وَهمُ الإمامة المُعَطَّلَة
وَهمُ الإمامة المُعَطَّلَة
الشيخ حسن الكاشاني
نبذة:.................................................................. 75
طرح المسألة:.................................................................. 75
أهمية المسألة:.................................................................. 76
رأي الشيعة الأوائل وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) إلى القرن الرابع:........... 77
حفظ الدين وبينات الوحي بالإمام الحي القائم بالأمر:........................... 80
كلمات أعلام الطائفة من القرن الخامس:........................................ 85
الأدلة على فعلية الإمامة في كل زمان وأنَّها لا تقبل التعطيل:....................... 93
1 - برهان الحفظ:............................................................. 93
2 - برهان الصدق:............................................................ 97
3 - آيات ليلة القدر:......................................................... 100
4 - وجوب البيعة مع الإمام في كل زمان:...................................... 101
5 - مقام الاستخلاف الإلهي:................................................ 101
6 - استمرار الهداية الإيصالية:............................................... 102
7 - حديث الثقلين:.......................................................... 102
8 - تشبيه الإمام بالشمس والإمام الغائب بالشمس خلف السحاب:........... 102
9 - مقام أسماء الله في نظام التكوين والتشريع:.................................. 102
10 - وجود الراعي للدين في كل زمان:....................................... 103
11 - حديث خلفائي اثنا عشر:............................................... 103
غياب الإمام لا يعني تجميد دوره:............................................. 104
مظاهر من وَهمِ الإمامة المعطّلة:.............................................. 106
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نبذة:
اتَّفقت كلمة الشيعة الإمامية منذ القرن الأول إلى اليوم على أنَّ مقام الإمامة لا يقبل التعطيل بحال من الأحوال، وأنَّ الإمام قائم بأدوار الإمامة والهداية سواء كان على رأس الأمور في الحكم الظاهر أو مقصياً، ظاهراً أو غائباً، فإنَّ أيَّة صلاحية وولاية هي ترجع إليه في جميع هذه الأحوال.
نعم لإقبال الناس وإدبارهم تأثيرٌ في رعاية السقف الأدنى أو الأعلى من الصلاح.
وهنالك أدلَّة كثيرة تثبت هذا المعتقد الشيعي من العقل والقرآن والسنة المتواترة والمستفيضة.
وقد حصلت الغفلة عن فعلية إمامة الإمام الحي في عصر الغيبة لدى بعضٍ، فأنتجت بعض الظواهر التي توحي إلى وَهم الإمامة المعطَّلة، كما أنَّها لم تتوخّ الدقة اللازمة في بعض العبارات فأوهمت تعطيل مقام الإمامة في عصر الغيبة.
طرح المسألة:
مما تميَّزت به مدرسة الإمامية الاثني عشرية هو أنَّ الأرض لا تخلو من إمام حي قائم بالأمر ومتصدٍّ بالفعل لمهام الإمامة وخلافة الله في الأرض، في
↑صفحة 75↑
حال إقبال الناس إليه أو إدبارهم، وفي حال ظهوره وغيابه، وأنَّه لا تعطيل في الإمامة بحال من الأحوال، وأنَّ عدم قيام الإمام بأدوار الإمامة وعدم تصدّيه لهداية الناس وتدبير أمورهم يوجب بطلان الحجج الإلهية وبيّناتها وزوال الأمن العام في الأرض وسيخها، وهو ينافي ربوبية رب العالمين.
إنَّ تعريف الإمامة ومهامّها عند الإمامية غير معلّق على التصدي العلني الظاهري للحكم، بل للإمام أساليب أخرى في بسط سيطرته وقيامه بتنفيذ السياسات الإلهية على وجه الأرض لا تشعر بها الدول والحكومات الوقتية البشرية، نعم تصدّي الإمام لذلك ذو مراتب، فلو أقبل الناس إليه وسلّموا له تسليماً فإنَّه يقوم بالسقف الأعلى من الإصلاح، وأمّا مع إدبارهم فإنَّه لا يترك مهمة الاستخلاف الإلهي التي ألقيت على عاتقه في حفظ الدين والحجج الوحيانية ومنعه من دروس تمام أعلام الهداية، لكي يهلك من هلك عن بيِّنة وتكون الحجة البالغة لله تعالى على الخلق، ولا يترك أرض الله أرضية خصبة للطغاة يفعلون فيها ما يشاؤون ويهلكون الحرث والنسل، بل هنالك خطوط حمراء في الدولة الإلهية يقف الإمام وراءها ويمنع من الاقتراب منها، لكونه أمين الله في أرضه وخليفته في بلاده.
أهمية المسألة:
وكانت هذه الرؤية المتجذرة في ركيزة الشيعة الإمامية حصناً أمام حصول أيَّة زعزعة في عقيدتهم بأئمتهم في الظروف الصعبة التي كانت تمرّ عليهم، من غصب مقامهم الظاهري وإدبار الناس عنهم، وقتلهم وتشريدهم وحبسهم (عليهم السلام)، ففي كل هذه الظروف كانوا يعتقدون - ولو تعبُّداً - أنَّ الإمام قائم بأمور الإمامة وهداية البشر عبر ممارسات قد تخفى عليهم أساليبها.
ومن هنا فالغيبة رغم صعوبتها على الشيعة إلّا أنَّها لم تسبِّب زعزعة عقيدتهم بفعلية إمامة الإمام الحي وتصدّيه لأمور العباد عبر طرق مخفية
↑صفحة 76↑
وغائبة عنّا، فلم يبحثوا عن بديل لمقام الإمامة ولا للقيام بدور الإمام في الغيبة الكبرى، بل أصرّوا على أنَّ الحافظ للدين هو الإمام الغائب وتنتهي إليه جميع الصلاحيات والولايات، وكل من يشرع له التصدي للأمور العامة فإنَّما يكون نائباً من قبله (سلام الله عليه).
رأي الشيعة الأوائل وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) إلى القرن الرابع:
فَهِمَ الشيعة الأوائل عن أدلَّة الإمامة، أنَّها مقام إلهي لا يقبل التعطيل وأنَّها تبقى على نشاطها في جميع الظروف المتغيِّرة، سواء كان الإمام مبسوط اليد أو غير مبسوط اليد وسواء كان ظاهراً أو غائباً، وإن كان تختلف أساليب القيام بأدوار الإمامة إلَّا أنَّ الأصل الذي لا يقبل الترديد هو أنَّها فعّالة في جميع الظروف.
وذلك يرجع لوضوح وقوة النصوص القرآنية والروائية الواردة بهذا الصدد، فكانوا يفهمون من قوله تعالى: ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ (الرعد: 7) أنَّ كل إمام يقوم بدور الهداية للقرن الذي هو فيه، تصدياً فعلياً مباشراً لا يقبل التعطيل وإن أدبر الناس.
ففي صحيحة بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ: ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ قَالَ (عليه السلام): «رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المُنْذِرُ، وفِي كُلِّ زَمَانٍ مِنَّا هَادٍ يَهْدِيهِمْ إِلَى مَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّ اللهِ، ثُمَّ الْهُدَاةُ مِنْ بَعْدِ عَلِيٍّ ثُمَّ الْأَوْصِيَاءُ وَاحِداً بَعْدَ وَاحِدٍ»(1).
صريح الحديث دالٌّ على التصدي الفعلي للهداية من كلِّ إمام في كلّ زمان، ومعلومٌ أنَّ سنخ هداية الإمام يكون من سنخ الهداية الإيصالية، أي أنَّه يصاحب الناس ويرافقهم في سلوكهم الصراط المستقيم ويرفع عنهم العوائق وينير لهم الدرب ليتمكّنوا من العمل بالهداية الإرائية التي جاء بها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) بصائر الدرجات: 1/29.
↑صفحة 77↑
فتكون الآية دالة على فعلية تصرف الإمام في أمور العباد والبلاد، سواء كان مصدراً للأمور في الحكم الظاهري البشري أو كان مقصياً ومغيباً.
وروى الصفار والكليني عَنِ الْفُضَيْلِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) عَنْ قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ قَالَ: «كُلُّ إِمَامٍ هَادٍ لِلْقَرْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِمْ»(2).
روى الصفار والكليني عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَصِيرِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فِي قَوْلِ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ فَقَالَ: «رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المُنْذِرُ وعَلِيٌّ الْهَادِي، واللهِ مَا ذَهَبَتْ مِنَّا ومَا زَالَتْ فِينَا إِلَى السَّاعَةِ»(3).
وحيث إنَّ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مرّوا بظروف صعبة في ظل حكومات جائرة وقد أقصوا عن حقهم في التصدي العلني للقيام بأمور الناس، فكانوا يمتحنون شيعتهم في الاعتقاد بعدم تعطيل دور الإمام في القيام بهداية الناس في تلك الظروف والحقبات، كما حصل ذلك لأبي بصير.
فقد روى الصفار والكليني عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لَهُ: ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ فَقَالَ: «رَسُولُ اللهِ المُنْذِرُ وعَلِيٌّ الْهَادِي؛ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فَهَلْ مِنَّا هَادٍ الْيَوْمَ»؟ قُلْتُ: بَلَى جُعِلْتُ فِدَاكَ مَا زَالَ فِيكُمْ هَادٍ مِنْ بَعْدِ هَادٍ حَتَّى رُفِعَتْ إِلَيْكَ. فَقَالَ: «رَحِمَكَ اللهُ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، ولَوْ كَانَتْ إِذَا نَزَلَتْ آيَةٌ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ مَاتَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مَاتَتِ الْآيَةُ مَاتَ الْكِتَابُ ولَكِنَّهُ حَيٌ جَرَى فِيمَنْ بَقِيَ كَمَا جَرَى فِيمَنْ مَضَى»(4).
يظهر من الحديث أنَّ الأئمة (عليهم السلام) كانوا متشدّدين في أن تتجذَّر هذه العقيدة لدى شيعتهم، فيختبر الإمام (عليه السلام) أبا بصير بذلك، وجواب أبي بصير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) بصائر الدرجات: 1/30؛ والكافي: 1/191.
(3) بصائر الدرجات: 1/30؛ الكافي: 1/192.
(4) بصائر الدرجات: 1/31؛ الكافي: 1/191.
↑صفحة 78↑
أيضاً دليل على أنَّ عقيدة الشيعة آنذاك كانت مستقرّةً على أنَّ شأن الهداية الفعلية للإمام لا يقبل التعطيل إلى قيام الساعة.
وقد حدث نظير ذلك لعبد الرحيم بن القصير - على ما رواه العياشي -:
حيث قال: كنت يوماً من الأيام عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال: «يا عبد الرحيم» قلت: لبيك، قال: «قول الله: ﴿إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ إذ قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنا المنذر وعلي الهاد، ومن الهاد اليوم»؟ قال: فسكتُّ طويلاً ثم رفعتُ رأسي، فقلت: جعلت فداك هي فيكم، توارثونها رجل فرجل حتى انتهت إليك، فأنت جعلت فداك الهادي، قال: «صدقت يا عبد الرحيم، إنَّ القرآن حي لا يموت، والآية حية لا تموت، فلو كانت الآية إذا نزلت في الأقوام ماتوا فمات القرآن، ولكن هي جارية في الباقين، كما جرت في الماضين»(5).
وفي هذا دلالة على تأكيد الأئمة (عليهم السلام) وإصرارهم على فعلية الإمامة والتصدي الفعلي من الإمام لهداية الناس في كل عصر وزمان.
روى علي بن إبراهيم القمي (وهو من علماء القرن الثالث الهجري) في تفسيره عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: «المُنْذِرُ رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والْهَادِي أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وبَعْدَهُ الْأَئِمَّةُ (عليهم السلام)».
ثم علَّق القمي على الحديث وقال: وهو قوله: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ﴾ أي في كل زمان إمام هادٍ مبين - وهو رد على من ينكر أنَّ في كل عصر وزمان إماماً - وأنَّه لا تخلو الأرض من حجة، كَمَا قَالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام): «لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ إِمَامٍ قَائِمٍ بِحُجَّةِ اللهِ، إِمَّا ظَاهِرٍ مَشْهُورٍ وإِمَّا خَائِفٍ مَقْهُورٍ، لِئَلَّا يَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وبَيِّنَاتُه»(6).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(5) تفسير العياشي: 2/203.
(6) تفسير القمي: 1/359.
↑صفحة 79↑
وهذا الكلام من علي بن إبراهيم صريح في الهداية الفعلية للإمام في كل عصر وأنَّ الغيبة لا تضر بقيام الإمام بهذا الدور، وأنَّ عدم قيام الإمام بهذا الدور حتّى ولو كان من أجل غيبته يؤدي لا محالة إلى بطلان حجج الله وبيناته.
حفظ الدين وبينات الوحي بالإمام الحي القائم بالأمر:
يظهر من احتجاجات هشام بن الحكم وغيره من المتكلمين أنَّ ذلك المعنى المشار إليه آنفاً كان شعار الشيعة وكانوا يُعرَفون به، فإنَّهم كانوا يفحمون المخالفين بحجة أنَّ خلوّ الأرض من إمام يكون حاملاً لمجموع علم النبي، يؤدي لا محالة إلى تغيُّب أعلام الهداية وعدم تمكُّن عامة الناس من الاهتداء بهدي القرآن، وأنَّه ينافي اللطف الإلهي الذي عمَّ الخلق ببعثة سيد الرسل، أي إنَّ فقدان الإمام في زمان يساوي زوال الدين وانقضاء أمد الشريعة الختمية، وأنَّ بقاء القرآن والوحي الإلهي وخلود شريعة الإسلام إنَّما هو رهن وجود الإمام الحافظ له في كل زمان.
فعدم الإمام أو عدم تصديه لحفظ الدين حتَّى لو كان ذلك من أجل عدم بسط يده أو غيبته، ينشأ منه بطلان الدين وتعطيل حجج الله وبيناته التي من أعظمها هو القرآن الكريم، كما مرَّ في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي وقد رواه علي بن إبراهيم في التفسير والشريف الرضي في نهج البلاغة.
هذا هو مؤدّى احتجاج هشام بن الحكم على الرجل الشامي الذي احتج عليه بمحضر من الإمام الصادق (عليه السلام).
ففي الكافي: … قَالَ لِلشَّامِيِّ: يَا هَذَا أَرَبُّكَ أَنْظَرُ لِخَلْقِهِ أَمْ خَلْقُهُ لِأَنْفُسِهِمْ؟
فَقَالَ الشَّامِيُّ: بَلْ رَبِّي أَنْظَرُ لِخَلْقِهِ.
قَالَ: فَفَعَلَ بِنَظَرِهِ لَهُمْ مَا ذَا؟
↑صفحة 80↑
قَالَ: أَقَامَ لَهُمْ حُجَّةً ودَلِيلًا، كَيْلَا يَتَشَتَّتُوا أَوْ يَخْتَلِفُوا، يَتَأَلَّفُهُمْ ويُقِيمُ أَوَدَهُمْ ويُخْبِرُهُمْ بِفَرْضِ رَبِّهِمْ.
قَالَ: فَمَنْ هُوَ؟
قَالَ: رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
قَالَ هِشَامٌ: فَبَعْدَ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
قَالَ: الْكِتَابُ والسُّنَّةُ.
قَالَ هِشَامٌ: فَهَلْ نَفَعَنَا الْيَوْمَ الْكِتَابُ والسُّنَّةُ فِي رَفْعِ الِاخْتِلَافِ عَنَّا؟
قَالَ الشَّامِيُّ: نَعَمْ.
قَالَ: فَلِمَ اخْتَلَفْنَا أَنَا وأَنْتَ وصِرْتَ إِلَيْنَا مِنَ الشَّامِ فِي مُخَالَفَتِنَا إِيَّاكَ؟
قَالَ: فَسَكَتَ الشَّامِيُّ.
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) لِلشَّامِيِّ: «مَا لَكَ لَا تَتَكَلَّمُ»؟
قَالَ الشَّامِيُّ: إِنْ قُلْتُ: لَمْ نَخْتَلِفْ كَذَبْتُ، وَإِنْ قُلْتُ: إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يَرْفَعَانِ عَنَّا الِاخْتِلَافَ أَبْطَلْتُ، لِأَنَّهُمَا يَحْتَمِلَانِ الْوُجُوهَ، وإِنْ قُلْتُ: قَدِ اخْتَلَفْنَا وكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَدَّعِي الْحَقَّ فَلَمْ يَنْفَعْنَا إِذَنِ الْكِتَابُ والسُّنَّةُ. إِلَّا أَنَّ لِي عَلَيْهِ هَذِهِ الْحُجَّةَ.
فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «سَلْهُ تَجِدْهُ مَلِيّاً».
فَقَالَ الشَّامِيُّ: يَا هَذَا مَنْ أَنْظَرُ لِلْخَلْقِ أَرَبُّهُمْ أَوْ أَنْفُسُهُمْ؟
فَقَالَ هِشَامٌ: رَبُّهُمْ أَنْظَرُ لَهُمْ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ.
فَقَالَ الشَّامِيُّ: فَهَلْ أَقَامَ لَهُمْ مَنْ يَجْمَعُ لَهُمْ كَلِمَتَهُمْ ويُقِيمُ أَوَدَهُمْ ويُخْبِرُهُمْ بِحَقِّهِمْ مِنْ بَاطِلِهِمْ؟
قَالَ هِشَامٌ: فِي وَقْتِ رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أَوِ السَّاعَة؟
قَالَ الشَّامِيُّ: فِي وَقْتِ رَسُولِ اللهِ، رَسُولُ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، والسَّاعَةِ مَنْ؟
فَقَالَ هِشَامٌ: هَذَا الْقَاعِدُ الَّذِي تُشَدُّ إِلَيْهِ الرِّحَالُ، ويُخْبِرُنَا بِأَخْبَارِ السَّمَاءِ
↑صفحة 81↑
والْأَرْضِ وِرَاثَةً عَنْ أَبٍ عَنْ جَدٍّ …(7).
فإنَّ مركز الخلاف فيما بين هشام والرجل الشامي، إنَّما في وجود وبقاء الحجة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليحتجَّ بها عند بروز الاختلاف.
والسؤال: هل يمكن للقرآن والسنة الصامتين دون وجود الإمام أن يرفعا الاختلاف؟
الجواب: تارة يوجد شيء فيه قابلية رافعية الاختلاف، لكن يبقى الاختلاف لإدبار الناس عنه، كما لو أرسل الله نبياً فأعرض الناس عنه، وأخرى من أجل عدم وجود ما يصلح لرفع الاختلاف.
ويدَّعي هشام أنَّ الكتاب والسنة الصامتين من دون وجود الإمام الحي هما من القسم الثاني.
وذلك لأنَّ أُفق الوحي فوق أُفق فهم وعقل البشر، ومن ثَمَّ احتاج البشر إلى النبي، إذ لو كان بمستوى عقولهم لما احتاجوا إلى النبي، ومن البديهي أنَّ الحافظ لكل علم لابد وأن يكون بمستوى ذلك العلم، وإلَّا فيتنزل العلم بقدر سعة علم الحافظ، كما أنَّ علم الأستاذ يتنزّل بقدر فهم التلميذ، ولن يحفظ التلميذ من علم الأستاذ إلَّا بمقدار ما وعاه من علمه، وهكذا.
فلو كان الحافظ للوحي هم الصحابة لتنزّل الوحي إلى أُفق الطاقة البشرية، فيتضيَّق لضيق المسار والحافظ.
كيف يكون البشر العادي حاملاً للمعاني والحقائق الوحيانية التي تكون فوق الطاقة البشرية، لاسيما بعد سعيهم في منع تدوين الحديث ورواج سوق الكذابين وغيرها من المؤثرات التي تسلب عن الوحي صفة الحجية الوحيانية.
ففي حالة عدم الإمام المعصوم لا تكون حجية الكتاب والسُنَّة حجية إلهية ووحيانية، بل يكون مستواه مستوى حجية العقل البشري، وهو رجوع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(7) الكافي: ج١، ص١٧٢.
↑صفحة 82↑
عن الحاجة إلى الوحي الذي يفوق عقل البشر، فبقاء الوحي بالبشر لا يفرق عن حالة عدم إرسال الرسول، وذلك للإشكال في المتلقي والحافظ دون المُلقي.
وقد جاء الاستدلال بهذا البرهان أيضاً في مناظرة هشام مع عمرو بن عبيد، حيث قال: إنَّ الجوارح مع أنَّها صحيحة وسليمة إلَّا أنَّها تحتاج للجهة الرقابية المهيمنة عليها، فبالاعتماد عليها أولاً تكتسب الجوارح الحجية ثانياً، ولولا القلب لم يمكن الاعتماد على الجوارح مع أنَّها تبصر وتسمع وتذوق وتلمس وتتحرك، إلَّا أنَّ العاصم لها عن الخطأ والحافظ لها هو القلب والعقل.
(قال هشام بن الحكم) فقلت له:
ألك عين؟ فقال: يا بني أي شيء هذا من السؤال؟ وشيء تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت: هكذا مسألتي، فقال: يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء، قلت: أجبني فيه، قال لي: سل، قلت: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أرى بها الألوان والأشخاص، قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أشم به الرائحة، قلت: ألك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم، قلت: فلك أذن؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت، قلت: ألك قلب؟
قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أميِّز به كلما ورد على هذه الجوارح والحواس، قلت: أَوَليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة، قال: يا بني إنَّ الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته، ردته إلى القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك، قال هشام:
فقلت له: فإنَّما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: لابد
↑صفحة 83↑
من القلب وإلَّا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم، فقلت له: يا أبا مروان فالله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتَّى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه، ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك(8)؟!
إنَّ العقل هو الناظوم الذي ينظم إدراكات المحسوسات، فيقارن بين المسموع والمبصر والملموس وغيرها، ثم يقارنه بالإدراك العقلي، ومن هنا لا يقارَن الإدراك الحسي للإنسان بالإدراك الحسي للحيوان أو المجنون، فعدم رقابة العقل على المدركات الحسية في الحيوان يعرّضه للخطأ في نفس المحسوسات، ولا يمكن أن يكون حافظاً وقيّماً على المدركات الحسية الإنسانية.
إنَّ رقابة العقل على المدركات الحسية تُصعِّد درجة حجية الإدراك المحسوس إلى درجة الحجيّة العقلانية. كذا في الوحي الذي هو فوق إدراك العقل، فلا يمكن أن يوكل إلى الإنسان بما له من العقل مهمة حفظ الوحي، من دون الرقابة الوحيانية المتمثلة في الإمام، لأنَّ فهمه يقصر عن ذلك، وأمّا بعد رقابة الإمام وهو حامل لروح القدس ووارث للكتاب المبين، فتصعد درجة حجيتهم إلى الحجية الوحيانية، فالذي يضفي للقرآن والسُنة والدين والشريعة صفة الوحيانية إنَّما هو رقابة الإمام وإشرافه وحفظه ورعايته(9).
ومن نتائج القول بفعلية إمامة الإمام الحي هو لزوم رجوع جميع الصلاحيات والمناصب الولائية إليه (سلام الله عليه)، فهو مصدر شرعية أيَّة ولاية أو حكم ثبتت لأيِّ واحد من الناس، سواء كان صاحب الولاية فقيهاً أو لم يكن، كعدول المؤمنين، فتكون ولايتهم نيابية عن الإمام الحي القائم بالأمور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) الكافي: ج١، ص١٧٠.
(9) راجع كتاب (دروس في عقائد الإمامية) للكاتب: 246.
↑صفحة 84↑
كلمات أعلام الطائفة من القرن الخامس:
1 - قال الشيخ المفيد (المتوفى 413) في المقنعة:
ومن تأمَّر على الناس من أهل الحق بتمكين ظالم له وكان أميراً من قبله في ظاهر الحال، فإنَّما هو أمير في الحقيقة من قبل صاحب الأمر الذي سوغه ذلك وأذن له فيه، دون المتغلب من أهل الضلال... ومن لم يصلح للولاية على الناس لجهل بالأحكام أو عجز عن القيام بما يسند إليه من أمور الناس، فلا يحل له التعرض لذلك والتكلُّف له، فإنَّ تكلَّفه فهو عاصٍ غير مأذون له فيه من جهة صاحب الأمر الذي إليه الولايات، ومهما فعله في تلك الولاية فإنَّه مأخوذ به محاسب عليه ومطالب فيه بما جناه(10).
ترى العبارة صريحة جداً في أنَّ ولاية الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه) لا تزول بغيبته، وأنَّ من له الولاية في شؤون الناس فإنَّما ترجع شرعيته للإمام الغائب ونيابته عنه، ولا مصدر لشرعية الولايات سواء للفقيه أو لغير الفقيه في عصر الغيبة إلَّا من قبله (عجَّل الله فرجه)، فهو الحاكم الفعلي المنصوب من قبل الله تعالى، ولا ولاية ولا حاكمية إلَّا ولابد أن ترجع إليه.
2 - السيد المرتضى (المتوفى 436هـ): وهو من أعاظم متكلمي الشيعة في القرن الرابع والخامس وتلميذ الشيخ المفيد، ادَّعى إجماع الطائفة والمذهب على أنَّ حجية التراث الحديثي الواصل إلينا إنَّما لأجل وجود الإمام الحي الحافظ لها، فالحجة هو الإمام الحي وبحجيته تتم حجية الأحاديث.
قال (رحمه الله): (إنَّ الفرقة المحقّة القائلة بوجود إمام حافظ للشريعة هي عارفة بما نقل من الشريعة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وما لم ينقل عنه، فبما نقل عن الأئمة القائمين بالأمر بعده (عليه السلام)، وواثقة بأنَّ شيئاً من الشريعة يجب معرفته لمن لم يخل به من أجل كون الإمام من ورائها).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) المقنعة: 812.
↑صفحة 85↑
بل ادَّعى أنَّه لا يعوَّل على النقل المتواتر لبقاء القرآن ولبقاء الدين بوصف كونه وحيانياً، إلَّا إذا كان تحت رعاية مباشرة من الإمام، وذلك لأنَّ الناقلين ولو تعدّدوا وتكثّروا إلَّا أنَّهم لا ينقلون إلَّا ما وعوه وتحمّلوه من المعلومات، فإذا فرضنا أنَّ واقع المعطيات الوحيانية فوق عقول جميع الناقلين ولم يكن علم جميعهم في قباله إلَّا قطرة في محيطات البحار، فلا يمكن أن نعوّل لبقاء تلك المعطيات الوحيانية بنقلهم، فإنَّ ما نقلوه وإن كانت حجة إلَّا أنَّ حجيته حجية بشرية بمقدار وعيهم البشري لا بمقدار عظمة المعطيات الوحيانية.
قال (رحمه الله) في الرد على القاضي عبد الجبار المعتزلي حيث زعم أنَّ وجود التواتر يغني عن الإمام في حفظ الدين:
(فأمّا إلزامك تجويز حفظها بالتواتر على حدِّ ما كانت تصل الأخبار في حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى من غاب عنه فقد رضينا بذلك، وقنعنا بأن نوجب في وصول الشريعة إلينا بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما نوجبه في وصوله إلى من غاب عنه حال حياته، لأنّا نعلم أنَّها كانت تصل إلى من بَعُدَ عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بنقل وهو (عليه السلام) من ورائه، وقائم بمراعاته، وتلافي ما ثلم فيه من غلط وزلل، وترك الواجب، فيجب أن يكون من وراء ما ينقل إلينا بعد وفاته من شريعته معصوم يتلافى ما يجري في الشريعة من زلل وترك الواجب كما كان ذلك في حياته وإلَّا فقد اختلف الحال، وبطل حملك أحدهما على الأخرى.
فأمّا قولك: (لزمهم إثبات حجّة وهو (عليه السلام) حيّ) فعجيب، وأي حجّة هو أكبر من النبي المعصوم المؤيّد بالملائكة والوحي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟!
وكيف تظنّ أنّا إذا أوجبنا أن يكون وراء المتواترين حجّة أن لا نكتفي بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو سيّد الحجج في ذلك).
وكرّر (رحمه الله) أنَّ بقاء القرآن والدين ليس بالتواتر ولا نقل الرواة إلَّا بعد
↑صفحة 86↑
كون الإمام من ورائه، إلى أن قال في نهاية المطاف:
فقد بيَّنا أنَّا قد عرفنا أكثر الشريعة ببيان مَنْ تقدَّم من آبائه (عليهم السلام)، غير أنَّه لا نقضي الغنى في الشريعة من الوجه الذي تردد في كلامنا مراراً.
وقال أيضاً:
فأمّا هذه الطريقة التي حكيتها آنفاً فترتيب الاستدلال بها على خلاف ما رتبته وهو أن يقال: قد علمنا أنَّ شريعة نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مؤبدة غير منسوخة، ومستمرة غير منقطعة، فإنَّ التعبُّد لازم للمكلّفين إلى أوان قيام الساعة، ولابدّ لها من حافظ، لأنَّ تركها بغير حافظ إهمال لأمرها، وتكليف لمن تعبَّد بها ما لا يطاق، وليس يخلو أن يكون الحافظ معصوماً أو غير معصوم، فإن لم يكن معصوماً لم يؤمن من تغييره وتبديله، وفي جواز ذلك عليه - وهو الحافظ لها - رجوع إلى أنَّها غير محفوظة في الحقيقة، لأنَّه لا فرق بين أن تحفظ بمن جائز عليه التغيير والتبديل والزلل والخطأ وبين أن لا تحفظ جملة إذا كان ما يؤدي إليه القول بتجويز ترك حفظها يؤدي إليه حفظها بمن ليس بمعصوم، وإذا ثبت أنَّ الحافظ لابدّ أن يكون معصوماً استحال أن تكون محفوظة بالأُمّة وهي غير معصومة، والخطأ جائز على آحادها وجماعتها، وإذا بطل أن يكون الحافظ هو الأُمَّة فلابدّ من إمام معصوم حافظ لها.
وهذا على خلاف ما ظنَّه صاحب الكتاب، لأنَّ من أحسن الظنّ بأصحابنا لا يجوز أن يتوهم عليهم الاستدلال بهذه الطريقة مع تصريحهم في إثباتها بما يوجب الاختصاص بشريعتنا هذه على وجوب الإمامة في كلّ عصر وأوان، وقبل ورود الشرع(11).
3 - وقال في الذخيرة:
دليل آخر على وجوب الإمامة: قد استدل أصحابنا على وجوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) الشافي في الإمامة: ج1، ص١٧٩-١٨١.
↑صفحة 87↑
الإمامة بعد التعبد بالشرائع: أنَّ شريعة نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد ثبت أنَّها [مؤبدة] غير منسوخة ولا مرفوعة إلى يوم القيامة، فلابدّ لها من حافظ، لأنَّه لو جاز أن يخلى من حافظ جاز أن يخلى من مؤدٍّ، فما اقتضى وجوب أدائها يقتضي وجوب حفظها، ولابدّ أن يكون حافظها معصوماً ليؤمن عليه الإهمال ونثق بحفظه، كما لابدّ في مؤدِّيها من أن يكون بهذه الصفة، وهذا يوجب ثبوت الحافظ المعصوم في كل حال، فإذا قيل: من أيّ شيء يحفظ الشريعة؟
قالوا: من الإضاعة والتغيير والتبديل.
فإن قيل: النقل المتواتر يحفظ به الشريعة.
قالوا: النقل المتواتر إنَّما يوجب العلم إذا وقع وحصل، وقد يجوز أن يقع العدول عنه لشبهة أو عمد، وقد يجوز فيما نقل بالتواتر أن يضعف نقله فيصير في الآحاد الذين لا حجة في نقلهم، فلابدّ من تجويز ما ذكرناه من الحفظ الذي يؤمن منه كل ذلك.
وإذا قيل لهم: جوّزوا أن يكون إجماع الأُمَّة يحفظ الشريعة.
قالوا: الإجماع أيضاً كما يجوز أن يقع يجوز أن يرتفع، فمن أين لابدّ من ثبوته في كل حكم من أحكام الشريعة، على أنّا بالامتحان نعلم أنَّ الإجماع في الشريعة على القليل والاختلاف في الكثير.
وبعد، فإذا لم يثبت وجود إمام معصوم في كل زمان، لا يكون الإجماع حجة ولا فيه دلالة، لأنَّ العقل يجوّز الخطأ على الأُمَّة فرادى ومجتمعين، فليس في السمع الذي يدَّعى من قرآن ولا خبر ما يؤمن من اجتماعهم على الخطأ(12).
4 - وقال الشيخ الطوسي (المتوفى 460هـ) في تلخيص الشافي:
(دليل آخر) [على وجوب الإمامة. وهو: أنَّ الشريعة مؤبدة، فلابد لها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12) الذخيرة في علم الكلام: ص424.
↑صفحة 88↑
من حافظ] وهو أنَّه قد ثبت أنَّ شريعة نبيّنا عليه وآله السّلام مؤبدة، وأنَّ المصلحة لها ثابتة إلى قيام الساعة لجميع المكلفين. وإذا ثبت هذا فلابدّ لها من حافظ، لأنَّ تركها بغير حافظ إهمال لها، وتعبّد للمكلفين بما لا يطيقونه ويتعذر عليهم الوصول إليه. وليس يخلو الحافظ لها من أن يكون: جميع الأُمّة أو بعضها. وليس يجوز أن يكون الحافظ لها الأُمّة لأنَّ الأُمّة يجوز عليها السهو والنسيان وارتكاب الفساد والعدول عما علمته. فإذن: لابدّ لها من حافظ معصوم يؤمن من جهته التغيير والتبديل والسهو، ليتمكّن المكلفون من المصير إلى قوله. وهذا الإمام الذي نذهب إليه. [الشريعة لا تحفظ بالتواتر لاحتمال الخطأ فيها المتسرب من احتمال الخطأ في الأفراد].
فإن قال قائل: ما أنكرتم أن تكون الشريعة تصير محفوظة بالتواتر - وهم الذين ينقطع بنقلهم العذر وتكون الحجة قائمة فيما نقلوه - وهؤلاء لا يجوز عليهم السهو والنسيان، لأنَّ العادة مانعة أن يشتمل الخلق العظيم والجم الغفير السهو، أو يلحقهم النسيان. وإذا لم يكن هذا جائزاً عليهم بطل ما جعلتموه وجها للحاجة إلى الإمام.
قيل له: السهو - وإن لم يكن جائزاً على الخلق العظيم والجمّ الغفير - فإنَّما لم يجز في حالة واحدة وفي حال اجتماعهم، وليس يمتنع حصول السهو لكل واحد منهم بانفراده، وفي حال يكون الآخرون فيها ذاكرين. وكذلك يسهو الآخرون حالاً بعد حال، إلى حد لا ينقطع به العذر، وتنقطع به الحجة وينتهي الأمر إلى حافظ لا يجوز عليه ما جاز عليهم. وفي هذا إسقاط السؤال(13).
5 - قال ابن البراج في المهذب (المتوفى 481هـ):
إذا استخلف السلطان الجائر إنساناً من المسلمين، وجعل إليه إقامة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) تلخيص الشافي: ج1، ص133.
↑صفحة 89↑
الحدود، جاز أن يقيمها بعد أن يعتقد أنَّه من قِبَل الإمام العادل في ذلك وأنَّه يفعل ذلك بإذنه لا بإذن السلطان الجائر(14).
هنا يؤكّد ابن البراج أنَّ أيَّة ولاية لأيِّ إنسان حتّى ولو لم يكن فقيهاً لا يكون إلَّا من قبل الإمام الحي الذي يكون مصدراً لجميع الولايات، وهو صريح في فعلية ولاية الإمام وقيامه بالأمور.
6 - وقال ابن إدريس الحلي (المتوفى 598هـ):
فإن تعذر تنفيذها بهم (عليهم السلام) وبالمأهول لها من قبلهم لأحد الأسباب، لم يجز لغير شيعتهم المنصوبين لذلك من قبلهم (عليهم السلام) تولي ذلك... ولا لمن لم يتكامل له شروط النائب عن الإمام (عليه السلام) في الحكم من شيعته... وعليه متى عرض لذلك أن يتولّاه لكون هذه الولاية أمراً بمعروف، ونهياً عن منكر، تعين غرضهما بالتعريض للولاية عليه، وهو أن كان في الظاهر من قبل المتغلّب، فهو في الحقيقة نائب عن ولي الأمر (عليه السلام) في الحكم، ومأهول له لثبوت الإذن منه ومن آبائه (عليهم السلام) لمن كان بصفته في ذلك، فلا يحلّ له القعود عنه، وإن لم يقلد من هذه حاله النظر بين الناس، فهو في الحقيقة مأهول لذلك بإذن ولاة الأمر (عليهم السلام) وإخوانه في الدين مأمورون بالتحاكم إليه(15).
7 - و قال ابن ميثم البحراني (المتوفى 679هـ):
(الوجه الثاني) في أنَّ الشريعة التي جاء بها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واجبة على جميع المكلفين إلى يوم القيامة، فلابد لها من حافظ ينقلها إليهم من غير تغيير ولا تحريف، وإلَّا لكان التكليف بها تكليفاً بما لا يطاق، فذلك الناقل يجب أن يكون معصوماً وإلَّا لجاز فيها التغيير والتحريف وقد أبطلنا، فذلك الحافظ المعصوم إمّا مجموع الأُمَّة أو آحاد بعض منها، والأول باطل لأنَّ عصمة مجموع الأُمَّة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14) المهذب لابن براج: 1/342.
(15) السرائر لابن إدريس: 3/537-539.
↑صفحة 90↑
إنَّما تعلم بالنقل، فهي مشروطة بصحته، فلو جعلنا النقل مشروطاً بصحة عصمتهم لزم الدور وأنَّه محال، فتعيَّن الثاني وهو مرادنا بالأئمة المعصومين. لا يقال: لم لا يجوز أن تبقى محفوظة بنقل أهل التواتر.
سلَّمناه، لكن إنَّما تكون محفوظة بنقل الناقل المعصوم أن لو كان ذلك الناقل بحيث يرى ويستفاد الشريعة منه، أمّا إذا لم يكن كذلك فلا. لأنّا نجيب عن الأول: أن نقل أهل التواتر إنَّما يحفظ ما نقلوه ويدل على صحته فأمّا لا يدل على أن الذي لم ينقلوه لم يوجد فأين أحد البابين من الآخر. وعن الثاني: لا نسلم أنَّها لا تكون محفوظة بالناقل المعصوم إلَّا إذا كان بحيث يرى، فإن عندنا أن الشريعة محفوظة في زمان غيبته، وهي التي في أيدينا لم يفت منها شيء، فإذا اختلت وجب ظهوره لبيانها(16).
8 و9 - قال الشهيد الأول (الشهيد 786هـ) والشهيد الثاني (الشهيد 966هـ) في مصرف الخمس:
(ثلاثة) منها (للإمام (عليه السلام)) وهي سهم الله ورسوله وذي القربى وهذا السهم وهو نصف الخمس (يصرف إليه إن كان حاضراً أو إلى نوابه) وهم الفقهاء العدول الإماميون الجامعون لشرائط الفتوى، لأنَّهم وكلاؤه... ما دام (غائباً)(17).
فقد جعل ولاية الفقيه في أخذ الخمس والتصرف فيه من باب الوكالة عن الإمام الغائب (عليه السلام)، لا أنَّهم مستقلون فيها.
10 - العلامة الحلي (المتوفى 726هـ):
قال في شرح كلام الخواجة نصير الدين الطوسي (المتوفى 653هـ) في التجريد (وجودُه لطفٌ، وتصرفه آخر، وعدمه منّا)(18).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) قواعد المرام: ص179.
(17) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 1/137.
(18) تجريد الاعتقاد لخواجة نصير الدين الطوسي: 221.
↑صفحة 91↑
قالوا: الإمام إنَّما يكون لطفاً إذا كان متصرفاً بالأمر والنهي، وأنتم لا تقولون بذلك، فما تعتقدونه لطفاً لا تقولون بوجوبه وما تقولون بوجوبه ليس بلطف.
والجواب: أنَّ وجود الإمام نفسه لطف لوجوه: أحدها: أنَّه يحفظ الشرائع ويحرسها عن الزيادة والنقصان. وثانيها: أنَّ اعتقاد المكلفين لوجود الإمام وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في كل وقت سبب لردعهم عن الفساد ولقربهم إلى الصلاح، وهذا معلوم بالضرورة(19).
فقد يتوهَّم من كلام الخواجة (رحمه الله) أنَّه بصدد نفي مطلق تصرفات الإمام في غيبته، إلَّا أنَّ العلّامة الحلي (قدّس سرّه) بيَّن أنَّه ليس هذا مقصود الخواجة، فلم ينف العلّامة مطلق تصرفات الإمام في غيبته، بل قال إنَّه يتصرّف في حفظ الدين والشرائع عن الزيادة والنقصان، مع أنَّ الاعتقاد به والبيعة معه موجبة لصلاح البشر وهو معلوم بالضرورة، والبيعة لا تكون إلَّا مع المتصدي الفعلي القائم بالأمور كما سيأتي. فالمراد من التصرفات المنفية في الغيبة هو السقف الأعلى منها دون مطلق التصرفات المستلزم لتعطيل الإمامة في الغيبة.
11 - قال المحقق الكركي (المتوفى 940هـ):
اتَّفق أصحابنا (رضوان الله عليهم) على أنَّ الفقيه العدل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى، المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى (صلوات الله وسلامه عليهم) في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل - وربما استثنى الأصحاب القتل والحدود مطلقاً...(20).
12 - قال صاحب الجواهر (المتوفى 1266هـ):
والأحسن... حمل... نصوص الجواز على الولاية على المباح، كجباية الخراج ونحوه مما جوز الشارع معاملة الجائر فيه معاملة العادل، بل ستسمع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(19) كشف المراد للعلامة حسن بن يوسف المطهر الحلي: 183.
(20) رسائل المحقق الكركي (رسالة في صلاة الجمعة): 142.
↑صفحة 92↑
إن شاء الله فيما يأتي أنَّ المشهور بين الأصحاب وجوب معاملته بالنسبة إلى ذلك... وأنَّ الدخول والتناول ونحوهما إنَّما كان بالإذن من الإمام العادل في زمن الغيبة، وقصور اليد رأفة على المؤمنين ورفعاً للضيق والحرج في هذا الزمان، ونحوه من أزمنة التقية(21).
13 - قال الشيخ الأنصاري (المتوفى 1281هـ):
كما اعترف به جمال المحقّقين في باب الخمس بعد الاعتراف بأنَّ المعروف بين الأصحاب كون الفقهاء نوّاب الإمام (عليه السلام)(22).
والمتحصل من كلمات الأعلام منذ القرن الأول إلى اليوم أنَّ فاعلية ولاية الإمام الحي في كل زمان لا تقبل التعطيل، وأنَّه هو الحافظ لدين وللقرآن المجيد، وأنَّه الراعي لأهل كل زمان وهاديهم بالهداية الإيصالية عبر طرق قد تخفى علينا، وأنَّه مصدر جميع الولايات والشرعيات، فلا يوجد مبدأ آخر لشرعية الولاية لأحد يكون في عرضه (سلام الله عليه)، كما أنَّ حفظ الدين وبقاء الوحي لا يكون إلَّا بحفظه ورعايته في كل عصر وزمان، وليست الرواة والفقهاء والمحدثون وغيرهم إلَّا أدوات لا تتم حجيتهم إلَّا إذا كان الإمام من ورائهم حافظاً وراعياً، وإلَّا يكون عملهم في حفظ الدين كالمدركات الحسية للإنسان إذا لم يكن وراءها عقل يقيمها ويرعاها ويتلافى خطأها وشكّها.
الأدلة على فعلية الإمامة في كل زمان وأنَّها لا تقبل التعطيل:
يمكن تلخيص الأدلة على فعلية إمامة الإمام الحي في كل زمان كالتالي:
1 - برهان الحفظ:
إنَّ الوحي الإلهي المتمثّل بما علَّمه الله تعالى لنبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من خلال القرآن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) جواهر الكلام (ط. القديمة): 22/162.
(22) المكاسب: 3/559؛ وراجع حاشية الروضة لجمال الدين: ٣٢٠، ذيل عبارة الشهيد: أو إلى نوّابه وهم الفقهاء.
↑صفحة 93↑
تنزيله وتأويله، لا يمكن أن يبقى إلَّا بوجود حافظ يكون علمه كعلم النبي، فإنَّ العلم يموت بموت حامليه(23)، وأنَّ علم جميع الصحابة والتابعين والفقهاء وغيرهم لا يبلغ عُشر معشار ما أوحى الله تعالى إلى نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن نلتزم بوجود من يحفظ الوحي الإلهي كما أُنزل، ويكون مشرفاً على الدين كلّه، وتكون وحيانية الدين وإمكان إسناده إلى الله من أجل تقريره وتأييده وإشرافه وهيمنته، وإمّا نقول بزوال الوحي وبطلان الحجج الوحيانية، وذلك لأنَّ الحافظ لكل شيء إنما يحفظ من ذلك الشيء بمقدار ما يعيه ويفهمه، فمع قصور علم البشر عن بينات الوحي، يكون حفظ الوحي بجهد البشر مساوقاً لعدم بقائه وزواله وفنائه.
فلا تقوم لله على خلقه حجة في حال عدم قيام الإمام بأدواره في حفظ بينات الوحي، فحجيّة القرآن الموجود بين أيدينا وكذا الروايات متوقِّفة على حفظ الإمام ورعايته في كل زمان، وتعطيل الإمامة وجمودها يساوي تعطيل الدين وبطلان الحجج والبيِّنات، كما مرَّ في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام).
وقد مرَّ في كلمات أعيان الطائفة أنَّه لا يمكن التعويل على نقل الآحاد ولا المتواتر ولا الإجماع في إمكان إسناد القرآن والوحي والدين إلى الله تعالى ما لم يكن الإمام المعصوم من ورائه حافظاً للدين، فإنَّ التواتر ليس إلَّا تجميع نقل آحاد من الناس، وإذا فرضنا أنَّ جميع الناقلين قصر علمهم عن وعي الوحي الإلهي بتمامه فلا قيمة لتواترهم إلَّا بمقدار ما وعوه وحفظوه من المعطيات الوحيانية، ويكون إسناد ما نقلوه إلى الله تعالى من دون إشراف وتأييد حجة الله افتراء عليه. وهو مؤدى قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ (الحجر: 9).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) راجع بحث: دور الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه) في بقاء حجج الله وبيناته، للكاتب، المطبوع في العدد السابع في هذه المجلة الموقّرة، وكتاب دروس في عقائد الإمامية، للكاتب.
↑صفحة 94↑
فمهمة حفظ الوحي كنزول الوحي ليست مهمة بشرية بل إلهية. نعم بعد رعاية الإمام وحفظه وإشرافه يعوّل على الحجج العقلائية في درجاتها المختلفة.
ومن البديهي أنَّ بصيرة الجن والإنس ليست بدرجة بصيرة النبي، وعلمهم لن يصل إلى آفاق الوحي النازل من السماء على هذا النبي الأُمّي، حتّى ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. فهنا نتساءل: هل كتب الله لهذا الدين والقرآن والوحي النبوي بقاءً واستمراراً بعد رحيل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أم أنَّه يزول بوفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
فإن كان يراد بقاؤه فلابدّ أن يكون هنالك من يحفظه ويحرسه ليبقى للأجيال. فيا ترى من تكون له أهلية حفظ بينات الوحي وعلوم النبي وبصائر القرآن الذي يكون تبياناً لكلّ شيء؟
لو اجتمع الجن والإنس على أن يحلّوا محل الوحي، ليكونوا حفاظاً ورعاةً وحملةً للوحي، لن يستطيعوا، لقصور علمهم وخبراتهم وقدراتهم عن وعي الوحي الإلهي. فهم بأجمعهم غير مؤتمنين لحراسة الوحي، لأنَّهم ليسوا بمستوى النبي في علمه ومعرفته حتّى يحفظوا علومه ومعارفه. وكيف يتوقّع ممّن لم يستوعب علم شيء ولم يعيه أن يكون له حافظاً؟
فأنّى للصحابة أو التابعين والرواة أن يحفظوا الوحي؟!
إنَّهم لا يؤمنون لحفظ ألفاظ الوحي، فما ظنك بالمعاني والحقائق؟ وذلك أنَّ من لم يحط بالمعاني فلا يؤتمن لحفظ الألفاظ.
مثلاً إذا كان هنالك معهد علمي رفيع المستوى، وقد وصل إلينا نتاجه العلمي عبر أناس ليسوا بذلك المستوى من العلم، فهل يمكن إسناد نقولاتهم إلى ذلك المعهد؟ وهل يؤمنون عليه حتَّى لو كان دورهم مجرد نقل الألفاظ؟ فإنَّ الخطأ والاشتباه ليس بمنأى عن الحس فيمن لم يكن عنده الإحاطة
↑صفحة 95↑
بالمعاني، كما تشاهد أن المنضّد لكتاب علمي إن لم يكن من أهل الاختصاص ولا يعرف المعنى ويستوعب ما يكتب، قد تقع منه أغلاط كثيرة في التنضيد، أو إذا حضر عامي في مجلس درس أحد العلماء من أهل الاختصاص، فنقل شيئاً منه فلا يصحّ إسناده إلى ذلك العالم، ولا يكون كلامه حجة في ذلك.
فلو كان حفظة الدين بعد الرسول هم الصحابة مع فرض أنَّهم عدول، بل وفي أعلى درجات العدالة، لما أمكن إسناد الدين إلى الله كحجة وحيانية إلهية، ولكان قد انقضى عصر الدين وصارت حجية الوحي بقدر حجية الناقلين، أمراً بشرياً تاريخياً جغرافياً ترابياً. لأنَّ آفاق علومهم تقصر عن أفق الوحي.
فكيف إذا كان فيهم منافقون وخونة؟ وكيف إذا كان جمع القرآن بعد مقتل جمع كبير من حفاظ القرآن، وكتابة الوحي بالبينة الشرعية التي من المستحيل أن تكون بدرجة بينات الوحي.
وذلك - بامتياز كبير - كما لو مات أستاذ خبير رفيع المستوى، ولم يخلف من تلامذته إلَّا من يعي واحداً بالمائة من علومه، فالعلم يموت بموت الأستاذ، بداهة أنَّ التلاميذ لم يعوا من علم الأستاذ إلَّا واحداً بالمائة، فكيف يحفظون ما لم يستوعبوه؟
ومن هنا تجد أنَّ قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾ (الحجر: 9).
قضية برهانية لا تقبل الترديد. حين يؤكد على أنَّ مهمة حفظ الذكر النازل من السماء ليس لها إلّا من أنزله، فنفس المعادلات المفروضة في إنزال الذكر لابد وأن تتوفر في بقائه وحفظه. فكما ليس لكل أحد أن ينزل عليه الوحي، كذلك ليس لكل أحد أن يحفظ الذكر النازل. وليس هذا الحفظ إلّا من خلال وجود أمين الله وحجته في أرضه.
↑صفحة 96↑
لا يقال: إنَّ الله هو يحفظ الذكر والقرآن وبطونه وتأويلاته وعلومه بطريقة إعجازية.
لأنَّه يقال: إنَّ الله تعالى جعل الدنيا دار الأسباب وقد جرت سنة الله على إجراء الأمور بأسبابها، وجعل لكلّ شيء سبباً. ومن هنا أرسل الرسول وجعله بشراً يأكل ويمشي في الأسواق، فلم يكل مهمة تبليغ الرسالة والذكر الإلهي لملك من الملائكة، كما قال تعالى:
﴿وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ (الأنبياء: 7)، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ﴾ (الأنعام: 9).
وهكذا مهمة حفظ القرآن وبقاء الذكر، أيضاً لابد وأن تكون من خلال سبب وحافظ للذكر الإلهي، يكون مؤهلاً لحفظه وحراسته. وهو الإمام والخليفة من بعد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فاتَّضح أنَّه إنَّما يُعتمد على القرآن والوحي بعد النبي لرعاية حجة الله القائم بحجج الله له، كذلك الأخبار الواصلة عن أئمة الدين، إنَّما يكون الحافظ والراعي لها هو الإمام الناطق الحي في كل زمان، لأنَّها هي باطن القرآن والوحي النازل من السماء.
2 - برهان الصدق:
ويظهر هذا البرهان بالالتفات إلى أمور:
الأول: إنَّ الصدق بلحاظ مطابقة الكلام المنقول للواقع، مقولة قابلة للاشتداد والضعف. فكلما كان الناقل أكثر إحاطة بالذي يرويه، كان إخباره أكثر مطابقة للواقع. وهذا يظهر أثره في المعلومات الدقيقة العلمية التي تحتوي على أسرار وبطون ومعلومات خفية، قد تخفى عن السامع ما لم يكن من أهل الاختصاص.
ومن هذا الباب نرى التلميذ المقرر لدرس الأستاذ، بعد ما قرّر الدرس بتفهم وتعمق، ومع أنَّه ليس عامياً ولا أُمياً، لكنه مع ذلك يصرّ
↑صفحة 97↑
لكي يحصل على تأييد الأستاذ وتقريظه، ليكتسب بذلك اعتباراً بدرجة اعتبار الأستاذ. حتّى ولو كان التلميذ متقارباً مع استاذه في القوة العلمية، لكنه لاحتمال قصور علمه عن علم الأستاذ، يوجد مجال للترديد في صحة إسناد نقولاته للأستاذ.
الثاني: لا يوجد من هو أصدق من الله تعالى، كما قال: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً﴾ (النساء: 122).
وذلك لأنَّه أحاط بكلّ شيء علماً، فكلامه أصدق من كلّ كلام آخر، والصدق الإلهي لا يوازيه أي صدق.
الثالث: إنَّ واقع حقائق القرآن وبحور معارفه وعلومه غير متناهية، فإنَّه تبيان لكلّ شيء، ومن تلك الأشياء هي كلمات الله التي لا نفاد لها، كما قال: ﴿قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً﴾ (الكهف: 109).
الرابع: الناقل لهذا الكلام إن لم يكن علمه يحيط بكلّ هذه الحقائق كما أنزلها الله تعالى، فبطبيعة الحال لا يمكن أن يكون صادقاً عن الله تعالى الذي أحاط بكلّ شيء علماً، بل غاية ما يمكن أن يوصف به الصدق البشري، وليس الصدق الإلهي.
والنتيجة: أنَّ عدم الإمام بعد النبي الواعي والحامل لعلم الكتاب ولعلوم النبي، ليكون هو الناطق عن النبي وعن الله، تسبّب في كون القرآن والدين بشرياً وليس إلهياً.
فلو فرضنا أنَّ كلام الله الذي أنزله على نبيِّه، قد حفظه ونقله لنا أناس ليس لهم أيَّة إحاطة ببحور معانيه اللامتناهية، فلا يمكن أن يكون صدقهم بدرجة صدق كلام الله، بل يكون صدق البشر عن الله، ويكون كلام البشر عن الله وليس كلام الله.
↑صفحة 98↑
كيف يمكن أن يكون صدقهم بدرجة الصدق الإلهي، وهم غير واعين لحقائق القرآن والوحي؟
إنّهم لو كانوا مؤتمنين وصادقين، فغاية ما يمكن أن توصف منقولاتهم به هو الصدق البشري، دون الصدق الإلهي. وهذا ما يوجب انعدام وصف الحجية الإلهية عن القرآن.
فلو كان بقاء الوحي والذكر والقرآن بحفظ البشر العادي، من دون إشراف وهيمنة ورقابة إمام معصوم من الخطأ، والوارث لعلم الكتاب، لبطلت حجية القرآن والوحي ولما صح إسناد هذه الألفاظ إلى الله، وكان ذلك افتراء عليه تعالى.
كما ترى أنَّ إسناد كتاب علمي لمؤسّسة أو معهد رفيع المستوى في العلم، إن لم يكن بإشراف الممثل الواعي لعلوم المؤسسة، يكون افتراء عليها. وإنَّما لا يكون افتراء إذا كان نقله لكلام تلك الجهة العلمية، تحت إشراف ونظر الممثل لتلك الجهة الواعي لعلومها.
وهذا مؤدى قول الله تعالى: ﴿قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59).
فجعل الإسناد إلى الله مباشرة دون ترخيص منه تعالى افتراء، حتّى لو سمعه السامع عن النبي أو الإمام. والترخيص إنَّما يكون بعد إشراف وتدبير حجة الله والممثل للدولة الإلهية الذي يمتاز عن الآخرين بتزويده بالعلم اللدني وتأييده بروح القدس.
وإنكار حجة الله يُفقد الآخرين حجيتهم، كما لو أنكر الفرع الذي ينسب نفسه لشركة أو جامعة معينة، أن يكون يعمل تحت تدبير وإشراف الممثل الرسمي لتلك الجامعة. فبمجرّد أن أنكر ذلك، تسقط شرعيته واعتباره.
من هنا فإسناد الدين والقرآن تنزيله وتأويله وظاهره وباطنه إلى الله،
↑صفحة 99↑
من دون رعاية الإمام الحي المتصدي والمتصرف بالفعل في الأمور، يكون افتراء عليه تعالى. كما أن إسناد ما نقله جماعة عن معهد علمي رفيع المستوى إلى ذلك المعهد على أنَّه نتاجه، افتراء عليه، إن لم يكن بإشراف وتوقيع ذلك المعهد نفسه، حتّى ولو كان الناقلون من تلامذة نفس المعهد. نعم كلامهم حجة لكن بقدر حدود علمهم لا بقدر وطراز ذلك المعهد، فيأتي الافتراء في نسبة كلامهم للطراز العلمي لذاك المعهد.
3 - آيات ليلة القدر:
الآيات والروايات الواردة بشأن ليلة القدر تؤكّد فعلية دور الإمام الحي في كل زمان في إدارة الأمور، وإلَّا فيكون نزول كل الأمر إليه لغواً إذا كان لا شأن له في تدبيرها. فهل يصدّقك عقلك أن تُزوَّدَ شخصاً ليس له دور فعلي في إدارة البلد وشؤونه العامة، على أدقّ تفاصيل وإحداثيات وقرارات مستقبلية للبلد التي لا يطّلع عليها إلَّا أصحاب القرار والرؤساء الموكّلون بإدارة البلد؟
أفلا يكون هذا سفهاً ولغواً يتنزّه أحدنا من أن ينسب إليه؟ فكيف يمكن أن يقال بتعطيل إمامة الإمام وانقطاع تصرفاته في الأرض، وهو يُزوّد في كل ليلة القدر بأدق تفاصيل وتقادير كلّ شيء من الأمور المستقبلية المرتبطة بإدارة الأرض؟
ويظهر من الرواة والأصحاب أنَّهم كانوا معترفين بها، وأن عدم انقطاع ليلة القدر يعني بقاء فعلية إمامة الإمام الحي في كل زمان سواء كان حاضراً أم غائباً.
ويظهر من بعض الأخبار أنَّ مدار التشيّع عندهم كان على الاعتراف بمقام ليلة القدر للإمام الحي المتصدي للأمور في كلّ زمان، وأنَّ عدم الإقرار بهذا المقام العظيم بعد قيام الحجة عليه يوجب الخروج عن المذهب.
فقد روى الصفار، عَنْ عُمَرَ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام):
↑صفحة 100↑
أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِمَا يأتكم [يَأْتِيكُمْ] فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كَمَا ذُكِرَ ولَمْ يَجْحَدْهُ، قَالَ: «أَمَّا إِذَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ من [مِمَّنْ] يَثِقُ بِهِ فِي عِلْمِنَا فَلَمْ يَثِقْ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وأَمَّا مَنْ لَا يَسْمَعُ ذَلِكَ فَهُوَ فِي عُذْرٍ حَتَّى يَسْمَعَ»، ثُمَّ قَالَ: (عليه السلام): «يُؤْمِنُ بِاللهِ ويُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ»(24).
4 - وجوب البيعة مع الإمام في كل زمان:
الحديث المتواتر الدال على وجوب البيعة مع الإمام الحي بعد معرفته، وأنَّ من لم يعرفه ولم يبايعه تكون ميتته ميتة جاهلية، إنَّ البيعة تكون مع المتصدي الفعلي للدولة والنظام ومع غيره، فلزوم البيعة مع الإمام الغائب يعني فعلية إمامته وأنَّ له نظاماً ودولةً ولابد من الانتساب إليه.
ولو كانت الإمامة في بعض نواحيها الظاهرية معطَّلة أو مجمّدة في عصر الغيبة ولو كان ذلك بسبب إدبار الناس، لم يكن وجهٌ للزوم البيعة مع الإمام الغائب في زمان تعطيل دولته، كما أنَّه لو انحلَّت الدولة أو المؤسسة، أو تجمَّدت فعاليتها لفترة قصيرة أو طويلة، فلا معنى للانتساب إليها والالتزام بها والبيعة معها في تلك الفترة.
5 - مقام الاستخلاف الإلهي:
الإمام هو خليفة الله في أرضه، والذي أُلقي على عاتقه إجراء السياسات الإلهية على الأرض فهو المتصدي لتنفيذ تلك السياسات التي أنزلها على البشر وبيَّنها في تأويل القرآن وتنزيله، فخلوّ الأرض عن المتصدي المباشر له يكون بمعنى انحسار الدولة الإلهية عن السلطة التنفيذية، وهذا يعني انعزال الله عن ربوبيته وعن حاكميته على الأرض، حيث إنَّ إقصاء السلطة التنفيذية في أية دولة عن ممارسة مهامها تفسّر باحتلال الدولة وزوال سيادتها، وهذا معناه لابد من بقاء هذه السلطة وإن لم نعرف كيفية تصرفه فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(24) بصائر الدرجات: 1/224.
↑صفحة 101↑
6 - استمرار الهداية الإيصالية:
ضرورة استمرار الهداية إلى يوم القيامة كما هو مؤدى كثير من الأدلة، وأنَّ الإمام هو القائم بدور الهداية الإيصالية في كل عصر وزمان.
7 - حديث الثقلين:
حديث الثقلين المتواتر دلَّ على عدم إمكان افتراق العترة عن القرآن، والمراد عدم افتراقهما في ما يمكن للناس أن يستضيئوا بأنوارهم، وإلّا فهما في نفس الأمر غير مفترقين قطعاً، فخلو الأرض عن العترة التي يتمكّن الناس من الاستضاءة بأنوارها مع بقاء القرآن يكون افتراقاً للثقلين وهو غير ممكن بحسب الحديث المتواتر.
8 - تشبيه الإمام بالشمس والإمام الغائب بالشمس خلف السحاب:
ما ورد من تشبيه الإمام الغائب بالشمس وراء السحاب، حيث تبقى الشمس وضّاءة تنير درب السالكين وترافقهم وتصاحبهم في كل خطوة إلى أن يصلوا إلى مقصدهم، وأنَّ تعطيل الشمس وحرمان الناس عن الاستضاءة بأنوارها كلياً يوجب تغييب أعلام الهداية وعدم تمكّنهم من السير في الصراط المستقيم، بل لا يمكن العمل بالهداية الإرائية التي جاء بها النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حال ركود شمس الهداية وتعطيلها عن التصدي المباشر ومصاحبة السالكين في كل خطوة يخطوها في السبيل العمل بالهداية التي جاء بها النبي.
وإنَّ حاجة الإنسان لنور الشمس مستمرة لا غناء عنها ولا شيء يقوم مقامها، ولا يمكن الاستغناء عن إشراقاتها المستقبلية بإشراقاتها الماضية، بل في كل ساعة ولحظة نحتاج إلى الاستضاءة بأنوارها.
9 - مقام أسماء الله في نظام التكوين والتشريع:
ولا يمكن لأحد أن ينكر دور أسماء الله تعالى في نظام التكوين والتشريع، كما لا يمكن القول بتعطيل أسماء الله تعالى بحال من الأحوال، حيث إنَّه
↑صفحة 102↑
تعلَّقت مشيَّة الله المقدسة أن يَجري تقاديره عبر أسمائه الحسنى، فتعطيل هذه الأسماء عن فعالياتها تعني تعطيل ربوبية الله تعالى، وإمكانية الغلبة عليها تعني إمكانية الغلبة على الدولة الإلهية. ولعل ما ورد من أنّهم (عليهم السلام) هم الأسماء الحسنى إشارة إلى هذه الحيثية(25).
كما أنَّ عدم شعورنا بكيفية توسّط أسماء الله في تكوينه وتشريعه لا يسوّغ إنكار أدوارها العظيمة في نظام الخلق، كذلك عدم شعورنا بكيفية تصرفات الإمام لا يستوجب ذلك.
10 - وجود الراعي للدين في كل زمان:
ما ورد مستفيضاً عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنّ فِي كُلِّ خَلَفٍ مِنْ أُمَّتِي عَدْلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، يَنْفِي عَنْ هَذَا الدِّينِ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وتَأْوِيلَ الْجُهَّال»(26) وغيره من مضامين أخرى.
11 - حديث خلفائي اثنا عشر:
الحديث المتواتر بين الفريقين من أنَّه: «لا يزال الدين قائماً منيعاً عزيزاً ما وليهم اثنا عشر أميراً»، فإنَّ صريح الحديث أنَّ عزة الدين وبقاءه منيعاً وعزيزاً مسبّب عن إمارة الاثني عشر وإمامتهم، فلو كانت إمامتهم تقبل التعطيل لما نسبت عزة الدين ومنعه إليهم (صلوات الله عليهم).
ولمزيد من التحقيق راجع هذه الأبواب من كتاب الحجة من أصول الكافي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(25) الكافي: عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿وَللهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها﴾ [الأعراف: 180] قال: «نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلّا بمعرفتنا» [الكافي: 1/144؛ وراجع: بحار الأنوار: 94/6؛ تفسير العياشي: 2/42؛ بحار الأنوار: 100/246؛ فرحة الغري: 47؛ الغارات: 2/849؛ بحار الأنوار: 27/38؛ المحتضر: 136؛ بحار الأنوار: 100/302 و314؛ مصباح الزائر: 146؛ المزار لابن المشهدي: 257؛ بحار الأنوار: 100/306؛ مصباح الزائر: 150؛ المزار لابن المشهدي: 218؛ بحار الأنوار: 100/375؛ الإقبال: 3/133].
(26) قرب الإسناد: 77.
↑صفحة 103↑
الأوّل: «بَابُ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَقُومُ لِلهِ عَلَى خَلْقِهِ إِلَّا بِإِمَام».
الثاني: «بَابُ أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْلُو مِنْ حُجَّة».
الثالث: «بَابُ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ إِلَّا رَجُلَانِ، لَكَانَ أَحَدُهُمَا الْحُجَّة».
وقد أكَّد في هذه الأبواب على أنَّ الحجة لا تقوم إلّا بإمام حي، فهو حجة الحجج وقوام كل حجة، وأنَّ قوام حجية القرآن بالإمام وهو الحافظ والقيم له ومن دونه لا يحفظ القرآن.
غياب الإمام لا يعني تجميد دوره:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
«هَا.. إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً - وأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ - لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَة... كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ، اللَّهُمَّ بَلَى لَا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلهِ بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللهِ وبَيِّنَاتُه...»(27).
أكَّد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على أنَّ بقاء حجج الله وبيِّناته التي من أعظمها هو كتاب الله العزيز، لن يكون إلَّا بوجود حجج إلهية أقامهم الله ليكونوا قائمين لله بحججه، وهم الحاملون لعلم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولعلم القرآن بتنزيله وتأويله، لأنَّ قلبهم يعي لذلك.
وهم يمارسون دورهم في حفظ هذه البيِّنات الوحيانية عبر طريقين: إمّا التصرفات الظاهرية العلنية، أو تصرفات غيبيِّة مغمورة، إلَّا أنَّه لا تتعطل تلك الفعاليات والتصرفات، فإنَّ تعطيلها يساوي تعطيل الحجج والبيِّنات الإلهية، لأنَّ غيرهم لا يعي تلك العلوم الوحيانية، فكيف يحفظها ويحرسها؟
وإنَّما يكون الإبطال بفقد الراعي المعصوم.
وحفظه ورعايته لها لا يناط بحضوره وظهوره، بل هو يبقى فاعلاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(27) نهج البلاغة: حكمة ١٤٧.
↑صفحة 104↑
ونشطاً حتّى مع كونه حجة مغمورة وغائبة، نعم هو لا يراعيها بطرق غيبية بحتة، بل بأسباب ظاهرية وعقلائية، وإن خفيت الأسباب عن العقلاء.
ومن السذاجة بمكان، توهُّم أنَّ حفظ الوحي والقرآن متوقِّف على التصرف الظاهري المعلن، وإنكار التصرفات الغيبية السرية الخفية عن عامة الناس.
وهذا أحد تفاسير الروايات الواردة في أنَّه لو بقيت الأرض ساعة بغير حجة لساخت بأهلها(28).
وهو يرجع إلى نفي التفويض وأنَّه تعالى ليس بمنعزل عن سلطانه، لينتج البشر إنتاجاً دون تقرير وتأييد حجة الله ثم لا يحرك ساكناً، فإنَّ الإسناد إلى جهة علمية عالية المستوى دون الإذن منه افتراء، وبقاءه ساكتاً دليل عجزه وضعفه، والله تعالى منزّه عن ذلك.
نعم، رعاية الإمام للدين وحفظه ذات مراتب، ففي عصر الغيبة إنَّما يحفظ السقف الأدنى وهو المسار العام للدين، دون السقف الأعلى من كمال البرنامج الإلهي الذي حُرمنا عنه من أجل غصب الخلافة والغيبة، فإنَّ ذلك يكون في عصر الظهور.
ومن الغفلة أن نقصر دور الإمام في التصرف العلني الظاهر، والمثال الواضح لذلك العبد الصالح خضر (عليه السلام)، حيث منع الظالم من أخذ سفينة المساكين، والملك المسكين زعم أنَّه هو الذي اختار أن لا يأخذ السفينة، ولا يدري أنَّه عجز أمام قدرة الخضر (عليه السلام) وهو الذي منعه عن ذلك، فالذي يتحكَّم هو الخضر وليس ذلك الملك.
وكذلك في قتل الغلام بأمر الله، حال دون نمو طاغية يرهق أبويه طغياناً وكفراً، فينتج منه بيئة فاسدة وظلمانية في المجتمع البشري، فعوَّض الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) الكافي: ج1، ص179.
↑صفحة 105↑
الأبوين بجارية ولد منها سبعون نبياً، فضخّ هذا الكم من الأنبياء، والحيلولة دون وجود هذا الطاغي أمر لا يأتي في حسبان من يدَّعي أنَّ بيده مركز القدرة، واليتيمان لم يدريا يوماً أنَّ الخضر (عليه السلام) هو الذي هداهما لكنز أبيهما، وزعما أنَّ ذلك بقدرة أنفسهما بينما مركز التحكم بيد الخضر (عليه السلام).
نعم إنَّما يحفظ الإمام ويراعي السقف الأدنى من الرعاية للحجج الوحيانية والعقلية في عصر الغيبة، وأمّا الرعاية بمقدار السقف الأعلى فسيكون بعد ظهور الأمر على يدهم (صلوات الله عليهم).
مظاهر من وَهمِ الإمامة المعطّلة:
صحيحٌ أنَّه لم يصرِّح أحد من الإمامية بتعطيل مقام الإمامة في عصر الغيبة، إلَّا أنَّ هناك بعض المظاهر قد توحي إلى الغفلة عن فعلية دور الإمام في الغيبة الكبرى، فكثيراً ما نشاهد التركيز في إمامة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) على ظهوره وانتظاره وغير ذلك مما هو مرتبط بمستقبل الإمامة، أو ما يرتبط بولادته وطول عمره مما هو مرتبط بماضيها، وقلَّما نتحدَّث عن الإمامة الفعلية للإمام (عجَّل الله فرجه)، وقد سبَّب هذا الإهمال من حيث نشعر أو لا نشعر ظهور بعض المظاهر المبنية على عدم الاعتقاد بفعلية إمامة الإمام الحي القائم بالأمر في وقتنا هذه.
فمن تلك المظاهر توهّم أنَّ مهمّة الإصلاح أو حفظ الدين ونشره ملقاة بصورة تامة على عاتق البشر في عصر الغيبة، وأنَّنا نحن الفاعلون في ذلك والساعون، ولولانا لم يقم للدين اسمٌ ولا للإسلام والإصلاح رسمٌ، وهذه غفلة كبيرة عن واقع الأمر، فكما مرَّ أنَّ حفظ الدين لا يمكن أن يكون إلَّا بالإمام المعصوم المحيط بالدين، كما أنَّ الصلاح والأمن الموجود أيضاً يعود فضله إليه، وليس خيار المؤمنين وأعاظم الفقهاء وكبار المصلحين في عصر الغيبة بل عصر الحضور إلَّا كالأعضاء والجوارح للقلب، كما ورد في احتجاج هشام بن الحكم على عمرو بن عبيد البصري، فكما أنَّ انقطاع علاقة المدركات
↑صفحة 106↑
الحسية عن القلب يفقدها الحجية الإنسانية العقلية وتكون حجية مدركاتها حجية حيوانية، كذلك انقطاع علاقة هذه الأعضاء في نظام ولي الله عن قطب الرحى وهو الإمام المعصوم، يوجب فقد الحجية الوحيانية، ومعه يفقدون مشروعيتهم.
ومن تلك المظاهر توهّم أنَّ بقاء القرآن وحفظه عن الضياع والتحريف وكذا بقاء الدين المتمثل في سنة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأهل بيته (عليهم السلام)، إنَّما حصل بفضل الرواة والنقلة دون الحاجة لإشراف وهيمنة الإمام الحي في كل زمان، وأنَّ التواتر البشري ونقل الرواة والفقهاء يسوّغ لنا إسناد الوحي إلى الله تعالى وإن لم يكن الإمام من ورائه حافظاً وراعياً.
ومن تلك المظاهر إسناد مصدر مشروعية الولايات والصلاحيات الحكومية إلى جهة أخرى لا تنتهي إلى جعل وإمضاء ونيابة الإمام الحي القائم بالأمور، سواء ضيَّقنا دائرة الولاية أم وسَّعناها، فإنَّ وجود أيَّة ولاية لا تنتهي إلى ولاية ولي الله الحي والنيابة عنه وجعله وإذنه، مساوٍ لانحسار ولاية ولي الله في تلك البقعة، وهو القول بتعطيل الإمامة وتجميدها في تلك الزاوية.
↑صفحة 100↑