الولادة المعجزة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
الولادة المعجزة للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
السيد حسين العوامي
ولادة موسى (عليه السلام) في الكتاب العزيز:............................................ 47
ولادة موسى (عليه السلام) في الحديث:.................................................. 49
ولادة إبراهيم الخليل (عليه السلام):..................................................... 50
عرض صاحب مجمع البيان قصة ولادة إبراهيم الخليل (عليه السلام):...................... 50
عرض ابن الأثير لولادة إبراهيم الخليل (عليه السلام):.................................... 51
ولادة يحيى (عليه السلام):............................................................... 52
قصة ولادة يحيى (عليه السلام) في الإنجيل:............................................... 52
ولادة عيسى (عليه السلام):............................................................. 53
بيان ولادة المسيح ابن مريم (عليهما السلام) في الكتاب العزيز:.............................. 54
الولادة حديث وحدث:........................................................ 56
الولادة عقيدة أو معرفة:........................................................ 57
محل النزاع والبحث:........................................................... 60
التاريخ والدين:................................................................ 61
كيف أرَّخ الدين نفسه؟ وكيف وثَّق حقائق الأحداث التي تمَّت به؟ أو تمت إليه بصلة؟....................62
ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):....................................................... 63
الجدل المثار حول ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه):............................................ 63
المنهج العقلائي والعرفي في إثبات الولادة:....................................... 67
الولادة في سيرة أهل البيت (عليهم السلام):................................................ 67
القيمة التاريخية لإثبات تواريخ الولادات:....................................... 69
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين وبعد..
لعل من صلب الواقع والحقيقة القول بأن ليس في التاريخ الإسلامي ولادة ارتبطت أحداثها بنسيج معرفي وعقدي واجتماعي كولادة الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) فقد ترقبها ورعاها وترصد بها وكتب عنها مختلف الفئات البشرية، هناك عقول وقلوب كتبت عنها وتفاعلت معها في أزمنة تجاوزت حدود زمانها ومكانها وانتمائها، فلم تكن ولادة كالتي ألفتها الطبيعة الإنسانية ولم تكن شبيهة بالولادات التاريخية التي صنعت الأُمم ورجالها، كل ذلك بسبب أهمية هذا المولود المبارك ودوره في الحياة، وارتباط الأديان السماوية به تطبيقاً وتمثيلاً، وحاجة البشرية لعدله وإنصافه وهدايته.
هذا المعنى يستثير العقول ويرسل سيلاً من الأسئلة الفضولية حول ملابسات هذه الولادة وأحياناً تُقذفُ مشاغباتٌ بقصدٍ أو بدون قصد!
والمنشأ الأول لهكذا أسئلة يكمن في طبيعة الأمل المرجو، وما يستتبعه من تغيير - ومن نافلة القول لفْتُ الانتباه إلى حقيقة رعاية المولود والتحوط لسلامته من قبل استهلاله، فهذا المعنى ضروري ومألوف لدى كل المجتمعات، وتختلف تلك الرعاية، وذاك التحوط تبعاً لاختلاف وضع المولود وما يرتجى
↑صفحة 45↑
منه ويرجى له - فتارة تعلن الولادة، وتخفى تارة أخرى، ومن المفيد الاطِّلاع على بعض الأساليب المذكورة في تاريخ الأُمم حول هذه النقطة، ومقارنتها بالسلوك الفعلي للإنسان في هذا الموضوع، حينها سيرى القارئ أساساً عقلانياً يمهد لمعرفة الواقع وتستبين له الكثير من الأحداث التاريخية حول هذا العنوان، ويكفي المنصف عرض جملة أحداث خاصة ذات شأن أسري جرت لجملة من الأنبياء، وقد وثِّقت في الكتاب العزيز أو في التراث الديني التي لها صلة بفكرة هذه الكلمات، فإنَّ الناظر في الكتاب العزيز يقرأ آيات تتحدَّث عن ولادات جرت على غير العادة، فهذا الخليل (عليه السلام) يهب الله له ذرية بعد هرمه، ومثله زكريا (عليه السلام)، وذاك أيوب (عليه السلام) يحيط به البلاء، ولا يبقى له شيء فيرحمه الله ويرد عليه ما قد فات من أهله ومثلهم معه، وكانت ولادة موسى (عليه السلام) موعدة نجى بها بنو إسرائيل، وتأبى فرعون ظلالها فهزَّت عرشه، وتلك مريم غمر وجودها الابتهال فكانت تباشير المواهب الإلهية، وكذا يحيى (عليه السلام) كان مشرق وجوده آية الله ورحمته التي ألهبت رغبة زكريا (عليه السلام) في هبة من الله، لم تكن هذه العناية الإلهية بولادة هؤلاء الخلص إلّا مَعلَماً يأخذ بالعقول نحو معاني اللطف الإلهي وعظيم هباته، لذا ترى في الوجدان بقايا أمل وأخلاق لا تخنقهما منافع الإنسان وأنانيته، وذكر هذه الغيوب كان السبيل الأمثل لهداية البشر لنعم الله ولطفه، فهو نبّه على عظيم المنن وحذّر من التغافل عن نهج الهبات الربانية، فإنَّ مواهبه لا تستوعب وعطاياه لا تخضع لمقاييس الاستيهاب البشري، فهذا زكريا (عليه السلام) حينما رأى عناية الباري بمريم (عليها السلام) طلب، ما يتطلع أمثاله له، فكان عطاء من لا يعجزه شيء قد غمره بلطفه، وكوّن له ما لا يخطر بباله غلاماً ليس له مثيل حتّى أنَّ اسمه جاء من الوحي فضلاً عن علمه وحكمته، هذا الترتيل لولادة الخُلَّص يذكِّر بأنَّ العادة في حياة هؤلاء خرق العادة السائدة بين الناس حتّى في مقدمهم لهذه الحياة ودرجهم في هذا
↑صفحة 46↑
العالم، لذا ترى سلوكيات المعاصرين لهؤلاء الخُلَّص يتَّسم بالتعظيم والرهبة والحسد على اختلاف مشارب القوم.
فعرض ولادات هؤلاء الأولياء في كتاب سماوي ليس من قبيل الترف المعرفي أو التشويق الديني، فهذه أساليب لا تنسجم مع القيم الكبرى في سرد حياة أمثال موسى (عليه السلام) سيما وأنَّ القرآن الكريم كتاب هداية، فإذن يمكن درك بعض الدواعي لذكر هذه الأحداث وتفاصيلها، ولعله لأن الأُمَّة سيعرض لها ما يشبه هذه الأحداث، فهو أحد الأسباب التي قضت توثيق جملة منها في أهم الكتب السماوية، فحاجة الأُمَّة إلى دروس وتنبيه إلى مثل هذه القضايا من أجلى دواعي ذكر ولادةِ موسى (عليه السلام) كمثال في الذكر الحكيم، حيث يدرك الإنسان السنن الربانية، وبه يعرف أن السنن تسري وتحكم على كل الخلق ولو كانوا أهل الصفوة، وبمعرفته هذه يتمكَّن المنتمي للدين أنْ يسلم من الشطحات المعرفية في الدين والعقيدة ويتمكن القارئ - ولو لم يكن منتمياً - أن يتعرَّف على طبيعة الرعاية الربانية لحججه وصفوته، من أجل ذلك وغيره جاءت مثل هذه التفاصيل في كتاب لا ريب فيه.
ولادة موسى (عليه السلام) في الكتاب العزيز:
قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ * فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ * وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَـى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ
↑صفحة 47↑
لَهُ ناصِحُونَ * فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (القصص: 7-14).
عرض الكتاب العزيز في الآيات التي ذكرناها وفي غيرها مما لا يسعنا ذكرها بعض الأحداث المهمة في بدايات حياة موسى (عليه السلام) في موضعين:
الأول: في موضع امتناني، فقد ذكَّر موسى بالألطاف الربانية التي رعته، فقد أوحي لأُمِّه أمور أدَّت لحفظه ولم تكن لتُعلم - عادة - لولا الوحي، بل لم تكن لولا اللطف.
والموضع الثاني: عرض فيه الحالة التي كان فيها قوم موسى (عليه السلام) من استذلالٍ وقتلٍ وفقدٍ لأبسط مقوِّمات الحياة، وبيَّنت كيف رتَّبت العناية الربانية الأوضاع لاستقبال المنقذ بشكل ينسجم مع السنن الكونية والألطاف الإلهية فحملت أُم موسى (عليه السلام) به دون أن ينتبه لحملها أحد وولدته ولم يعلم بها - بحسب ظاهر البيان القرآني - إلّا أخته.
والغرض من هذا العرض القرآني هو نفس الغرض من إنزال الكتاب العزيز ﴿كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (إبراهيم: 1).
فما هي الهداية التي تبدو من سرد قصة ولادة موسى (عليه السلام) في موضعين، تُرى أراد ذكر موارد تبيِّن عظمة الباري ولطفه - وهو الأمر البيِّن في قرآن التدوين وقرآن التكوين - وهو أمر لا ينافي سواه من الأغراض، بل ولا يفي بيان موارد اللطف بالهداية، وإن أعطت النفس اعتزازاً وامتناناً وشعوراً بالعناية الربانية، إذاً يمكن القول بكل ثقةٍ: إنَّ سرد ولادة موسى (عليه السلام) ينبّه على مضمونها، وأنَّه أسلوب متَّبع في صدّ كيد الفراعنة، فهذا الذكر يشبه الضربة الاستباقية في الحروب والأمن القومي، فهو تذكير وإخبار يزيِّن التاريخ بوقائع
↑صفحة 48↑
جرت، وفي عين الحال تكون علامات مضيئة في سبيل الهدى، وبذا لا ينتفع أرباب الفتن والتشكيك بالكذب والتكذيب والافتراء والتشكيك في الحقائق الدينية والعقائد الحقة.
ولادة موسى (عليه السلام) في الحديث:
ورد في إكمال الدين بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنَّ يوسف بن يعقوب (صلوات الله عليهما) حين حضرته الوفاة جمع آل يعقوب وهم ثمانون رجلاً، فقال: إنَّ هؤلاء القبط سيظهرون عليكم، ويسومونكم سوء العذاب، وإنَّما ينجيكم الله من أيديهم برجلٍ من ولد لاوي بن يعقوب اسمه موسى بن عمران، غلام طويل جعد آدم، فجعل الرجل من بني إسرائيل يسمي ابنه عمران، ويسمي عمران ابنه موسى».
ذكر أبان بن عثمان عن أبي جعفر (عليه السلام) رواية طويلة مسردها يؤكد أن قضية موسى نبأ لما يجري على صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه) وولادته وبدأ أمره ومن أهم ما ورد فيها:
1 - ما خرج موسى حتى خرج قبله خمسون كذاباً من بني إسرائيل كلهم يدَّعي أنَّه موسى بن عمران... وهذا المعنى حصل وسيحصل في المستقبل.
2 - رصد فرعون نساء بني إسرائيل وقباله ما حصل من رصد لبيت الإمام العسكري (عليه السلام).
3 - نافحت نساء بني إسرائيل عن أولادهن... وهو ما يثبته التاريخ عن البيت العلوي (عليه السلام).
4 - رصد أُمِّ موسى وكذا أم صاحب الأمر (عجَّل الله فرجه).
5 - كانت رعاية الباري لهما.
6 - هلكت أُم موسى والقابلة فنشأ موسى لا يعلم به بنو إسرائيل
↑صفحة 49↑
وكانوا يطلبونه ويسألون عنه فيعمى عليهم خبره... وهكذا كان الحال في شأن صاحب الأمر إلى اليوم.
7 - علم فرعون بطلب بني إسرائيل فزاد في عذابهم واليوم ترى عذاب القائلين بإمامته وطلبهم للإمام.
ولادة إبراهيم الخليل (عليه السلام):
ذكروا أنَّ ولادة إبراهيم (عليه السلام) في زمن نمرود بني كنعان وقد علم النمرود بأنَّ هلاك دولته على يد غلام سيولد - وكان الوقت هو وقت ولادة إبراهيم (عليه السلام) - فتفحص أحوال النساء فمن وجدت حبلى حبست حتَّى تلد، فإن جاءت بغلام قتل ولما حملت أُم إبراهيم به هربت ولجأت إلى غار ووضعت فيه إبراهيم وانصرف عنه بعد أن جعلت على باب الغار صخرة، ويذكر ابن الأثير أنَّ نمرود إبراهيم (عليه السلام) عَلِم بالسَنة التي يولد فيها هادم ملكه، فحبس الحبالى إلّا أُم إبراهيم (عليه السلام) فإنَّه لم يعلم بحملها لأن لم يظهر عليها أثر، فذبح كل غلام ولد.
عرض صاحب مجمع البيان قصة ولادة إبراهيم الخليل (عليه السلام):
ذكر أهل التفسير والتاريخ أنَّ إبراهيم (عليه السلام) ولد في زمن نمرود بن كنعان، وزعم بعضهم أنَّ نمرود كان من ولاة كيكاوس، وبعضهم قال: كان ملكاً برأسه، وقيل لنمرود: إنَّه يولد في بلده هذه السنة مولود، يكون هلاكه وزوال ملكه على يده. ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنَّما قالوا ذلك من طريق التنجيم والتكهن. وقال آخرون: بل وجد ذلك في كتب الأنبياء، وقال آخرون: رأى نمرود كأن كوكباً طلع، فذهب بضوء الشمس والقمر، فسأل عنه فعبر بأنَّه يولد غلام يذهب ملكه على يده، عن السدي.
فعند ذلك أمر بقتل كل ولد يولد تلك السنة، وأمر بأن يعزل الرجال عن النساء، وبأن يتفحص عن أحوال النساء، فمن وجدت حبلى
↑صفحة 50↑
تحبس حتّى تلد، فإن كان غلاماً قتل، وإن كانت جارية خليت، حتّى حبلت أُم إبراهيم، فلما دنت ولادة إبراهيم خرجت أُمّه هاربة، فذهبت به إلى غار، ولفته في خرقة، ثم جعلت على باب الغار صخرة، ثم انصرفت عنه، فجعل الله رزقه في إبهامه.
فجعل يمصها فتشخب لبناً، وجعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة، ويشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر، ويشب في الشهر كما يشب غيره في السنة، فمكث ما شاء الله أن يمكث، وقيل: كانت تختلف إليه أُمُّه، فكان يمص أصابعه، فوجدته يمص من أصبع ماء، ومن أصبع عسلاً، ومن أصبع تمراً، ومن أصبع سمناً.
عرض ابن الاثير لولادة إبراهيم الخليل (عليه السلام):
فلما أراد الله أن يبعث إبراهيم حجة على خلقه ورسولاً إلى عباده ولم يكن فيما بينه وبين نوح نبي إلّا هود وصالح (عليهم السلام)، فلما تقارب زمان إبراهيم أتى أصحاب النجوم نمرود فقالوا له: إنّا نجد غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له إبراهيم، يفارق دينكم ويكسر أصنامكم في شهر كذا من سنة كذا، فلما دخلت السنة التي ذكروا، حبس نمرود [الحبالى] إلّا أُم إبراهيم، فإنَّه لم يعلم بحبلها لأنَّه لم يظهر عليها أثره، فذبح كل غلام ولد في ذلك الوقت.
لعلَّ فرعون استلهم أسلوب نمرود في تعامله مع ولادة موسى (عليه السلام) وكأنَّه لم يجد بديلاً عن هذا الأسلوب فتلافى بعض الإخفاقات في تطبيق الفكرة:
- ففي البدايات حصل خبر لدى الدولة بقرب ولادة عدوها.
- تسعى من أجل القضاء عليه أو منع ولادته.
- فرَّقت بين النساء والرجال.
- فحصن النساء.
↑صفحة 51↑
- حبست الحبالى.
- ذبح كل غلام ولد.
- استبقيت كل أنثى.
- لم يظهر أثر حملٍ على أُم إبراهيم.
- مع اقتراب ولادتها تهرب من البلد.
- تضع حملها في مكان خفي.
- تتركه.
- تتولى العناية به السماء.
- تعود إليه بين فينة وأخرى حتّى نشأ وأظهر الله أمره.
ولادة يحيى (عليه السلام):
لم تكن ولادة يحيى محفوفة بالمخاطر كما هو حال ولادة إبراهيم (عليه السلام) [وإنَّما كانت ولادته حدث خارق للعادة] ومع ذلك أخفت أُمه نفسها خمسة أشهر كما جاءت في قصته في الإنجيل فأصل إخفاء الحمل والولادة ليس بالأمر المستنكر المستغرب.
قصة ولادة يحيى (عليه السلام) في الإنجيل:
كان في أيام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا وزوجه من بنات هارون، في يومٍ كان نصيبه أن يدخل هيكل الرب ويبقى وحده فظهر له ملاك الرب فوقع عليه الخوف، فقال له الملك: (لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا، لأَنَّ طِلْبَتَكَ قَدْ سُمِعَتْ، وَامْرَأَتُكَ أَلِيصَابَاتُ سَتَلِدُ لَكَ ابْنًا وَتُسَمِّيهِ يُوحَنَّا * وَيَكُونُ لَكَ فَرَحٌ وَابْتِهَاجٌ، وَكَثِيرُونَ سَيَفْرَحُونَ بِوِلاَدَتِهِ، لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ * وَيَرُدُّ كَثِيرِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الرَّبِّ إِلهِهِمْ. وَيَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِرُوحِ إِيلِيَّا وَقُوَّتِهِ، لِيَرُدَّ قُلُوبَ الآبَاءِ إِلَى الأَبْنَاءِ، وَالْعُصَاةَ إِلَى فِكْرِ الأَبْرَارِ، لِكَيْ يُهَيِّئَ لِلرَّبِّ شَعْبًا مُسْتَعِدًّا...
↑صفحة 52↑
وَبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ امْرَأَتُهُ، وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ...).
لاحظ أنَّ أُم يحيى أخفت نفسها خمسة أشهر، ومهما كان داعي الاختفاء فهو يفيد في المقام، فأصل إخفاء الحمل والولادة ليس بالأمر المستنكر المستغرب.
ولادة عيسى (عليه السلام):
لم تكن ولادة عيسى (عليه السلام) على جري العادة المألوفة حتّى فيما ذكر من ولادات الأنبياء (عليهم السلام)، فهذا المولود المبارك تقدَّمته إرهاصات عَلِم الناس بها أنَّ ذرية هؤلاء الأنبياء ليست من نفس نمط ذراري الأنبياء، فأُمُّه جاءت إلى الدنيا من أبوين هرمين لا رجاء لهما في الذرية، وإنَّما جاءتهم البشرى من الله بنبي يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، وإذا بإشراقة تلك البشرى أنثى، تعجبت حنة زوج عمران فإنَّ البشرى كانت بنبي ولا رجاء لها في مولود غيرها فإنَّ عمران توفي، ومع كل هذا لم يذهب الرجاء من قلبها، فللّه أمرٌ هو بالغه وليس في وسعها الاقتراح بما ترى وتريد، فلقد عاشت بين نسّاك السماء وسدنة الدين ورجال الوحي، ترى ولياً بعد ولي، ونبياً بعد نبي، وقلباً إثر قلبٍ يهزُّ كيانه لمعان اللطف الإلهي، فحررت وليدتها وفاءً لنذرها، وتسابقت الأقلام كلٌ يأمل الفوز بكفالة مريم، فهم يعلمون أنَّ لها شأناً، فهي هبة معظّمة خرجت عن مألوف السنن حتّى تلك السنن الجارية في العباد المخلصين، ونشأت واللهُ يكفل رزقها، بما لم تجر به العادة، حتّى أَلِف الناس اختصاصها الوثيق بأمر الله، في وسط كانت طبيعة العيش فيه نفعية آنية، تكاد تخلو من أخلاقيات السماء وضرورات الوجدان، فضلاً عن المعارف الدينية والتي تبدو أنَّها آخر همهم، لاحظ آيات الأنبياء في تلك الفترة ترها من اللون المادي المحض: الإخبار عن الأكل، الشرب، الادِّخار، إحياء الموتى ومداواة الأمراض المزمنة.
↑صفحة 53↑
وتأمَّل في تعاليم الأنبياء: الأمر بالتقوى وشؤونها وجلّ الوصايا الدينية من قبيل التسامح والمحبة، ولعل هذا النمط من العيش من مخرجات نهج الفراعنة مع بني إسرائيل، نمط من السلوك تحكم فيهم بقوة موازين الرغبة والسلطة والمنافع الملموسة وما تتطلبه السلطنة، ولمّا حان وقت مجيء المنجي المعلّم لهم كانت طلَّته عليهم من ثنايا الغيب والقدرة الربانية، وهو أمر يُنبت بقوة ووضوح مغارس الفطرة، فمعها لن يخطر ببال عاقل التنكر لكلمات المسيح وهدْيه، فلقد تكلَّم وهو في المهد، ومع هذه البداية التي لا مثيل لها، لم تتمكن تعاليم المسيح من النفوذ في وجدان الناس حتّى أنَّهم أحاطوا بعيسى كي يقتلوه، هكذا كان تفكّه الاتباع بموائد الشهوة، فلقد حوّروا ما جاء به عيسى لذة وتجبراً.
بيان ولادة المسيح ابن مريم (عليهما السلام) في الكتاب العزيز:
شاء الله أن يكون عيسى (عليه السلام) من غير أب، ومن الحكمة تهيأت الأجواء والنفوس لهكذا حدث، فالناس يبهرهم ما هو خارج المألوف وما لم تجر به العادة لكن في حدود ما، بحيث يمكن أن يتخيَّل الإنسان قدرته عليه، ولو كان مستحيلاً فعلاً على الإنسان، ولو تجاوزت الأحداث الخارقة للعادة حدود المخيال المعقول فقد يفتح الإنسان ثقباً أسوداً في معارفه وتعقلاته، من هنا اعتنى الكتاب العزيز ببيان ولادة عيسى (عليه السلام)، فتأمل في كيفية سرد ولادة عيسى فلقد مهد بمقدمات طويلة ومتجذرة، لاحظ.. هناك إشارة إلى مبدأ الاصطفاء، وتتبعها إشارة إلى الأفراد والبيوت المصطفين، وإلفات النظر إلى عناية الباري بهؤلاء الثلة، عناية تحيط بأدق تفاصيل شؤونهم، وما كانت هذه العناية بهم إلَّا لأنَّ الله اصطفاهم لدينه واصطفى لهم الدين، ومن الطبيعي والمنطقي جداً أن يكون لهذه العناية مظهرٌ ملموسٌ يحكي قرب أولئك المصطفين من الله ويظهر رعاية الله لهم، وما ظنك بمن كان قريباً من الله ومن كان الله يرعاه، أتراه
↑صفحة 54↑
يكون رقماً في المعادلة الكونية أم يكون في حساب الأعداد الضائعة، هنا تقف الكلمات قليلاً لتأخذ نفساً يجمع الفكرة، فمن بيان الكتاب العزيز لولادة عيسى (عليه السلام) تكشفت أمورٌ منها ما يرجع لشخص المسيح، ومنها ما يخبر عن رسمِ عُرفٍ رباني، يطبَّقَ ويجرى في مناسبات تشرّف الدنيا بثلة خاصة من المصطفين، هذا البيان القرآني - وهو كتاب هداية لأُمَّة الإسلام - يوثق واقعاً عملياً لمثل هذه الحوادث في عداد من اصطفاهم حتّى لو فات المؤرخ توثيقه، لأنَّ المؤرخ عادة لا يدرك قيمة الأحداث وأهميتها طبق القيم الربانية، بل يصنفها طبق قيمه العلمية والمعرفية، وفي حالات كثيرة ترى أقلاماً تحكم قيم الانتماء، ولو رجعت الكلمات إلى موضوع البحث لوجدت أنَّ الأحداث المنقولة - والتي لا يراها الأحول صحيحةً - والتي تحمل معانٍ خارقة للعادة الكونية أو العرفية لا تخرج عن إطار مظاهر العناية الإلهية بصاحب الولادة، ولو تفكَّر متفكِّر في الحدث لأدرك عجائب الحكمة فيه، ووفرة الألطاف الإلهية في معانيه، ولا يذهب بك الخيال إلى الربط بين العناية الإلهية والأفعال الخارقة للعادة، فليس كل فعل خارق للعادة كاشفاً عن عناية الباري تبارك وتعالى ما لم يكن مصاحباً لدعوى الارتباط بالسماء، ويظهر من أحداث ذلك التاريخ أنَّ الأفعال الخارقة للعادة كانت معياراً للحق في تلك الحقبة من عمر الإنسان، ولعلَّ شدَّة أُنس أولئك بالماديات أدَّى إلى تهميش الإدراك عندهم(1) وهذا المعنى قد انقطع وتوقف بعد أن كذَّب بالآيات الأوَّلون، وكأنَّ تكذيبهم بها كونهم حصروا أنفسهم بنهج ضيق من التعقل، فكان لزاماً - ومن أجل فتح مناهج المعرفة والعلم - تغيير نهج الاستدلال نوعاً من الدلائل المادية الملموسة إلى دلائل غير مادية فحلَّت محل مناهج البراهين العقلية وصارت هي المعيار السائد في إثبات الحق، ومن المهم الالتفات إلى أنَّ العلم وإن كانت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ويشاهد هذا المعنى القاري لتاريخ بني إسرائيل وثقافتهم.
↑صفحة 55↑
التجارب بابه المفضل عند البشر إلّا أنَّ ما تدرك به التجارب وأُسس تعقلها يرفدان الإنسان بقواعد علمية وحقائق كونية قبل أن تتمكن التجربة من البرهنة عليها.
ولو رجعت إلى ولادة عيسى (عليه السلام) فسترى خفاء حمله وولادته مع أنَّ الكرامات والدلائل على عظيم أمره من قبل ولادته بفترة زمنية كبيرة.
فولادة أُمِّه بكرامة ومعجز وحياتها كرامات في كرامات فالإخفاء ينبئ عن أنَّ ولادته لا تحتملها نفوس القوم فكان الإخفاء ضروري، ودواعيه متنوعة وفي المقابل تجد أنَّ صاحب الأمر يعلم بحاله أعداؤه ومحبوه، وأنَّه صاحب السيف فقد انتشر خبره وأخبار النبي عنه وأنَّه الثاني عشر خاتم الأوصياء فكانت دواعي قتله متكثرة بخلاف دواعي قتل آبائه.
فلك أن تنظر وتقارن بين أحوال من تقدم من الأنبياء وبين أحوال صاحب الأمر ستجد ما يخبرك بواقع الحال.
الولادة حديث وحدث:
لم يكن حديث الغيب بين أتباع الأديان ضرباً من ضروب الترف ولا شكلاً من أشكال التسلية، وإن حوى الحديث على أُنس ولذّة، فهذا يوسف (عليه السلام) يخبر آل يعقوب بغلبة القبط عليهم، فهم السادة الجدد، وطبع الحال يقتضي أن يسومهم المناوؤون لهم من الأقباط الذين قادوا عملية الانقلاب على نهج يوسف (عليه السلام) سوء العذاب وأنَّ المنقذ من شباك القبط هو من نسل لاوي اسمه موسى بن عمران (عليه السلام)، أخذ هذا الحديث صداه، فطمع الكثير من بني إسرائيل في أن يكون المنقذ من ذريته، فسمّوا أبناءهم باسم الأب وسمى الآباء أبناءهم باسم المنقذ، ودغدغ هذا الحلم الكثير ممن سمع بحديث يوسف، حتّى خرج قبل موسى خمسون كذاباً كلهم يدَّعي أنَّه المنقذ موسى بن عمران، وفرعون يرصد بني إسرائيل إذ كانوا مصدر القوى العاملة في دولته فبلغه كثرة
↑صفحة 56↑
حديثهم عن المنقذ، هذا يعني أنَّ لهم رفضاً له وقابليةً للخروج عن سلطانه وكان جهاز إدارته يؤكد تلك الأحاديث الدائرة بين بني إسرائيل، فلابدَّ من التحرك لقتل المنقذ، لم يكن يعلم بحمل موسى إلّا دائرة ضيقة جداً، فقد كانت عيون فرعون تراقب كل بيت وترصد كل أثنى، وتشي بكل مولود، هنالك أخذت المحبة مفعولها فصار العدو محباً وحامياً، رغم إصراره على عداوته وشدَّة عناده للحق، أثمرت هذه المحبة، جعلت القابلة تحرص على حياة موسى (عليه السلام)، فوظَّفت موقعها الرسمي في الجهاز الأمني لتحمي الوليد، فلم يعلم بموسى أحد سوى أُمّه وأخته والقابلة، مضت الأيام، ماتت القابلة وماتت أُم موسى، فنشأ المنقذ، وبنو إسرائيل لا يعلمون به، كانوا يطلبونه ويسألون عنه فيعمى عليهم خبره، وفرعون يرصد أخبارهم ويعلم طلبهم، فرَّق بينهم، نهاهم عن السؤال والتحدُّث بأخباره...
في ليلة اجتمع بنو إسرائيل عند عالِـم لهم، دار حديث الأمل الموعود، علا التململ والضجر، حتّى متى.. وإلى متى..، صار العالِـم يصبّرهم..، يذكّرهم بقول يوسف..، عندها جاء أمر الله إذ أقبل موسى (عليه السلام)، قرب منهم..، وقف عليهم، فلمعت صفته في عيني العالم، فسأله عن اسمه واسم أبيه، فعرف أنَّه المنقذ..، عرَّف من حوله بحقيقة الأمر، فتعارفوا، بدأ موسى (عليه السلام) العمل بشيء من العلن فاتَّخذ شيعة.. ومكث ما شاء الله....
الولادة عقيدة أو معرفة:
وجود الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) عقيدة دلَّت عليها الأدلة العقلية والنقلية القطعية التي تفيد العلم.
لكن نفس الولادة قد ينظر إليها كحدث تاريخي يتكفل بإثباته ونفيه قواعد النفي والإثبات التاريخي.
والسؤال: لو لم تسعف الباحث المادة التاريخية لإثبات حدث الولادة، فهل يصير إلى نفي أصل الموضوع؟!
↑صفحة 57↑
قد يسارع عَجِلٌ في خضم تزاحم المعاني إلى جواب ما، وبين الواقع ودفائن التاريخ توجد ملايين الحوادث التي يسلّم بوقوعها مع عدم وجود شواهد وأدلة على بداياتها، فكم من رجال التاريخ والحضارات ليس لهم سجل منذ ولادتهم، بل كم من الأحداث المعاصرة يصعب، بل يستحيل توثيق بداياتها، إذاً القول بأنَّ الولادة كحدث تاريخي لا يمكن توثيقه لا يعني انتفاءه، بل ولا يصح نفيه دون حجة موجبة.
ومجرد الاستبعاد أو وجود ما يوهم بالنفي لا يكون دليلاً على النفي، هذا المعنى واضح، وكذا المعاني المتقدمة لا لبس فيها.
وقد يقول قائل: ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) تختلف عن بقية الولادات لأنَّ البحث فيها انصبَّ على الولادة وهو (عجَّل الله فرجه) لم يظهر بعدُ، وبقية الولادات التي خفي أمرها تناولتها الأقلام بعد ظهور أصحابها، والفرق بين الأمرين بيِّن وواضح.
هذا القول في بادي النظر له قيمة بحثية.
والسؤال الفني هنا: هل هذا المعنى يشكِّل فارقاً بشكل ينفي الوحدة البحثية بين الولادتين؟
هنا تصورات الأقلام تختلف بحسب أسسها فيما تكتب، فالقلم المستند إلى الإثبات الديني في الموضوع لا يثبت فارقاً بين الولادتين، بل تكون أحدهما دليلاً على الأخرى، لأنَّ أقل ما في أدبياته أنَّ ولادة الحجج بشكل خارق للعادة يبتني على مقتضيات موضوعية وحِكَم إلهية، منها سنةُ الابتلاء.
والقلم الذي يستبعد الإثبات الديني - بغض النظر عن دواعي استبعاده - فتارة يكون اتِّجاهه البحثي يعتمد ويقبل الإثبات العقلي للقضية الدينية، فهذا الاتجاه لا يسعه تجاهل مخرجات العقل والتي من أهمها ضرورة وجود الحجة في كل زمان ومكان معيَّن منصوص عليه.
وتارة يكون الاتجاه البحثي مستبعداً الإثباتات العقلية في القضية الدينية، فهذا اللون من البحوث في واقعه يعالج ظواهر مجتمعية بما يمكنه منها بغض النظر عن
↑صفحة 58↑
حقيقتها، أو قل: يطلب في بحثه معرفة الظاهرة ضمن تجربته، أو ضمن سياق ما يراه من أفكار، بغض النظر عن وفاء أفكاره ببيان الواقع.
وكما ترى لا يصح أن تعتمد مخرجاته ونتائجه في خارج نطاقها، وكثيراً ما تسمع عن مثل هذه الأبحاث الاجتماعية التي لها معانٍ خاصة بها، ففي أغلب هذه البحوث تعرِّف الدين ومفرداته مقتطعة إياها عن سياقاتها الأصلية وتأخذ انطباعات البشر ورؤاهم كدين منسوب للباري والواقع أن دين الله في وادٍ ونظرات البشر في وادٍ آخر.
تنبيه:
١ - من المرتكز عند الإنسان أنَّه إذا جاءه خبر ما، قد دلَّ على مفاده حكم عقلي فإنَّه يقبل بمضمون الخبر، بل يرتقي به الحال إلى القبول بنفس الخبر كدليل؛ فيما إذا كان مدعماً بقرائن وشواهد تدل عليه، ومقبولية الخبر الموافق لحكم العقل كدليل تجده شائعاً في العرف وعند العقلاء.
٢ - إنَّ الحدث الذي دلَّت عليه لابدية العقل، لا ينتظر عاقل تفاصيل خبره من النقل، فليس النقل حينئذٍ بأوثق من دلالة العقل، لذا ترى العقلاء يعتمدون في توثقهم من المعلومات على المعطيات العقلية، من هنا تجد أنَّ الاستبيانات، وإن كثرت عيِّناتها وبلغت الآلاف لا يكتفى بها، بل غاية ما تفيدهم تلك الاستبيانات هو توجيه بوصلة البحث والتحري.
كما هو جارٍ في عالم التجربة فالتجربة مادة الحكم وليست هي بنفسها حكماً.
٣ - الأخبار التي تتضارب فيما بين نفي وإثبات كيف يتعامل معها العقلاء؟
في الواقع مثل هذه الإشكاليات لا تجد لدى العقلاء قاعدة سيالة، إذ إنَّ حقل الخبر من المؤثرات المهمة في التعامل معه، فأخبار الأحكام الشرعية
↑صفحة 59↑
يُدقَّق فيها كثيراً لأنَّها إخبار عن الله (عزَّ وجلَّ)، وأخبار العقائد لا يكاد يجدي فيها التدقيق، إذ المعوَّل في باب العقائد العلم، وهو في الحقيقة صنو دليل العقل، هنا تبدو إشكالية أخبار الولادة فإنَّ مادة البحث مضمون خبر لا ريب فيه - وفي عين الحال هو خبر لا حجية له - لو قلنا بأنَّ الخبر غير ثابت، وإلّا فأخبار الولادة صحيحة بلا ريب، بل هي من دلائل النبوة وأدلة الحق.
محل النزاع والبحث:
محل البحث ليس في أصل الولادة، فهذا أمر مفروغ عنه عند أتباع المذهب الحق وعند من أنصف الأدلة العقلية المقامة على ضرورة وجود الحجة من لطف وغيرها، وعند من بلغه تواتر الأخبار عن الأئمة الاثني عشر أو عن خاتم الأوصياء، وإنَّما البحث في روايات وأحداث الولادة، ومن حاول أن ينفي روايات الولادة، فتارة يعتمد على بعض المنقول النافي للولد، وهذه قد تكون صادرة قبل الولادة، أو تكون صادرة تقية، والبعض يشكك في أصل صدور روايات الإثبات إمّا بدعوى عدم تمامية السند، أو بدعوى تكذيب روايات النفي لها؛ فأمّا دعوى عدم تمامية السند - لو فرض أنَّه كذلك - فلا يوجد مبرّر عقلي ولا عقلائي ولا فني للارتكاز عليه، لأنَّ تمامية السند تشكّل عاملاً في المحاسبة والاستحقاق في الأوامر والنواهي، فإنَّ من يخالف الأمر أو يأتي به، فإنَّ العذر وعدم العذر يرتكز على وصول الخبر إليه وعدم وصوله له من طريق معتبر، والعقلاء ببابك تراهم يعاقبون مخالف الأوامر بدعوى أنَّ المراد قد حصل والأمر قد وصل عبر قنوات معتمدة، ولو تصرَّف متصرِّف على أساس قناعته أنَّ هناك أمراً لا يقبل منه، ولكن لو حصل عنده تشخيص موضوع خارجي من دون تعلق أمر به، فليس له عدم ترتيب الأثر بدعوى أنَّ ليس لديه أوامر بذلك.
↑صفحة 60↑
نعم، يصح منه ذلك في حال كونه آلة صرفة لتنفيذ الأمر، أو ليس بيده تحديد تنفيذ الأمر وقتاً وكيفيةً كما في الأوامر العسكرية، وهناك بعض الموارد لا تحتاج لأمر بعد معرفة أصل الموضوع.
فإذن محل البحث أخبار الولادة، ويبدو للذهن أنَّه يكتفي بتحكيم قواعد إثبات الخبر فإن تمَّ تحكيم قواعد الإثبات تم خبر الولادة وإلَّا فلا، لكن لكون الولادة مرتبطة بقضية هي من دلائل النبوة، ومرتبطة بالنسيج العقائدي، وفي نفس الوقت هي معترك مصالح الأضداد من ساسة يهمهم نسف كل ما يرتبط بها، ومن أحباب يعنيهم كل شؤونها، صارت جهات للبحث في هذه المسألة ومثارات تحكي توجه مثيرها، وهو ما جعل ظواهر البحث انتمائية رغم أنَّ المسألة ليس لها انتماء خارج عن سياق أمثالها من الولادات.
التاريخ والدين:
سجَّل الإنسان الأحداث حسب رؤيته وروايته، وهما منطلقان يتأثران كثيراً بمعطيات نفسية متعدِّدة الجوانب وبدواعٍ مصلحية تتطلب قولبة متقنة - وفي بعض سريعة - للأحداث، وهذا المعنى يجعل التاريخ في مهب الأهواء، وبعد حصول الإنسان على نضج معرفي، حسب أنَّ وطأة القولبة تلاشت، ولكن أغلب الظن أنَّه وجد مسارب يعرف بها فن القولبة، هذا ما يجده متابع حدثه اليومي، وتاريخ الدين يعد من أهم المواضيع وأكثرها حساسية وأشدها تعرضاً للقولبة بحسب المصالح والرؤى، من هنا ترى صاحب الدين أولى عناية خاصة بتاريخ الدين والتدين، كي يتمكَّن الإنسان من معرفة الحقيقة، فإنَّ تشويه التاريخ وسيرة الرسل والأنبياء تشويه للدين نفسه، وهذا المعنى بديهي.
↑صفحة 61↑
فكيف أرَّخ الدين نفسه؟ وكيف وثَّق حقائق الأحداث التي تمَّت به؟ أو تمت إليه بصلة؟
هذا الحديث شيِّق وشائك، وزبدة القول فيه: إنَّ الدين عمد إلى الحقائق الثابتة والخصائص النابتة في معالم الدين، وأولياء الدين من رسل وأوصياء ومن حولهم وما يرتبط بهم، فشيَّدها ونبَّه إلى شؤون حياتهم ومظاهر ارتباطهم بالباري، فضرب أمثلة من واقع سِيَر الرسل والأنبياء والأولياء والفراعنة وبنى عليها الأسس التي تحمي الحقيقة الدينية من رؤية ورواية الإنسان، فإذن يمكنك القول: إنَّ فهم الرواية التاريخية للأحداث المرتبطة برسل الله وخلفائه، لابدَّ وأن يستند إلى معرفة شؤونهم بحسب النص القرآني؛ ويمكن القول - إن لم يرقَ إلى مستوى البداهة - بأنَّ أسلوب توثيق الحدث الديني يختلف عن المناهج المتبعة والمعروفة، من هنا لا يتَّسع المجال الديني إلى كلمات ومعاني (روايات وتفاسير للأحداث) تفتقد المصداقية في المعرفة الدينية، فإنَّها معارف تطلبها الحقيقة التاريخية لتثبت، ولا تطلب التاريخ لتثبت، هنا تجد الروايات - ومن هذا القبيل موضوع البحث - تحتاج لمؤشرات من الوحي كي يؤخذ بها ولا تكون جزافاً، فالنبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما كان قصّاصاً ولا حكواتياً، وما كان القرآن يذكر شيئاً لا ينفع في هداية المسلمين لدين الحق وما يحويه الدين ويطلب التعرف عليه من قبل المكلف، فذكر قصة ولادة موسى وعيسى وناقة صالح، وذكر ما هو خارج عن مألوف الإنسان مما يقتضي تعجب الإنسان منه، هو في واقعه ناتج طبيعي جداً، وضمن إطار المألوف في الوسط العلمي هناك كثير من معارف الإنسان وعلومه تعد عند عموم الناس من العجائب والغرائب وهي عند العلماء أمر طبيعيٌ، بل قد يكون ضرورياً وخلافه هو العجيب، وهذا المعنى ينطبق على كل عالم في مجاله، فالشخص البعيد عن عالم الكهرباء وطبيعتها - عادة - ما يتنقل من دهشة إلى دهشة ومن غرائب إلى
↑صفحة 62↑
عجائب، ولكن العالم بطبيعة الكهرباء، لا تأخذه دهشة ولا يرى ما يرى من غرائب الأمور.
والغرض من هذه الكلمات لفت النظر إلى ما ذكر في الكتاب العزيز من شؤون الرسل والأنبياء وكيفية تجلي الرحمة الإلهية والقدرة الربانية في ذواتهم.
ولادة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه):
شأن من شؤون أولياء الله، ويمتاز هذا الولي بأنَّه بقية الله، جاء إلى الدنيا وهي ساحة حرب بين الحق والباطل، وجملة أعدائه يعلمون ما يعني وجوده في هذا العالم، فما ظنك بمن هذا حاله؟ بحسب السير الطبيعي وجاري العادة في مثل حاله أقل ما توصف به حياة آبائه بأنَّها محاطة بالأخطار القاتلة، فضلاً عن حياته نفسه. هذا مقدار ما يُدرَك بحسب المعطيات المتوفرة، وإلّا بحسب الاحتمالات، فالمخرجات تفوق ذلك بكثير، فكيف يمكن الحفاظ عليه بنحو لا تخرج الأمور عن الإطار الجاري في الكونيات، بما يبدي كونه بعين الله ورعايته.
هنا تجد الاقتراحات كثيرة، وكل عقل يفصل ويفضل أمنياته، والسماء لها شأنها الذي بيَّنته فيما سبق من الرسل والأولياء، فهناك إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم (عليهم السلام)، كل له ملحمة في بدايات وجوده، فإبراهيم (عليه السلام) هربت أُمُّه به إلى كهف وربَّته حتّى استوى عوده، ولكن فرعون موسى تجنَّب فعل النمرود فلم يمكن أُم موسى من الهرب فألقته باليم وتكفل الباري بأمره.
الجدل المثار حول ولادة المهدي (عجَّل الله فرجه):
ترتبط ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) بعدَّة قضايا، بعضها تاريخي وبعضها عقدي، وبعض منها يمس أصل بيانات النبي البلاغية لشؤون الشرع والشريعة، والأعجب من ذلك أنَّ قضية الولادة وجوداً وعدماً لها ارتباط بسُنَّة الاصطفاء المذكورة في الكتاب العزيز فأصابها وهن ونسف لتلك السُنَّة، والنظر هنا لكل
↑صفحة 63↑
عنوان على حدة بشكل مختصر، ففي الجنبة التاريخية هناك عدَّة أحداث تمحورت حول ولادته ووجوده بشكل مباشر أو غير مباشرة، وأبرز مثال لارتباطها بالقضايا التاريخية الأحداث التي وقعت في تلك الفترة، فإنَّ كبس بيت الإمام من قبل السلطة ودعوى جعفر عدم وجود ولد لأخيه، وجملة من الحركات التي ظهرت بلباس المهدي - بعد غيبته - تبتني على أصل وجوده فعلاً، لا أنَّه سيوجد، وإلَّا لا يتم لتلك الحركات ما تدَّعيه، فهذه الحركات ابتنت على يقين الناس بأنَّه مولود موجود فعلاً، ولو كان اليقين السائد أنَّه سيولد لكانت أيقونة دعواهم هباءً منثوراً.
وفي مجال العقيدة كان نفي ولادته نفياً لأصل دعوى الإمامة بالنهج المطروق عند الآل، فإنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أسَّس الإمامة وذكر منبتها وبيَّن أهلها وحصر أفرادها، فإنكار الولادة أقل ما ينتج عنه محاولة تشويه ذلك البناء الذي لا ريب فيه، ولا شك في رفض جملة من الأتباع لفعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّ ولادة الإمام ووجوده يتطابق مع إخبار النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) به وشأن الإمامة، وينتظم مع البنى الدينية، فإنَّ الكتاب العزيز يصرِّح في مواطن عدَّة بأنَّ الباري تبارك وتعالى يحتج على عباده بحجج كما في سورة الرعد والنحل والإسراء وغيرها.
فنصب الحجة قرار إلهي ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) سببه في قوله: «اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إمّا ظاهراً مشهوراً، وإمّا خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته»، وهذا المعنى مستند إلى جملة من آيات الكتاب العزيز، منها ما أشير إليه.
بل طلب الحجة مطلب بشري، فإنَّ المذنب والمخطئ أوَّل ما يبحث عن عذرٍ له ينفي البيان، ووجود الحجة عليه، ويجعل عدم الحجة والبيان حجة ليست معذرةً له فقط بل وبعدمها يلزم خصمه التقصير، ﴿لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى﴾ (طه: 134).
↑صفحة 64↑
وإذا وصلت إلى نفس البيانات النبوية بعنوان أنَّها بيان لا بما ينتج عنها من أحكام وأمور تشريعية ودينية سترى أنَّ الولادة الشريفة هي الفصل الصريح الذي مكَّن عدَّة طوائف من الخطاب النبوي في شأن الإمامة من التعالي عن تفسير وتحوير المنتفعين وأشباههم، مع إذعانهم بصدورها من النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبالولادة الشريفة جاء وقت تجلي آيات النبوة في رفد الأُمَّة بمزيد من الأدلة على الحق الحقيق.
هنا تجد أنَّ الجدل المثار حول ولادة الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) ليس جدل مناكفة بين الأقلام، بل هو صراع يجد البعض أنَّ وجوده يتمحور حول النفي فيسعى لترسيخ نفي الولادة بشتّى الطرق، ففي نفيه عَيشُه، بينما يرى المقابل أنَّ مسألة الولادة الشريفة حدث تاريخي يثبته ما يثبت أمثاله ولا يشكل إثبات أو نفي الولادة تاريخياً رقماً يهز كيانه فضلاً عن أن يهدم بنيانه، وأنَّ تداخل هذا الحدث مع قضايا العقيدة يجعله متأثراً بها لا مؤثراً فيها، لأنَّ أُس العقيدة عقلي لا يبنيه ولا يهدمه إلّا المعطيات العقلية، ولا شأن للمؤرخ في ذلك فتتبُّع هذا الجدل له معطيات مهمة جداً.
فقد لاحت جملة من الأمور التي تضع الأُسس لأجوبة أسئلة من قبيل:
لماذا هذا الجدل؟ وثمة مصلحة يتجاذبها النافي والمثبت، ومتى بدأ؟
ومتى احتدم النقاش حوله؟
ومتى خفت سَوْرته؟ وهل ثمة أمل في أن يخبو الجدل حوله؟
ومن هم أطراف النزاع؟
وما هو سر تنوع البيان النبوي في هذا الشأن والاعتناء بعدم صدور البيانات بشكل صريح ومباشر؟
صياغة السؤال موجهة، وتقضي بأنَّ ثمة أشخاصاً من مصلحتهم وجود ابن للإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وهؤلاء لابد أن يكونوا أحد شخصين إمّا
↑صفحة 65↑
ترجع إليهم مصلحة من حيازة ميراث الإمام من خلال ابنه أو من الاستفادة من وجود عنوان الإمامة في ولد الإمام، وفي الاحتمال الأول من الطبيعي أن يكون هؤلاء الأفراد من أسرة الإمام فإنَّه لا يحوز المال إلّا من كان من الرحم، والاحتمال الثاني وهو مقابل إثبات الولادة (نفي وجود الولد) فإنَّه يفترض أن يكون هناك من يقدر على الاستفادة من هذا العنوان، والقادر على هذا النحو من الاستفادة أيضاً لا يكون أجنبياً عن الأسرة العلوية فإنَّ الأجنبي عنها لا يرث، ولا يمكنه الاستفادة من عنوان الإمامة بدون دعم من أهل بيت الإمام، فالمدَّعي يحتاج إلى دعم منها، والذي يقف أمام هذا الاحتمال أنَّ السلطان آنذاك كان له سعي خاص في الظفر بالوريث الشرعي للإمام الحسن التقي (عليه السلام)، لأنَّ بظفره به تنقطع سلسلة الإمامة ويقرّ قرار ملكه، وقد طلب جعفر أخو الإمام من كبار رجال الخليفة أن يصيِّره مكان أخيه فزبره ملوّحاً أن الخليفة جرَّد السيف فيمن يقول بهذا الأمر ولم يأتِ بشيء، وأنت تريده أن يصيِّرك فيه(2).
هذا ما يمكن أن يناله نافي الولادة من العلوية، وأمّا السلطان وأصحاب المذاهب فنفيه الولادة يعني لهم الكثير إذا لم يتمكنوا الظفر بالإمام وقتله، ففي نفي الولادة إبطال لأمر الشيعة، لذا ترى إلى اليوم تعلو الأمنيات وتبذل الأموال من أجل نفي الولادة.
وبكلمة جامعة: لم يتمكَّن أحد من دعوى وجود الإمام آنذاك لأنَّ مجرد الادِّعاء يعني الموت، ولم يتجرأ على نفي وجوده، سوى جعفر من أجل المال وقد حازه.
وهل يوجد أحد سعى في الأمر سوى جعفر؟
لم يظهر فيما هو موجود من كتب أحد سواه.
وفي المقابل هل ادَّعى أحد وجوده؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) البحار: ج50، ص329.
↑صفحة 66↑
القارئ لتلك الأيام يعلم أنَّه لا يسع أحد الجهر بهذا المعنى، فإنَّ أقل ما يلزم الدلالة عليه، وإلّا فلن يسلم من بطش الدولة، وأهل البيت أنفسهم لم يجهروا بالولادة، ولم يصدر نفي على لسانهم، نعم وردت روايات عن الإمام تنفي أنَّه ولد له وهذا اللون من الروايات لا يضر لاحتمال صدورها قبل الولادة أو صدورها تقية كما يفرضها ظرف ذلك الوقت.
ولو توهَّم متوهِّم بأنَّ دعوى وجود الإمام لم يكن وقت الإمام، بل تم بعد ذلك بزمن طويل من خلال مجموعة من علماء وسدنة المذهب، فهل توجد شواهد تدعم هذه المقالة أم لا؟
هذه المقالة تبتني على أنَّه ما قبل هؤلاء لا رسم ولا أثر لقضية ولادة الإمام، وإنَّما ما رسم من قضايا تاريخية فإنَّما هي منهم تثبيتاً لأمر في أنفسهم، فهل هذا المعنى يقبله الواقع التاريخي أو يرضاه عاقل؟
متى بدأ؟
يركِّز الطرف النافي في جداله على مبدأ النزاع في الولادة وعدمها أيام وفاة الإمام العسكري (عليه السلام) حيث حاز إرثه عم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، فلو كان للإمام ولد لما حاز الميراث غيره، وقد ثبت عند الخليفة ورّاث الإمام العسكري (عليه السلام).
المنهج العقلائي والعرفي في إثبات الولادة:
المعروف عند العقلاء، والسائد في الأعراف أنَّ خبر الولادة يؤخذ من أهل الولد، ومن القابلة، فهؤلاء المصدر الأول للخبر، لا يصغى لغيرهم لا نفياً ولا إثباتاً.
الولادة في سيرة أهل البيت (عليهم السلام):
الحديث هنا من طرائف الكلام، أن تذكر عادات لمناسبة لها وقع خاص جدّاً في نفوس أصحابها، لا يرغب أهلها عادة بإذاعتها، وإن قيلت فإنَّما تقال
↑صفحة 67↑
للخاصة، وبحسب الظروف، ومنها استقبال الولد في بعض الأحيان، من الأمور التي يتحفظ الناس على بداياتها، لأمور وأسباب ليس محلها هنا، وشأن أهل البيت (عليهم السلام) في أمرهم هذا يكشف عنه الشريف الرضي في رسالة له إلى فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة يعتذر عن ردِّ صلته في مولود له ينقلها أبو حامد محمد بن محمد الأسفرائيني الفقيه الشافعي يحكي الفقيه بعض ما أراه الوزير من تلك الرسالة: (إنَّنا أهل بيت لا يطَّلع على أحوالنا قابلة غريبة، وإنَّما عجائزنا يتولَّيْنَ هذا الأمر من نسائنا، ولسن ممن يأخذن أجرة ولا يقبلن صلة)(3)، ولو قلبت أوراق التاريخ أكثر لرأيت تحفظاً ووقاية تتخطى التحفظات المألوفة، فالناس تحفظ المهم من شؤونها، والقارئ لسيرة الآل وآبائهم من الأنبياء والمرسلين (عليهم السلام) سيدرك سريعاً أنَّ الذرية وما يرتبط بها من أهم أمورهم وشؤونهم، فلا يفرطون في شؤونها بدءاً من اختيار القرين.
لاحظ وصايا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في هذا المعنى وتأمل في اختيارات أهل البيت (عليهم السلام) لأُمَّهات أولادهم، ومن قبل تأمل في كتب حول ولادة أبي الأنبياء وولادة موسى وعيسى (عليهم السلام) ستقف على لحظات توارت عن مسرح التاريخ، وخفيت عن أعين أقرب المقربين.
فإذن ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) حينما تختص عمته حكيمة بالحضور دون سواها له مبرراته في سيرة آباء الإمام من الأنبياء والمرسلين على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولستر ولادته مبررات موضوعية أيضاً، فإنَّ حديث تملُّكه ودولته وظهوره على كل الدنيا بمن وما فيها، قد ظهر للناس فخيف عليه كما جرت الحال في ولادة جملة من الأنبياء والمرسلين، بل وجملة من كبار البشر فراجع(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1، ص40.
(4) كتاب الغيبة لشيخ الطائفة.
↑صفحة 68↑
القيمة التاريخية لإثبات تواريخ الولادات:
لحظات مُرَّة أو حلوة لصقت بذهن الإنسان اهتزَّ لها وجدانه، فكانت تخبو وتطفو على صفحته.. كانت ذكرى تأخذ بيد الإنسان تارة وتردعه تارة أخرى.. يسامر بها أحبابه.. يناكد بها أعداءه.. تقادمت تلك الأحداث ولفَّتها الأيام وصيَّرتها بدايات تاريخ.. نما شيئاً فشيئاً.. صقلته روابط وهموم تَشارَك فيها أفراد وجماعات.. فكان ديوان الأيام والأحداث التي تصنع الإنسان فتفيده في مقبل أيامه، ولم تكن هوامش الأحداث مما يعنى بضبطها، فيوم الولادة وشؤونها.. يوم الختن.. يوم العرس.. يوم الشهادة، هذه وأشباهها بشكل عام لا تشكِّل قيماً معرفية ولا تؤثر في معرفة المستقبل وإن كانت لها أهمية عند أصحابها وذوي العلاقة بهم لكون تذكّرها يشي بالتعظيم والمحبة وينفخ روح السعادة والرضا في قلوب أصحابها، وبهذه اللفتة تتَّضح للقارئ حالة الإهمال وعدم الاعتناء المبكر بتفاصيل ولادة عظماء البشر، والاعتناء المتأخر بهذه الجزئيات جاء كمحاولة من بعضهم لإرساء أهمية قد تعطي لها قيمة ترفع اللوم عن إهمال من تقدَّم في ضبط هذه الجزئيات رغم أنَّ إهمال المتقدِّمين لهذه القضايا نابع من عدم رؤية قيمة معرفية لها، فهي لون من الترف المعرفي، ولا يُعدُّ القول بأنَّ (الاشتغال بهذه الأمور حرفة من لا حرفة له)، ضرباً من التحامل طالما لم تستبن قيمها وأهميتها، نعم في مثل هذا الوقت تدخل في عداد الاعتناء وإحياء ذوي المآثر، ولها قيمة علمية تكمن في ربط تفاصيل الحدث، وتسلسل الوقائع، وجديتها، وللناس فيما يعشقون مذاهب.
والملفت أنَّ الالتزام الاجتماعي المترتِّب على هذه الأمور الجزئية نسبي إضافي فتعني شيئاً عند قوم ولا تعني شيئاً عند آخرين، بل عند من يعتني بها، تارة تخبو جذوتها وتشتعل تارة أخرى، تخبو فيكاد يلمس أهلها عبء
↑صفحة 69↑
أمرها، تشتعل وكأنَّها حدث الساعة ووجدان الآباء والأزواج خير شاهد، فقد يأتي وقت تمر به ذكرى أولادهم وكأن شيئاً لم يكن.
لكن هوس الأقلام بصناعة الحدث والإثارة وحماستها لمثيرات النظر، أطعم الأحرف هوامش التاريخ وأعطاها زخماً أكثر من واقعها، وهذا مما لا ينبغي أن يكون ولا تذهب بك المذاهب ذات اليمين وذات الشمال، فإنَّ من هوامش التاريخ أحداثاً لها قيمتها في الأديان، وعند العقلاء وذلك فيما لو ارتبطت بقضية دينية أو مقصد عقلاني.
فمثل مواليد الأنبياء، وأحداث ولادتهم يعد في التدوين حدث هامشي يأخذ قيمته التاريخية من مستقبل أيام الوليد لكنه حين الولادة يبقى مما لا يعتنى بتدوينه، حتّى من يعلم بأنَّ الوليد نبيٌ، لا يولي أمر ولادته اهتماماً بالغاً فضلاً عن أن يعنى بها عناية مؤرِّخ رصين، ولكن حينما تظهر له آثار ذلك الوليد، يولع بكل صغيرة وكبيرة في حياة هذا الوليد، ومع ذلك لا يجعل أمر ولادته محور الأيام، فالبحث في شؤون ولادة من يُعرَف مستقبله، يتأثر كثيراً بحسب نظرة الباحث ومصالحه فيسخّر كل شيء لهدفه وبكل شكل ممكن - فإنَّ الباحث قد يعلم أنَّ حدث الولادة ليس بالأمر الهامشي، بل هو عين مبدأ انفجار التاريخ لكنه حدث لا يصب في مصلحته ولا ينسجم مع رغباته كما في ولادة إبراهيم الخليل وموسى الكليم (عليهما السلام)، فلاحظ كيف كانتا ذواتا أحداث مفصلية، فنمرود وفرعون استنفرا كل مقدراتهما من أجل منع هذه الولادة - ومن لا يعلم بمآل هذه الشخصيات لم تكن لتعني له تلك الولادة شيئاً.
وقضية ولادة الإمام (عجَّل الله فرجه) لها شبهٌ بالولادتين، ولها امتياز عنهما فجلّ الناس لا تعني لهم تلك الولادات شيئاً، ومن يعنى بأمرها فهم طوائف وفئات.
فطائفة تريد معرفة الأمر كي تقضي على الوليد لأمر ما، وتطفي أمره بكل حال وعلى جميع الأصعدة.
↑صفحة 70↑
وطائفة تريد الحفاظ عليه لأمر ما.
وطائفة متفرِّجة تستمع بالأخبار ويغريها فضولها بتزويق الأخبار لتكون مادة مشوِّقة تصلح للسمر وما شابه.
وبين الجميع طائفة رابعة مشفقة على نفسها، محبة، لا تملك معرفة وليس لها قدرة على فعل شيء، فهي تتلهف لكل كلام ولا تميز وجهه.
وبين أعين الكل حق وحقيقة وهي المهم!
فمن يرد أن يطفئ نور الله يسعَ للقضاء على شخص الإمام، ومع العجز عن ذلك يجهد في كتم الحق، وتزييف الحقائق وتشويه الأخبار، وهذه الأساليب لا حاجة للبرهنة عليها، فكل شخص يكاد يراها بشكل يومي في حياته، والكثير من المؤرخين اعتادوا الكتابة من منطلق المصالح إذ كانت مهنتهم، أو كان لديهم انتماءات انحازوا إليها، فما كتبوه مشوب بالانحياز المعرفي، قلَّما تجد قلماً قد سلم من صاحبه.
ومن يرد الحفاظ على نور الله، تره يسير بحسب نهج رسل الله فترى في تاريخ الأديان أنَّ الرسل والأنبياء استعملوا التقية ومداراة الناس ما أمكنهم ذلك حتّى يسلموا من القتل والكيد، وطبيعي في مثل هذه الحال أن يتكتموا ويأخذوا حذرهم بأشد ما يمكن، في مثل هذه الظروف يكون السكوت وتورية الحدث من الضروريات، وإن كان من الضروري أيضاً بيان أصل الموضوع في بعض الحالات، وشواهد هذا المعنى موجودة في الآيات والأخبار فلاحظ سيرة الأنبياء والرسل ترى صحة هذا القول.
وهل المنتفع من الحدث يمكنه صنعه من غير أساس واقعي له؟
من حيث الإمكان العقلي ممكن ولكن من جهة المعطيات الخارجية فغير ممكن كما سيأتي بشكل مجمل.
والمتفرِّج يتابع بشغف الأخبار ويملكها بما يهوى ويروق لكنه في أصل
↑صفحة 71↑
المعنى ينشد الواقع كي لا يفقد قيمته كمصدر للخبر أو التصدر في الناس وهي مصداقية لها اعتبارها، وهذا النوع من الناس ليس بالقليل حتّى في الحاضر.
والغالب من الناس من يتطلَّع لما لدى غيره من إخبار أو معرفة يملي بها فارغ عقله وهباء عمره، وقد يدري أنَّ مصادر المخبرين مزوقة ذات مصالح خاصة غير مرئية، أو أنَّ مصادرهم مما لا يعنى بها، لكن لأنَّ لدى هؤلاء المتحدِّثين ما يشتهيه السامع فيقبل كلامهم، وفن هؤلاء يعتمد على قرن الأخبار بأمور أخرى تعجب المستمع وتأخذ بلبِّه، وكثيراً ما تبتني صناعة الإعلان على هذا اللون من المحتوى يقدِّم شيئاً ويطعم شيئاً آخر، لذا ترى الجمال يقدم وَهمَ الحدث بلباس الحقيقة.
والحقيقة أنَّ صناعة الانحياز المعرفي فن قديم، ذو تأثير كبير وتكلفة قليلة، وتلتقي مخرجاته مع المصالح، والانتماء وهما رباط وثيق يلوي الحقيقة....
فلو نظر ناظر إلى قضية ولادة الإمام المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) لرأى - إلى اليوم - تلك الحالات تحوط أخباره، وأيامه.
فناصبة تسعى من قبل أيامه في إطفاء نوره على جميع الأصعدة، فمحاولات القتل وتزييف الحقائق وإثارة فضول الجهل - علماً وعملاً - بالدين وبتاريخه أبرز أساليبهم إلى اليوم.
وأهل مصالح تحاول أن تستفيد من أخباره في تحقيق طموحها - وما ظهور الحراك باسم المهدي إلّا شاهد على هؤلاء - ولكن تُرى هل يمكن أن يصوغ هؤلاء كل ما ورد في شأن المهدي (عجَّل الله فرجه)؟!
من المستحيل ذلك - عادة - لأنَّ ما ورد في شأنه (عجَّل الله فرجه) سبق طموح الطامحين بقرون، وفاق عقول المدبرين بدهور، وأبان عوار المدعين ببيان لا يتسنى طمسه، فحُدد شخص الإمام، ونسبه، وصفته، وشاكلة أتباعه - في زمن حضوره وغيبته -، ورسمت سيرتهم، وأسست ضمائرهم بما يحكي
↑صفحة 72↑
مراسم أخلاقه ويبدي شعائر دينه، وبذلك تتجلّى معالم الآتي من أيامه في حاضر محبيه ومواليه.
فإذا نظر العقل لمجموع ما تقدَّم فإنَّه يسلِّم - في الجملة - بأنَّ مقدار الأخبار الموجودة اليوم - والتي ستصاب في مستقبل أيامها بمحاولات تلوين عسى ولعل أن تذهب من الأذهان أو تبقى كأسطورة - مما يستحيل عادة اختلاقها، فهي أخبار تتَّسق مع أدبيات العقول -، ومن أدبياتها ما لم تدركه البشر في سابق أيامها كتوق العقول إلى الإتقان والعصمة في إنجازاتها، فإنَّك ترى مسارعة العقول إلى محو هامش الخطأ فيما تصنع، فكيف بمن أتقن كل شيء خلقه - وتتوافق مع أسس الشريعة وتجلياتها -، ومن أسسها وتجلياتها ظهور وثبات الحكمة في التشريع علماً وعملاً، وهذا ما لا يتسنّى لغير مَن جعله الله خليفة دون سواه، فإنَّ غاية قدرة المكلف ظواهر يراها قد شيبت حقائقها بقلة درك المكلف وسوء تقديره، بينما ترى الأخبار التي تصف شأن المهدي (عجَّل الله فرجه) تصف نتائج التشريعات التي لو أخذ بها الإنسان لاستقام حسن الكون وبان جماله - وتنسجم مع ألوان الفطرة تلك الأساسات التي تعنى بتوافر إمكانية التكامل والكمال، وتسد عثرات الإنسان في سيره وسيرته، هكذا نسيج لا يمكن لبشر أن يحققه واقعاً وقد وردت الأخبار ومن قبلها الآيات تتحدَّث عن سلالة وذرية قد اصطفيت وانتخبت من أجل هذا الدين بها يستدل ويهتدى وعلى يديها تتحقق هذه المنشودة.
فهل ترى عقلاً يهضم دعوى انقطاع سلسلة الهداة وقادة الكمال المنشود؟!
وهل يصح في الدين والحكمة لوثة حمق تهدم بناء الإنسان؟!
وهل تؤسس وتعلو فكرة وعقيدة تعاند الفطرة وتقاتلها؟!
* * *
↑صفحة 73↑