نصرة الدولة المهدوية بين البشرية والإعجاز
نصرة الدولة المهدوية
بين
البشرية والإعجاز
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
تمهيد:............................................................. 209
تحرير محل النزاع:............................................................. 209
يقع البحث في عدَّة محاور:..................................................... 211
المحور الأول: المنهج في التعامل مع الروايات في المسألة:........................ 211
المحور الثاني: صور المسألة وأقوالها:........................................... 213
الأولى: دولة الإعجاز الصِرْف:............................................... 213
الثانية: دولة البشرية الصرفة:.................................................. 214
إن الإمام (عجَّل الله فرجه) مثله مثل الساعة:..................................... 214
إن ظهوره (عجَّل الله فرجه) بغتة فجأة:.......................................... 215
انتظار خروجه (عجَّل الله فرجه) صباحاً ومساءً:.................................. 216
الثالثة: دولة المزج بين الغيب والبشرية:........................................ 216
المحور الثالث: أهمية الإمامة في العقيدة ووجوب البحث عن الإمام (عليه السلام):.................220
الدليل الأول: دفع الضرر:.................................................... 221
توسعة في الدليل:............................................................ 221
الدليل الثاني: وجود المتشابه القرآني يدعو للإمام:............................... 221
وكيف تكون طاعته في زمان غيبته؟............................................ 226
المحور الرابع: لزوم النفر إلى الإمام (عليه السلام):............................. 227
المحور الخامس: أشخاص ينتظرون النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويبحثون عنه:................ 230
* سلمان الفارسي - المحمدي - (رضي الله عنه):............................... 230
* يهودي من بني عبد الأشهل:................................................ 230
* قس بن ساعدة:............................................................ 231
* ورقة بن نوفل وجماعة:..................................................... 231
* أمية بن أبي الصلت:........................................................ 232
المحور السادس: التمكين للإمام (عليه السلام) في كلمات الأعلام:.............. 233
المحور السابع: أقسام النصرة ومراتبها:........................................ 237
المحور الثامن: الانتظار ومراتب النصرة والإعداد:............................. 241
مراتب من النصرة الانتظارية:................................................. 242
* المجاهدون بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):................... 242
* النية تقوم مقام الإصلات بالسيف، وهي من درجات النصرة الانتظارية:...... 243
* مضاعفة الأعمال مرتبة من النصرة:.......................................... 244
* نفس الانتظار فرج:........................................................ 244
* القول بالنصرة نصرة:....................................................... 245
* نفس الانتظار بمنزلة الضرب بالسيف:...................................... 245
* الدعاء من مراتب النصرة:.................................................. 246
* العمل بالورع ومحاسن الأخلاق من درجات النصرة وتصيّر صاحبها من أنصار الإمام (عليه السلام):................247
* نفس الانتظار أفضل العبادة:............................................... 247
المحور التاسع: روايات عدد الأصحاب تكشف عن نصرة مرتقبة:.............. 247
المحور العاشر: إشكالات ثلاث في المقام:...................................... 249
الأول: تقييد الطاعة والنصرة بزمان الظهور فقط:.............................. 249
الثاني: الأمر في زمان الغيبة بأن نكون أحلاس البيوت:.......................... 250
الثالث: حالات وجود الإمام من جهة من يوجده ويبسط يده، ولزوم نصرته:..... 251
قاعدة في الوظيفة تجاه الإمام (عليه السلام) مستفادة من كلام شيخ الطائفة (قدّس سرّه):................253
تكليفنا بنصرة الإمام (عليه السلام) على نحو الدوام:.................253
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمهيد:
تبرز أهمية المعرفة بالمفاهيم المرتبطة بالعقيدة الدينية بعنوانها العام فضلاً عن الخاص لما لها من مدخلية في اختلاف الحكم اللاحق لها باختلافها، وهذا مما لا يعتريه الريب.
ويستفاد من المفاهيم لأجل التعبير عما تحكيه من المعاني التي تكون أرضية خصبة لثبوت الأحكام اللاحقة لها فيما لو تم ضبطها، وقد بحث في علم الأصول حقيقة المعاني وكيفية ارتباطها بعالم الألفاظ ووجدت العديد من النظريات في هذا الصدد.
تحرير محل النزاع:
ولأجل تحرير محل النزاع - في البحث - لابد أن نلفت النظر إلى أهمية ضبط المفاهيم التي إن اختلَّ البحث فيها - لأسباب ترتبط بذات المفهوم تارة وبالأدلة عليه أو بما يلحقه من أحكام أخرى - فسيختلّ البحث برمَّته وسنتَّجه في بعض الأحيان عكس الاتجاه المطلوب، ولنأخذ بعض الأمثلة على ذلك:
مفهوم الفاسق مثلاً، له بحث كلامي وآخر قرآني وثالث فقهي ورابع أصولي وخامس رجالي وهكذا، وتحرير محل النزاع يقتضي ملاحظة اختلاف
↑صفحة 209↑
جهات البحث ومتعلقها كي يحرر بما يناسب البحث، وبعد تحريره وتحديد جهة البحث - كما لو كانت كلامية مثلاً - لابد أن نلاحظ - بعد تحديده عرفياً أو اصطلاحياً - أنظار العلماء من جهة اختلاف مبانيهم في تفسيره، وهذه الجهة - جهة اختلاف المباني - تؤثر كثيراً، ولابد أن تحرر بشكل جلي وواضح، والاختلاف فيها يؤثر كثيراً كما هو غير خفي، وكذا مفهوم الكفر فهو وإن اتَّفق على معناه اللغوي والعرفي إلّا أنَّ وقوع خلاف في معناه الاصطلاحي، أوجب حالة من الاختلال في إثبات بعض الأحكام المترتبة عليه.
وفي محل كلامنا قد نتَّفق على معنى النصرة - وما يرادفها من المعاني - عرفياً أو اصطلاحياً، ولكن قد نختلف من جهة متعلقها، فالنصرة للإمام الظاهر مما لا شك في ثبوتها بجميع مراتبها، إلّا أنَّه قد يتوقف البعض في إثبات بعض المراتب تجاه الإمام الغائب (عجَّل الله فرجه).
عندما نراجع حياة الأنبياء (عليهم السلام) وبالخصوص حياة النبي موسى (عليه السلام) والتي تحدَّث القرآن الكريم عن الكثير من تفاصيلها، نجد من بين تلكم التفاصيل المهمة، شدة غضبه وتأسفه على ما حصل من قومه وخذلانهم له - ولمن نصبه - في غيبته القصيرة عن قومه، حيث كانت عاقبة هذا الخذلان أن أصبح القوم حديث الخذلان على مر الزمان، مع أنَّ تلك الغيبة كانت معلومة الابتداء والانتهاء لولا البداء لأجل حكمة الابتلاء.
في محل البحث نلحظ أن النصرة وما يرادفها(1)، ثابتة للإمام (عجَّل الله فرجه) بشخصه وبنفس درجة ثبوتها للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(2)، أو من ينص عليه الإمام (عليه السلام)، ولا مجال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من الإعداد والاستعداد أو التمهيد، قال في لسان العرب: ج5، ص210: النصر: إعانة المظلوم، نصره على عدوه ينصره؛ قال شيخ الطائفة (قدّس سرّه) في التبيان: ج2، ص199: والنصرة ضد الخذلان.
(2) جاء في الكافي: ج1، ص323، بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قال [الله تعالى]: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الطور: 21]، قال: «﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذريته الأئمة والأوصياء (صلوات الله عليهم)، ألحقنا بهم ولم ننقص ذريتهم الحجة ݛ ݚ التي جاء بها محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في علي (عليه السلام) وحجتهم واحدة وطاعتهم واحدة». وفيه أيضاً، ص٢٣٥: (عن معمر بن خلاد، قال: سأل رجل فارسي أبا الحسن (عليه السلام) فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال: «نعم»، قال: مثل طاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ فقال: «نعم».
↑صفحة 210↑
لفتح الباب لاستغلالها من قبيل البعض بأي نحو من الأنحاء، فما ارتفع من مراتب النصرة له (عليه السلام) يوجب أن ننتقل إلى غيرها من المراتب التي بعدها لا أن ننتقل بها - أي بهذه المرتبة من النصرة - إلى غيره، فكن على وعي وحيطة.
هذا وسوف يأتي في المحور الخامس أنَّ جماعة قاموا بالبحث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل بعثته، وعليه فإنَّ من توقف في النصرة في التمهيد لم يتوقف في نصرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا في نصرة الإمام (عجَّل الله فرجه) عند ظهوره، وإنَّما الكلام في نصرته قبل ظهوره.
في محل بحثنا نريد التعرُّض إلى نصرة دولة الإمام (عجَّل الله فرجه) في غيبته وقبل ظهوره، وهل تجب بجميع مراتبها، وما هي المراتب التي ترتفع بغيبته، نسأله تعالى أن نوفَّق إلى بيان الحال في هذا المقال.
يقع البحث في عدَّة محاور:
المحور الأول: المنهج في التعامل مع الروايات في المسألة:
لا ينبغي للباحث في أي مسألة من المسائل التي تعتمد على الأخبار وبالخصوص خبر الواحد أن لا يكون له منهج رجالي يعتمد عليه في بناء أفكاره التي يستقيها من تلكم الروايات، فقلما نجد رواية - إن تم اعتبارها وصح الاعتماد عليها - إلَّا ولها ما يعارضها - ولو على مستوى ما يُستظهر منها أو ما يتصور أنَّه معارض لها - ولأجل إيجاد معالجة تؤدي إلى تحقيق أقرب النتائج إلى الواقع المرجو، لابد من المنهج الرجالي.
وقد يختلف المنهج الرجالي في المسائل الفقهية عنه في تفصيلات المسائل الكلامية وعنهما في المسائل التي تتحدَّث عن نصوص آخر الزمان وهكذا.
↑صفحة 211↑
والمنهج الذي نعتمد عليه في هذا البحث يتقارب مع منهج شيخ الطائفة (قدّس سرّه) بنحو كبير، فنحن نعتمد على كل خبر قامت عليه قرينة تفيد اعتباره وإن كان الخبر مرسلاً، أو لم يوثق رجال سنده، والذي يدل على ذلك هو إجماع الفرقة المحقة، حسب تعبير شيخ الطائفة، حيث قال (قدّس سرّه)(3): (فإنّي وجدتها مجمعة على العمل بهذه الأخبار التي رووها في تصانيفهم ودونوها في أصولهم... وهذه عادتهم وسجيتهم من عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن بعده الأئمة (عليهم السلام)... فلولا أنَّ العمل بهذه الأخبار جائزاً لما أجمعوا على ذلك ولأنكروه...).
ثم ذكر (قدّس سرّه) القرائن الدالة على حجية خبر الواحد، وهي:
1 - أن يكون الخبر الواحد موافقاً لأدلة العقل، بشروط ذكرها مفصلاً.
2 - أن يكون الخبر مطابقاً لنص الكتاب، بشروط ذكرها مفصلاً.
3 - أن يكون الخبر موافقاً للسنة المقطوع بها، على تفصيل وشروط ذكرها.
4 - أن يكون الخبر موافقاً لما اجتمعت الفرقة المحقة عليه.
ثم قال (قدّس سرّه)(4): (فهذه القرائن كلها تدل على صحة متضمن أخبار الآحاد...).
وقال (قدّس سرّه): (وإذا كان أحد الراويين معروفاً والآخر مجهولاً، قدم خبر المعروف على خبر المجهول، لأنَّه لا يؤمن أن يكون المجهول على صفة لا يجوز معها قبول خبره، وإذا كان أحد الراويين مصرحاً والآخر مدلساً، فليس ذلك مما يرجح به خبره، لأن التدليس هو: أن يذكره باسم أو صفة غريبة أو ينسبه إلى قبيلة أو صناعة وهو بغير ذلك معروف، فكل ذلك لا يوجب ترك خبره).
وقال (قدّس سرّه)(5): (وإذا كان أحد الراويين مسنداً والآخر مرسلاً، نظر في حال المرسل، فإن كان ممن يعلم أنَّه لا يرسل إلّا عن ثقة موثوق به فلا ترجح لخبر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) العدَّة في أصول الفقه (عدَّة الأصول) (ط. ق) - الشيخ الطوسي: ج١، ص٣٣٧.
(4) العدَّة في أصول الفقه (عدَّة الأصول) (ط. ق) - الشيخ الطوسي: ج1، ص245.
(5) العدَّة في أصول الفقه (عدَّة الأصول) (ط. ق) - الشيخ الطوسي: ج1، ص387.
↑صفحة 212↑
غيره على خبره،... فأمّا إذا لم يكن كذلك، ويكون ممن يرسل عن ثقة وعن غير ثقة، فإنَّه يقدم خبر غيره عليه، وإذا انفرد وجب التوقف في خبره إلى أن يدل دليل على وجوب العمل به، فأمّا إذا انفردت المراسيل فيجوز العمل بها على الشرط الذي ذكرناه، ودليلنا على ذلك: الأدلة التي قدمناها على جواز العمل بأخبار الآحاد، فإنَّ الطائفة كما عملت بالمسانيد عملت بالمراسيل، فما يطعن في واحد منهما يطعن في الآخر، وما أجاز أحدهما أجاز الآخر، فلا فرق بينهما على حال).
وقال (قدّس سرّه) في الاستبصار(6): (... فإذا كان الخبر لا يعارضه خبر آخر فإنَّ ذلك يجب العمل به لأنَّه من الباب الذي عليه الإجماع في النقل... وإن كان هناك ما يعارضه فينبغي أن ينظر في المتعارضين...).
وذكر عدَّة تفصيلات دقيقة ومحكمة، ثم قال (قدّس سرّه): (وأنت إذا فكرت في هذه الجملة وجدت الأخبار كلها لا تخلو من قسم من هذه الأقسام).
وقال (قدّس سرّه)(7): (وإن لم يكن هناك خبر آخر مخالفه وجب العمل به لأنَّ ذلك إجماع منهم على نقله وإذا أجمعوا على نقله وليس هناك دليل على العمل بخلافه، فينبغي أن يكون العمل به مقطوعاً عليه).
المحور الثاني: صور المسألة وأقوالها:
قد يقال: إنَّ لمسألة نصرة الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه) والإعداد والتمهيد له (عجَّل الله فرجه)، صوراً ثلاث:
الأولى: دولة الإعجاز الصِرْف:
إذ قد يدعى أن دولته (عجَّل الله فرجه) لا تحتاج إلى أدنى مراتب النصرة أو الإعداد والتمهيد سواء ما كان منها على مستواه الفردي - وبأي مرتبة من مراتبه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(6) الاستبصار - الشيخ الطوسي: ج1، ص٤٣.
(7) العدَّة في أصول الفقه (عدَّة الأصول) (ط. ق) - الشيخ الطوسي: ج1، ص373.
↑صفحة 213↑
القلبية والروحية أو اللسانية أو غيرهما - أو الاجتماعي وبمراتبه، فدولته دولة الإعجاز الصرف وقيامها قيام إعجازي لا يتوقف على أي مقوم أو مساند أو مساعدة من الناس، وقد تكفل الغيب بنصرته، فهي دولة الإعجاز التي تُنصر بالرعب والملائكة (عليهم السلام) وغير ذلك، وقد يستفاد من بعض النصوص الآتية ذلك.
الثانية: دولة البشرية الصرفة:
ومعناها أنَّ دولته دولة تتقوَّم عند قيامها بالجهد البشري المادي فقط، دون أن يكون لها أدنى درجة من درجات الاعتماد على الغيب، ولم يظهر تبنيها من أحد بوضوح، وهي نظرية مرفوضة لوضوح اتِّصال الإمام (عجَّل الله فرجه) بالغيب، بل ورد أنَّ مثله مثل الساعة التي هي الغيب، قال تعالى: ﴿وَللهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَـرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (النحل: 77)، وجاء التعبير عنه (عجَّل الله فرجه) بالساعة وعن ظهوره بغتة وفجأة وعن انتظار خروجه كل صباح ومساء، في العديد من الروايات، منها:
إن الإمام (عجَّل الله فرجه) مثله مثل الساعة:
* ومما روي في هذا المعنى، ما رواه الشيخ الصدوق (قدّس سرّه)، قال(8): حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه) قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت دعبل بن علي الخزاعي يقول: (أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) قصيدتي... «وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وأمّا متى فإخبارٌ عن الوقت، فقد حدَّثني أبي، عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قيل له: يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك؟ فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): مثله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(8) كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: ص٤٠٣.
↑صفحة 214↑
مثل الساعة التي لا يجليها لوقتها إلّا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلّا بغتة».
إن ظهوره (عجَّل الله فرجه) بغتة فجأة:
* ومما روي في هذا المعنى، ما روي في مختصر البصائر(9): عن المفضل بن عمر، قال: سألت سيدي الصادق (عليه السلام) هل للمأمول المنتظر المهدي (عليه السلام) من وقت موقت يعلمه الناس؟ فقال: «حاش لله أن يوقت ظهوره بوقت يعلمه شيعتنا»، قلت: يا سيدي ولِـمَ ذاك؟ قال: «لأنَّه هو الساعة التي قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرضِ﴾ [الأعراف: 187] وهو الساعة التي قال الله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها﴾، وقال: ﴿عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ [لقمان: 34]، ولم يقل إنَّها عند أحد، وقال: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها﴾ [محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم): 18] الآية، وقال: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر: 1] وقال: ﴿وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ [الشورى: 17-18]»، قلت: فما معنى يمارون؟ قال: «يقولون متى ولد؟ ومن رآه؟ وأين يكون؟ ومتى يظهر؟ وكل ذلك استعجالاً لأمر الله، وشكا في قضائه ودخولاً في قدرته، أولئك الذين خسروا الدنيا وأن للكافرين لشر مآب»، قلت: أفلا يوقت له وقت؟ فقال: «يا مفضل، لا أوقت له وقتاً ولا يوقت له وقت، إن من وقَّت لمهدينا وقتاً فقد شارك الله تعالى في علمه...».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(9) مختصر بصائر الدرجات - حسن بن سليمان الحلي: ص١٨٣.
↑صفحة 215↑
انتظار خروجه (عجَّل الله فرجه) صباحاً ومساءً:
* ومما روي في هذا المعنى، ما رواه الشيخ النعماني (رحمه الله)(10): عن محمد بن منصور الصيقل، عن أبيه منصور، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إذا أصبحت وأمسيت يوماً لا ترى فيه إماماً من آل محمد فأحبب من كنت تحب، وأبغض من كنت تبغض، ووال من كنت توالي، وانتظر الفرج صباحاً ومساءً».
فعدم رؤية الإمام وغيبته ترتب عليه تكليفاً بإبقاء ما كان عليه المكلف من موالاة من والى ومعاداة من عادى، والتكليف الآخر هو انتظار الفرج، والانتظار ليس هو بمعنى عدم الفعل، كيف ذاك وقد عبرت عنه روايات أخرى بأنه عمل بل وأفضل الأعمال؟
الثالثة: دولة المزج بين الغيب والبشرية:
ترى هذه النظرية أنَّ دولة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) تعتمد على عنصر الغيب كما تعتمد على الناس ونصرتهم لها قبل ظهوره (عجَّل الله فرجه) وفي الأثناء وبعده، وإن اختلفت مراتب النصرة وظروف الحاجة إليها، وحسب قدرة الأفراد ومقدار نصرتهم، فمفردات النصرة والتمهيد والإعداد والانتظار مفردات مرضية ومقبولة وتعبر عن واقع يعيشه المؤمن بهذه الدولة ومن يترقب حصولها - صباحاً ومساءً - وإن لم يتحقق ذلك فأمله لا ينقطع عند الرجعة.
بعض الروايات الشريفة علقت ظهوره (عجَّل الله فرجه) على وجود حلقة يقوم بها، وهي على طوائف، منها: ما جعلت الخروج معلقاً عليها مطلقاً ولعلها الأكثر اعتباراً من جهة سندها، ومنها ما قيدت ذلك بالخروج من مكة، والأمر لا يؤثر كثيراً، لأنَّ كلامنا في توقف ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) وقيامه على العنصر البشري، وهذا التوقف الذي لا شك فيه يستتبع أن يكون كل فرد من أفراد هذه الحلقة بموصفات خاصة وأن يتلبس بها في إطار القاعدة العامة من الاختيار، وأنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(10) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص١٦١.
↑صفحة 216↑
الناس لا يجبرون على كمالاتهم وملكاتهم خصوصاً المؤثرة في عقيدتهم وتدينهم، ومن هذه الروايات:
ما رواه الشيخ النعماني (رحمه الله)(11): عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا يخرج القائم (عليه السلام) حتّى يكون تكملة الحلقة»، قلت: وكم تكملة الحلقة؟ قال: «عشرة آلاف، جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، ثم يهز الراية ويسير بها فلا يبقى أحد في المشرق ولا في المغرب إلّا لعنها، وهي راية رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نزل بها جبرئيل يوم بدر»، ثم قال: «يا أبا محمد، ما هي والله قطن ولا كتان ولا قز ولا حرير»، قلت: فمن أي شيء هي؟ قال: «من ورق الجنة، نشرها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم بدر، ثم لفها ودفعها إلى علي (عليه السلام)، فلم تزل عند علي (عليه السلام) حتّى إذا كان يوم البصرة نشرها أمير المؤمنين (عليه السلام) ففتح الله عليه، ثم لفها وهي عندنا هناك لا ينشرها أحد حتّى يقوم القائم (عليه السلام)، فإذا هو قام نشرها فلم يبق أحد في المشرق والمغرب إلّا لعنها، ويسير الرعب قدامها شهراً، ووراءها شهراً، وعن يمينها شهراً، وعن يسارها شهراً»، ثم قال: «يا أبا محمد، إنَّه يخرج موتوراً غضبان أسفاً لغضب الله على هذا الخلق، يكون عليه قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذي كان عليه يوم أُحُد، وعمامته السحاب، ودرعه درع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) السابغة، وسيفه سيف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذو الفقار، يجرد السيف على عاتقه ثمانية أشهر يقتل هرجاً، فأول ما يبدأ ببني شيبة فيقطع أيديهم ويعلقها في الكعبة، وينادي مناديه: هؤلاء سراق الله...».
وستأتي رواية الـ(313) وهم بلا شك معه عند ظهوره، فمتى وصلوا إلى مرتبة صحبته واختصاصهم به دون غيرهم؟
ألم يك أحد عوامل كونهم كذلك استعدادهم لنصرته بالمرتبة التي ينبغي الكون عليها؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(11) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص٣٢٠.
↑صفحة 217↑
ومما يؤكد وجود دور آخر غير الدور الغيبي عدَّة روايات رواها الشيخ النعماني (رحمه الله) في باب مستقل عنونه بالآتي: (باب: ما جاء في الشدة التي تكون قبل ظهور صاحب الحق) روى فيه (8) روايات - وليس من البعيد القطع بصدور المضمون عنهم (عليهم السلام) - وهي(12):
1 - عن صفوان بن يحيى، عن بشير بن أبي أراكة النبال، ولفظ الحديث على رواية ابن عقدة قال: (لما قدمت المدينة انتهيت إلى منزل أبي جعفر الباقر (عليه السلام) فإذا أنا ببغلته مسرجة بالباب، فجلست حيال الدار، فخرج فسلمت عليه، فنزل عن البغلة وأقبل نحوي، فقال لي: «ممن الرجل...»؟ فقال: «ويح هذه المرجئة إلى من يلجؤون غدا إذا قام قائمنا»؟
قلت: إنهم يقولون: لو قد كان ذلك كنا نحن وأنتم في العدل سواء، فقال: «من تاب تاب الله عليه، ومن أسرَّ نفاقاً فلا يبعد الله غيره(13)، ومن أظهر شيئاً أهرق الله دمه»، ثم قال: «يذبحهم، والذي نفسي بيده كما يذبح القصاب شاته» - وأومأ بيده إلى حلقه -.
قلت: إنَّهم يقولون: إنَّه إذا كان ذلك استقامت له الأمور، فلا يهريق محجمة دم، فقال: «كلا والذي نفسي بيده حتّى نمسح وأنتم العرق والعلق» وأومأ بيده إلى جبهته.
2 - وفيه عن بشير النبال، قال: قدمت المدينة، وذكر مثل الحديث المتقدم، إلّا أنَّه قال: لما قدمت المدينة قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إنهم يقولون: إنَّ المهدي لو قام لاستقامت له الأمور عفواً، ولا يهريق محجمة دم، فقال: «كلا والذي نفسي بيده لو استقامت لأحد عفواً لاستقامت لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين أدميت رباعيته، وشجَّ في وجهه، كلا والذي نفسي بيده حتّى نمسح نحن وأنتم العرق والعلق»، ثم مسح جبهته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(12) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص٢٩٤.
(13) في الكافي: ج1، ص81: «ومن أسرَّ نفاقاً فلا يرغم الله إلّا بأنفه».
↑صفحة 218↑
3 - وفيه عن المفضل بن عمر، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) وقد ذكر القائم (عليه السلام)، فقلت: إني لأرجو أن يكون أمره في سهولة، فقال: «لا يكون ذلك حتّى تمسحوا العلق والعرق».
4 - عن يونس بن رباط، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ أهل الحق لم يزالوا منذ كانوا في شدَّة، أما أن ذاك لمدة قريبة وعافية طويلة...»، عن يونس بن رباط، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول، وذكر مثله.
5 - وفيه عن معمر بن خلاد، قال: ذكر القائم عند أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، فقال: «أنتم اليوم أرخى بالاً منكم يومئذٍ»، قالوا: وكيف؟ قال: «لو قد خرج قائمنا (عليه السلام) لم يكن إلّا العلق والعرق والنوم على السروج، وما لباس القائم (عليه السلام) إلّا الغليظ، وما طعامه إلّا الجشب».
إن قيل: إن هذه عند ظهوره فقط.
قلت: ليس الأمر كذلك، بقرينة فهم النعماني (رحمه الله) الشمول لما قبل الظهور حتّى عنوان الباب بذلك.
6 - وفيه عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن بعض رجاله، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «سأل نوح (عليه السلام) ربه أن ينزل على قومه العذاب، فأوحى الله إليه أن يغرس نواة من النخل، فإذا بلغت فأثمرت وأكل منها، أهلك قومه وأنزل عليهم العذاب، فغرس نوح النواة وأخبر أصحابه بذلك، فلما بلغت النخلة وأثمرت واجتنى نوح منها وأكل وأطعم أصحابه، قالوا له: يا نبي الله، الوعد الذي وعدتنا، فدعا نوح ربه، وسأل الوعد الذي وعده، فأوحى إليه أن يعيد الغرس ثانية حتّى إذا بلغ النخل وأثمر وأكل منه، أنزل عليهم العذاب...»، والرواية طويلة.
7 - وفيه عن المفضل بن عمر، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالطواف، فنظر إليَّ، وقال: «يا مفضل، ما لي أراك مهموماً متغيِّر اللون»؟ قال: فقلت له:
↑صفحة 219↑
جعلت فداك، نظري إلى بني العباس وما في أيديهم من هذا الملك والسلطان والجبروت، فلو كان ذلك لكم لكنا فيه معكم، فقال: «يا مفضل، أما لو كان ذلك لم يكن إلّا سياسة الليل، وسباحة النهار، وأكل الجشب، ولبس الخشن، شبه أمير المؤمنين (عليه السلام) وإلّا فالنار، فزوى ذلك عنا فصرنا نأكل ونشرب، وهل رأيت ظلامة جعلها الله نعمة مثل هذا»؟!
8 - وفيه عمرو بن شمر، قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) في بيته والبيت غاص بأهله، فأقبل الناس يسألونه فلا يسأل عن شيء إلّا أجاب فيه، فبكيت من ناحية البيت، فقال: «ما يبكيك - يا عمرو -»؟
فقلت: جعلت فداك، وكيف لا أبكي وهل في هذه الأُمَّة مثلك، والباب مغلق عليك، والستر لمرخى عليك.
فقال: «لا تبك يا عمرو، نأكل أكثر الطيب، ونلبس اللين، ولو كان الذي تقول لم يكن إلّا أكل الجشب، ولبس الخشن، مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وإلّا فمعالجة الأغلال في النار».
المحور الثالث: أهمية الإمامة في العقيدة ووجوب البحث عن الإمام (عليه السلام):
قال تعالى: ﴿وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ﴾ (البقرة: 89).
الآية بصدد بيان أنَّ بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مسبوقة بالعلم به وأنَّ من الناس من كان يدري بها ويعرف علاماتها، ولكنه ينكرها.
وكيفما كان فقد ذكرت العديد من الأدلة الدالة على وجوب البحث عن الإمام (عليه السلام)، والمتضمنة لوجوب طاعته ونصرته على ما يأتي من تفصيل بعد الدليل، ومنها:
↑صفحة 220↑
الدليل الأول: دفع الضرر:
قال شيخ الطائفة (قدّس سرّه)(14) في تلخيص الشافي:
(أمّا بعد، فإنِّي رأيت أهمّ الأمور وأولاها، وآكد الفرائض وأحراها للمكلف - بعد النظر في طريق معرفة الله تعالى - وصفاته، وتوحيده، وعدله الاشتغال بالنظر فيما يعود الإخلال به بالضرر على ما حصل له من المعرفة، ويرجع التفريط فيه بالنقض على ما ثبت له من التوحيد والعدل، لأنَّه متى لم يفعل ذلك لم يكن مستكملاً لجميع شرائط التوحيد، بل يكون مخلاً ببعضها، ولا يؤمن - مع ذلك - من دخول الشبهة في أدلته، وهو الإمامة التي لا يتم التكليف عن دونها، ولا يحسن مع ارتفاعها).
توسعة في الدليل:
فإنَّه مما لا شك فيه أنَّ الإمام (عليه السلام) هو القائد والمبيِّن للحق والعدل، بل هو الحق والعدل.
ومما لا شك فيه أنَّه في زماننا هذا قد غاب عن الأُمَّة، ولا شك أنَّه سيظهر، وله علامات تميزه عن غيره وتعرف الناس به وبظهوره.
ولا شك في وجود الأعداء له ومن يترصد منعه من القيام بوظيفته.
فلكي يقع المؤمن في الأمان من الوقوع في صف أعدائه، ولكي يدفع هذا الضرر عن نفسه وينصر الحق بانتصاره له (عجَّل الله فرجه) - على ما يأتي من الروايات - يجب البحث والنظر والنصرة بالمقدار الذي يوجب هذا الأمان.
الدليل الثاني: وجود المتشابه القرآني يدعو للإمام:
قاله شيخ الطائفة (قدّس سرّه)(15) في تلخيص الشافي:
(ومما يدل - أيضاً - على وجوب إمام معصوم في كل زمان: أنّا علمنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(14) تلخيص الشافي - الشيخ الطوسي: ج1، ص٦١.
(15) تلخيص الشافي - الشيخ الطوسي: ج1، ص١٨٦.
↑صفحة 221↑
ضرورة - أنَّه ليس جميع أدلّة الشرع ظاهرة مطابقة لحقائق اللغة. بل نعلم أن في القرآن والسنة متشابهاً ومحتملاً، وأن العلماء من أهل اللغة قد اختلفوا في المراد به، وتوقفوا في كثير منها، ومالوا إلى طريقة الظن في مواضع، والأولى، فلابد - والحال هذه - من مبيّن للمشكل ومترجم للغامض يكون قوله حجة كقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
إن قلت: بعض الأدلة هي في سياق الاستدلال على وجود الإمام (عليه السلام) لا وجوب معرفته، وما يترتب عليها من طاعته وما يتفرع على الطاعة والولاء والبراءة، على ما يأتي من التصريح بها في الروايات.
قلت: وجوده مع عدم إيجاب معرفته والإيمان به وتوليه والأخذ عنه لغو.
على أن معنى المعرفة للإمام (عجَّل الله فرجه) متضمن لطاعته ونصرته - كما سيأتي التصريح به في بعض الروايات - إذ مما لا شك فيه أن ما دل على لزوم معرفة الإمام على جميع الناس في كل زمان ومكان لا يراد به معرفة اسمه ونسبه وأنه إمام قد فرضت طاعته من الله تعالى، فهذه المعرفة كان يعرف بها ألد أعدائهم، فهل ترى أن معاوية بن أبي سفيان لعنه الله تعالى لا يعرف أن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو إمام قد فرضت طاعته من الله تعالى؟!
إن معرفة الإمام (عليه السلام) يراد بها ما تتضمن طاعته ونصرته ولو بأقل مراتبها بعد العجز عن غيرها.
ومما ورد في روايات معرفة الإمام (عليه السلام) المستلزم لطاعته وما يتفرع عليها ما بوَّب لها الشيخ الكليني (رضي الله عنه)(16):
* قال لي أبو جعفر (عليه السلام): «إنَّما يعبد الله من يعرف الله، فأمّا من لا يعرف الله فإنَّما يعبده هكذا ضلالاً» قلت: جعلت فداك فما معرفة الله؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(16) الكافي - الشيخ الكليني: ج1، ص٢٢٨.
↑صفحة 222↑
قال: «تصديق الله (عزَّ وجلَّ) وتصديق رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وموالاة علي (عليه السلام) والائتمام به وبأئمة الهدى (عليهم السلام) والبراءة إلى الله (عزَّ وجلَّ) من عدوهم، هكذا يعرف الله (عزَّ وجلَّ)».
* وعن أحدهما (عليهما السلام) أنَّه قال: «لا يكون العبد مؤمناً حتّى يعرف الله ورسوله والأئمة كلهم وإمام زمانه، ويرد إليه ويسلِّم له، ثم قال: كيف يعرف الآخر وهو يجهل الأول».
* عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟
فقال: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) بعث محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الناس أجمعين رسولاً وحجة لله على جميع خلقه في أرضه، فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله واتَّبعه وصدَّقه، فإنَّ معرفة الإمام منا واجبة عليه، ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتَّبعه ولم يصدِّقه ويعرف حقَّهما، فكيف يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما»؟!
قال: قلت: فما تقول فيمن يؤمن بالله ورسوله ويصدق رسوله في جميع ما أنزل الله، يجب على أولئك حق معرفتكم؟
قال: «نعم، أليس هؤلاء يعرفون فلاناً وفلاناً»؟ قلت: بلى، قال: «أترى أنَّ الله هو الذي أوقع في قلوبهم معرفة هؤلاء؟ والله ما أوقع ذلك في قلوبهم إلّا الشيطان، لا والله ما ألهم المؤمنين حقنا إلّا الله (عزَّ وجلَّ)».
فكيف تتحقق المعرفة الواجبة بدون براءة؟
وكيف تتحقق البراءة من دون نصرة ولو بأدنى مراتبها؟!
وفي نفس الباب عن مقرن، قال، سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين ﴿وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ﴾ [الأعراف: 46]؟ فقال: نحن على الأعراف، نعرف أنصارنا بسيماهم، ونحن الأعراف الذي لا يعرف الله (عزَّ وجلَّ) إلّا بسبيل معرفتنا،
↑صفحة 223↑
ونحن الأعراف يعرفنا الله (عزَّ وجلَّ) يوم القيامة على الصراط، فلا يدخل الجنة إلّا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلّا من أنكرنا وأنكرناه، إنَّ الله تبارك وتعالى لو شاء لعرَّف العباد نفسه، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضَّل علينا غيرنا، فإنَّهم عن الصراط لناكبون، فلا سواء من اعتصم الناس به ولا سواء حيث ذهب الناس إلى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض، وذهب من ذهب إلينا إلى عيون صافية تجري بأمر ربها، لا نفاد لها ولا انقطاع».
فهم (عليهم السلام) يعرفون أنصارهم على حد تعبير الرواية، وكيف يكون المؤمن بهم من أنصارهم، ما لم ينصرهم ولو بأدنى درجات النصرة؟!
ثم أليس من ديننا أخذ الإحكام في أدق التفاصيل من مراجع التقليد العدول والذين عليهم المعول، فنرجع إليهم ونقتدي بهم ونأخذ منهم الأحكام ونذعن ونسلم لما يقولون، لا نناقش ولا نجادل، نجاهد إذا أمروا، وندفع المال بمجرد أن يكتبوا، ونطبق أدق تفاصيل الأحكام دون حراجة ودون رقابة منهم علينا، ليس ذاك إلّا لأنَّهم - وبحسب عقيدتنا - ينوبون عن الإمام (عليه السلام)، أليس هذه المنزلة وما هو أرفع منها له (عليه السلام)، أليس هذه الطاعة وما أوسع منها له، أليست هذه نصرة؟ وإن لم تكن فما عسى النصرة تكون؟!
وفيه أيضاً(17): عن منصور بن حازم، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنَّ الله أجل وأكرم من أن يعرف بخلقه بل الخلق يعرفون بالله، قال: «صدقت»، قلت: إنَّ من عرف أنَّ له ربًّا، فقد ينبغي له أن يعرف أنَّ لذلك الرب رضاً وسخطاً، وأنَّه لا يعرف رضاه وسخطه إلّا بوحي أو رسول، فمن لم يأته الوحي فينبغي له أن يطلب الرسل فإذا لقيهم عرف أنَّهم الحجة وأنَّ لهم الطاعة المفترضة، فقلت للناس: أليس تعلمون أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان هو الحجة من الله على خلقه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(17) الكافي - الشيخ الكليني: ج1، ص٢36.
↑صفحة 224↑
قالوا: بلى، قلت: فحين مضى (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من كان الحجة؟ قالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فإذا هو يخاصم به المرجي والقدري والزنديق الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أنَّ القرآن لا يكون حجة إلّا بقيِّم، فما قال فيه من شيء كان حقاً، فقلت لهم: من قيَّم القرآن؟ قالوا: ابن مسعود قد كان يعلم وعمر يعلم وحذيفة يعلم، قلت: كله؟ قالوا: لا، فلم أجد أحداً يقال إنَّه يعلم القرآن كله إلّا علياً (صلوات الله عليه)، وإذا كان الشيء بين القوم، فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنَّ علياً (عليه السلام) كان قيِّم القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّ ما قال في القرآن فهو حق، فقال: «رحمك الله»، فقلت: إنَّ علياً (عليه السلام) لم يذهب حتّى ترك حجة من بعده كما ترك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنَّ الحجة بعد علي الحسن بن علي وأشهد على الحسن أنَّه لم يذهب حتّى ترك حجة من بعده كما ترك أبوه وجده وأنَّ الحجة بعد الحسن الحسين وكانت طاعته مفترضة، فقال: «رحمك الله»، فقبلت رأسه وقلت: وأشهد على الحسين (عليه السلام) أنَّه لم يذهب حتّى ترك حجة من بعده علي بن الحسين وكانت طاعته مفترضة، فقال: «رحمك الله»، فقبلت رأسه وقلت: وأشهد على علي بن الحسين أنَّه لم يذهب حتّى ترك حجة من بعده محمد بن علي أبا جعفر وكانت طاعته مفترضة، فقال: «رحمك الله»، قلت: أعطني رأسك حتّى أقبله فضحك، قلت: أصلحك الله، قد علمت أنَّ أباك لم يذهب حتّى ترك حجة من بعده كما ترك أبوه وأشهد بالله أنَّك أنت الحجة وأنَّ طاعتك مفترضة، فقال: «كف رحمك الله»، قلت: أعطني رأسك أقبله، فقبَّلت رأسه فضحك وقال: «سلني عما شئت، فلا أنكرك بعد اليوم أبداً».
فطاعة الإمام (عليه السلام) أمر لازم وهو أُسُّ الدين.
↑صفحة 225↑
وكيف تكون طاعته في زمان غيبته؟
لنا أن نلتمس بعض مستويات النصرة للإمام وإنْ في غيبته من خلال الاطلاع على وظيفته، فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام)(18): «... بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد، وتوفير الفيء والصدقات، وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف.
الإمام يحلّ حلال الله، ويحرِّم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة، والحجة البالغة الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار».
بل في بعضها التصريح به، فقد ورد عن هشام، قال(19): كنت عند الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) إذ دخل عليه معاوية بن وهب وعبد الملك بن أعين، فقال له معاوية بن وهب: ... «وأدنى معرفة الإمام أنَّه عدل النبي إلّا درجة النبوة ووارثه، وإنَّ طاعته طاعة الله وطاعة رسول الله والتسليم له في كل أمر والرد إليه والأخذ بقوله، ويعلم أنَّ الإمام بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي ثم أنا ثم من بعدي موسى ابني ثم من بعده ولده علي وبعد علي محمد ابنه وبعد محمد علي ابنه وبعد علي الحسن ابنه والحجة من ولد الحسن». ثم قال: «يا معاوية جعلت لك في هذا أصلاً فاعمل عليه...».
بل فصَّلت النصوص والروايات أكثر من ذلك، فبيَّنت حال من يضعف عن النصرة ماذا يفعل، ففي البحار(20): قال جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام): قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿اهْدِنَا الصِّـراطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6] يقول: «أرشدنا للصراط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(18) الكافي: ج1، ص200.
(19) كفاية الأثر - الخزاز القمي: ص٢٨٧.
(20) بحار الأنوار - العلامة المجلسي: ج27، ص٢٢٥.
↑صفحة 226↑
المستقيم، أي أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمانع أن نتبع أهواءنا فنعطب ونأخذ بآرائنا فنهلك»، ثم قال الصادق (عليه السلام): «طوبى للذين هم كما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): يحمل هذا العلم من كل خلف عدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»، فقال له رجل: يا بن رسول الله، إني عاجز ببدني عن نصرتكم، ولست أملك إلّا البراءة من أعدائكم واللعن، فكيف حالي؟
فقال له الصادق (عليه السلام): «حدَّثني أبي عن أبيه عن جدِّه عن رسول الله (صلوات الله عليهم) أنَّه قال: مَن ضعف عن نصرتنا أهل البيت فلعن في خلواته أعداءنا بلغ الله صوته جميع الأملاك من الثرى إلى العرش، فكلما لعن هذا الرجل أعداءنا لعناً ساعدوه ولعنوا من يلعنه ثم ثنوا فقالوا: اللهم صل على عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه، ولو قدر على أكثر منه لفعل، فإذا النداء من قبل الله (عزَّ وجلَّ): قد أجبت دعاءكم وسمعت نداءكم وصليت على روحه في الأرواح وجعلته عندي من المصطفين الأخيار...».
ورواه (رحمه الله) في المكيال(21): (ومما يدل على أنَّ اللعن عليهم وعلى سائر أعداء الأئمة من أقسام نصرة الإمام باللسان ما في تفسير الإمام العسكري (عليه الصلاة والسلام)، أنَّه قال رجل للصادق (عليه السلام): يا بن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إنّي عاجز ببدني عن نصرتكم، ولست أملك إلّا البراءة من أعدائكم واللعن عليهم، فكيف حالي؟ فقال الصادق (عليه السلام): ...).
المحور الرابع: لزوم النفر إلى الإمام (عليه السلام):
وردت العديد من الروايات في بيان ما ينبغي على الناس القيام به بعد مضي الإمام السابق (عليه السلام) وكيفية البحث والتحري عن الإمام اللاحق (عليه السلام) رغم شدة الظروف وقساوة الظلمة ورصدهم لأدق التحركات في هذا الصدد،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(21) مكيال المكارم - ميرزا محمد تقي الأصفهاني: ج2، ص٣٩٠.
↑صفحة 227↑
وقد بوَّب الشيخ الكليني (رضي الله عنه) في هذا المعنى باباً تحت عنوان: ما يجب على الناس عند مضي الإمام (عليه السلام)، مما جاء فيه(22):
ما رواه بسنده عن يعقوب بن شعيب، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إذا حدث على الإمام حدث، كيف يصنع الناس؟
قال: «أين قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]»؟ قال: «هم في عذر ما داموا في الطلب وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر، حتّى يرجع إليهم أصحابهم».
فطلب الإمام ولزوم البحث عنه ومعرفته من الأمور الواجبة التي لا رخصة فيها ويجب النظر لتحصيلها.
وما رواه بسنده عن عبد الأعلى، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول العامة: إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية»، فقال: «الحق والله»، قلت: فإن إماماً هلك ورجل بخراسان لا يعلم من وصيه لم يسعه ذلك؟
قال: «لا يسعه إن الإمام إذا هلك وقعت حجة وصيه على من هو معه في البلد وحق النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم، إن الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ [التوبة: 122]»، قلت: فنفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل فيعلم؟
قال: «إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: ﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ﴾ [النساء: 100]»، قلت: فبلغ البلد بعضه فوجدك مغلقاً عليك بابك، ومرخى عليك سترك، لا تدعوهم إلى نفسك ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(22) الكافي - الشيخ الكليني: ج1، ص٤٢٨.
↑صفحة 228↑
يكون من يدلهم عليك فبما يعرفون ذلك؟ بكتاب الله المنزل؟ قلت: فيقول الله (عزَّ وجلَّ): كيف؟ قال: «أراك قد تكلمت في هذا قبل اليوم»، قلت: أجل، قال: فذكر ما أنزل الله في علي (عليه السلام) وما قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حسن وحسين (عليهما السلام) وما خص الله به علياً (عليه السلام) وما قال فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من وصيته إليه ونصبه إياه وما يصيبهم وإقرار الحسن والحسين بذلك ووصيته إلى الحسن وتسليم الحسين له بقول الله: ﴿النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ﴾ [الأحزاب: 6].
قلت: فإنَّ الناس تكلموا في أبي جعفر (عليه السلام) ويقولون: كيف تخطت من ولد أبيه من له مثل قرابته ومن هو أسن منه وقصرت عمن هو أصغر منه، فقال: «يعرف صاحب هذا الأمر بثلاث خصال لا تكون في غيره: هو أولى الناس بالذين قبله وهو وصيه، وعنده سلاح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ووصيته وذلك عندي، لا أنازع فيه»، قلت: إنَّ ذلك مستور مخافة السلطان؟
قال: «لا يكون في ستر إلّا وله حجة ظاهرة...».
فضرورة معرفة الإمام (عليه السلام) تحتم البحث والتقصي واستبيان الحال ولا خصوصية لذاك الزمان عن هذا سوى الغيبة، التي قد ترفع بعض مراتب النصرة لا جميعها على ما في كلام شيخ الطائفة (قدّس سرّه) الآتي من لزوم النصرة في زمن الغيبة.
على ما تقدم من تضمن المعرفة للإمام (عليه السلام) من وجوب طاعته ونصرته وأن أقل مراتبها اللعن على أعدائهم كما هو صريح ما تقدم من الروايات.
كما وإن الإشارة التي يتضمنها إيداع سلاح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عند كل إمام مما لا ينبغي إغفالها.
↑صفحة 229↑
المحور الخامس: أشخاص ينتظرون النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويبحثون عنه:
ذكرت كتب التاريخ والسير عدَّة أشخاص كانوا ينتظرون الأنبياء (عليهم السلام)، وخاتمهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالخصوص، ومن بين أولئك:
* سلمان الفارسي - المحمدي - (رضي الله عنه):
* في كمال الدين(23): عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان بين عيسى وبين محمد (عليهما السلام) خمسمائة عام منها مائتان وخمسون عاماً ليس فيها نبي ولا عالم ظاهر»، قلت: فما كانوا؟ قال: «كانوا متمسكين بدين عيسى (عليه السلام)»، قلت: فما كانوا؟ قال: «كانوا مؤمنين»، ثم قال (عليه السلام): «ولا يكون الأرض إلّا وفيها عالم، وكان ممن ضرب في الأرض لطلب الحجة سلمان الفارسي - (رضي الله عنه) - فلم يزل ينتقل من عالم إلى عالم، ومن فقيه إلى فقيه، ويبحث عن الأسرار ويستدل بالأخبار منتظراً لقيام القائم سيد الأولين والآخرين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أربعمائة سنة حتّى بُشِّر بولادته، فلما أيقن بالفرج خرج يريد تهامة فسبي...».
* وقد ذكر ابن هشام في السيرة النبوية قصته مفصلاً، فراجع(24).
* يهودي من بني عبد الأشهل:
* في سيرة الذهبي(25): (عن سلمة بن سلامة بن وقش وكان من أصحاب بدر، قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، وقال: فخرج علينا يوماً من بيته قبل مبعث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيسير... قالوا له: ويحك، وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إليَّ وأنا من أحدثهم سناً، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار، حتّى بعث الله تعالى رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو حي بين أظهرنا فآمنا به، وكفر به بغياً وحسداً...).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(23) كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: ص١٩١.
(24) السيرة النبوية - ابن هشام الحميري: ج1، ص١٦٥.
(25) سير أعلام النبلاء - الذهبي: ج2، ص٣٥٥.
↑صفحة 230↑
* قس بن ساعدة:
* في السيرة الحلبية(26): (أنَّ قس بن ساعدة كان يخطب قومه بسوق عكاظ، فقال: سيأتيكم حق من هذا الوجه - وأشار بيده إلى نحو مكة -، قالوا له: وما هذا الحق؟ قال: رجل أبلج أحور، من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص وعيش ونعيم لا ينفدان، فإذا دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه، وقد رويت هذه القصة من طرق متعددة...).
* ورقة بن نوفل وجماعة:
في السيرة النبوية(27): (فقال لهم ورقة بن نوفل: تعلمون والله ما قومكم على دين، ولقد أخطأوا الحجة وتركوا دين إبراهيم، ما حجر تطيفون به لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين.
قال: فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض ويسألون عن الحنيفية دين إبراهيم (عليه السلام).
فأمّا ورقة بن نوفل فتنصَّر، وقرأ الكتب حتّى علم علماً.
وأمّا عثمان بن الحويرث فسار إلى قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده.
وأمّا زيد بن عمرو بن نفيل فأراد الخروج فحبس.
ثم إنَّه خرج بعد ذلك فضرب في الأرض حتّى بلغ الرقة من أرض الجزيرة، فلقي بها راهباً عالماً فأخبره بالذي يطلب، فقال له الراهب: إنَّك لتطلب ديناً ما تجد من يحملك عليه، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلدك يبعث بدين الحنيفية. فلما قال له ذلك رجع يريد مكة فغارت عليه لخم فقتلوه).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(26) السيرة الحلبية - الحلبي: ج1، ص٣٢٠.
(27) السيرة النبوية - ابن كثير: ج1، ص٣٧٧.
↑صفحة 231↑
* أمية بن أبي الصلت:
في البداية والنهاية(28): (عن أبي سفيان بن حرب أنَّ أمية بن أبي الصلت كان بغزة أو بإيلياء، فلما قفلنا قال لي أمية: يا أبا سفيان، هل لك أن تتقدَّم على الرفقة فنتحدث، قلت: نعم! قال: ففعلنا، فقال لي: يا أبا سفيان، إيه عن عتبة بن ربيعة، قلت: كريم الطرفين ويجتنب المحارم والمظالم، قلت: نعم، قال: وشريف مسن، قلت: وشريف مسن، قال: السن والشرف أزريا به، فقلت له: كذبت، ما ازداد سنًّا إلّا ازداد شرفاً، قال: يا أبا سفيان، إنَّها كلمة ما سمعت أحداً يقولها لي منذ تبصَّرت، فلا تعجل عليَّ حتّى أخبرك، قال: قلت: هات، قال: إنّي كنت أجد في كتبي نبياً يبعث من حرَّتنا هذه فكنت أظن بل كنت لا أشك إنّي أنا هو، فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحداً يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة، فلما أخبرتني بسنِّه عرفت أنَّه ليس به حين جاوز الأربعين، ولم يوح إليه، قال أبو سفيان: فضرب الدهر ضربه فأوحى إلى رسول الله [(صلّى الله عليه وآله وسلّم)] وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به: يا أمية قد خرج النبي الذي كنت تنعته، قال: أما إنَّه حق فاتَّبعه، قلت: ما يمنعك من اتِّباعه؟ قال: ما يمنعني إلّا الاستحياء من نساء ثقيف، إنّي كنت أحدِّثهن أنّي هو، ثم يرينني تابعاً لغلام من بني عبد مناف...).
فرغم ندرة الكتب والكتابة في ذلك الزمان - قبل بعثة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - إلّا أنَّه وصلت إلينا بعض الإشارات عن وجود حالة الترقب والاستعداد والانتظار لهذا النبي، بل بعضهم طبقها على نفسه.
روى الشيخ النعماني (رحمه الله)(29): عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ [النحل: 1]، فقال: «هو أمرنا أمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(28) البداية والنهاية - ابن كثير: ج2، ص٢٨٣.
(29) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص٢٥١.
↑صفحة 232↑
الله (عزَّ وجلَّ) ألّا تستعجل به حتّى يؤيده بثلاثة أجناد: الملائكة، والمؤمنين، والرعب، وخروجه كخروج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وذلك قوله (عزَّ وجلَّ): ﴿كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ﴾ [الأنفال: 5]».
المحور السادس: التمكين للإمام (عليه السلام) في كلمات الأعلام:
ذكرت مفردة التمكين والنصرة على لسان العديد من علماء الطائفة، وليس في خصوص الخطاب الخاص بالإتباع، بل حتّى في موارد الحجاج مع الخصوص، مما يعكس كونها مفردة من المفردات الراسخة والمعروفة في الطائفة حتّى عدت لوضوحها من المفردات التي يصح الاحتجاج بها مع الخصوم، وممن ذكر ذلك جماعة، منهم:
قال السيد المرتضى (قدّس سرّه)(30) في فصل: (الدلالة على وجوب الرياسة في كل زمان): (وقد خلق الله تعالى إمام الزمان (عليه وعلى آبائه الصلاة والسّلام)، ونصّ الإمامة على عينه، ودلّ على اسمه ونسبه، بالأدلة القاطعة، وحثّ على طاعته، وتوعّد على معصيته.
فأمّا الأمور التي لا يتم مصلحتنا بالإمام إلّا بها وهي راجعة إلى أفعالنا، وهي تمكين الإمام والتخلية بينه وبين ولايته، والعدول عن تخويفه وإرهابه، ثم طاعته وامتثال أوامره.
فإذا لم يقع منّا تمكين الإمام وأخفيناه وأخرجناه إلى الاستتار تحرزاً من المضرة، ثمّ نخرج(31) من أن نكون مزاحي العلة في تكليفنا، وكان تعذر انتفاعنا بهذا الإمام منسوباً إلينا، ووزره عائداً علينا، لأنّا لو شئنا أملكناه وآمنّاه، فيتصرف فينا التصرف الذي يعود بالنفع علينا).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(30) الذخيرة في علم الكلام - الشريف المرتضى: ص٤١٦.
(31) هكذا في المصدر وعدة نسخ ولعل المقصود به أن خروجنا عن عهدة النصرة وإزاحة العلة لا يكون...
↑صفحة 233↑
وقال (قدّس سرّه)(32): (فأمّا قوله: (إنَّه إنَّما يجب أن يحارب معه لو طلب ذلك معه وتشدد عليه) فقد بينّا أنَّ نصرة الإمام واجبة من حيث كان إماماً وإن لم يطلب هو النصرة. وذكرنا أنَّ الحال التي كان دفع إليها مستدعية للنصرة من كل مسلم لتضايقها وشدَّتها أو ما كفى الزبير في طلبه (عليه السلام) النصرة كتبه النافذة إلى الآفاق يستنصر فيها ويستصرخ ويدعو الناس إلى القتال معه).
وقد يقال: إن هذا المقطع لا دلالة فيه على عموم النصرة حتّى في زمان الغيبة، والذي هو محل كلامنا، فالنصرة مختصة بزمان حضوره، بل لعلها مختصة بأمير المؤمنين (عليه السلام).
ولكننا نقول: اختصاص النصرة بأمير المؤمنين (عليه السلام) مما لا وجه له بالمرة بعد تصريحه (قدّس سرّه) بأن النصرة للإمام من حيث إنه إمام، فهي واجبة لحيثية الإمام، وبنفس هذه الحيثية ترتفع خصوصية الغيبة إذ ملاك النصرة هو عنوان الإمامة ولا مدخلية للغيبة كمانع عنها، خصوصاً مع تصريحه بلزوم نصرة الإمام (عليه السلام) كما في المقطع المتقدم بل وما يأتي منه ومن شيخ الطائفة (قدّس سرّهما).
وقال (قدّس سرّه) في الشافي(33): (وبينّا أنَّ سبب الغيبة هو فعل الظالمين، وتقصيرهم فيما يلزم من تمكين الإمام فيه والإفراج بينه وبين التصرف فيهم، وبينّا أنَّهم مع الغيبة متمكِّنون من مصلحتهم بأن يزيلوا السبب الموجب للغيبة ليظهر الإمام، وينتفعوا بتدبيره وسياسته).
قال أبو الصلاح (رحمه الله)(34): (كيفية الجمع بين فَقْد اللطف بعدم ظهوره وثبوت التكليف) وأمّا فَقْد اللطف بظهوره متصرفاً ورهبة لرعيته مع ثبوت التكليف الذي وجوده مرهوباً لطف فيه مع عدمه، فإنَّ اختصاص هذا اللطف بفعل المكلف لتمكنه من إزاحة علة نفسه بمعرفة الحجة المدلول على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(32) الشافي في الإمامة - الشريف المرتضى: ج4، ص٣٤٦.
(33) الشافي في الإمامة - الشريف المرتضى: ج3، ص١٥٠.
(34) تقريب المعارف - أبو الصلاح الحلبي: ص٤٤٢.
↑صفحة 234↑
وجوده وثبوت إمامته وفرض طاعته وما في ذلك من الصلاح وقدرته على الانقياد، وحسن تكليفه مع تمكين الإمام وإرهابه أهل البغي لطف فيه.
... وتكليفه لازم له وإن فقد لطفه بالرئاسة، لوقوف المصلحة في ذلك على إيثاره معرفة الإمام والانقياد له باختياره دون إلجائه).
قال شيخ الطائفة (قدّس سرّه)(35): (وما يرجع إلى الإمام: هو قبول هذا التكليف، وتوطينه نفسه على القيام به.
وما يرجع إلى الأُمَّة: هو تمكين الإمام من تدبيرهم، ورفع الحوائل والموانع عن ذلك، ثمّ طاعته والانقياد له والتصرّف على تدبيره. فما يرجع إلى الله تعالى: هو الأصل والقاعدة، ولابدّ من تقدّمه وتمهّده. ويتلوه ما يرجع إلى الإمام، ويتلو الأمرين ما يرجع إلى الأُمّة).
وقال (قدّس سرّه)(36): (فأمّا قولهم: في ذلك إيجاب اللطف علينا للغير غير صحيح. لأنّا نقول: إنَّ كل من يجب عليه نصرة الإمام وتقوية سلطانه له في ذلك مصلحة تخصُّه، وإن كانت فيه مصلحة يرجع إلى غيره كما نقوله في أنَّ الأنبياء يجب عليهم تحمل أعباء النبوة والأداء إلى الخلق ما هو مصلحة لهم...).
وقال (قدّس سرّه) في تلخيص الشافي(37) بعين ما تقدم عن السيد المرتضى (قدّس سرّه) ونصه: (قد بينّا أنَّ نصرة الإمام واجبة من حيث كان إماماً، وإن لم يطلب هو النصرة...).
قال العلامة (قدّس سرّه)(38): (الثامن والسبعون: الإمام يستحق النصرة ويستحق الأنصار ولا شيء من غير المعصوم، وكذلك ينتج لا شيء من غير الإمام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(35) تلخيص الشافي - الشيخ الطوسي: ج1، ص١٠9.
(36) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٣٩.
(37) تلخيص الشافي - الشيخ الطوسي: ج4، ص١٥١.
(38) الألفين - العلامة الحلي: ص١٠٥.
↑صفحة 235↑
بمعصوم، أمّا الصغرى فظاهرة ولقوله تعالى: ﴿ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ﴾ [الصافات: 25] وهي في معنى نصرة الإمام أولى اتِّفاقاً، ولقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 59]، وأمّا الكبرى فلأنَّ غير المعصوم ظالم متعدٍّ لما تقدَّم، وقال الله تعالى: ﴿وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ﴾ [المائدة: 72] إمّا أن يكون المراد نفي الاستحقاق أو نفي النصرة بالفعل، والثاني محال لوقوع النصرة فتعيَّن الأول، وهو المطلوب).
وقال (قدّس سرّه)(39): (العاشر: علَّة الاحتياج إلى الإمام هو القدرة على المعصية والقوة الشهوية وعدم العصمة ولم يكفِ التكليف وحده، فلابدَّ أنَّ إيجاب تمكين الإمام من المكلفين وإيجاب طاعتهم له بحيث يتسلَّط على الكل ويكون قادراً عليهم من غير عكس...).
قال الشيخ علي بن يونس (رحمه الله)(40): (قلنا: قال المرتضى: إذا عَلِم الله المصلحة فيها [الإمامة] وجب أن يفرضها ويوجب طاعة الأُمَّة لها وقد فعل، فخالفه [أي خالف وجوب الإمامة] الأُمَّة بترك نصرتها بل منعت وصدَّت عنها، فاللوم عليها إذا لم تفعل ما يوجب تمكين الإمام من مصلحتها وليس له [أي الإمام] بالمحاربة أن يلجئها لأدائه إلى إبطال تكليفها ويجوز أن يغلب في ظنه عدم طاعتها بمحاربتها، بل قد يزداد نفورها، ولأنَّ المفسدة المفروضة غير لازمة للإمامة وإلّا لم توجد إمامة ولا نبوة، وأيضاً فالتمكين واجب عليه تعالى لإزاحة العلة ونصب الإمام جزء منه، إذ الداعي بوجوده إلى فعل الطاعات أوفر، والصارف إلى ترك المعصيات أزجر وجزء الواجب واجب فالإمامة واجبة).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(39) الألفين - العلامة الحلي: ص١٨٣.
(40) الصراط المستقيم - علي بن يونس العاملي النباطي البياضي: ج1، ص64.
↑صفحة 236↑
إن قلت: وجوب تمكين الإمام (عليه السلام) ونصرته على الأُمة عام وينصرف إلى خصوص زمان حضوره، فلا يشمل مورد كلامنا وأن النصرة واجبة في زمان الغيبة وقبل الظهور.
قلت: هذا الانصراف لا معنى له بعد عموم الدليل وعدم وجود مخصص صريح يخصص زمان النصرة بزمان دون زمان أو حال دون حال ولو في القدر المتيقن من النصرة بل صريح كلام السيد المرتضى وشيخ الطائفة (قدّس سرّهما) لزوم النصرة للإمام الغائب (عجَّل الله فرجه).
قال الشهيد الأول (قدّس سرّه)(41): (القاعدة الرابعة: الضرر المنفي، وحاصلها: أنَّها ترجع إلى تحصيل المنافع، أو تقريرها لدفع المفاسد، أو احتمال أخف المفسدتين. وفروعها كثيرة حتّى أنَّ القاعدة الثانية تكاد تداخل هذه القاعدة. فمنها: وجوب تمكين الإمام لينتفي به الظلم، ويقاتل المشركين وأعداء الدين).
قال الشيخ العراقي (قدّس سرّه)(42): (وقد اعتمد فقهاء الفريقين على هذه القاعدة في فروع وأحكام كثيرة ترتبط مباشرة بحفظ النظام العام الذي لولاه لعمّت الفوضى، واختلَّت النظم. قال الشهيد الأوّل: إنَّ فروعها كثيرة حتّى أنَّ قاعدة (المشقة موجبة لليسر) تكاد تداخِل هذه القاعدة. منها: (وجوب تمكين الإمام لينتفي به الظلم، وصلح المشركين، ورد مهاجريهم دون مهاجرينا).
وقد مرَّ آنفاً عدم اختصاص نصرة الإمام (عجَّل الله فرجه) ووجوبها على الأُمّة في زمان حضوره، نعم مراتب النصرة تختلف باختلاف الأزمان.
المحور السابع: أقسام النصرة ومراتبها:
لنصرة الإمام (عليه السلام) عدَّة مستويات تختلف باختلاف زمان وجوده بين الناس، وباختلاف الظروف وما يريده (عليه السلام) من الناس، ففي زمان ظهور
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(41) القواعد والفوائد - الشهيد الأول: ج1، ص١٤١.
(42) قاعدة لا ضرر ولا ضرار - تقرير بحث آقا ضياء للسيد الخلخالي: ص٢٨.
↑صفحة 237↑
رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كانت النصرة مطلوبة بكل مراتبها: كاللسان والمال والنفس وكل شيء، ومما دلَّ على وجوب نصرة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل الأنبياء (عليهم السلام) عدَّة آيات مضافاً لما تقدَّم، منها:
قال تعالى: ﴿يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَـى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ﴾ (الصف: 14).
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُـرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ (آل عمران: 81).
قال تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَـرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الأعراف: 157).
بينما نجد في زمان أمير المؤمنين (عليه السلام) ولتخلُّف عموم الناس عن أهم مراتب النصرة لم يتحقق من نصرته (عجَّل الله فرجه) ما كان متحققاً في زمان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سوى من بعض الأنفار ممن بقوا معه وكانت نصرة كل واحد منهم له (عليه السلام) مختلفة عن الآخر على ما هو المعروف بقصة حلق الرؤوس، وحاله (عليه السلام) معلوم لجميع المسلمين بلزوم نصرته، حتّى أنَّه دار على القوم بزوجته وأطفاله وهم خيرة الأرض والسماء.
ذكر ابن أبي الحديد في شرحه ما لفظه(43): (إنَّه (عليه السلام) لما استنجد بالمسلمين عقيب يوم السقيفة وما جرى فيه وكان يحمل فاطمة (عليها السلام) ليلاً على حمار وابناها بين يدي الحمار، وهو (عليه السلام) يسوقه فيطرق بيوت الأنصار وغيرهم، ويسألهم النصرة والمعونة، أجابه أربعون رجلاً فبايعهم على الموت وأمرهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(43) شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد: ج11، ص١٤.
↑صفحة 238↑
أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم، فأصبح لم يوافه منهم إلّا أربعة: الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان، ثم أتاهم من الليل فناشدهم فقالوا: نصبحك غدوة، فما جاءه منهم إلّا أربعة، وكذلك في الليلة الثالثة وكان الزبير أشدّهم له نصرة وأنفذهم في طاعته بصيرة، حلق رأسه وجاء مراراً وفي عنقه سيفه، وكذلك الثلاثة الباقون، إلّا أنَّ الزبير هو كان الرأس فيهم).
قال السيد المرتضى (قدّس سرّه) في الانتصار(44): (ولو لم يروِ في ذلك إلّا ما رواه الخاص والعام والولي والعدو من قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «حربك يا علي حربي وسلمك سلمي»، وقد علمنا أنَّه (عليه السلام) لم يرد أن نفس هذه الحرب تلك، بل أراد تساوي الأحكام، فيجب أن تكون أحكام محاربيه هي أحكام محاربي النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلّا ما خصه الدليل، وما روي أيضاً من قوله: «اللهم انصر من نصره واخذل من خذله»، ولأنَّه (عليه السلام) لما استنصر في قتال أهل الجمل وصفين والنهروان أجابته الأُمَّة بأسرها ووجوه الصحابة وأعيان التابعين وسارعوا إلى نصرته ومعونته).
وحال الإمام الحسن (عليه السلام) مما لا يخفى على العام فضلاً عن الخاص.
أمّا حال شهيد كربلاء (عليه السلام) وسبط خير الأنبياء (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في طلبه للنصرة مع معلومية شهادته وحكاية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لها، ومن مواطن طلبه للنصرة وهي عديدة:
* قوله (عليه السلام)(45): «من كان فينا باذلاً مهجته وموطناً على لقاء الله نفسه، فليرحل فإنّي راحل مصبحاً إن شاء الله».
* قوله (عليه السلام)(46): «هل مِن ذابٍّ يذبُّ عن حُرم رسول الله؟ هل من موحِّد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(44) الانتصار - الشريف المرتضى: ص٤٧٩.
(45) كشف الغمة في معرفة الأئمة (عليهم السلام) - علي بن أبي الفتح الإربلي: ج2، ص٢٣٩.
(46) بحار الأنوار - العلامة المجلسي: ج45، ص٤٨.
↑صفحة 239↑
* ما روي في طلبه (عليه السلام) النصرة من عبيد الله بن الحر(47): ولما استقر المجلس بأبي عبد الله، حمد الله وأثنى عليه، قال: «يا بن الحر، إنَّ أهل مصركم كتبوا إلى أنَّهم مجتمعون على نصرتي وسألوني القدوم عليهم، وليس الأمر على ما زعموا، وإنَّ عليك ذنوباً كثيرة، فهل لك من توبة تمحو بها ذنوبك»؟ قال: وما هي يا بن رسول الله؟ فقال: «تنصر ابن بنت نبيك وتقاتل معه»، فقال ابن الحر: والله إنّي لأعلم أنَّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أغني عنك ولم أخلف لك بالكوفة ناصراً، فأنشدك الله أن تحملني على هذه الخطة، فإنَّ نفسي لا تسمح بالموت! ولكن فرسي هذه (الملحقة)، والله ما طلبت عليها شيئاً قط إلّا لحقته ولا طلبني أحد وأنا عليها إلّا سبقته، فخذها فهي لك، قال الحسين: «أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا فلا حاجة لنا في فرسك ولا فيك، وما كنت متَّخذ المضلين عضداً... فوالله لا يسمع واعيتنا أحد ولا ينصرنا إلّا أكبه الله في نار جهنم».
وهكذا الحال في بقية الأئمة (عليهم السلام) وحالهم في خذلان أغلب الناس لهم وعدم نصرتهم معلوم لمن سبر غور التاريخ.
إن قلت: إنَّ النصرة التي كانت مطلوبة في زمان الأئمة والأنبياء (عليهم السلام) مختصة بزمان حياتهم، ولا تشمل حال الغيبة لعدم ظهور الإمام الواجب نصرته فيها.
قلت: صحيح أنَّ الإمام في زمان الغيبة ليس بظاهر بين الناس، ولكن هذا لا يعني انتفاء جميع مراتب النصرة، فإنَّ النصرة لها مراتب عديدة، وفي كل مرتبة منها أدوار مختلفة تتناسب مع حال الأشخاص والظروف المحيطة بهم وإمكاناتهم واستعداداتهم، وما لا يدرك كله لا يترك جُلُّه، ومن مراتب النصرة: اللسان، وإن لم يتيسر فنصرة القلب مقدورة للجميع وبدون استثناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(47) مقتل الحسين (عليه السلام) - عبد الرزاق المقرم: ص١٩٤.
↑صفحة 240↑
وهل يا ترى يصح أن يقال: إنَّ الإمام (عليه السلام) غائب، فلا تجب معرفته، ولا يلزم الإيمان به؟
فكما أنَّ لمعرفة الإمام (عليه السلام) مراتب، فكذا لنصرته.
بل إنَّ القرآن الكريم وفي صريح خطابه يبشِّر بالنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قالَ عِيسَـى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّـراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (الصف: 6).
وهذا التبشير ليس لسرد القصة وحكاية الخبر، وإنَّما لأجل الاستعداد لقدوم ذاك النبي الخاتم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وعلى أثر تلك الوصايا استعد اليهود والنصارى للاستقبال، بل إنَّ جملة منهم استقرّوا بأهلهم وعيالهم في المكان المتوقع فيه ظهور النبي المنتظر، مع أنَّ حجم البشارات به (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قبل من سبقه من الأنبياء لم تصل إلى عُشر ما بَشَّر به الأئمة (عليهم السلام) والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، حتّى بيَّنوا (عليهم السلام) أدق التفاصيل وأقربها.
وقد تقدَّم الاستدلال على وجوب البحث عن الإمام (عليه السلام) ومعرفته وأن هذه المعرفة متضمنة لوجوب الطاعة ولزوم النصرة مطلقاً.
المحور الثامن: الانتظار ومراتب النصرة والإعداد:
بعد وضوح ضرورة غيبة الثاني عشر (عجَّل الله فرجه) من الأئمة (عليهم السلام)، تكاثرت الأسئلة من الأصحاب عن الوظيفة في الغيبة وما هي؟
وهذه الأسئلة تكشف بوضوح أنَّ في البين وظيفة محدَّدة للأتباع تجاه كل إمام من الأئمة (عليهم السلام)، نعم هذه تختلف من إمام إلى آخر، بحسب اختلاف الظروف وما يقتضيه الحال، ومتابعة فاحصة لروايات الانتظار التي قد يقال بتواترها الإجمالي إنْ لم يك المعنوي، ينكشف لنا أنَّ الانتظار هو واحدة من مراتب النصرة للإمام (عجَّل الله فرجه)، بل له عدَّة مراتب، فلاحظ بعض روايات الانتظار التي نتلوها عليك والمراتب المختلفة التي أثبتتها:
↑صفحة 241↑
مراتب من النصرة الانتظارية:
* رفقاء الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): في غيبة الشيخ (قدّس سرّه)(48): عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): طوبى لمن أدرك قائم أهل بيتي وهو مقتدٍ به قبل قيامه، يتولى وليّه ويتبرأ من عدوِّه، ويتولى الأئمة الهادية من قبله، أولئك رفقائي وذوو ودّي ومودَّتي، وأكرم أُمَّتي عليَّ».
لاحظ أنَّ الحديث جعل المدرِك للقائم (عجَّل الله فرجه) المقتدي به يتولاه ويتبرأ من أعدائه قبل قيامه، جعل هذه من مراتب النصرة.
* الشهداء قبل الظهور في الغيبة(49): عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر (عليه السلام) أنَّه قال: «كأنّي بقومٍ قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوه فلا يقبلونه حتّى يقوموا ولا يدفعونها إلّا إلى صاحبكم، قتلاهم شهداء، أما إنّي لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر».
* في فسطاط رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
في المحاسن(50): عن السندي، عن جدِّه، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول فيمن مات على هذا الأمر منتظراً له؟ قال: «هو بمنزلة من كان مع القائم (عليه السلام) في فسطاطه»، ثم سكت هنيئة، ثم قال: «هو كمن كان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)».
* المجاهدون بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
في كمال الدين(51): عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي خالد الكابلي، قال: دخلت على سيدي علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام) فقلت له: يا بن رسول الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(48) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٤٨٤.
(49) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص٢٨٢.
(50) المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج1، ص٢٣٣.
(51) كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: ص٣٥٠.
↑صفحة 242↑
أخبرني بالذين فرض الله (عزَّ وجلَّ) طاعتهم ومودَّتهم، وأوجب على عباده الاقتداء بهم بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
فقال لي: «يا كنكر، إنَّ أولي الأمر الذين جعلهم الله (عزَّ وجلَّ) أئمة للناس وأوجب عليهم طاعتهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم الحسن، ثم الحسين...»، قال أبو خالد: فقلت: يا بن رسول الله، ثم يكون ماذا؟ قال: «ثم تمتد الغيبة بولي الله (عزَّ وجلَّ) الثاني عشر من أوصياء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة بعده.
يا أبا خالد إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل من أهل كل زمان، لأنَّ الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلى دين الله (عزَّ وجلَّ) سرًّا وجهراً»، وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج».
فالإمام (عليه السلام) في هذه الأخبار - بل وفي غيرها - ينزّل أهل الانتظار بمنزلة من جاهد بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأن له هذه المراتب العظيمة من مرافقة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذا تولى أهل البيت (عليهم السلام) وتبرأ من أعدائهم وينتظر أمرهم وهذه مرتبة من مراتب النصرة كما هو واضح ومرّ التصريح في كونها من مراتب النصرة في الروايات.
بل صرَّحت الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) الآتية عن الوسائل أن النية تقوم مقام الإصلات بالسيف.
* النية تقوم مقام الإصلات بالسيف، وهي من درجات النصرة الانتظارية:
في الوسائل(52): عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال في خطبة له: «الزموا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(52) وسائل الشيعة (الإسلامية) - الحر العاملي: ج11، ص٤٠.
↑صفحة 243↑
الأرض، واصبروا على البلاء، ولا تحركوا بأيديكم وسيوفكم في هوى ألسنتكم، ولا تستعجلوا بما لم يعجل الله لكم، فإنَّه من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حق ربِّه وحق رسوله وأهل بيته مات شهيداً، ووقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النية مقام إصلاته بسيفه، فإن لكل شيء مدة وأجلاً».
* مضاعفة الأعمال مرتبة من النصرة:
في كمال الدين(53): عن عمار الساباطي، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): العبادة مع الإمام منكم المستتر في دولة الباطل أفضل، أم العبادة في الظهور الحق ودولته مع الإمام الظاهر منكم؟... قال: فقلت: جعلت فداك، قد رغبتني في العمل وحثثتني عليه، ولكني أحب أن أعلم كيف صرنا اليوم أفضل أعمالاً من أصحاب الإمام منكم الظاهر في دولة الحق ونحن وهم على دين واحد وهو دين الله (عزَّ وجلَّ)؟
فقال: «إنَّكم سبقتموهم إلى الدخول في دين الله (عزَّ وجلَّ) وإلى الصلاة والصوم والحج وإلى كل فقه وخير وإلى عبادة الله سراً مع عدوكم مع الإمام المستتر، مطيعون له، صابرون معه، منتظرون لدولة الحق، خائفون على إمامكم وأنفسكم من الملوك، تنظرون إلى حق إمامكم وحقكم في أيدي الظلمة قد منعوكم ذلك واضطروكم إلى حرث الدنيا وطلب المعاش مع الصبر على دينكم وعبادتكم وطاعة إمامكم والخوف من عدوكم، فبذلك ضاعف الله أعمالكم، فهنيئاً لكم هنيئاً...».
* نفس الانتظار فرج:
في غيبة الشيخ (قدّس سرّه)(54): عن الحسن بن الجهم، قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(53) كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: ص٦٧٦.
(54) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٤٨٧.
↑صفحة 244↑
عن شيء من الفرج. فقال: «أوَلست تعلم أنَّ انتظار الفرج من الفرج»؟ قلت: لا أدري إلّا أن تعلِّمني، فقال: «نعم، انتظار الفرج من الفرج».
* القول بالنصرة نصرة:
في المحاسن(55): عن عبد الحميد الواسطي، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أصلحك الله، والله لقد تركنا أسواقنا انتظاراً لهذا الأمر حتّى أوشك الرجل منّا يسأل في يديه، فقال: «يا عبد الحميد، أترى من حبس نفسه على الله لا يجعل الله له مخرجاً؟ بلى، والله ليجعلن الله له مخرجاً، رحم الله عبداً حبس نفسه علينا، رحم الله عبداً أحيى أمرنا»، قال: فقلت: فإن متُّ قبل أن أدرك القائم؟ فقال: «القائل منكم: (إن أدركت القائم من آل محمد نصرته) كالمقارع معه بسيفه، والشهيد معه له شهادتان».
فإن الرواية تنزل القول بنصرة الإمام (عليه السلام) منزلة النصرة له وهذه مرتبة أخرى من مراتب النصرة.
* نفس الانتظار بمنزلة الضرب بالسيف:
وهي روايات عديدة بعضها جعلت المنتظر كالضارب بالسيف وبعضها كالشهيد وغيرها، ومنها:
في كمال الدين(56): عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن أبي إبراهيم الكوفي، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فكنت عنده... «المنتظر للثاني عشر كالشاهر سيفه بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يذب عنه»، فدخل رجل من موالي بني أمية فانقطع الكلام وعدت إلى أبي عبد الله (عليه السلام) خمس عشرة مرة أريد استتمام الكلام فما قدرت على ذلك، فلما كان من قابل دخلت عليه وهو جالس فقال لي: «يا أبا إبراهيم هو المفرّج للكرب عن شيعته بعد ضنك شديد وبلاء طويل وجور، فطوبى لمن أدرك ذلك الزمان...».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(55) المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج1، ص٢٣٣.
(56) كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: ص٦٧٧.
↑صفحة 245↑
* الدعاء من مراتب النصرة:
في كمال الدين(57): عن زرارة بن أعين، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إنَّ للقائم غيبة قبل أن يقوم»، قلت له: ولِـمَ؟ قال: «يخاف» - وأومأ بيده إلى بطنه -، ثم قال: «يا زرارة وهو المنتظر، وهو الذي يشك الناس في ولادته، منهم من يقول: هو حمل، ومنهم من يقول: هو غائب، ومنهم من يقول: ما وُلِد، ومنهم من يقول: وُلِد قبل وفاة أبيه بسنتين. غير أنَّ الله تبارك وتعالى يحب أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون»، قال زرارة: فقلت: جعلت فداك، فإن أدركت ذلك الزمان فأي شيء أعمل؟ قال: «يا زرارة، إن أدركت ذلك الزمان فأدم هذا الدعاء: اللهم عرِّفني نفسك، فإنَّك إن لم تعرِّفني نفسك لم أعرف نبيك».
في الغيبة(58): عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال ذات يوم: «ألا أخبركم بما لا يقبل الله (عزَّ وجلَّ) من العباد عملاً إلّا به»؟ فقلت: بلى. فقال: «شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنَّ محمداً عبده، والإقرار بما أمر الله، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا - يعني الأئمة خاصة -، والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة، والانتظار للقائم (عليه السلام)»، ثم قال: «إنَّ لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء»، ثم قال: «من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيَّتها العصابة المرحومة...».
جعلت الانتظار من الأمور التي لا يقبل العمل إلّا بها، وكأنَّه يتحدَّث عن مقوماتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(57) كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: ص٣٧٢.
(58) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص٢٠٧.
↑صفحة 246↑
* العمل بالورع ومحاسن الأخلاق من درجات النصرة وتصيّر صاحبها من أنصار الإمام (عليه السلام):
في الغيبة (59): عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّه قال ذات يوم: «ألا أخبركم بما لا يقبل الله (عزَّ وجلَّ) من العباد عملاً إلّا به»؟ فقلت: بلى. فقال: «شهادة أن لا إله إلّا الله، وأنَّ محمداً عبده، والإقرار بما أمر الله، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا - يعني الأئمة خاصة -، والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة، والانتظار للقائم (عليه السلام)»، ثم قال: «إن لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء»، ثم قال: «من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيَّتها العصابة المرحومة».
* نفس الانتظار أفضل العبادة:
في المحاسن(60): عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: «أفضل عبادة المؤمن انتظار فرج الله».
المحور التاسع: روايات عدد الأصحاب تكشف عن نصرة مرتقبة:
في الإرشاد(61): عن أبي خديجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لا يخرج القائم حتّى يخرج قبله اثنا عشر من بني هاشم كلهم يدعو إلى نفسه».
ألا ينبغي علينا معرفة هؤلاء أو بعضهم كي لا نقع في فتنة اتِّباعهم؟
في الغيبة(62): عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «لا يخرج القائم إلّا في وترٍ من السنين، تسع وثلاث وخمس وإحدى».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(59) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص٢٠٧.
(60) المحاسن - أحمد بن محمد بن خالد البرقي: ج1، ص٣٥١.
(61) الإرشاد - الشيخ المفيد: ج2، ص٣٧٢.
(62) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٤٨١.
↑صفحة 247↑
في دلائل الإمامة(63): رجال مولانا صاحب الزمان (صلوات الله عليه)... عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: جعلت فداك، هل كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلم أصحاب القائم (عليه السلام) كما كان يعلم عدَّتهم؟
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «حدَّثني أبي (عليه السلام)، قال: والله لقد كان يعرفهم بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم رجلاً فرجلاً، ومواضع منازلهم ومراتبهم، وكل ما عرفه أمير المؤمنين (عليه السلام) فقد عرفه الحسن (عليه السلام)، وكل ما عرفه الحسن (عليه السلام) فقد عرفه الحسين (عليه السلام)، وكل ما عرفه الحسين (عليه السلام) فقد عرفه علي بن الحسين (عليه السلام)، وكل ما عَلِمه علي بن الحسين (عليه السلام)، فقد علمه محمد بن علي (عليه السلام)، وكل ما علمه محمد بن علي (عليه السلام) فقد عَلِمه وعرفه صاحبكم - يعني نفسه (عليه السلام) -»، قال أبو بصير: قلت: مكتوب؟ قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «مكتوب في كتاب محفوظ في القلب، مثبت في الذكر لا ينسى»، قال: قلت: جعلت فداك، أخبرني بعددهم وبلدانهم ومواضعهم، فذاك يقتضى من أسمائهم؟
قال: فقال (عليه السلام): «إذا كان يوم الجمعة بعد الصلاة فائتني»، قال: فلما كان يوم الجمعة أتيته، فقال: «يا أبا بصير، أتيتنا لما سألتنا عنه»؟
قلت: نعم، جعلت فداك، قال: «إنَّك لا تحفظ، فأين صاحبك الذي يكتب لك»؟ قلت: أظن شغله شاغل، وكرهت أن أتأخَّر عن وقت حاجتي، فقال لرجل في مجلسه: «اكتب له: هذا ما أملاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أمير المؤمنين (عليه السلام) وأودعه إياه من تسمية أصحاب المهدي (عليه السلام) وعدَّة من يوافيه من المفقودين عن فرشهم وقبائلهم، السائرين في ليلهم ونهارهم إلى مكة، وذلك عن استماع الصوت في السنة التي يظهر فيها أمر الله (عزَّ وجلَّ)، وهم النجباء والقضاة والحكام على الناس...».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(63) دلائل الإمامة - محمد بن جرير الطبري (الشيعي): ص٥٥٥.
↑صفحة 248↑
المحور العاشر: إشكالات ثلاث في المقام:
الأول: تقييد الطاعة والنصرة بزمان الظهور فقط:
قد يقال: إنَّه ورد في بعض الروايات أنَّ الطاعة للإمام (عجَّل الله فرجه) مختصة بزمان ظهوره ولا تشمل زمان غيبته، ومنها:
ما رواه الشيخ الصدوق (قدّس سرّه)، قال(64): حدَّثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني (رضي الله عنه) قال: حدَّثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت دعبل بن علي الخزاعي، يقول: أنشدت مولاي الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) قصيدتي... «وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره، لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأها عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً...».
والجواب عن ذلك:
1 - بحسب التتبُّع القاصر لم أجد سوى هذا المضمون في الروايات بخلاف ما دلَّ على الطاعة مطلقاً(65)، فقد جاء بعدَّة مضامين، وهذا لا يكافئ تلك ولا يقيِّدها.
لو تنزَّلنا وقلنا بالتكافؤ، مع ذلك لا تقييد ولا تخصيص، لأنَّ ثبوت الطاعة والنصرة للإمام (عليه السلام) ولو بأدنى مراتبها من الضرورات، وما هو كذلك لا يُقيد بخبر واحد، فلابد من تأويله، بل ليس فيه عقد النفي كي يقع التعارض.
2 - قد يكون المقصود من الخبر أنَّ أعلى مراتب النصرة - هي القيام بالسيف والتضحية بالنفس من أجل الإمام (عليه السلام) - هي عند ظهوره ولا نظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(64) كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق: ص٤٠٣.
(65) بل ما صرح بالنصرة في زمن الغيبة في الرواية التي رواها المجلسي (رحمه الله) عن الإمام الصادق (عليه السلام) وتقدمت في المحور الثالث.
↑صفحة 249↑
للخبر إلى المراتب الأخرى، ويشهد لذلك رواية أهل المشرق فمع وصف قتلاهم بالشهداء، إلّا أنَّ الإمام (عليه السلام) قال: «لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر (عليه السلام)».
الثاني: الأمر في زمان الغيبة بأن نكون أحلاس البيوت:
ورد في بعض الروايات أنَّ وظيفة الناس في زمان غيبة الإمام (عليه السلام) هو الجلوس في البيت وأن يكونوا على حدِّ تعبير الرواية أحلاس بيوتهم، وهذا ينافي أو يقيد ما دل على النصرة، إذ يحدِّد الوظيفة بأنَّها حلس البيت فقط، ومن تلك الروايات: ما رواه الشيخ النعماني (رحمه الله)(66): عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: «إنَّه قال لي أبي (عليه السلام): لابدَّ لنار من أذربيجان لا يقوم لها شيء، وإذا كان ذلك فكونوا أحلاس بيوتكم، وألبدوا ما ألبدنا، فإذا تحرَّك متحركنا فاسعوا إليه ولو حبواً، والله لكأنّي أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس على كتاب جديد، على العرب شديد، وقال: ويل لطغاة العرب من شر قد اقترب».
وفيه أيضاً(67): عن أبي المرهف، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «هلكت المحاضير»، قال: قلت: وما المحاضير؟ قال: «المستعجلون، ونجا المقربون، وثبت الحصن على أوتادها، كونوا أحلاس بيوتكم، فإنَّ الغبرة على من أثارها، وأنَّهم لا يريدونكم بجائحة إلّا أتاهم الله بشاغل إلّا من تعرض لهم».
والجواب عن ذلك:
1 - الحلسية معلقة على صيرورة أذربيجان لأهل البيت (عليهم السلام)، ففي ذلك الظرف تثبت وظيفة الأحلاس للناس إلى أن يتحرَّك متحركهم فتتبدل الوظيفة من الحلسية إلى الحبو إليه.
وفي الرواية الثانية تعليق على التعرض، والكلام هو الكلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(66) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص٢٠٠.
(67) الغيبة - ابن أبي زينب النعماني: ص٢٠٣.
↑صفحة 250↑
2 - قد تكون هذه وظيفة خاصة لبعض الناس لا للكل، فمن لا يقدر على مراتب النصرة الأعلى يكون حلس بيته، وهي لا تنفي مراتب النصرة الانتظارية التي تقدَّمت، وقد يكون نظر الرواية إلى بعض الأزمنة التي تكون النصرة - اللسانية مثلاً - فيها مؤدية للهلكة فيقتصر على الحلسية، أو في بعض الأمكنة كذلك، فلا نظر في الرواية إلى المراتب الأخرى كي تقيدها، فهي تفقد العقد الإيجابي الموجب للتقيد أصولياً، فإنَّ المثبتات لا تنافي بينها.
الثالث: حالات وجود الإمام من جهة من يوجده ويبسط يده، ولزوم نصرته:
ذكر الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) عدَّة إشكالات أثيرت حول دليل اللطف، ومنها: ما هو من جهة إيجاد الرئيس المطاع في الأُمَّة على من يقع ويجب؟
فالمستشكل يقول: إنَّ وجوب وجود الإمام بين الناس له حالات ثلاث:
1 - إمّا أن يكون وجوده ظاهراً بإيجاد الله تعالى له، وهذا ما لم يحصل حيث انتقض في الغيبة فإنَّه تعالى لم يبسط يده بل غيَّبه.
2 - أو أنَّه يجب على الناس أن يوجدوه ويبسطوا يده، وهذا تكليف بما لا يطاق، لأنَّ الناس لا قدرة لهم على تشخيص المعصوم من بين ظهرانيهم.
3 - أو أنَّ الله تعالى هو الذي يوجده، وعلى الناس أن يبسطوا يده، وهذا التفصيل مما لا دليل عليه، ولو تنزَّلنا وقلنا بوجود ما يدل عليه، فإنَّه يلزم منه لازم فاسد لا يلتزم به، من أنَّه كيف يجب تكليفٌ من التكاليف عليَّ ويكون لطفه وأثره على غيري، فلم يجب عليَّ بسط يد الإمام (عليه السلام) وأثر هذا التكليف أن يحصل لطف على غيري من الناس؟
هذا هو إشكالهم على دليل اللطف، من عدم تحقق اللطف على جميع الفروض.
جواب الشيخ (قدّس سرّه): نحن نختار الثالث ولا يرد الإشكال، بيان ذلك:
حيث نقول: إنَّ وجود الإمام (عليه السلام) وأنَّه لطف بنا هذا مما لا نشك به،
↑صفحة 251↑
على ما ذكره (قدّس سرّه) من الدلالة على كونه لطفاً، وهذا اللطف لا يتحقق إلّا مع وجوده، وحيث ليس من مقدورنا إيجاد الإمام (عليه السلام) لأنَّه معصوم، والمعصوم لا يعرفه إلّا الله تعالى، فيكون التكليف بإيجاده تكليف بغير المقدور.
فيكون إيجاده مختصًّا به تعالى، وأمّا بسط يده حيث إنَّه مقدور لله تعالى بمقتضى قدرته المطلقة، ومقدور لنا أيضاً من خلال مبايعته ونصرته، وحيث إنَّ الله تعالى لم يبسط يده تكويناً وبالقوة والغلبة، وكذلك لم يثبت أنَّه تعالى أحال بينه وبين أعدائه بإنزال الملائكة عليه لنصرته، علمنا أنَّه تعالى جعل التكليف في هذا الأمر منوطاً بنا.
يبقى جواب إشكالهم في التمثيل في أنَّ التكليف يجب على زيد واللطف يحصل بعمرو فهو غير صحيح، فإنَّ الأنبياء (عليهم السلام) مع كون إرسالهم هو لمصلحة الناس وهدايتهم إلّا أنَّ في نفس هذه الهداية مصلحة لهم.
وكذلك نجيب بما يجيب به المخالف لنا، من أنَّ ما يقوم به أهل الحل والعقد مصلحة للناس فهم ينصبون الرئيس وتنصيبه يعود بالمصلحة للناس، فما يقولونه في هذا الأمر نقوله في الإمامة، ونصرة الإمام (عليه السلام).
إن قلتم: لِـمَ لا يجوز أن يكون الإمام (عليه السلام) في زمان الغيبة معدوماً.
قلنا في مقام الجواب: إنَّنا نبني على وجوده قبل الاستدلال بدليل اللطف، لأنَّ وجوده ليس من شأننا بل من شأن الله تعالى، فحيث يشترط في الرئيس العصمة، ولا ندركها، فوجود الرئيس المعصوم بيننا مفروغ عنه.
لأنَّه لو لم يوجده تعالى فينا مع لزوم اللطف عليه (عزَّ وجلَّ) في التكاليف معناه أنَّه تعالى أوجد مانع وصولنا إلى اللطف اللائق بنا، وهو لا يناسب لطفه.
وعليه فمع الفراغ عن وجوده، مع عدم تمكينه وكون التمكين تحت قدرتنا، صار الخلل من جهتنا في عدم بسط يده وتمكينه.
↑صفحة 252↑
قاعدة في الوظيفة تجاه الإمام (عليه السلام) مستفادة من كلام شيخ الطائفة (قدّس سرّه):
إن قلت: ما هو المقصود بتمكينه؟ هل الذهاب إليه وإخراجه من الغيبة ومبايعته ونصرته؟
قلت: كلا، فحيث إنَّه في زمان الغيبة، فإنَّ تمكينه وبسط يده إنَّما يكون بما يناسب حال الغيبة، من عقد العزم على نصرته وعدم التواني في تأدية ما يطلبه منا لو ظهر.
تكليفنا بنصرة الإمام (عليه السلام) على نحو الدوام:
فإنْ قيل: إنَّ إيجاده (عليه السلام) لأجل تصحيح تكليفنا تجاهه (عليه السلام) لا يتوقف على إظهار النصرة الخارجية حتّى يقال: إنَّ التكليف لا يتعلق بالمعدوم، بل إنَّ المراد بالنصرة المستلزمة لإيجاده هي فقط على مستوى النية والقصد من المكلفين، وهذا أمر مقدور ويصح وإن كان متعلقه ليس بموجود، فبمجرد عقد النية على نصرته يظهره الباري تعالى، ثم بعد وجوده تجب النصرة الخارجية، فالتفصيل المذكور على لسان الإمامية - من كونه غائباً لا معدوماً - لا فائدة تترتب عليه، فتحقق تكليفنا من النصرة لا يتوقف على الوجود، لأنَّنا نفصل في النصرة، ونجعلها على مرحلتين: مرحلة النية ولا يشترط فيها الوجود في الإمام (عليه السلام)، ومرحلة النصرة الخارجية فيشترط فيها، وبعد تحقق الأولى يتحقق وجوده فتتحقق النصرة الثانية.
وفي مقام الجواب نقول: إنَّ تكليفنا تجاه الإمام (عليه السلام) ثابت علينا بمقتضى أدلة وجوب طاعته بنحو مطلق سواء كان ظاهراً أو مستوراً، لأنَّه لو كان تكليفنا تجاهه (عليه السلام) مختصًّا بحالة ظهوره أو المقدمات القريبة منها كنية النصرة، فلا يحسن التكليف بذلك أيضاً، فإن قبح التكليف بما لا يكون مقدوراً أيضاً يشمل مورد ما إذا كان معدوماً، فالمدار على الأدلة التي أوجبت طاعته وأدلة قبح أو حسن التكليف. وفرض قيد في تلك الأدلة يحتاج إلى دال وهو مفقود.
↑صفحة 253↑
قال شيخ الطائفة (قدّس سرّه)(68): فإن قيل: ما الذي تريدون بتمكيننا إياه؟ أتريدون أن نقصده ونشافهه وذلك لا يتم إلّا مع وجوده.
قيل لكم: لا يصح جميع ذلك إلّا مع ظهوره، وعلمنا أو علم بعضنا بمكانه.
وإن قلتم: نريد بتمكيننا أن نبخع لطاعته والشد على يده، ونكف عن نصرة الظالمين، ونقوم على نصرته متى دعانا إلى إمامته ودلَّنا عليها بمعجزته.
قلنا لكم: فنحن يمكننا ذلك في زمان الغيبة وإن لم يكن الإمام موجوداً فيه، فكيف قلتم لا يتم ما كلفناه من ذلك إلّا مع وجود الإمام.
قلنا: الذي نقوله في هذا الباب ما ذكره المرتضى (رحمه الله) في الذخيرة وذكرناه في تلخيص الشافي أنَّ الذي هو لطفنا من تصرف الإمام وانبساط يده لا يتم إلّا بأمور ثلاثة.
أحدها: يتعلق بالله وهو إيجاده.
والثاني: يتعلق به من تحمل أعباء الإمامة والقيام بها.
والثالث: يتعلق بنا من العزم على نصرته، ومعاضدته، والانقياد له، فوجوب تحمله عليه فرع على وجوده، لأنَّه لا يجوز أن يتناول التكليف المعدوم، فصار إيجاد الله إيّاه أصلاً لوجوب قيامه، وصار وجوب نصرته علينا فرعاً لهذين الأصلين، لأنَّه إنَّما يجب علينا طاعته إذا وجد، وتحمل أعباء الإمامة وقام بها، فحينئذٍ يجب علينا طاعته، فمع هذا التحقيق كيف يقال: لِـمَ لا يكون معدوماً؟
فإن قيل: فما الفرق بين أن يكون موجوداً مستتراً (حتّى إذا علم الله منّا تمكينه أظهره، وبين أن يكون) معدوماً حتّى إذا علم منا العزم على تمكينه أوجده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(68) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٤١.
↑صفحة 254↑
قلنا: لا يحسن من الله تعالى أن يوجب علينا تمكين من ليس بموجود لأنَّه تكليف ما لا يطاق، فإذاً لابد من وجوده.
فإن قيل: يوجده الله تعالى إذا علم أنّا ننطوي على تمكينه بزمان واحد كما أنَّه يظهره عند مثل ذلك.
قلنا: وجوب تمكينه والانطواء على طاعته لازم في جميع أحوالنا، فيجب أن يكون التمكين من طاعته والمصير إلى أمره ممكناً في جميع الأحوال وإلّا لم يحسن التكليف، وإنَّما كان يتم ذلك لو لم نكن مكلّفين في كل حال لوجوب طاعته والانقياد لأمره، بل كان يجب علينا ذلك عند ظهوره والأمر عندنا بخلافه.
ثم يقال لمن خالفنا في ذلك وألزمنا عدمه على استتاره: لِـمَ لا يجوز أن يكلّف الله تعالى المعرفة ولا ينصب عليها دلالة إذا علم أنّا لا ننظر فيها، حتّى إذا علم من حالنا أنّا نقصد إلى النظر ونعزم على ذلك أوجد الأدلة ونصبها، فحينئذٍ ننظر ونقول: ما الفرق بين دلالة منصوبة لا ننظر فيها وبين عدمها حتّى إذا عزمنا على النظر فيها أوجدها الله تعالى.
ومتى قالوا: نصب الأدلة من جملة التمكين الذي لا يحسن التكليف من دونه كالقدرة والآلة؟
قلنا: وكذلك وجود الإمام (عليه السلام) من جملة التمكين من وجوب طاعته، ومتى لم يكن موجوداً لم تمكنّا طاعته، كما أنَّ الأدلة إذا لم تكن موجودة لم يمكنّا النظر فيها، فاستوى الأمران.
وبهذا التحقيق يسقط جميع ما يورد في هذا الباب من عبارات لا نرتضيها في الجواب وأسئلة المخالف عليها، وهذا المعنى مستوفي في كتبي وخاصة في تلخيص الشافي فلا نطول بذكره.
فنصرته في زمان غيبته (عجَّل الله فرجه) ثابتة وإن حصل كلام في مقدارها.
↑صفحة 255↑