه (ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه))، بما نصه:
↑صفحة 177↑
(إن الانتظار واجب بحكم العقل والشرع، أما العقل - فلما نعلم من طبيعة البشر أنه لا يندفع إلى فعل، لا ينبغي أن يندفع إليه، إلّا إذا أحرز أنه يؤدي إلى ما يرغب فيه ويتمناه، وتوقع الوصول إلى البغية يدفعه إلى العمل، فالتوقع والانتظار لدولة الحق على يد الإمام المنتظر (عليه السلام), مقدمة أساسية ومنطلق فكري وعملي، نحو بذل الطاقة والجهد في سبيل الوصول إلى تلك البغية.
وأمّا الشرع - فقد ورد الأمر بالانتظار في كثير من الروايات فبلغ حد التواتر، بل في بعضها أن الانتظار من أفضل الأعمال في عصر غاب عنه الحق عن البسيطة، وأصبحت الأرض بيد الطغاة، يلعبون بالصالحين وبمقدراتهم، بل مقدرات الشعوب كلها، حسب ما تشتهي أنفسهم، وتدفع إليه أهواؤهم، كما عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ضمن حديث (انتظار الفرج عبادة)(39)...، وفي رواية عن الإمام علي (عليه السلام): «انتظروا الفرج، ولا تيأسوا من روح الله، فإن أحب الأعمال إلى الله (عزَّ وجلَّ) انتظار الفرج»(40)،(41).
ومن المعلوم أنه لا يوجد نهي اعتقادي أو شرعي عن التوطئة والتمهيد خلال الغيبة الكبرى، وقبيل الظهور والقيام الشريف، فيندرج هذا المفهوم والحراك تحت مظلة الانتظار المأمور به اعتقاداً ونقلاً، بحيث يمكن أن يمثل أحد معالمه وركائزه الفعلية في الامتثال والتطبيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(39) كشف الغمة في معرفة الأئمة: علي بن أبي الفتح الإربلي، ج2، ص 313، دار الأضواء - بيروت.
(40) الخصال: الصدوق، ص 616، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدسة.
(41) ولادة الإمام المهدي: محاضرات المرجع الديني الشيخ بشير النجفي (دام ظله)، ص 114 - 115، ط8، مؤسسة الأنوار النجفية.
↑صفحة 178↑
وقد بين هذا المعنى القيم آية الله السيد محمد باقر الحكيم (رحمه الله):
فذكر نصاً: (وأصبح من ثم التمهيد للظهور أحد معالم هذا الانتظار، وأحد العوامل المؤثرة في التحرك من أجل إقامة حكومة العدل المطلق في تأريخ هذه الجماعة الصالحة)(42).
وقال (رحمه الله) في مقطع آخر: (شعور الانسان المؤمن بفكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، بأن مجمل أعماله ونشاطاته هي مساهمة في الدور التاريخي، وأداء له في التمهيد لقيام حكومة العدل الإلهي المطلق، التي يحققها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
فبدلاً من أن ينظر الانسان المؤمن إلى تقويم دوره وأعماله ونشاطاته من خلال الأهداف المنظورة في حياته الشخصية القصيرة، أو من خلال ما يمكن أن يحققه، أو يتحقق من إصلاحات في المجتمع الانساني، وعندئذٍ قد يرى كل تلك الأعمال والنشاطات محدودة التأثير والأهداف فيزهد فيها، نرى أن الانسان المؤمن بفكرة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) إنما يقوم بدوره الخاص في سلسلة المراحل والأهداف والأعمال التي تنتهي مجتمعةً إلى إقامة ذلك المجتمع الانساني الفاضل.
وهذا بطبيعة الحال يمنح الانسان مستوى عالياً من الروح المعنوية في التعامل مع نشاطاته وأعماله وتضحياته، حيث يصبح الهدف كبيراً وعظيماً يغطي كل هذه النشاطات والأعمال والجهود والتضحيات مهما كانت كبيرة وصعبة، أو صغيرة ومحدودة)(43).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(42) دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: السيد الشهيد محمد باقر الحكيم، ج1، ص 196، الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) الطبعة الأولى: 1419 ه ق.
(43) دور أهل البيت في بناء الجماعة الصالحة: السيد الشهيد محمد باقر الحكيم، ج1، ص 203، الناشر: مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام) الطبعة الأولى: 1419 ه ق.
↑صفحة 179↑
فالتمهيد يمثل الاستحضار الحي والفاعل لانتظار الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وأعلى مراتبه في مجمل المستويات الاعتقادية والمعرفية والسلوكية والتربوية والتكاملية والتدبيرية.
بناءً على إمكان تصيد عنوان التمهيد من الإطلاق الأحوالي لكثير من الروايات المعتبرة والصحيحة، التي أكدت على أهمية وظيفة الانتظار وضرورتها عبادةً وسبيلاً في عصر الغيبة الكبرى، ولكونه مناظراً لغوياً ودلالياً لمفهوم التوطئة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، يمكن تصنيفه - أي التمهيد - في المراتب العليا للانتظار الراشد، والمرتكز على التفاضل في حراك المنتظرين.
كما ورد ذلك بلسان الرواية المأثورة، من أن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) قال:
«يا أبا خالد إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته، والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان، لأن الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة، ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً، وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله (عزَّ وجلَّ)، سراً وجهراً»، وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(44).
وللشيخ المنتظري (رحمه الله) تعليق قيم في بيان مفاد ودلالة هذه الرواية، بما يجعل الانتظار تمهيداً ومن مقدمات الفرج، فذكر ما نصه: إن انتظار الفرج ليس مجرد شعار أجوف، وإنما هو صبر، واستقامة واستعداد عملي،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(44) كمال الدين وتمام النعمة: الصدوق، ص 320، الناشر - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة.
↑صفحة 180↑
وتمهيد لمقدمات الفرج، فإن الذي ينتظر ضيفاً عزيزاً، يبادر إلى إعداد داره، بشكل يتناسب وشأن ضيفه، وعليه فإن المنتظرين له يشعرون بالحاجة إليه، ويدركون أهدافه، ويتوقعون ظهوره في كل لحظة، وأنه سيطلب منهم العون والنصرة، للوصول إلى أهدافه المقدسة)(45).
عند مراجعة بعض الروايات المأثورة في شأن القيام والظهور والفرج، يظهر معطى دلالي قيم، يؤكد على عدم عفوية أمر ظهور الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، واستسهال ظهوره، ومدى ارتباطه المكين بشروط واقعية وموضوعية، تستدعي العمل المسبق والمنظم، والذي يقوم على أساس التخطيط وبذل الوسع من الجهد والمشقة ومواجهة الصعاب، وتقديم التضحيات، حتى يستقيم ذلك الأمر الإلهي الموعود حتماً وتحققاً.
وقد أورد الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) في كتابه (الغيبة) هذه المعاني الاعتقادية والموضوعية والواقعية في عدة روايات، يستظهر ذلك منها بوضوح وصراحة.
فروى عن بشير النبال، أنه قال: لما قدمت المدينة، قلت لأبي جعفر، الإمام محمد الباقر (عليه السلام): إنهم يقولون: إن المهدي لو قام، لاستقامت له الأمور عفواً، ولا يهريق محجمة دم، فقال: «كلا، والذي نفسي بيده، لو استقامت لأحد عفواً، لاستقامت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين أدميت رباعيته، وشج في وجهه، كلا، والذي نفسي بيده حتى نمسح نحن وأنتم العرق والعلق(46)، ثم مسح جبهته»(47).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(45) من المبدأ إلى المعاد في حوار بين طالبين: الشيخ المنتظري، ص 168، ط1 - قم - 1425 ه.
(46) كناية عن ملاقاة الشدائد التي توجب سيلان العرق والجراحات المسيلة للدم.
(47) الغيبة: الطوسي، ص 295، منشورات أنوار الهدى - الطبعة الأولى - 1422 ه. ق.
↑صفحة 181↑
فإنَّ نفي عفوية القيام المهدوي دون ملاقاة الشدائد قبل الظهور الشريف، في متن هذه الرواية، يؤكد على أن استقامة الأمر الموعود، وتحققه مرهون واقعاً وفعلاً بالتمهيد المنظم، والتوطئة على وجه يتحمل فيه المؤمنون المنتظرون مواجهة الصعاب والتضحيات والأذى على مستوى أنفسهم والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) معاً.
وفي رواية أخرى عن المفضل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، وقد ذكر القائم (عليه السلام)، فقلت: إني لأرجو أن يكون أمره في سهولة، فقال: «لا يكون ذلك حتى تمسحوا العلق والعرق»(48).
وكذلك الحال في هذه الرواية أيضاً، يتبيَّن أن أمر الظهور والقيام ليس بالأمر السهل في تحققه، ضمن معطيات وحيثيات الظروف والشرائط في وقتها، إلّا بعد بذل الجهد المنظم، وتجاوز الشدائد بتحملها، وملاقاتها بما فيها من تحمل الأذى والمشقة والضرر.
خلاصة البحث:
إنَّ التتبع الدقيق في ما تحمله متون بعض الروايات المهدوية المعتبرة، يغطي مجمل وظائف الإنسان المؤمن في تعاطيه الاعتقادي مع مسألة الغيبة الكبرى للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ومقتضياتها، من الترقب والانتظار والتوطئة أو التمهيد، وما يكتنف ذلك من تطبيقات وخيارات، وأدوار ومكتسبات، يبين للباحث ثمة تداخل مفاهيمي دلالي عميق بين هذه المرتكزات الثلاثة في حراك الوظيفة والعلاقة بين المؤمنين وإمامهم المهدي المنتظر الموعود، ودخالتها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(48) الغيبة: الطوسي، ص 295، منشورات أنوار الهدى - الطبعة الأولى - 1422 ه. ق.
↑صفحة 182↑
المباشرة في تعجيل الفرج وتحقق الظهور، وقيام العدل والحق والهدى، ودفع الظلم والجور عن العباد، ومحاربة الفساد في الأرض.
فهذه المفاهيم الثلاثة (الترقب - الانتظار - التمهيد) هي وظائف اعتقادية وعقلية مشروعة، ومنصوصة في لسان الروايات، بل هي أفضل العبادات في منظومة التعاطي العقدي مع الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في عصر الغيبة الكبرى.
↑صفحة 183↑