كيف يعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره؟
كيف يعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره؟
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
تمهيد: ....................................................................... 177
موضوع البحث:............................................................. 180
الطائفة الأولى: ما قد يُستدل به على علمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت:............... 180
النوع الأول: ما دلَّ على سعة علم المعصوم لكل شيء يقع في الدنيا وإلى يوم القيامة...... 180
النوع الثاني: ما يدل على علمهم بالوقت لكن بدلالةٍ التزامية لا مطابقية:......... 183
ولكنه يُرد بأمرين:............................................................ 184
النوع الثالث: ما دلَّ على أنَّهم إذا أرادوا أن يعلموا الشيء علموه:................ 184
ولكنه يُجاب:................................................................. 185
الطائفة الثانية: ما قد يُستدل به على عدم علمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت:........... 188
النوع الأول: ما صُرّح فيه بأنَّ الله تعالى كتم علم الظهور عنهم (عليهم السلام):...... 189
النوع الثاني: ما دلَّ على أنَّ يوم الظهور هو كيوم القيامة لا يعلم به إلَّا الله تعالى:.... 191
النوع الثالث: ما دلَّ على أنَّ الظهور يكون بغتة:................................. 192
إذن، كيف يعلم بوقت الظهور؟............................................... 192
الطريقة الأولى: الإيحاء إليه:................................................... 193
الاستعمال الأول: الوحي الرسالي:............................................. 193
الاستعمال الثاني: الوحي التكويني:............................................ 194
الاستعمال الثالث: الوحي الغريزي:........................................... 194
الاستعمال الرابع: الوحي بمعنى التحديث، أو الإلهام والإلقاء:................. 194
الطريقة الثانية: صدور علامات إعجازية خاصة به (عجَّل الله فرجه):............. 197
وقفة مع كلام للشيخ الطوسي (قدّس سرّه):................................... 198
ولكن يُمكن النقاش في هذا الطريق من عدَّة جهات:........................... 203
فتلخَّص من كل ما تقدَّم:..................................................... 206
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
وفيه أمور:
الأمر الأول:
المشروع المفترض للإنسان في هذه الحياة هو مشروع التكامل الوجودي، الذي هدفه ومركز استقطابه الكمال المطلق للباري (جلَّ وعلا): ﴿يا أَيـُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ﴾ (الانشقاق: 6)، ومن هنا كان هذا الطريق غير متناهٍ، لأن الهدف غير متناهٍ.
وقد اختلف بنو آدم في درجات كمالهم، تبعاً لأسباب عديدة، أهمها الإرادة الحقيقية للوصول، والإخلاص في التكامل، والتوفيق الإلهي، وغيرها.
ومما لا ريب فيه أنَّ أكمل المخلوقات وأعلاهم رتبة هم محمد وآل محمد (عليهم السلام)، الأمر الذي تشهد به العديد من النصوص، ومنها ما روي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وأول شافع ومشفع، لواء الحمد بيدي يوم القيامة، تحتي آدم فمن دونه»(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كنز العمال - المتقي الهندي: ج 11، ص433، رقم (32033).
↑صفحة 177↑
وعن جابر الأنصاري أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال له: «أي الإخوان أفضل»؟ قلت: النبيون، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «أنا أفضلهم، وأحب الإخوة إليَّ علي بن أبي طالب، فهو عندي أفضل من الأنبياء، فمن قال: إنَّهم خير منه، فقد جعلني أقلَّهم؛ لأنِّي اتَّخذته أخاً لما علمتُ من فضله، وأمرني ربي به»(2).
ولسنا في صدد استقصاء الأدلة على ذلك، فهذا الأمر أثبتته النصوص بكل تأكيد.
الأمر الثاني:
أحد أهم امتيازات المعصومين (عليهم السلام) على من دونهم هو العلم اللدني، غير معلوم الحقيقة، فهو علم يختلف عن علومنا العادية التي نأخذها من خلال الاكتساب والتجربة وتراكم المعرفة، بل هو علم غيبي إلهي لا نتمكَّن من فهم كنهه، لأنَّه في طور أعلى من قدرة أذهاننا على فهمه، وهو علم ينكشف للمعصوم معه كل ما في الكون.
الفلاسفة صوَّروا هذا العلم بأنَّه فرع كون المعصومين (عليهم السلام) وسائط الفيض الإلهي، على خلفية قولهم بقاعدة الواحد، وأنَّ الواحد الحقيقي من كل جهة لا يصدر عنه إلَّا واحد، فكان الصادر الأول هو العقل الفعال في هذا العالم، وبواسطة هذا العقل صدر الصادر أو العقل الثاني، وصولاً إلى صدور عالم المثال (وهو عالم فيه المادة دون آثارها)، ثم عالم المادة المشهود لنا، ومن ثم فكل ما في العالم إنما يمر من خلال العقل الأول، فيكون عالِـماً بكل ما في عالَـم الإمكان.
ولسنا في صدد شرح أو نقض هذه النظرية، إلّا أنَّ الملاحظ أنَّ النصوص فيها إشارات لما يشبه هذا المعنى، وما دام الأمر وارداً في النصوص، فيمكن أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(2) الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي النباطي البياضي: ج1، ص211، الفصل 18.
↑صفحة 178↑
نقبله ولو تعبُّداً، ومن تلك النصوص ما دلَّ على أنَّ أول ما خلق الله تعالى هو نور النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ثم خلق الأشياء منه، فقد نقل صاحب البحار روايات عديدة في هذا المجال(3)، منها ما روي عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يا جابر، كان الله ولا شيء غيره، لا معلوم ولا مجهول، فأوَّل ما ابتدأ من خلقه أن خلق محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وخلقنا أهل البيت معه من نور عظمته، فأوقفنا أظلة خضراء بين يديه، حيث لا سماء ولا أرض ولا مكان، ولا ليل ولا نهار، ولا شمس ولا قمر»، الخبر.
وعلى كل حال، فالنصوص الدالة على علم المعصومين (عليهم السلام) صريحة في كونه علماً غيبياً، وبطرق غير معلومة لدينا، وبحجم من المعرفة لا يمكن أن تدركه عقولنا، ويكفي أنَّهم لم يُسألوا عن شيء إلّا وأجابوا عنه، وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في أكثر من مناسبة: «سلوني قبل أن تفقدوني».
الأمر الثالث:
إنَّ هذا العلم الغيبي الواسع المدى، وإن كان بالنسبة لغيرهم من المخلوقات علماً واسعاً لا يُمكن إدراكه أو الوصول إلى حقيقته، إلّا أنَّه يبقى بالنسبة إلى الله تعالى علماً متناهياً، وبإذنه تعالى، وبفيض منه (جلَّ وعلا)، بل لا يُقاس علمهم بعلمه (جلَّ وعلا) وإن جلَّ علمهم وعظم، لأنَّهم على كل حال مخلوقات له تعالى، فقراء إليه، والمخلوق محتاج إلى خالقه في ذاته وأفعاله وصفاته، وهذا بحث لا نقاش فيه.
ومنه يُعلم إمكان أن تكون هناك علوم لا يعرفها أهل البيت (عليهم السلام)، لأنَّ الله تعالى استأثرها لنفسه، بل هذا ما دلَّت عليه بعض النصوص، كما ستأتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) راجع: بحار الأنوار: ج15، ص23 و24، وج25، ص1 وما بعدها.
↑صفحة 179↑
موضوع البحث:
السؤال الذي يدور البحث حوله هو عن الطريقة التي يعلم بها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) وقت الظهور بالضبط، فهل هو من العلم المتاح للمعصوم كي يكون عالماً به فعلاً من البداية، وهو ينتظر أن يحين حينه ليقوم بالأمر؟ أو أنَّه لا يعلم به - لوجه ولآخر كما سيتبيَّن -، ومن ثم يتَّجه السؤال عن الطريقة المنهجية التي يُمكنه (عجَّل الله فرجه) من خلالها أن يعرف ساعة ووقت الظهور ليقوم بالأمر؟
هذا هو محور البحث العام.
ومن المعلوم أنَّ العلم التفصيلي بمثل هذا الأمر غير متاح لنا، وإنَّما هو من مختصات المعصوم، ومن ثم، فالبحث عن الجواب لابد أن يكون بعيداً عن التكهنات الخاصة، والآراء الشخصية، وإنَّما لابد من الرجوع فيه إلى النصوص التي يُمكن أن يُستفاد منها في المقام، سواء من خلال منطوقها المباشر، كما لو دلّ نصٌ بظاهر لفظه على علم أو عدم علم المعصوم بالوقت، أو بالمفهوم، أو باللازم، وهذا يعني أنَّ البحث روائي بامتياز.
وبمراجعة نصوص المسألة، نجد أنَّها تنقسم إلى طائفتين:
الطائفة الأولى: ما قد يُستدل به على علمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت:
وفي هذا المجال نجد ثلاثة أنواع من النصوص:
النوع الأول: ما دلَّ على سعة علم المعصوم لكل شيء يقع في الدنيا وإلى يوم القيامة:
فإنَّه بإطلاقه يدل على شمول علمهم (عليهم السلام) عموماً لمعرفة الوقت بالضبط.
والروايات في ذلك كثيرة، ففي بصائر الدرجات (باب في علم الأئمة بما في السماوات والأرض والجنة والنار وما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة)
↑صفحة 180↑
ذكر ست روايات تدل على ذلك، ومنها الحديث الثاني عن عبد الأعلى وعبيدة بن بشير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) ابتداء منه: «والله إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض وما في الجنة وما في النار وما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة»، ثم قال: «أعلمه من كتاب أنظر إليه هكذا» ثم بسط كفيه ثم قال: «إنَّ الله يقول: إنَّا أنزلنا إليك الكتاب فيه تبيان كل شيء»(4).
وفي البصائر أيضاً (باب في الأئمة (عليهم السلام) أنَّهم أعطوا علم ما مضى وما بقي إلى يوم القيامة) ذكر ثلاث روايات، وقد جاء في الرواية الأولى منه قول الإمام الصادق (عليه السلام): «وإنَّ رسول الله أعطى علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة فورثناه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وراثة».
وفي رواية أبي بصير أنَّ أبا عبد الله (عليه السلام) حدَّثه عن أنواع العلوم التي عندهم، فقال له فيما قال: «إِنَّ عِنْدَنَا عِلْمَ مَا كَانَ وعِلْمَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ...»(5).
ومنها ما ورد في مضمون مصحف فاطمة (عليها السلام)، وأنَّ فيه علم ما يكون إلى يوم القيامة، وأنَّه عند أهل البيت (عليهم السلام)، فقد روي عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: «تَظْهَرُ الزَّنَادِقَةُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وعِشْرِينَ ومِائَةٍ وذَلِكَ أَنِّي نَظَرْتُ فِي مُصْحَفِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)»، قَالَ: قُلْتُ: ومَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ؟ قَالَ: «إِنَّ الله تَعَالَى لـمَّا قَبَضَ نَبِيَّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ (عليها السلام) مِنْ وَفَاتِه مِنَ الْحُزْنِ مَا لَا يَعْلَمُه إِلَّا الله (عزَّ وجلَّ) فَأَرْسَلَ الله إِلَيْهَا مَلَكاً يُسَلِّي غَمَّهَا ويُحَدِّثُهَا فَشَكَتْ ذَلِكَ إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالَ: إِذَا أَحْسَسْتِ بِذَلِكِ وسَمِعْتِ الصَّوْتَ قُولِي لِي، فَأَعْلَمَتْه بِذَلِكَ فَجَعَلَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَكْتُبُ كُلَّ مَا سَمِعَ - حَتَّى أَثْبَتَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(4) هكذا في المصدر، والآية هي: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: 89].
(5) الكافي للكليني: ج1، ص240، بَابٌ فِيه ذِكْرُ الصَّحِيفَةِ والْجَفْرِ والْجَامِعَةِ ومُصْحَفِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)، ح1.
↑صفحة 181↑
مِنْ ذَلِكَ مُصْحَفاً»، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: «أَمَا إِنَّه لَيْسَ فِيه شَيْءٌ مِنَ الْحَلَالَ والْحَرَامِ ولَكِنْ فِيه عِلْمُ مَا يَكُونُ»(6).
ومنها ما روي في شأن الجفر، وأنَّ فيه علم ما يكون إلى يوم القيامة، وأنَّه عند الأئمة (عليهم السلام)، ففي رواية سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال له: «نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة الذي خصَّ الله به محمداً والأئمة من بعده (عليهم السلام)»(7).
فهذه النصوص وأمثالها تدل - بعمومها وإطلاقها- على أنَّ عند الأئمة (عليهم السلام) علم ما كان في الماضي، وما يكون في المستقبل إلى يوم القيامة، وهي بإطلاقها تشمل العلم بيوم الظهور، فيكون معلوماً لدى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
اللهم إلَّا أن يُقال: إنَّ إطلاق هذه النصوص وشموله للعلم بالوقت صحيح، ولكن هذا المعنى يُثبت علمهم (عليهم السلام) بالوقت بشرط عدم وجود قرينة - ولو منفصلة - تدل على أنَّهم لا يعلمون الوقت، إذ إنَّ وجودها يعني استثناء علمهم بالوقت من إطلاق تلك النصوص، وهو أمر ليس بعزيز، خصوصاً مع وجود نصوص - ستأتي - تدل على عدم إتاحة كل العلوم لأهل البيت (عليهم السلام)، وإنَّما هناك علوم استأثر بها الله تعالى لنفسه، فلم يُطلع عليها أحداً من خلقه البتة، فليكن العلم بالوقت منها.
فهذا النوع من النصوص لا يدل على المطلوب إلَّا بضم عدم القرينة على استثناء علم الوقت من الشمول بإطلاقه، وسيأتي ما يُمكن أن يكون قرينة على ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) الكافي للكليني: ج1، ص240، بَابٌ فِيه ذِكْرُ الصَّحِيفَةِ والْجَفْرِ والْجَامِعَةِ ومُصْحَفِ فَاطِمَةَ (عليها السلام)، ح2.
(7) كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص353، ب33، ح50.
↑صفحة 182↑
النوع الثاني: ما يدل على علمهم بالوقت لكن بدلالةٍ التزامية لا مطابقية:
وهي النصوص التي صرَّحت بأن أهل البيت (عليهم السلام) لا يوقِّتون، حيث قد يُفهم منه أنَّ لازم قولهم: إنَّهم لا يوقِّتون، هو أنَّهم يعلمون الوقت، ولكنهم لحكمة ولأخرى لا يوقِّتون، أي لا يُعلنون الوقت لغيرهم، ومنها ما روي عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: سَأَلْتُه عَنِ الْقَائِمِ (عليه السلام) فَقَالَ: «كَذَبَ الْوَقَّاتُونَ إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نُوَقِّتُ»(8).
وعلَّق المازندراني عليه بقول: دلَّ ظاهراً على أنَّ لهم علماً بالوقت، إلَّا أنَّهم لا يوقّتون لمصالح(9).
ووفق هذا القول، يكون الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) عالماً بوقت الظهور.
وقد يُقال: مع تسليم دلالة النصوص المتقدِّمة على علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور، ألا يعني هذا التوقيت المنهي عنه في النصوص؟
ولكنه يُجاب: فرقٌ بين العلم بالوقت وبين التوقيت، فالمنهي عنه هو التوقيت، أي إعلان الوقت وتحديده، وأمّا العلم بالوقت فلم يرد نهي عنه، بل لا معنى للنهي عنه كما هو واضح.
نعم، قد يُقال: إنَّ كونهم لا يوقِّتون لا يلازم علمهم الواقعي، وإنَّما هو لازم أعم، فقد يكون عدم توقيتهم من أجل أنَّهم يعلمون ولكن لا يعلنون الوقت لحكمة ما، وقد يكون من أجل أنَّهم لا يوقِّتون لأنَّهم لا يعلمون الوقت أصلاً، وعليه فلا يصح الاستناد إلى هذه النصوص لإثبات علمهم بالوقت، لأنَّها تدل عليه باللازم الأعم، وهو لا يصح مستنداً في المقام.
وقد يُستدل على علمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت، بلازم ما روي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) الكافي للكليني: ج1، ص368، بَابُ كَرَاهِيَةِ التَّوْقِيتِ، ح3.
(9) شرح أصول الكافي للمولي محمد صالح المازندراني: ج6، ص333.
↑صفحة 183↑
عَمَّارٍ الصَّيْرَفِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: «قَدْ كَانَ لِهَذَا الْأَمْرِ وَقْتٌ وكَانَ فِي سَنَةِ أَرْبَعِينَ ومِائَةٍ فَحَدَّثْتُمْ بِهِ وأَذَعْتُمُوهُ فَأَخَّرَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)».
ببيان: أنَّ الإمام الصادق (عليه السلام) بيَّن في البداية أنَّ الله تعالى كان قد وقَّت لهذا الأمر في سنة معيَّنة، ولكن حيث أذاعه الشيعة فإنَّ الله تعالى أخَّره، ولم يقل الإمام (عليه السلام) إنَّه لا يعلم ذلك الوقت، مما يوحي بأنَّه كان يعلم بالوقت ولكنه لم يُذعه، خوفاً من إذاعة الشيعة له.
ولكنه يُرد بأمرين:
أولاً: إنَّ ذلك لازم أعم من المدّعى - كما تقدَّم -، فلا يصلح للاستدلال على المدّعى.
ثانياً: ولو تنزَّلنا، فهو مبني على أنَّ المقصود من (الأمر) هو وقت دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، وهو أول الكلام، إذ إنَّ كونه كذلك يتنافى مع المتسالم عليه من أنَّ ذلك يكون على يدي الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ومن المعلوم أنَّ ولادته لم تكن في سنة (140هـ)، وإنَّما بعدها بما يقرب من (115) سنة، مما يعني أنَّ المقصود من الأمر في هذه الرواية هو غير دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، والذي قد يُفسّر بحالة من الانفراج والسعة على الشيعة وتخلص من الضيق والتهديد الذي كان يقوم به بنو العباس آنذاك.
وعلى منوال هذه الرواية روايات أخرى من قبيل ما روي عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللهِ (عليه السلام): «يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ أُخِّرَ مَرَّتَيْنِ».
النوع الثالث: ما دلَّ على أنَّهم إذا أرادوا أن يعلموا الشيء علموه:
هناك نصوص متعدِّدة تدلُّ على أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) إذا أرادوا أن يعلموا
↑صفحة 184↑
الشيء علموه، من قبيل ما روي عن أبي الربيع الشامي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «العالم إذا شاء أن يعلم علم»(10).
وعن يزيد بن فرقد النهدي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنَّ الإمام إذا شاء أن يعلم علم»(11).
ومعه قد يُقال: إنَّه يُمكن لأهل البيت (عليهم السلام) أن يشاؤوا علم الوقت، فيعلمونه.
ولكنه يُجاب:
أولاً: إنَّ هذا المقدار يُثبت الإمكان لا الوقوع، وحديثنا في الثاني، فدلالتها على المطلوب لازم أعم.
ثانياً: ولو تنزَّلنا، فنقول: إنَّه صحيح لو أرادوا أن يعلموا الوقت، والحال أنَّه يُمكن القول: إنَّهم لا يريدون ذلك، باعتبار أنَّه ورد في نصوص أخرى أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) مورد لإرادة الله تعالى، ومن ثم فهم لا يريدون شيئاً إلَّا إذا أراده الله تبارك وتعالى، فلو لم يكن الله تعالى يريد أن يعلموا الوقت، فهم لا يريدونه أصلاً، فإذا ضممنا لهذا المعنى ما دلَّ على أنَّهم لا يعلمون بالوقت، أمكن القول بأنَّهم لا يريدون علم الوقت لأنَّ الله تعالى لم يرده لهم.
ومن النصوص الدالة على ذلك ما روي عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أنَّه قال: «إنَّ الله جعل قلوب الأئمة مورداً لإرادته فإذا شاء الله شيئاً شاؤوه، وهو قول الله: ﴿وَما تَشاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ [التكوير: 29؛ الإنسان: 30]»(12).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) بصائر الدرجات للصفار: الباب (2)، باب في الإمام بأنه إن شاء أن يعلم العلم علم، ح1.
(11) بصائر الدرجات للصفار: الباب (2)، باب في الإمام بأنه إن شاء أن يعلم العلم علم، ح2.
(12) بصائر الدرجان للصفار: ص537، الباب 18، باب النوادر في الأئمة (عليهم السلام) وأعاجيبهم، ح47.
↑صفحة 185↑
وعلَّق العلامة المجلسي على هذا الحديث بقوله: هذا أحسن التوجيهات في تلك الآيات بأن تكون مخصوصة بالأئمة (عليهم السلام) على وجهين:
أحدهما: أنَّهم (عليهم السلام) صاروا ربانيين خالين عن مراداتهم وإرادتهم، فلا تتعلَّق مشيتهم إلَّا بما علموا أنَّ الله تعالى يشاؤه، هو عبارة أخرى عن التسليم.
وثانيهما: معنى أرفع وأدق من ذلك، وهو أنَّهم لما صيروا أنفسهم كذلك صاروا بحيث ربهم الشائي لهم والمريد لهم، فلا يفعلون شيئاً إلَّا بما يفيض الله سبحانه عليهم من مشيته وإرادته، وهذا أحد معاني قوله تعالى [أي في الحديث القدسي]: «كنت سمعه وبصره ويده ولسانه»(13).
وفي رواية أبي عبد الله (عليه السلام): «إنَّ الإمام وكر لإرادة الله (عزَّ وجلَّ) لا يشاء إلَّا ما شاء الله»(14).
وفي رواية الإمام العسكري (عليه السلام): «قلوبنا أوعية لمشية الله، فإذا شاء شئنا، والله يقول: ﴿وَما تَشاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ﴾ [التكوير: 29؛ الإنسان: 30]»(15).
اللهم إلَّا أن يُقال: إنَّه يُمكن أن يريد الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) معرفة الوقت، وأنَّ الله تعالى سيُعلمه ذلك، غايته أنَّه يُعلمه في الوقت المناسب، وليس في نفس وقت إرادة المعرفة.
وثالثاً: ولو تنزَّلنا، فيمكن القول: إنَّ ما ورد في هذه النصوص ليس على نحو العلة التامة، وإنَّما على نحو المقتضي الذي يُنتج أثره عند عدم المانع، بمعنى أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) عندما يريدون أن يعلموا بالشيء، فهذه الإرادة هي مقتضي لأن يُعلمهم الله تعالى، ولكن هذا المقتضي قد يقف أمامه مانع، فلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(13) بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج24، ص306.
(14) المتحضر لحسن بن سليمان الحلي: ص227، ح296.
(15) الغيبة للطوسي: ص247، ح216.
↑صفحة 186↑
يُعلمهم الله تعالى، والمانع في البين هي حكمة الله تعالى، فلحكمة غير معلومة قد يُريد أهل البيت (عليهم السلام) علمَ شيء ما، إلَّا أنَّ الله تعالى لا يُعلمهم، وهو صريح ما دلَّ على أنَّه قد يُقبض العلم عن أهل البيت (عليهم السلام) فلا يتحدَّثون.
ويدلّ على هذا المعنى بوضوح ما روي عن عيسى بن حمزة الثقفي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا نسألك أحياناً فتسرع في الجواب وأحياناً تطرق ثم تجيبنا، قال: «إنَّه نعم ينقر وينكت في آذاننا وقلوبنا، فإذا نكت أو نقر نطقنا، وإذا أمسك عنا أمسكنا»(16).
وقريب منه ما دلَّ على أنَّ علم أهل البيت (عليهم السلام) يأتيهم بالتدريج، فقد روي عن ضريس، قال: كنت مع أبي بصير عند أبي جعفر (عليه السلام) فقال له أبو بصير: بما يعلم عالمكم جعلت فداك؟ قال (عليه السلام): «يا أبا محمد، إنَّ عالمنا لا يعلم الغيب، ولو وكَّل الله عالمنا إلى نفسه كان كبعضكم، ولكن يحدث إليه ساعة بعد ساعة»(17).
ورابعاً: إنَّ هذا المعنى ليس على إطلاقه، إذ ليس المقصود من ذلك أنَّهم يعلمون كل ما يريدون بذاتهم، كلا، وإنَّما المقصود هو أنَّ الله تعالى يُعلمهم بالشيء الذي يريدون معرفته، وهو ما صرَّحت به نصوص عديدة تشكل قرينة على تقييد الروايات المتقدِّمة، بمعنى أنَّ الروايات المتقدمة أطلقت علم أهل البيت (عليهم السلام) بما يريدونه، إلّا أنَّ هناك روايات تقول إنَّ الله تعالى هو الذي يُعلمهم بذلك، مما يشكل قرينة على تقييد ذلك الإطلاق، وهي من قبيل ما روي عَنْ مُعَمَّرِ بْنِ خَلَّادٍ، قَالَ: سَأَلَ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فَارِسَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) بصائر الدرجات للصفار: ص336، الباب (3)، باب ما يفعل بالإمام من النكت والقذف والنقر في قلوبهم وإذنهم، ح3.
(17) بصائر الدرجات للصفار: ص345، الباب (7)، باب ما يلقى شيء بعد شيء يوما بيوم وساعة بساعة مما يحدث، ح2.
↑صفحة 187↑
فَقَالَ لَه: أتَعْلَمُونَ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «يُبْسَطُ لَنَا الْعِلْمُ فَنَعْلَمُ، ويُقْبَضُ عَنَّا فَلَا نَعْلَمُ...»(18).
وكذلك ما روي عَنْ عَمَّارٍ السَّابَاطِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) عَنِ الإِمَامِ يَعْلَمُ الْغَيْبَ؟ فَقَالَ (عليه السلام): «لَا، ولَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَه الله ذَلِكَ»(19).
ومعه، فيُمكن أن يُناقش في أصل دلالة هذا النوع من الروايات على علمهم (عليهم السلام) بالوقت، باعتبار أنَّها تدل على ذلك بنحو اللازم الأعم، بمعنى أنَّها ليست نصاً في علمهم بالوقت، ومن ثم ليكن العلم بالوقت مستثنى من هذا العموم، خصوصاً مع تعليق علمهم على إرادة الله تعالى إعلامهم بما يريدون، وخصوصاً وأنَّ بعض النصوص - كما تقدَّم - صرَّحت بأنَّه يُمكن أن يُقبض العلم عنهم (عليهم السلام) فلا يعلمون، كما في رواية معمر بن خلاد المتقدمة، فمع ضمّ ما دلَّ على عدم علمهم بالوقت، قد يقال بثبوت عدم دلالة هذا النوع من النصوص على المطلوب.
اللهم إلَّا أن يُقال: يُمكن أن يستفاد من هذه النصوص في البحث، من جهة أنَّها تنص على أنَّه متى ما أراد أهل البيت (عليهم السلام) أن يعلموا الشيء أعلمهم الله تعالى، ومعه، فلو أرادوا أن يعلموا الوقت فإنَّ الله تعالى سيُعلمهم، وقد تقدَّم التعليق على هذا المعنى.
الطائفة الثانية: ما قد يُستدل به على عدم علمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت:
بداية، نذكِّر بما ورد في النصوص أنَّ الله تعالى وإن أتاح علوماً كثيرة جداً للمعصوم، إلَّا أنَّه لا يعني اطِّلاعه على كل العلم الإلهي، بل إنَّ هذا غير ممكن في حدِّ نفسه، لأنَّ العلم الإلهي هو عين الذات الإلهية، وحيث إنَّ الذات الإلهية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18) الكافي للكليني: ج1، ص256، بَابٌ نَادِرٌ فِيه ذِكْرُ الْغَيْبِ، ح1.
(19) الكافي للكليني: ج1، ص257، بَابٌ نَادِرٌ فِيه ذِكْرُ الْغَيْبِ، ح4.
↑صفحة 188↑
لا متناهية الوجود، فما هو عينها كذلك، فالعلم الإلهي غير متناهي، ومن ثم لا يُمكن ولا يُعقل أن يحتويه مخلوق مما علا شأنه واكتمل وجوده، لأنَّه على كل حال متناهي، ولا يمكن للمتناهي أن يُحيط باللامتناهي.
فمن النصوص التي دلَّت على استئثار الله تعالى ببعض العلوم، ما روي عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ النَّوْفَلِيِّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ صَاحِبِ الْعَسْكَرِ (عليه السلام)، قَالَ: سَمِعْتُه يَقُولُ: «اسْمُ الله الأَعْظَمُ ثَلَاثَةٌ وسَبْعُونَ حَرْفاً، كَانَ عِنْدَ آصَفَ حَرْفٌ، فَتَكَلَّمَ بِه فَانْخَرَقَتْ لَه الأَرْضُ فِيمَا بَيْنَه وبَيْنَ سَبَأٍ، فَتَنَاوَلَ عَرْشَ بِلْقِيسَ حَتَّى صَيَّرَه إِلَى سُلَيْمَانَ، ثُمَّ انْبَسَطَتِ الأَرْضُ فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وعِنْدَنَا مِنْه اثْنَانِ وسَبْعُونَ حَرْفاً، وحَرْفٌ عِنْدَ الله مُسْتَأْثِرٌ بِه فِي عِلْمِ الْغَيْبِ»(20).
وهناك روايات عديدة بهذا المعنى.
ولا يتصورنَّ أحدٌ أنَّ هذا الحرف المستأثر صغير في حجمه، كلا، بل إنَّه لا متناهي، لأنَّ علمه تعالى لا متناهي.
ومعه، فلا مانع من أن يكون علم الوقت والظهور من العلم المستأثر لدى الله تعالى، ويكون من العلم الذي كتمه الله تعالى عنهم (عليهم السلام) لحكمة معينة.
وعلى كل حال فما يُمكن أن يُستدل به على عدم علمهم (عليهم السلام) بالوقت أنواع من الروايات:
النوع الأول: ما صُرّح فيه بأنَّ الله تعالى كتم علم الظهور عنهم (عليهم السلام):
من قبيل ما روي عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ الْبَاقِرَ (عليه السلام) يَقُولُ: «يَا ثَابِتُ إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ وَقَّتَ هَذَا الْأَمْرَ فِي سَنَةِ السَّبْعِينَ فَلَمَّا قُتِلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(20) انظر: الكافي للكيني: ج1، ص230، بَابُ مَا أُعْطِيَ الأَئِمَّةُ (عليهم السلام) مِنِ اسْمِ الله الأَعْظَمِ، ح3.
↑صفحة 189↑
الْحُسَيْنُ (عليه السلام) اشْتَدَّ غَضَبُ اللهِ فَأَخَّرَهُ إِلَى أَرْبَعِينَ ومِائَةٍ فَحَدَّثْنَاكُمْ بِذَلِكَ فَأَذَعْتُمْ وكَشَفْتُمْ قِنَاعَ السِّتْرِ فَلَمْ يَجْعَلِ اللهُ لِهَذَا الْأَمْرِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقْتاً عِنْدَنَا، ويَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَه أُمُّ الْكِتَابِ»، قَالَ أَبُو حَمْزَةَ: فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فَقَالَ: «قَدْ كَانَ كَذَلِكَ»(21).
فإنَّ هذا النص صريح في أنَّ الله تعالى لم يجعل علماً لهذا الوقت عند أهل البيت (عليهم السلام)، وإن احتمل بعضٌ أنَّ المقصود منه هو عدم الإذن لهم بإظهار الوقت بعدما كشفه الأتباع أكثر من مرة، ولكنه على كل حال خلاف الظاهر.
قال المازنداني: قوله: «ولم يجعل الله» عطف على محذوف دلَّ عليه ظاهر الحال بل ظاهر المقال أيّ: فحدثناكم حديثاً ينبغي كتمانه فأذعتم الحديث كما فتشتموه فكشفتم قناع السر فأخَّره الله عن الأربعين ومائة ولم يجعل الله له بعد ذلك وقتاً عندنا أيّ لم يجعل لنا توقيته بعد ذلك، ولا يجوز لنا إظهار وقته، ويحتمل أن يكون المراد أنَّه لم يجعل لنا علماً بوقته بعد ذلك»(22).
على أنَّه مبني على أنَّ المقصود من الأمر هو الظهور، وقد تقدَّم احتمال غيره.
وقد يُستفاد هذا المعنى مما روي عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مِهْزَمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَهُ مُلُوكَ آلِ فُلَانٍ فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ مِنِ اسْتِعْجَالِهِمْ لِهَذَا الْأَمْرِ، إِنَّ اللهَ لَا يَعْجَلُ لِعَجَلَةِ الْعِبَادِ إِنَّ لِهَذَا الْأَمْرِ غَايَةً يُنْتَهَى إِلَيْهَا فَلَوْ قَدْ بَلَغُوهَا لَمْ يَسْتَقْدِمُوا سَاعَةً ولَمْ يَسْتَأْخِرُوا».
ببيان: أنَّ الإمام (عليه السلام) صرَّح بأنَّ لهذا الأمر غاية يُنتهى إليها، وهو قد يُشير إلى عدم علمه بوقت انتهاء تلك الغاية.
اللهم إلَّا أن يقال: إنَّ الإمام (عليه السلام) ليس بصدد البيان من هذه الناحية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) الكافي للكليني: ج1، ص368، بَابُ كَرَاهِيَةِ التَوْقِيتِ، ح1.
(22) شرح أصول الكافي للمازندراني: ج6، ص332.
↑صفحة 190↑
وإنَّما بصدد بيان أصل وجود الغاية التي ينتهي إليها الأمر، لا بصدد بيان العلم بها أو عدمه.
النوع الثاني: ما دلَّ على أنَّ يوم الظهور هو كيوم القيامة لا يعلم به إلَّا الله تعالى:
ففي رواية الكميت بن أبي المستهل أنَّه قال للإمام الباقر (عليه السلام): فمتى يخرج يا بن رسول الله؟ قال (عليه السلام): «لقد سئل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك فقال: إنَّما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلَّا بغتة»(23).
وفي رواية دعبل أنَّ الإمام الرضا (عليه السلام) قال له: «وأمّا (متى) فإخبار عن الوقت، فقد حدَّثني أبي، عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قيل له: يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)]: مثله مثل الساعة التي ﴿لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً﴾ [الأعراف: 187]»(24).
ومن ثم، يكون ادِّعاء العلم بالوقت ادِّعاءً للعلم بمستأثر العلم الإلهي، وهو غير ممكن، وهو ما أشار له الإمام الصادق فيما روي أنَّه قال المفضل: يا مولاي فلا يوقت له وقت؟ قال: «يا مفضل لا توقِّت، فمن وقَّت لمهدينا وقتاً فقد شارك الله في علمه وادَّعى أنَّه يظهره على أمره وما لله سر إلَّا وقد وقع إلى هذا الخلق المنكوس الضال عن الله الراغب عن أولياء الله، وما لله خزانة هي أحصن سرّاً عندهم أكبر من جهلهم به وإنَّما ألقى قوله إليهم لتكون لله الحجة عليهم»(25).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) كفاية الأثر للخزاز القمي: ص250.
(24) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص373، ب35، ح6.
(25) الهداية الكبرى للخصيبي: ص393.
↑صفحة 191↑
النوع الثالث: ما دلَّ على أنَّ الظهور يكون بغتة:
ببيان أنَّ البغتة لا تتناسب مع علم أهل البيت (عليهم السلام) السابق على الظهور، لأنَّه مع العلم المسبق لا مباغتة.
وقد تقدَّمت بعض النصوص في النوع الثاني المتقدم تصرَّح بأنَّ الظهور بغتة، ويُضاف إليها ما في رواية الإمام الباقر (عليه السلام): «وأمّا قوله ﴿حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: 44] يعني قيام القائم»(26).
وما جاء في مكاتبته (عجَّل الله فرجه) للشيخ المفيد: «فليعمل كل امرئ منكم بما يقرب به من بمحبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنَّ أمرنا بغتة فجأة حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة...»(27).
ولكن الاستدلال على عدم علمهم (عليهم السلام) بوقت الظهور بهذا النوع من الروايات غير تام، لإمكان أن يُقال: إنَّ البغتة تكون لغير أهل البيت (عليهم السلام)، إذ لا موجب لتكون بغتة عليهم (عليهم السلام)، وإنَّما تكون لغيرهم من الغافلين، أو لمن يتخيَّل تأخر ظهور الإمام، أو من يتوهَّم أنَّه لا يظهر أصلاً، أو لمن يتربَّص بظهور الإمام الدوائر ليقضي عليه، فهؤلاء تحصل عندهم البغتة لو ظهر الإمام (عجَّل الله فرجه).
اللهم إلَّا أن يُقال: إنَّ الروايات التي دلَّت على أنَّ أمر الظهور كأمر الساعة، لا يعلمه إلَّا الله تعالى، يوجب أن تكون البغتة شاملة لأهل البيت (عليهم السلام)، وتشكِّل حينها قرينة على عدم علمهم بذلك.
إذن، كيف يعلم بوقت الظهور؟
مع البناء على عدم علمه (عجَّل الله فرجه) فعلاً بالوقت، يتَّجه السؤال حينئذٍ عن أنَّه كيف يعلم (عجَّل الله فرجه) بساعة ووقت الظهور المبارك؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(26) بصائر الدرجات للصفار: ص98.
(27) الاحتجاج للطبرسي: ج2، ص323.
↑صفحة 192↑
ولسنا هنا في مقام الترجيح بين النصوص من الطائفتين، لأنَّ الكلام فيها - كما تبيَّن - ذو سجال، وإن كان يُمكن ترجيح نصوص عدم العلم بالوقت قبل الظهور، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإنَّ حديثنا إثباتي لا ثبوتي، بمعنى أنَّنا نعلم ثبوتاً بأنَّ هناك طريقة ما يعلم من خلالها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور إذا حان وقته، وعدم علمنا بها لا ينفيها، ومن هنا، فإنَّنا نجد في النصوص أنَّ هناك طريقتين يعلم من خلالهما الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور، ولا مانع من الجمع بينهما، وهما:
الطريقة الأولى: الإيحاء إليه:
ذكروا في علوم القرآن أنَّ الوحي هو بمعنى الخطاب الخفي، إلَّا أنَّه ليس خاصاً بالأنبياء والرسل، وإنَّما هي طريقة غيبية يوصل الله تعالى من خلالها مراداته إلى بعض مخلوقاته، سواء أكانوا أنبياء أم غيرهم، غايته أنَّ هناك وحياً خاصاً بالأنبياء والرسل، وهو ما يُطلق عليه بالوحي الرسالي، وإلَّا، فإنَّ الوحي أعم من ذلك، ولبيان الحال نذكر مختصراً أنواع الوحي في القرآن الكريم والنصوص الروائية:
عندما نتتبَّع آيات القرآن الكريم والنصوص الروائية، نجد أنَّ للوحي استعمالات عديدة، نذكر منها هنا أربعة:
الاستعمال الأول: الوحي الرسالي:
وهو الوحي الذي ينزل على الأنبياء والرسل بالخصوص، وهذا المعنى هو ما تشير إليه الآية الكريمة: ﴿وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ﴾ (العنكبوت: 45؛ الكهف: 27).
↑صفحة 193↑
وهو الذي انقطع باستشهاد النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو مقتضى كونه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خاتم النبيين، بالإضافة إلى تصريح حديث المنزلة بذلك «إلَّا أنَّه لا نبي بعدي» وتصريح بعض الروايات بذلك، من قبيل «ولا نبي بعد نبينا».
الاستعمال الثاني: الوحي التكويني:
بمعنى تنظيم السنن الكونية في عالم الوجود، أو قل: بمعنى وضع الأنظمة والقوانين التي تحكم عالم الوجود التكويني، من قبيل قوله تعالى: ﴿فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ (فصلت: 12).
الاستعمال الثالث: الوحي الغريزي:
بمعنى ما أودعه الله تعالى في بعض المخلوقات من النظام الداخلي لديها، الذي يجعلها تهتدي لعيشها، وبناء بيوتها، ورعاية صغارها، وما شابه، ومن ذلك ما جاء في شأن النحل، قال تعالى: ﴿وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 68-69).
الاستعمال الرابع: الوحي بمعنى التحديث، أو الإلهام والإلقاء:
وهو الوحي الذي يكون للبشر، رجالاً ونساءً، من دون أن يكون الموحى إليه نبياً، وهو ما يُطلق عليه بالتحديث، أو الإلهام، أو الإلقاء في الروع، أو النكت في القلب، وقد شهد القرآن الكريم على ثبوت هذا المعنى لغير الأنبياء، ففي شأن أم النبي موسى (عليهما السلام)، قال تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ (القصص: 7)، وهو قد يكون بمعنى الإلهام.
↑صفحة 194↑
وفي السيدة مريم (عليها السلام)، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ * يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّـرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَـى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران: 42-46)، وهو قد يكون بمعنى التحديث.
والتحديث هو ما ربما كان مع الحواريين، قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ﴾ (المائدة: 111).
وهذا المعنى - التحديث والإلهام والإلقاء - هو ما نقوله في أهل البيت (عليهم السلام)، ولا مانع شرعياً ولا عقلياً منه، ولا يستلزم الغلو، ولا ادِّعاء نبوة، ولا غيرها من المحذورات الشرعية والدينية.
وقد نصَّت الروايات على تسمية أهل البيت (عليهم السلام) بالمحدِّثين، والتي أشارت إلى الوحي إليهم بهذا المعنى، وهي عديدة، منها ما روي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) يَقُولُ: «الأَئِمَّةُ عُلَمَاءُ صَادِقُونَ مُفَهَّمُونَ مُحَدَّثُونَ»(28).
وعَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «إِنَّ عَلِيّاً (عليه السلام) كَانَ مُحَدَّثاً»، فَخَرَجْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: جِئْتُكُمْ بِعَجِيبَةٍ! فَقَالُوا: ومَا هِيَ؟ فَقُلْتُ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ (عليه السلام) يَقُولُ: «كَانَ عَلِيٌّ (عليه السلام) مُحَدَّثاً»، فَقَالُوا: مَا صَنَعْتَ شَيْئاً، أَلَا سَأَلْتَه مَنْ كَانَ يُحَدِّثُه؟ فَرَجَعْتُ إِلَيْه فَقُلْتُ: إِنِّي حَدَّثْتُ أَصْحَابِي بِمَا حَدَّثْتَنِي فَقَالُوا:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) الكافي للكليني: ج1، ص271، بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ، ح3.
↑صفحة 195↑
مَا صَنَعْتَ شَيْئاً، إِلَّا سَأَلْتَه مَنْ كَانَ يُحَدِّثُه؟ فَقَالَ (عليه السلام) لِي: «يُحَدِّثُه مَلَكٌ»، قُلْتُ: تَقُولُ: إِنَّه نَبِيٌّ؟! قَالَ: «فَحَرَّكَ يَدَه هَكَذَا: أَوْ كَصَاحِبِ سُلَيْمَانَ، أَوْ كَصَاحِبِ مُوسَى، أَوْ كَذِي الْقَرْنَيْنِ، أوَمَا بَلَغَكُمْ أَنَّه قَالَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): وفِيكُمْ مِثْلُه»(29).
وعَنْ عَلِيٍّ السَّائِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الأَوَّلِ مُوسَى (عليه السلام) قَالَ: قَالَ (عليه السلام): «مَبْلَغُ عِلْمِنَا عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوه: مَاضٍ وغَابِرٍ وحَادِثٍ، فَأَمَّا المَاضِي فَمُفَسَّرٌ، وأَمَّا الْغَابِرُ فَمَزْبُورٌ، وأَمَّا الْحَادِثُ فَقَذْفٌ فِي الْقُلُوبِ ونَقْرٌ فِي الأَسْمَاعِ، وهُوَ أَفْضَلُ عِلْمِنَا، ولَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا»(30).
فهذا الحديث واضح جداً في أنَّه في الوقت الذي يُثبت التحديث لهم (عليهم السلام)، إلَّا أنَّه ينفي النبوة عنهم (عليهم السلام)، فكأنَّه دفْعُ إشكال وتوهم.
أي إنَّه (عليه السلام): (دَفَع بذلك توهُّم من يتوهَّم أنَّ كل من قذف في قلبه ونقر في سمعه فهو نبي، وهذا التوهُّم فاسد لأنَّه محدَّث والمحدَّث ليس بنبي)(31).
بل ورد في بعض النصوص إمكان أن يكون غير المعصوم محدَّثاً، إذا ما وصل إلى مراحل عالية من الكمال، كما في سلمان المحمدي، إذ روي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان علي (عليه السلام) محدَّثاً، وكان سلمان محدَّثاً»، قال: قلت: فما آية المحدَّث؟ قال (عليه السلام): «يأتيه ملك فينكت في قلبه كيت وكيت»(32).
إذا تبيَّن هذا، فنقول: إنَّه يُمكن أن يعلم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بساعة الظهور بالضبط من خلال الإيحاء إليه بهذا المعنى، فقد روي عَنِ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) فِي قَوْلِ الله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ﴾ [المدثر: 8]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(29) الكافي للكليني: ج1، ص271، بَابُ أَنَّ الأَئِمَّةَ (عليهم السلام) مُحَدَّثُونَ مُفَهَّمُونَ، ح5.
(30) الكافي للكليني: ج1، ص264، بَابُ جِهَاتِ عُلُومِ الأَئِمَّةِ (عليهم السلام)، ح1.
(31) شرح أصول الكافي للمولى محمد صالح المازندراني: ج6، ص49.
(32) بصائر الدرجات للصفار: ص342، ب6، ح4.
↑صفحة 196↑
قَالَ: «إِنَّ مِنَّا إِمَاماً مُظَفَّراً مُسْتَتِراً فَإِذَا أَرَادَ الله عَزَّ ذِكْرُه إِظْهَارَ أَمْرِه نَكَتَ فِي قَلْبِه نُكْتَةً فَظَهَرَ فَقَامَ بِأَمْرِ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى»(33).
وفي نقل تفسير البرهان: «إذا نقر في أُذن القائم (عليه السلام) أَذِن له في القيام»(34).
خصوصاً أنَّه ورد في بعض النصوص أنَّه يوحى إليه في إدارة دولته، فقد رويَ عنِ الإمامِ الباقر (عليه السلام) أنَّه قال: «يملكُ القائمُ ثلاثَمائة سنة ويزدادُ تسعاً، كما لبثَ أهلُ الكهفِ في كهفهم، يملأُ الأرضَ عدلاً وقسطاً كما مُلئتْ ظلماً وجوراً، فيفتحُ اللهُ له شرقَ الأرضِ وغربها... ويدعو الشمسَ والقمرَ فيُجيبانه، وتُطوى له الأرضُ، ويوحى إليه فيعملُ بالوحي بأمرِ الله (عزَّ وجلَّ)»(35).
الطريقة الثانية: صدور علامات إعجازية خاصة به (عجَّل الله فرجه):
جاءَ في بعضِ المروياتِ أنَّ للإمامِ (عجَّل الله فرجه) علَماً وسيفاً سينطقانِ ساعةَ الظهور ويُخبرانِ الإمامَ (عليه السلام) بذلك، مما يولّد القطع واليقين له (عجَّل الله فرجه) بحلول وقت الظهور، ففي رواية الإمام الحسين (عليه السلام) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن أٌبَيَّ قال لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): وَمَا دَلَائِلُهُ وَعَلَامَاتُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لَهُ: «عَلَمٌ إِذَا حَانَ وَقْتُ خُرُوجِهِ انْتَشَرَ ذَلِكَ الْعَلَمُ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَنْطَقَهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَنَادَاهُ الْعَلَمُ: اخْرُجْ يَا وَلِيَّ اللهِ فَاقْتُلْ أَعْدَاءَ اللهِ، وَلَهُ رَايَتَانِ(36) وَعَلَامَتَانِ.
وَلَهُ سَيْفٌ مُغَمَّدٌ، فَإِذَا حَانَ وَقْتُ خُرُوجِهِ اقْتُلعَ ذَلِكَ السَّيْفُ مِنْ غِمْدِهِ، وَأَنْطَقَهُ اللهُ (عزَّ وجلَّ)، فَنَادَاهُ السَّيْفُ: اخْرُجْ يَا وَلِيَّ اللهِ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَقْعُدَ عَنْ أَعْدَاءِ اللهِ، فَيَخْرُجُ وَيَقْتُلُ أَعْدَاءَ اللهِ حَيْثُ ثَقِفَهُمْ، وَيُقِيمُ حُدُودَ اللهِ، وَيَحْكُمُ بِحُكْمِ الله (عزَّ وجلَّ)»(37).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(33) الكافي للكليني: ج1، ص343، بَابٌ فِي الْغَيْبَة، ح30.
(34) البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني: ج5، ص525، ح11198 / [3].
(35) بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج52، ص390.
(36) في بعض النُّسَخ: (هما رايتان)، وفي العيون: (وهما رايتان).
(37) كمال الدين وتمام النعمة: ص155-156، بَاب 7 ح17.
↑صفحة 197↑
وفي هذا المجال يُمكن حمل هذه الرواية على الحقيقة، ويكون نطق الراية والسيف إعجازياً، ولا مانع منه، بل هو ظاهر الرواية، ومعه، فلا داعي لحملها على الرمزية، كأنْ يُقال: إنَّ المقصود هو فتح باب علم كان مغلقاً على الإمام، أو ما يشابه هذا الحمل.
ويمكن القول: إنَّ ما ذُكر في هذه الطرق إنَّما هو تطبيق لما ورد أنَّ علمهم (عليهم السلام) هو علم لدنّي، بمعنى أنَّه يؤخذ من الله تعالى بطرق غيبية غير معروفة لدينا، ربما لعدم تمكننا من فهم حقيقتها، ولذا لم تكشف الروايات كيفية ذلك، وإنَّما أشارت له بإشارات من قبيل النقر والإلقاء وما شابه، فقد روي عن الحارث النصري، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الذي يُسأل عنه الإمام، وليس عنده فيه شيء، من أين يعلمه؟ قال (عليه السلام): «يُنكت في القلب نكتاً، أو يُنقر في الأذن نقراً».
وقيل لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا سُئلت كيف تجيب؟ قال: «إلهام وسماع، وربما كانا جميعاً»(38).
وقفة مع كلام للشيخ الطوسي (قدّس سرّه):
للشيخ الطوسي كلام في بيان كيفية علم الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره إذا حان، ننقله ونقف عند فقراته لبيانها، قال الشيخ (قدّس سرّه)(39):
فإنْ قيل: بأيِّ شيء يعلم زوال الخوف وقت ظهوره، أبوحي من الله؟ فالإمام لا يُوحى إليه، أو بعلم ضروري؟ فذلك ينافي التكليف، أو بأمارة توجب عليه الظنَّ؟ ففي ذلك تغرير بالنفس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(38) الأمالي للشيخ الطوسي: ص408، ح 916 / 64.
(39) الغيبة للطوسي: ص331.
↑صفحة 198↑
قلنا: عن ذلك جوابان:
أحدهما: أنَّ الله تعالى أعلمه على لسان نبيِّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأوقفه عليه من جهة آبائه (عليهم السلام) زمان غيبته المخوفة، وزمان زوال الخوف عنه، فهو يتَّبع في ذلك ما شُرِّع له وأُوقف عليه، وإنَّما أُخفي ذلك عنَّا لما فيه من المصلحة، فأمَّا هو فهو عالم به لا يرجع [فيه] إلى الظنِّ.
والثاني: أنَّه لا يمتنع أنْ يغلب على ظنِّه بقوَّة الأمارات بحسب العادة قوَّة سلطانه، فيظهر عند ذلك، ويكون قد أُعلم أنَّه متى غلب في ظنِّه كذلك وجب عليه، ويكون الظنُّ شرطاً والعمل عنده معلوماً، كما نقوله في تنفيذ الحكم عند شهادة الشهود، والعمل على جهات القبلة بحسب الأمارات والظنون، وإنْ كان وجوب التنفيذ للحكم والتوجُّه إلى القبلة معلومين، وهذا واضح بحمد الله. انتهى.
الشيخ في كلامه هذا في مقام بيان الطريقة التي يعلم من خلالها الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور بالضبط، وقد طرح عدَّة احتمالات، وهي خمسة:
الطريق الأول: أن يوحى إلى الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور، وقد أردفه (قدّس سرّه) بشبهة لبعضهم بأنَّ الإمام لا يوحى إليه، وقد تقدَّم بيان الحال في هذا الأمر، وأنَّه من الممكن أن تكون الطريقة هي الإيحاء، ولا يلزم منه أكثر من أن يكون الإمام (عجَّل الله فرجه) محدَّثاً، وقد ثبت إمكانه من دون أي إشكال عقلي أو نقلي، بل وقوعه في الأئمة (عليهم السلام) وبعض الأولياء - كسلمان المحمدي -، بالإضافة إلى تصريح بعض النصوص بأنَّه (عجَّل الله فرجه) يوحى إليه، وقد تقدَّمت نصوص ذلك.
الطريق الثاني: قال (قدّس سرّه): أو بعلم ضروري؟ فذلك ينافي التكليف.
ولعل المقصود هو ما يذهب له بعضٌ من منافاة العلم الإلهي للتكليف والإرادة، وإلّا، إذا كان معناه حصول العلم بالظهور قهراً للإمام (عجَّل الله فرجه)، فهذا
↑صفحة 199↑
لا ضير فيه في حد نفسه، فلماذا يكون العلم الضروري الحاصل للإمام (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور منافياً للتكليف؟
الطريق الثالث: أمارة أو علامة توجب الظن.
من المعلوم أنَّ مراتب الاطلاع على الواقع مشككة متفاوتة، وأعلاها القطع واليقين، يليها الاطمئنان، فالظن، فالشك... ومن المعلوم أنَّ الظن لا يكون طريقاً للواقع في حدِّ ذاته، اللهم إلَّا إذا دلَّ دليل قطعي على اعتباره كذلك، أو إذا جرت سيرة العقلاء على اعتباره طريقاً للواقع مع غضّهم الطرف عن احتمال عدم مطابقته له، كما في خبر الثقة فيما يتعلق بالأحكام والموضوعات الشرعية.
نعم، إذا كان المحتمل فيه خطراً، فإنَّ الظن بالشيء، مع كون المحتمل في تركه مثلاً خطراً، يوجب على الظانّ عقلاً ترتيب الأثر، أمّا فيما عدا هذه الجهات فلا يكون الظن حجة.
وفي المقام، لو احتُمل أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) يعلم بوقت الظهور من خلال أمارات وعلامات ظنية، أي لا توجب القطع ولا الاطمئنان لديه، فإنَّ ترتيبه الأثر على ذلك قد يؤدي إلى عدم إصابته الواقع، وأنَّ هذه العلامة الظنية ليست طريقاً للعلم بحلول وقت الظهور، ومن ثم إذا أعلن عن ظهوره في هذه الحال، فإنَّه قد يعرِّض نفسه أو مشروعه للخطر، وقد يصل الأمر إلى التصفية التامة، وهذا يعني أنه لو انحصر طريق علمه بالوقت بهذا الطريق الظني، ولم يُتح الله تعالى له أي طريق آخر، وأدى ذلك إلى قتله (عجَّل الله فرجه)، فإن هذا تغرير من الله تعالى له، وحاشاه جل وعلا أن يغر عبداً من عبيده.
هذا فضلاً عن أنَّه يؤدي إلى خلف الوعد الإلهي باستخلاف الصالحين الأرض، وهو محال كما هو واضح.
↑صفحة 200↑
هذا إذا غضضنا الطرف أنَّ مثل هذا الطريق لا يتلاءم مع عظمة الإمام وعلمه اللدنّي وعصمته.
اللهم إلَّا أن يُقال: إنَّه يُحتمل أن يراد من هذا الطريق أحد أمرين:
الأول: أن يُراد من الظن هو العلم، ولو بمعنى ما قد يُقال من أنَّ ظن العالم ليس كظن غيره، فإنَّ المعلومة إذا وصلت إلى حد الظن لدى العالم، فلربما هي بالقياس إلى غيره يقين، فكيف إذا كان الظن لدى المعصوم.
الثاني: إنَّ ما ذُكر في هذا الطريق إنَّما هو من باب المحاجّة وإلزام الآخر، خصوصاً من لا يعتقد بالعلم اللدني للمعصوم، فيُقال لمثله تنزلاً بإمكان وجود طريق من هذا النوع يصل به المعصوم إلى معرفة وقت الظهور.
الطريق الرابع: وهو ما ذكره (قدّس سرّه) كاحتمال للجواب عن السؤال، وحاصله:
أن يكون علمه بالوقت من خلال العلوم التي ورثها عن آبائه (عليهم السلام)، التي ورثوها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، مما يعني أنَّه (عجَّل الله فرجه) يعلم بالوقت من بداية أمره، غايته أنَّه ينتظر حلوله ليقوم بالأمر، وحينها يكون قد اعتمد على طريق علمي قطعي، فلا يواجه أي إشكال.
نعم، هذا الأمر إنَّما أُخفي علينا نحن لحكمة ما - ستأتي الإِشارة إليها في نهاية البحث -، أمّا هو (عجَّل الله فرجه) فلا موجب لإخفائه عنه.
وهذا الاحتمال صحيح في حد نفسه، سوى إنَّه بحاجة إلى دليل إثباتي من النصوص، وقد تقدَّم ما يُمكن أن يكون دالاً عليه، والنقاش فيه.
الطريق الخامس: الظن الغالب:
يبدو أنَّه يقصد من الظن الغالب هو ترجيح احتمال حلول الوقت بنحو الاطمئنان، وإن لم يصل إلى مرتبة القطع، وبيان هذا مبتن على مقدّمات:
↑صفحة 201↑
المقدمة الأولى: أن يكون قد وصل إلى الإمام (عجَّل الله فرجه) علمٌ بأنَّ الطريق لمعرفة الوقت هو الظن الغالب، أو قل: الاطمئنان، بأن يكون قد وصل إليه خبر من آبائه (عليهم السلام) بأنَّه إذا اطمئن بحلول الوقت فليظهر.
وإلى هذه المقدمة أشار (قدّس سرّه) بقوله: (ويكون قد أُعلم أنَّه متى غلب في ظنِّه كذلك وجب عليه).
المقدمة الثانية: أن يكون الظن المذكور هو شرط صحة عمله وظهوره، ولا يُشترط العلم بذلك، نعم، واقع العمل ومضمونه معلومٌ لديه، أمّا الطريق إلى العمل فيكفي فيه الظن المذكور، ويكون حاله حال بعض الأحكام الشرعية التي يكون العمل فيها معلوماً، إلَّا أنَّ الطريق إليها ظنيٌ بظنٍّ معتبر، كما في تنفيذ حكم القصاص مثلاً عند شهادة عدلين بأنَّه قاتل، أو حكم الرجم عند شهادة أربعة عدول بالزنا، وما شابه، وكما في تحديد جهة القبلة اعتماداً على بعض الأمارات والظنون، كشهادة العدل، أو النظر إلى محاريب المساجد، وما شابه، فإنَّ وجوب تنفيذ حكم القصاص أو الرجم أو الصلاة باتِّجاه القبلة أحكام معلومة بالقطع، إلَّا أنَّ الشرع اكتفى في الوصول إليها بالظن المعتبر، أي ببعض الطرق غير القطعية.
وإليه الإشارة بقوله (قدّس سرّه): (ويكون الظنُّ شرطاً والعمل عنده معلوماً، كما نقوله في تنفيذ الحكم عند شهادة الشهود، والعمل على جهات القبلة بحسب الأمارات والظنون، وإنْ كان وجوب التنفيذ للحكم والتوجُّه إلى القبلة معلومين، وهذا واضح بحمد الله).
المقدمة الثالثة: إنَّه لا مانع من أن يكون هذا الطريق هو الذي يعلم من خلاله الإمام (عجَّل الله فرجه) بوقت الظهور، خصوصاً مع ثبوت نظيره في الأحكام - كما تقدَّم في المقدمة الثانية - ومع عدم المانع يُمكن أن يكون هو الطريق للعلم بوقت الظهور.
↑صفحة 202↑
وإلى هذا أشار بقوله (قدّس سرّه): (أنَّه لا يمتنع أنْ يغلب على ظنِّه بقوَّة الأمارات بحسب العادة قوَّة سلطانه، فيظهر عند ذلك).
ينتج: أنَّ الطريق لعلم الإمام (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره هو الظن الغالب الذي يصل إلى حدِّ الاطمئنان مثلاً، وهو ما يحصل لديه من خلال متابعة الأمارات والعلامات والحالة المجتمعية للدول آنذاك، فيعرف أنَّ سلطانه قوي، وسلطان أعدائه ضعف، فيظهر آنذاك.
ولكن يُمكن النقاش في هذا الطريق من عدَّة جهات:
الجهة الأولى: إنَّ قياس علم الإمام بوقت الظهور على تحصيل العلم بالأحكام الشرعية أو موضوعاتها من خلال الطرق الظنية هو قياس مع الفارق، من جهة أنَّ الطرق الظنية لتحصيل الحكم الشرعي منصوبة للفقهاء، وأمّا المعصوم فإنَّه يعلم الواقع كما هو، فقياس علم الإمام بعلم الفقهاء مع الفارق.
إن قلت: إنَّه ورد في النصوص أنَّ المعصوم وإن كان يعلم بالواقع، إلَّا أنَّه عملياً يعتمد الظنون المعتبرة، كشهادة الثقة وما شابه، ولذا ورد عن رَسُولِ اللهِ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ والأَيْمَانِ، وبَعْضُكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ قَطَعْتُ لَه مِنْ مَالِ أَخِيه شَيْئاً فَإِنَّمَا قَطَعْتُ لَه بِه قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»(40).
قلت: هذا صحيح في الأحكام الشرعية، لا في الوقائع التكوينية، اللهم إلَّا أن يقال: إنَّ الظهور هو حكم شرعي على الإمام، ولكن الكلام ليس في أصل وجوب الظهور عليه (عجَّل الله فرجه)، وإنَّما في طريقة علمه بذلك الوجوب.
الجهة الثانية: ولو سلَّمنا جريان عمل المعصوم على اعتماد الحجج الظاهرية، إلَّا أنَّ ذلك لا يجري في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لما ورد من أنَّه (عجَّل الله فرجه) يحكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(40) الكافي للكليني: ج7، ص414، بَابُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ والأَيْمَانِ، ح1.
↑صفحة 203↑
بعلمه، أو بحكم آل داود، لا يسأل الناس البينة، كما في رواية أبي عبد الله (عليه السلام): «إذا قام قائم آل محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حكم بحكم آل داود وكان سليمان لا يسأل الناس بينة»(41).
وهذا يعني عدم صحة قياس جريان عادة الأئمة (عليهم السلام) في الحكم بما يحكم به الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لا لنقص في المعصومين (عليهم السلام)، كلا، وإنَّما لاقتضاء الحكمة الاعتماد على الحجج الظاهرية فيهم (عليهم السلام)، دونه (عجَّل الله فرجه).
الجهة الثالثة: إنَّ الاعتماد على الظن الغالب أو الاطمئنان وإن كان عقلائياً في بعض الأحيان، إلَّا أنَّ احتمال الخطأ وارد فيه، فما دام هو غير علم، ولا قطع، فيبقى هناك احتمالٌ لخطئه، فيرد عليه ما ورد على الطريق الثالث المتقدم من لزوم التغرير بالإمام (عجَّل الله فرجه)، إذ إنَّه يُحتمل على كل حال خطأ ذلك الظن الغالب، ومن ثم يُحتمل أن يكون خروجه (عجَّل الله فرجه) بغير وقت، وقبل زوال الخوف، فيؤدي ذلك إلى تصفيته وفشله في خروجه، وهو كما ترى.
الجهة الرابعة: إنَّ جعل طريق علم الإمام (عجَّل الله فرجه) بوقت ظهوره بحجة ظاهرية أو ظن غالب، لا يتلاءم مع اعتقادنا بعظمة الإمام (عجَّل الله فرجه) وسعة علمه وكونه علماً لدنياً مختلفاً عن العلوم لدى عامة البشر، خصوصاً مع وجود طرق ممكنة تتناسب مع مقامه (عجَّل الله فرجه) العلمي والكمالي، كطريق التحديث، وطريق المعجزة بنطق السيف أو الراية كما تقدَّم.
استطراد:
لو تمَّت الأدلة على علمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت، فقد يُتساءل: لماذا أُخفي الوقت عنا؟ أوَ لم يكن الأفضل أن نطَّلع على الوقت حتَّى نكون مستعدين تمام الاستعداد له؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(41) بصائر الدرجات للصفار: ص279، ب15، ح5.
↑صفحة 204↑
والجواب من عدَّة جهات:
منها: إنَّ إخفاء الوقت يحقق معنى الانتظار بمعنى ترقُّب ظهور المهدي (عجَّل الله فرجه) في كل زمان.
ومنها: إنَّ كل وقت فُرِض فهو في معرض البداء وبأن المستعجل بظهوره - بمعنى التطبيق الخاطئ على مصاديق غير صحيحة، كما في الواقفية والإسماعيلية أشباههم- هالك لعدم قبوله بالقضاء الإلهي والتقدير الأزلي، وبأنَّ المسلّم لظهوره والقائل به في وقت ما ناجٍ لاعتقاده بالحق من وجهين: أحدهما ظهوره، وثانيهما عدم الاستعجال المستلزم لتفويض الأمر إليه تعالى والرضا بقضائه وتقديره، وقد ورد عن الفضل بن يسار، عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: قلت: لهذا الأمر وقت؟ فقال: «كذب الوقاتون، كذب الوقاتون، كذب الوقاتون، إن موسى (عليه السلام) لما خرج وافداً إلى ربِّه، واعدهم ثلاثين يوماً، فلما زاده الله على الثلاثين عشراً، قال قومه: قد أخلفنا موسى فصنعوا ما صنعوا، فإذا حدثناكم الحديث فجاء على ما حدثناكم [به] فقولوا: صدق الله، وإذا حدثناكم الحديث فجاء على خلاف ما حدثناكم به فقولوا: صدق الله، تؤجروا مرتين».
فقوله: «إنَّ موسى (عليه السلام) لما خرج» ظاهر في التعليل ويشعر بأنَّه ينبغي عدم تعيين الوقت لظهور هذا الأمر إذ كل وقت فرض فهو وقت بَدْوي يمكن أن يجري فيه البداء والإرادة والتخلُّف، فلو عيَّن الوقت له وجرى فيه البداء وتخلّف الظهور، لافتتن الخلائق ورجعوا عن الحق، كما وقع مثل ذلك في قوم موسى (عليه السلام)، ولكن الأنبياء والأوصياء قد يخبرون عن أمثال ذلك وكان إخبارهم في علم الله معلّقاً على شروط معتبرة في تحقّقها بحسب نفس الأمر وبذلك يخرج عن حدّ الكذب ويدخل في حيز الصدق(42).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(42) شرح أصول الكافي لمولى محمد صالح المازندراني: ج6، ص334.
↑صفحة 205↑
ومنها: لو فرض أنَّ أهل البيت (عليهم السلام) وقَّتوا ولم يجرِ البداء في هذا الوقت، فمع ذلك فإنَّ فيه جوانب سلبية عديدة أهمها: زرع حالة اليأس وعدم الانتظار وترقُّب الظهور وخمود ضياء الأمل في نفوس الأجيال التي تكون قبل الظهور مما يسبب اليأس من رحمة الله وهو من كبائر الذنوب، فإنَّ الذي يولد اليأس والإحباط هو التوقيت، وهذا أمر وجداني، فلو علمت يقيناً بأنَّ الظهور سوف يكون في سنة (3000) ميلادية، فإنَّ اليأس سيدُب أكيداً في ذهني ويمنعني من العمل على تهيئة الظروف المناسبة للظهور، فإنِّي أكيداً لن أدركه.
على أنَّ إخفاء التوقيت أمر مقصود من السماء، لأنَّ فيه منفعة لا توصف، فإنَّه لو عَلِم الشخص بأنَّ وقت الظهور مثلاً هو في عام (2050م) فإنَّ إمكانية انحراف الشخص عن سبيل الشريعة وارد جداً، وإذا دعوته إلى التوبة لأخبرك بأنَّه سيتوب قبيل الظهور! وهذا المعنى يكون أوضح إذا نظرنا إلى قضية الموت.
فتلخَّص من كل ما تقدَّم:
1 - إنَّ الروايات التي يُمكن أن تكشف الحال في كيفية علمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت متعدِّدة، ومختلفة في مؤداها، فإمّا أن يتم ترجيح أحد الطائفتين، وإمّا أن يُترك علم ذلك التفصيلي إلى حين الظهور.
2 - لو سُلِّمت الروايات النافية لعلمه (عجَّل الله فرجه) بالوقت، فإنَّ هذا المقدار لا يؤثر في جزمنا بوجود طريقة ثبوتاً يعلم (عجَّل الله فرجه) من خلالها بالوقت، غايته أنَّها لم تنكشف لنا، على أنَّ روايات التحديث ونطق السيف والراية يُمكن أن تشير إلى ذلك الطريق الثبوتي.
3 - علينا أن نراعي الصفات الكمالية العالية للمعصوم في أي كلام حوله، سواء ما سيتعلق بعلمه، أو بفعله، أو بأي شيء يرتبط به، ليس في ما يتعلق بالأحكام الشرعية فحسب، وإنَّما بما يشمل مجمل حياته الخاصة والعامة.
↑صفحة 206↑
4 - البحث لم ينته بهذا المقدار، فما زال هناك مجال لترجيح بعض الروايات على غيرها، خصوصاً إذا أُدخل في الحساب علم الرجال ومعرفة أسانيد الروايات، فقد تسلم بعضها من النقد، وقد تتعارض، وقد تتساقط أو يتم ترجيح بعضها، فما كان في هذا البحث يشبه الفهرسة العامة للبحث في هذه المفردة المهدوية.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
↑صفحة 207↑