الانتظار
الدلالة والآثار
والمنع من التحرك في عصر الغيبة
الشيخ كاظم القره غولي
الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على نبيِّه الأمين وآله الطاهرين.
وبعد..
إن المعرفة المرتبطة بالقضية المهدوية تشكل حقلاً معرفياً دينياً مهماً لم يصل ركب البحث فيه إلى منتهاه، ولم تتبلور الصورة الكاملة لرؤاه، وتلك نتيجة طبيعية لما قضت به ضرورة محدودية البيان بـ«أُمرنا أن نكلِّم الناس على قدر عقولهم»(١)، فيما ورد عن أهل البيت (عليهم السلام)، وما اقتضته حقيقة أن البيانات الصادرة من الشارع لم تكن في حدود إتمام الحجة فقط، بل منطلقها محبة الله تعالى لخلقه والذي اقتضى التلطف بعباده، فسكت عن أشياء إن تُبد لنا تسؤنا، وبيَّن أشياء بلوازمها واكتفى بإشارات إلى بعض ما أراده، وسلك سبيل تعدد البيان للأمر الواحد.
ومن جملة المفردات التي تكرر ذكرها في الروايات (انتظار الفرج). ونحن فيما يأتي من البحث نريد أن نسلط الضوء على حقيقته وأهميته وفق شواهد الموروث الروائي وما يراد منا فيه ومن الله التوفيق.
دلائل أهمية الانتظار:
لقد حظيت مسألة الانتظار باهتمام كبير في الموروث الشرعي، والاهتمام كاشف بلا شك عن الأهمية، ولننطلق أولاً من شواهد هذا الاهتمام الكبير ثم نخوض في المنشأ والسر فيه.
أمّا شواهد الاهتمام والدلائل عليه فيمكن أن تلخص بنقاط:
١ - التصريح بالأهمية:
حيث تكرر في الروايات الشريفة التعرض لذلك.
ففي عيون أخبار الرضا بسند حسن كالصحيح عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفضل أعمال أُمتي انتظار فرج الله (عزَّ وجلَّ)»(٢).
وفي كمال الدين سنداً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أفضل العبادة انتظار الفرج»(٣).
نعم في سنده صالح بن عقبة ولم يوثق.
وفي الخصال بسند صحيح عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «انتظروا الفرج ولا تيأسوا من روح الله، فإن أحب الأعمال إلى الله (عزَّ وجلَّ) انتظار الفرج»(٤).
فإن قيل: ليس من المعلوم أن الانتظار مرتبط بدولة الإمام (عجّل الله فرجه) وظهوره فقد يكون مرتبطاً بشيء آخر.
قلنا: إن الذي يظهر من مجموع الروايات أن الأمر المنتظر هو شيء عرفه الناس وجهلوا وقته، ولذا كانوا ينتظرونه، ويتمثل هذا الشيء بوعد حق على لسان المعصومين (عليهم السلام) ينصبّ هذا الوعد على دولة الحق التي يتزعمها أهل البيت (عليهم السلام) وتخضع لها كل الدنيا.
يشهد لذلك وحدة اللسان في أسئلة السائلين على طول المدة من المعصومين (عليهم السلام) رغم اختلاف الدول ووحدة اللسان في جواب الأئمة (عليهم السلام).
مضافاً إلى أن أي شيء آخر ينتظره المؤمنون لا يبرر هذا الثواب العظيم الذي نصت عليه الروايات للمنتظرين.
نكتة في السند:
والقاسم بن يحيى الذي في سندها(٥) وإن لم ينص على توثيقه، لكن الصدوق حكم بصحة ما رواه في زيارة الحسين (عليه السلام) عن الحسن بن راشد والقاسم بن يحيى في طريقه إلى الحسن بن راشد، مضافاً إلى وروده في أسانيد كامل الزيارة على المبنى القائل بأن ذلك دليل للتوثيق.
٢ - المدة التي يستغرقها الانتظار:
حيث إن رأس مال الإنسان في تجارته مع الله تعالى عمره، فإذا كلّفنا بعمل استغرق مدة طويلة منه، دلّ ذلك على أهميته عند الشارع المقدس. والانتظار يستوعب العمر كله، وقد جاء عن المحاسن مسنداً عن عبد الحميد الواسطي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) أصلحك الله، والله لقد تركنا أسواقنا انتظاراً لهذا الأمر حتّى أوشك الرجل منا يسأل في يديه، فقال: «يا عبد الحميد، أترى من حبس نفسه على الله لا يجعل الله له مخرجاً؟ بلى، والله ليجعلن الله له مخرجاً، رحم الله عبداً حبس نفسه علينا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا...» الخبر(٦).
ووجود عبد الحميد الواسطي في سند هذه الرواية لا يمنع من الاستشهاد بها لأننا لسنا بصدد الاستدلال بها، بل ذكرناها كشاهد، ولا شك أن الانتظار المطلوب يستغرق العمر كله.
نعم، توجد مشكلة حاصلها: أن مجرد الانتظار - كما سيأتي - لا ينافي استثمار العمر بالأفعال المقربة له تعالى، فهو ليس كالصلاة التي تمنع في مقام الأداء عن الانشغال بطاعة أخرى عادة، خصوصاً بملاحظة ما سيأتي مما يستفاد من الروايات في معنى الانتظار والمراد منه، وقد كُلّفنا بترك الصغائر على امتداد أعمارنا ولم يكن ذلك شاهداً على أهمية تركها.
لكن لو غضضنا النظر عن سند الرواية أمكن الاستدلال بها على أهمية الانتظار من جهة انعكاسه انشغالاً باعتبار أن فيها قوله (عليه السلام): «من حبس نفسه على الله»، وهو ظاهر في أن انتظار عبد الحميد الواسطي قد عطّل حياته وأعماله الأخرى اعتماداً على الانتظار. ودعاؤه (عليه السلام) بعد ذلك: «رحم الله عبداً حبس نفسه علينا»، ويكفي أن الإمام تحدث وفق فهم عبد الحميد فأجابه بما يُفهم منه أن الانتظار استدعى ترك الأسواق.
٣ - مقايسته مع الأعمال العظيمة التي ثبتت أهميتها في الشريعة وتشبيهه بها بل وتفضيله عليها:
وهذا ما تكرر في الروايات الشريفة:
ففي الخصال بسنده عن الحسن بن راشد عن أبي بصير ومحمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «حدثني أبي عن جدي عن آبائه (عليهم السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) علم أصحابه في مجلس واحد أربعمائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه»، قال: «... والمنتظر لأمرنا كالمتشحط بدمه في سبيل الله»(٧).
وتقدم سابقاً أن سند الرواية لا مشكلة فيه إلّا من جهة القاسم بن يحيى وأنه يمكن توثيقه، فلا حاجة إلى الإعادة.
والمتشحط بدمه في سبيل الله هو المقتول المضطرب المتمرغ بدمه في سبيل الله، من قولهم: (يتشحط بدمه) أي: يتخبط فيه ويضطرب ويتمرغ، على ما في مجمع البحرين(٨).
وهذا التشبيه أبلغ في الدلالة من التشبيه بالمستشهد في سبيل الله (عزَّ وجلَّ)، فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أهمية الجهاد والاستشهاد في سبيل الله (عزَّ وجلَّ) علمنا أن المشبه وهو المنتظر لأمرهم (عليهم السلام) أتى بأمر مهم جداً في نظر الشارع، ولا حاجة إلى الإطالة فيما يكشف أهمية وعظم الجهاد ثم الاستشهاد في سبيل الله (عزَّ وجلَّ).
وعن المحاسن عن علي بن النعمان عن إسحاق بن عمار وغيره، عن الفيض بن المختار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من مات منكم وهو منتظر لهذا الأمر كمن هو مع القائم في فسطاطه»، قال: ثم مكث هنيأة ثم قال: «لا، بل كمن قارع معه بسيفه»، ثم قال: «لا والله إلّا كمن استشهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(٩).
فإن الإضراب عن كونه كمن هو مع القائم في فسطاطه إلى كونه كمن قارع معه في سيفه ثم الإضراب من هذا إلى كونه كمن استشهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يكشف عن أن الثاني أعظم من الأول وإلّا لما صح الإضراب إليه، وأن الثالث أعظم من الثاني وإلّا لما عدل إليه، هذا مضافاً إلى وضوح كون القتال معه أفضل من مجرد الكون معه (عجّل الله فرجه)، فالانتظار بعد هذين الإضرابين - وبالدقة الإضراب ثم العدول عن المضرب إليه - أعظم من كون الإنسان مع القائم (عجّل الله فرجه) في خيمته، وهي كناية عن القرب له (عجّل الله فرجه) والكون تحت لوائه، وأعظم من المقارعة معه (عجّل الله فرجه) بالسيف والمقاتلة تحت رايته. ولما كان كل من الأول والثاني من أعظم الطاعات، كان الانتظار وفق هذه الرواية من أعظم الطاعات بالأولوية المستفادة قطعاً من هذه الرواية، بالنسبة لما أضرب عنه أولاً وما عدل عنه وهو الذي أضرب إليه.
وقريب منها بعض الروايات الأخرى.
ويمكن أن نُرجع الروايات التي تحدثت عن عظم الثبات على ولايتهم (عليهم السلام) في زمن الغيبة إلى محل كلامنا، باعتبار وحدة المقصود كما سيتبين في طيات البحث، أو لأنها من لوازم الانتظار على فرض المغايرة، وقد ورد عن الإمام السجاد (عليه السلام) أنه قال: «من ثبت على ولايتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله أجر ألف شهيد مثل شهداء بدر وأُحد»(١٠).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «إن الميت منكم على هذا الأمر بمنزلة الضارب بسيفه في سبيل الله»(١١).
وسندها يمكن الاعتماد عليه، إذ رواها في المحاسن عن ابن محبوب، عن عمرو بن أبي المقدام، عن مالك بن أعين، وابن محبوب من أصحاب الإجماع، وعمرو قد روى عنه ابن أبي عمير، فهو من مشايخ الثلاثة، ويظهر من الصدوق في باب صفة وضوء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه معتمد مقبول القول، على ما نقله عنه في منتهى المقال(١٢).
ومالك بن أعين وإن كان مشتركاً بين الجهني والشيباني أخي زرارة، إلّا أن المراد منه هنا هو الجهني، لأن مالكاً أخا زرارة ليس له رواية عن المعصوم (عليه السلام)، ومالك بن أعين هنا روى عن الإمام الصادق (عليه السلام) مباشرة، فليس هو الشيباني أخا زرارة والذي لا توثيق له، بل هو الجهني. وقد استظهر السيد الخوئي وثاقة مالك بن أعين الجهني والذي توفي في حياة أبي عبد الله (عليه السلام) ونفى الشك عن كونه شيعياً إمامياً حسن العقيدة. لكن تبقى مشكلة أن توثيق السيد الخوئي له كانت مستندة إلى شهادة ابن قولويه في كامل الزيارة، فروايته معتبرة على هذا المبنى. وقد روى عنه يونس بن عبد الرحمن بسند صحيح عنه (في الكافي) وبناءً على توثيق من روى عنه أصحاب الإجماع بلا واسطة تكون رواية مالك معتبرة أيضاً.
٤ - ربط قبول الأعمال بالانتظار:
في الرواية عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال ذات يوم: «ألا أخبركم بما لا يقبل الله (عزَّ وجلَّ) من العباد عملاً إلّا به»؟ فقلت: بلى، فقال: «شهادة أن لا إله إلّا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما أمر الله والولاية لنا والبراءة من أعدائنا، يعني أئمة خاصة والتسليم لهم والورع والاجتهاد والطمأنينة والانتظار للقائم»، ثم قال: «إن لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء»(١٣).
ووجه الكشف عن الأهمية بذلك: أن الله تعالى بمقدار اهتمامه بالأشياء المطلوبة منا فعلاً أو تركاً، يسلك ما يكون مقرباً لامتثال التكاليف في مواردها، ومن ذلك ربط استحقاق الثواب على أعمال أخرى بامتثال هذه التكاليف كالأمر بالصلاة، فهي من حيث بالغ أهميتها جُعلت بنحو «إن قبلت قبل ما سواها وإن ردت رد ما سواها»(١٤)، والقبول يعني استحقاق الأجر على العمل المقبول، وقد دلّ ذلك على إعمال الشارع المقدس عناية فائقة في الحث على الصلاة، وما ذاك إلّا لأهميتها. وهكذا في الولاية، وهذه الرواية أعطت الانتظار هذه العناية، فهي تكشف بلا شك عن أهمية كبرى.
٥ - لسان الدليل وكيفية التعبير:
إن من وسائل إبراز أهمية المراد هو اللسان الذي تعرّض لذلك كما في الغِيبة، حيث لم يكتف بالقول ﴿وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً﴾ حتى ألحقه بقوله: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ (الحجرات: ١٢).
وقد ورد في الانتظار ما يمكن أن يرجع إلى ذلك المعنى.
ففي الرواية عن أبي بصير قال: قال الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): «... يا أبا بصير طوبى لشيعة قائمنا المنتظرين لظهوره في غيبته والمطيعين له في ظهوره، أولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»(١٥).
عناصر الضغط على المُعتقِد بالإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه):
لما كان الإنسان في اعتقاده وانصياعه من حيث انعكاس المعتقد على السلوك والأخلاق غير تابع للدليل فقط، اقتضى أن لا يقتصر الشارع المقدس - في سعيه إلى بناء الرؤية والالتزام بمقتضياتها - على بيان مفردة المعتقد دون تحفيز وإعمال للأدوات المساعدة على ذلك. ومن ذلك التكرار مرة بعد أخرى، واستعمال الألسنة المختلفة في البيان، وإعمال مفردات اللطف في ما هو أشبه بالتودد للعبد والترفق به، ولذا لم يكتف في الكتاب على صغره بمرة أو مرتين أو عشرة في النص على التوحيد، وكذا الأمر بإطاعة الله تعالى، وغير ذلك كثير.
وما يهمنا هنا هو الاعتقاد بالإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) والثبات على هذا الاعتقاد تحت جملة من الضغوط، والتي منها:
١ - انتفاء الدليل الحسي:
إن الإدراك الحسي هو المنطلق -عادةً - في إدراك الإنسان، والنفس أكثر انصياعاً لما أدركته بحواسها، وكما يقال: لا خبر بعد عين، ومن هنا كانت حاجة الإنسان ماسة إلى أن يعزز معتقده - إن أمكن - بما يكون محسوساً، وانتفاء المعزز الحسي يُفقد المعتقدَ عنصراً مهماً في الإذعان والتسليم.
وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام): يا علي، واعلم أن أعجب الناس إيماناً وأعظمهم يقيناً قوم يكونون في آخر الزمان لم يلحقوا النبي، وحُجبت عنهم الحجة، فآمنوا بسواد على بياض»(١٦).
نعم، في زمن الغيبة يفقد الإيمانُ المعزِّزَ الحسي، وهذا قد يفتح أمام النفس باباً ليرجع هذا المعتقد عن محله فيها، ولذا مدحت الروايات الشريفة كثيراً الثابتَ على معتقده دون استعانته بالحس، بل اعتماداً على الدليل والبرهان والفهم، وارتقاء الفهم وازدياد المعرفة مناطٌ لارتقاء الإيمان، ومن رواية أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي، عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال: «يا أبا خالد، إن أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كل زمان، لأن الله (تعالى ذكره) أعطاهم من العقول والأفهام ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالسيف، أولئك المخلصون حقاً وشيعتنا صدقاً والدعاة إلى دين الله سراً وجهراً»(١٧).
وهذا يدعم ما أثبته التحليل من أن المشاهدة والإدراك بالحواس يُسهّل على النفس قبول الدعوة، وقد طلب بنو إسرائيل من موسى (عليه السلام) أن يريهم الله جهرة: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ﴾ (البقرة: ٥٥).
وليس ببعيد عن ذلك طلب إنزال الكتاب من السماء: ﴿يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ﴾ (النساء: ١٥٣).
فالحس داعم بلا شك للمدرك النظري.
٢ - غرابة المفردة الاعتقادية:
إن غرابة المدعى تجعل النفس أبعد عن قبوله، ومن هنا احتاجت مثل هذه الأمور إلى الدعم بالدليل تلو الدليل والشاهد عقب الآخر والمؤيد يتلو مثله، فالأنبياء (عليهم السلام) إذ بعثهم الشارع المقدس إلى من هو مثلهم من البشر، كان الاستغراب منشأ للرفض أو أحد مناشئه، وهذا ما تكرر التعرض له في الكتاب الكريم:
﴿وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً﴾ (الإسراء: ٩٤).
﴿ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ (الشعراء: ١٥٤).
﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأعراف: ٦٣).
وغير ذلك من الآيات.
فاقتضى ذلك أن يأتي الأنبياء (عليهم السلام) بما يرفع الاستبعاد من خلال المعجزة.
وكان حقاً للناس أن يؤتى لهم بشواهد الصدق وبراهين الحق، إلّا إذا كان طلب المعجزة على نحو من التبطر لا بداعي التبصر.
وقد كان ذلك جارياً مع الأئمة (عليهم السلام)، فما أكثر المعجزات التي توفرت عليها كتب السيرة لهم (عليهم السلام).
وفي الغيبة الكبرى حُرم الناس من ذلك كله، وفوق ذلك كانت المفردة الاعتقادية غاية في الغرابة، فأن يغيب شخص موجود في هذه النشأة عن أعين الناس ولا خبر عندهم عنه إلّا في ضمن بيانات التعبد، فإن في قبول ذلك ثقلاً على النفس كبيراً ومنفذاً لوسوسة الشيطان واستهزاء الخلق وسخريتهم.
٣ - الخروج عن المألوف من جهة أخرى:
تتمثل في طول عمره على نحو لم نشهد مثله ولا آباؤنا ولا أجدادنا، بل لم نسمع به حتى في كتب التاريخ من حين اخترع الإنسان الكتابة إلى يومنا هذا، وغرابة القضية مدعاة لصعوبة الاعتقاد بها، ولا منجى أيضاً إلّا بحبل التعبد بالبيانات الواردة عن دائرة العصمة.
٤ - بعد سلامة جهة الاعتقاد تبقى مسألة طول الأمد:
وقد رجع قوم موسى (عليه السلام) إلى عبادة العجل وتركوا عبادة الله الواحد في تأخير عشرة أيام حين أتم مدة الميقات عشرة أيام مضافة إلى الثلاثين، حتى جاء موسى (عليه السلام) غاضباً أسفاً قائلاً لهم معاتباً: ﴿أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ (طه: ٨٦).
فما بالك بوعد امتد الزمان قبل الوفاء به أكثر من ألف ومائة واثني عشر عاماً من حين شروع الغيبة الكبرى، والله يعلم كم سينتظر الموالون ليتحقق هذا الوعد، والله لا يخلف الميعاد.
لقد كان النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع كل بركات وجوده في هذه النشأة مع قومه وبين ظهرانيهم، وحين أخبرهم بأنهم سيدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين، وذهبوا للحج ومنعهم أهل مكة من أداء الفريضة وأخبرهم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن وعد الله تأخر سنة مع توفر معطيات الواقع، مضافاً إلى إخبار الغيب بأنهم سيتمكنون من أداء الفريضة، إذ نصت فقرات صلح الحديبية على ذلك، ومع ذلك اعترض القوم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع كل ما رأوا من معجزاته وما أحاط بهم من بركاته.
وقريب من ذلك ما حصل في معركة حنين حتى قالوا: ﴿مَتى نَصْرُ اللهِ﴾، في مفردة تحكي خصلة في النفوس البشرية.
أترى أن النفوس يسهل عليها الانصياع والبقاء على المعتقد ولوازمه من السلوك والانضباط مع كل هذا الأمد الزماني؟
لا شك أنه أمر غاية في الصعوبة والثقل من الناحية العملية.
وفي الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مزاولة الجبال أيسر من مزاولة ملك مؤجل، واستعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، لا تعاجلوا الأمر قبل بلوغه فتندموا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم»(١٨).
إن السنين بتواليها في المرور على الفرد وعلى تعاقب الأجيال جيلاً بعد جيل، تجعل النفس البشرية للمؤمن والمعتقد بالإمام الثاني عشر (عجّل الله فرجه) في فتور وضعف ارتباط بهذا المعتقد، حتى يصل الكثير منهم إلى أن يقول: (هلك، في أي وادٍ سلك)، كما تقول بعض الروايات(١٩)، هذا إن بقي على معتقده. واستبعاد ما بنى الإنسان على حصوله وتمنى إدراكه ووصوله، يجعل النفس أقل ارتباطاً، به فتبدأ قسوة القلب شيئاً فشيئاً.
٥ - تراكم الضغوط على النفس المعتقدة:
من جهة سطوة الأنظمة المعادية لأهل البيت (عليهم السلام) والمحاربة لأتباعهم، مما قد يعني ضعفها أمام هذه الضغوط. فقد أعقبت دولٌ دولاً، وتوالت فترات حكمها المظلمة على أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد اجتمعت شدة الفتن وتراكم الزمان وقلة العدد وكثرة العدو كما ورد في الشكوى التي ضُمت إلى غيبة الولي.
٦ - الحرمان من التواصل مع حجة الله وخليفته في أرضه بما له من بركات عظيمة وأثر كبير على النفوس:
وكم كان للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من تأثير على المؤمنين الذين يأتون إليه، وقد ورد في كلمات بعض أصحاب النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) التصريح بذلك وأصحاب الأئمة (عليهم السلام).
في الرواية عن سلام بن المستنير قال: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فدخل عليه حُمران بن أعين وسأله عن أشياء، فلما همَّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر (عليه السلام): أخبرك أطال الله بقاءك وأمتنعنا بك، أنا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا وتسلو أنفسنا عن الدنيا ويهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس والتجار أحببنا الدنيا، قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): «إنما هي القلوب مرة تصعب ومرة تسهل»، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): «أما إن أصحاب محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قالوا: يا رسول الله نخاف علينا النفاق، قال: فقال: ولم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا ورغبتنا وجلسنا ونسينا الدنيا وزهدنا حتى كأننا نعاين الآخرة والجنة والنار ونحن عندك، فإذا خرجنا من عندك ودخلنا هذه البيوت وشممنا الأولاد ورأينا العيال والأهل، يكاد أن نحول عن الحالة التي كنا عليها عندك، حتى كأننا لم نكن على شيء. أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقاً؟ فقال لهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، والله لو تدوموا على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتم الملائكة ومشيتم على الماء...»(٢٠) الحديث.
وواضح من هذه الرواية أن اللقاء مع المعصوم (عليه السلام) كان يعد محطة لإعادة التأهيل المعنوي للمؤمنين يحتاجون إليها بين الفينة والأخرى.
دلائل عدم إرادة مجرد الانتظار:
هناك جملة من الدلائل والشواهد على أن مجرد الانتظار ليس هو المراد من الأمر وجعله عبادة، بل أفضل عبادة كما ورد في بعض الروايات، وإنما يراد شيء آخر ملزوم له، وهو معرفة الإمام (عجّل الله فرجه) والصبر على ما يواجهه من عناصر الضغط التي يواجهها المعتقِد بإمامة المنتظر (عجّل الله فرجه)، ونستعرض الآن هذه الدلائل:
الأول: الانتظار أمر مقدِّمي، فلا يكون مطلوباً نفسياً:
إن الانتظار أمر مقدمي دائماً، والأمور المقدمية لا تطلب لذاتها، وإنما تطلب لذي المقدمة، ولا يُتحرك لها إلّا في حدود الشروع في التحرك لذيها، وانصباب التكليف عليه لا يمكن أن يتمحض طلباً له ورغبة فيه في نفسه. ومقدميته ليست كمقدمية الوضوء الذي نتعقل أن الشارع المقدس قد يطلبه لذاته، فيكون مستحباً نفسياً في مقابل الغيري، إذ لا مانع من أن يطلب الشارع الوضوء نفسياً، واشتراط الصلاة المطلوبة به لا يمنع من أن ينصب عليه طلب نفسي - في بعض الحالات -. أمّا الانتظار فهو من طبيعته - وبغض النظر عن توقف شيء عليه - لا يكون إلّا مقدمياً، فلا معنى لطلبه في نفسه. فلا معنى لكونه عبادة في نفسه، إذ العبادية تحتاج إلى أمر ليكسب الإتيان بالمأمور به الشرعية والإتيان به بداعي القربة. فضلاً عن أن يكون أفضل العبادة أو أفضل الأعمال لأفراد الأُمّة وأحبها إلى الله (عزَّ وجلَّ).
ومن هنا لا تجد شيئاً في الروايات يبين ما يقتضيه الانتظار أو شيئاً هو من تطبيقاته، بل حتى في الروايات التي مدحت المنتظرين وجعلتهم أفضل أهل كل زمان، علّلت ذلك بارتقاء مستوى فهمهم وهو مقدمته ولازمه. ففي الاحتجاج عن أبي حمزة الثمالي عن أبي خالد الكابلي عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: «تمتد الغيبة بولي الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة بعده، يا أبا خالد إن أهل زمان غيبته القائلون بإمامته المنتظرون لظهوره أفضل أهل كل زمان، لأن الله تعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة...» الخبر(٢١).
الثاني: إطلاق الأوامر بالانتظار للأجيال التي لا تدرك الفرج:
إن الروايات التي حثت على الانتظار مطلقة تشمل فترات يعلم الأئمة (عليهم السلام) أن الأمر المنتظر لا يتحقق فيها بنحو يدركه المنتظرون. فبعض الروايات صدرت عن النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كالرواية الأولى والثانية في باب انتظار الفرج في البحار، وبعض صدر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) كالرواية الثالثة والسابعة في الباب.
وبعضها عن الإمام السجاد (عليه السلام) كالرواية الرابعة في الباب وهي رواية أبي خالد الكابلي وقد نقلناها في طيات البحث.
وبعضها عن الإمام الباقر (عليه السلام) كرواية عبد الحميد الواسطي وهي السادسة عشرة في الباب.
وبعضها عن الإمام الصادق (عليه السلام) كالرواية الرابعة عشرة والخامسة عشرة والثامنة عشرة في الباب.
وبعضها عن الإمام الكاظم (عليه السلام) كالرواية الحادية والعشرين.
والإمام الرضا (عليه السلام) كالرواية الثانية والعشرين.
وفي تلك الفترات كان الأئمة (عليهم السلام) يعلمون أن موعد ظهور الإمام وإنشاء دولة الحق ليس قريباً حتى يمكن لهؤلاء الناس المعاصرين أن يدركوه، فيكون ذلك مطمعاً لهم وشيئاً مأمولاً لهم أن يدركوه، بل هو كذلك حتى لأجيال لاحقة. كيف لا وهم يعلمون أنه لابد أن يكتمل عقد النبوة بالاثني عشر جميعاً، وهذا يعني أن الدعاء لم يكن لأجل أن يتحقق المدعو به وكما يأمله الداعون، خصوصاً وأن الروايات التي تحدثت عن الغيبة وضرورة وقوعها قد صدرت من كل المعصومين: رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبقية الأئمة (عليهم السلام)، وأنها ستطول أمداً بعيداً، وهذا يعني ضمناً أنهم (عليهم السلام) في الوقت الذي كانوا يوجهون الناس على مر العصور للانتظار كانوا يعلمون أن الأمر المنتظَر سوف لن يدرك من هؤلاء في حياتهم التي هي ظرف الانتظار.
وهذا يكشف أن المراد ليس نفس الأمر المنتظَر، وإلّا فأمرهم للناس بذلك عبثي بلا فائدة. وهم منزّهون عن ذلك قطعاً. فلابد أن يكون المراد شيئاً ملازماً له، وقد أوضحته بعض الروايات وإن لم يكن ببيان مباشر.
الثالث: عدم تحديد ما يقتضيه الانتظار في المأثور:
مما يمكن أن يكون قرينة على أن المراد ليس ذات الانتظار: أن الروايات وإن تحدثت عنه وحثتنا عليه وأعطته تلك الدرجة من الأهمية، لكنها لم تتعرض لشيء مما يقتضيه لا بتحديد نوع عبادة ولا صنف سلوك ولا سنخ تعاطي، وهذا يكشف عن أنه لا يراد من المكلف في ظرف الغيبة غير ما يراد في زمن الحضور، ومن هذه الناحية لا فرق بين زمن الحضور وزمن الغيبة، وإلّا فهل تتصور أن الشريعة التي حثتنا عليه وهو بالنحو الذي يمتد على عمر المكلف بكامله دون أن تجد عيناً أو أثراً في موروثها يحكي تفاصيل ما يتحقق به امتثال هذا الأمر؟
بل إن بوصلة تحديد ما يراد من المؤمن في زمن الغيبة تتجه في الروايات إلى شيء آخر وهو الثبات والتمسك بأمرهم (عليهم السلام) والصبر على ما هو في أيديهم وعدم استعجال الفرج.
ففي كمال الدين مسنداً عن أبي بصير عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «طوبى لمن تمسك بأمرنا في غيبة قائمنا فلم يزغ قلبه بعد الهداية»، فقلت له: وما طوبى؟ قال: «شجرة في الجنة أصلها في دار علي بن أبي طالب (عليه السلام) وليس من مؤمن إلّا وفي داره غصن من أغصانها، وذلك قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ﴾ [الرعد: ٢٩]»(٢٢).
وفي أخرى مسندة عن الإمام السجاد (عليه السلام) قال: «من ثبت على موالاتنا في غيبة قائمنا أعطاه الله (عزَّ وجلَّ) أجر ألف شهيد من شهداء بدر وأُحُد»(٢٣).
ولتكن هذه الرواية شاهداً لا دليلاً.
الرابع: تحديد الأئمة (عليهم السلام) الوظيفة في الغيبة:
لا شك أن فترة الغيبة غير زمن الظهور بالنسبة للمكلفين، فلا أقل من أنهم محرومون من السؤال عما تريده الشريعة بشكل عام وجزئياتها عن جهة لا تقبل الخطأ، وحين يسمع الناس بمثل هذه المعضلة يتبادر إلى أذهانهم ما يواجهونه من تبعات عدم الوصول إلى المعصوم (عليه السلام)، ولذلك يسألون عن ماذا يفعلون مادامت الفرصة متاحة للاتصال بالمعصوم الحاضر. وقد تكرر السؤال عنهم (عليهم السلام)، وكان الجواب شيئاً آخر غير الانتظار.
ففي الرواية المسندة إلى الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يكون فترة لا يعرف المسلمون إمامهم فيها؟ قال: «يقال ذلك»، قلت: فكيف نصنع؟ قال: «إذا كان ذلك فتمسكوا بالأمر الأول حتى يتبين الآخر»(٢٤).
نعم، يمكن الإشكال على الاستدلال بهذه الرواية هنا أنها تتحدث عن صورة عدم معرفة الإمام (عليه السلام)، لا عن غيبته، فهي أجنبية عن محل كلامنا.
لكنه مردود:
أولاً: بأن سؤال السائل كان عن غيبة الإمام (عجّل الله فرجه)، إذ إن السائل سأل عن معلومة وصلته أنه تأتي فترة لا يعرف المؤمنون أو المسلمون إمامهم، وجواب الإمام (يقال ذلك) شاهد على أنه عنى مفردة جزئية.
وثانياً: هناك جملة من الروايات ورد السؤال فيها عن ماذا يفعلون إذا غاب الإمام، فأجاب الإمام (عليه السلام) بنفس الجواب في هذه الرواية.
ومن هذه الروايات صحيحة عبد الله بن سنان، قال: دخلت أنا وأبي على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: «كيف أنتم إذا صرتم في حال لا يكون فيها إمام هدى ولا علم يرى، فلا ينجو من تلك الحيرة إلّا من دعا بدعاء الغريق»(٢٥)، فقال أبي: هذا والله البلاء، فكيف نصنع جعلت فداك حينئذٍ؟ قال: «إذا كان ذلك ولن تدركه فتمسكوا بما في أيديكم حتى يصح لكم الأمر»(٢٦).
وصحيحة الحارث بن المغيرة النصري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إنّا نروي بأن صاحب هذا الأمر يفقد زماناً، فكيف نصنع عند ذلك؟ قال: «تمسكوا بالأمر الأول الذي أنتم عليه حتى يبين لكم»(٢٧).
وهكذا في رواية أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «يأتي على الناس زمان يصيبهم فيها سبطة يأرز العلم فيها كما تأرز الحية في جحرها، فبينا هم كذلك إذ طلع عليهم نجم». قلت: فما السبطة؟ قال: «الفترة»، قلت: فكيف نصنع فيما بين ذلك؟ قال: «كونوا على ما أنتم عليه حتى يطلع الله لكم نجمكم»(٢٨).
ويأرز من أرز مثلثة الراء - أي بالفتح والكسر والضم - بمعنى انقبض وتجمع وثبت فهو آرز وأروز، وأرزت الحية لاذت بجحرها ورجعت إليه وثبتت في مكانها، وأرزت الليلة بردت على ما ذكره الفيروز آبادي في القاموس(٢٩).
وأوضح من ذلك كله الرواية المسندة عن صالح بن محمد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن لصاحب هذا الأمر غيبة، المتمسك فيها بدينه كالخارط لشوك القتاد بيده»، [ثم أومأ أبو عبد الله (عليه السلام) بيده هكذا] قال: «فأيكم يمسك شوك القتاد بيده»؟ ثم أطرق ملياً ثم قال: «إن لصاحب هذا الأمر غيبة، فليتَّق الله عبد عند غيبته وليتمسك بدينه»(٣٠).
ومثل صحيحة الحارث صحيحة زرارة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم»، فقلت له: ما يصنع الناس في ذلك الزمان؟ قال: «يتمسكون بالأمر الذي هم عليه حتى يتبين لهم»(٣١).
ومرسلة يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «كيف أنتم إذا بقيتم دهراً من عمركم لا تعرفون إمامكم»؟ قيل له: فإذا كان ذلك كيف نصنع؟ قال: «تمسكوا بالأمر الأول حتى يستبين لكم»(٣٢).
وفي رواية زرارة الأخرى وهي معتبرة على القول بكفاية ترضي الصدوق في الوثاقة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إن للقائم غيبة قبل أن يقوم»، قلت له: ولِمَ؟ قال: «يخاف» وأومأ بيده إلى بطنه، ثم قال: «يا زرارة وهو المنتظر الذي يشك الناس في ولادته، منهم من يقول: هو حمل، ومنهم من يقول: هو غائب، ومنهم من يقول: ما ولد، ومنهم من يقول: ولد قبل وفاة أبيه بسنتين، غير أن الله تبارك وتعالى يحب أن يمتحن الشيعة، فعند ذلك يرتاب المبطلون».
قال زرارة: فقلت: جعلت فداك، فإن أدركت ذلك الزمان فأي شيء أعمل؟ قال: « يا زرارة إن أدركت ذلك الزمان فأدم هذا الدعاء، اللهم عرِّفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني...» الخبر(٣٣).
وليس من إشكال في السند وفق نقل الصدوق إلّا في أحمد بن محمد بن يحيى الذي ترضّى عنه الصدوق في نفس نقله لسند هذه الرواية. وفي عثمان بن عيسى الكلابي، وقد وثقه السيد الخوئي في معجمه رغم قوله إنه كان منحرفاً عن الرضا (عليه السلام)، لكنه ذكر قرائن الوثاقة، مضافاً إلى أن البعض عدّه من أصحاب الإجماع.
وسند الخبر في الكافي مجهول، لمكان عبد الله بن موسى في سنده، كما ذكر المجلسي في مرآة العقول(٣٤).
الخامس: ما دل على أن انتظار الفرج من الفرج:
ومما يمكن أن يستفاد منه أن انتظار الفرج لم يرد بما هو انتظار، بعضُ الروايات التي ذكرت أن انتظار الفرج من الفرج أو هو نفس الفرج، وهو معنى قد تكرر في الروايات.
ففي صحيحة الحسن بن الجهم قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن شيء من الفرج، فقال: «أَوَلست تعلم أن انتظار الفرج من الفرج؟»، قلت: لا أدري إلّا أن تعلمني، فقال: «نعم انتظار الفرج من الفرج»(٣٥).
وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك متى الفرج؟ فقال: «يا أبا بصير أنت ممن يريد الدنيا؟ من عرف هذا الأمر فقد فرج عنه بانتظاره»(٣٦).
فإذا كان المنتظَر هو الفرج، والفرج يتحقق بمعرفة أمر الإمامة، علمنا أن المراد ليس الانتظار وإنما معرفة الإمامة أو البقاء على معرفته، وما زاد على ذلك وفق رواية أبي بصير فهو أمر مرتبط بالدنيا، ولذلك سأله الإمام (عليه السلام) عندما سأله عن موعد الفرج - فقال: «أنت ممن يريد الدنيا»؟ إذ إن الروايات حدثتنا عن أمور وأشياء تحصل عند ظهوره (عجّل الله فرجه) مثل امتلاء الأرض بالعدل بعدما هيمن عليها الباطل وإخراج الأرض بركاتها وفتح السماء بالخيرات أبوابها وانتشار الأمن والسلام فيها وما إلى ذلك.
ويمكن أن نلحق بهذه الروايات في الدلالة المزبورة الروايات التي تحدثت عن أن من رُزِقَ المعرفة بإمامه لم يضره تأخر هذا الأمر، مثل حسنة زرارة بإبراهيم بن هاشم قال:
قال أبو عبد الله (عليه السلام): «اعرف إمامك فإنك إذا عرفته لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر»(٣٧).
فإذا لم يضره التأخر فهذا يعني أنه لا فرج ليُنتظر، بل لا شدة لينتظر لها فرجاً.
ورواية الفضيل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله (عزَّ وجلَّ) ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ﴾ [الإسراء: ٧١] فقال: «يا فضيل، اعرف إمامك فإنك إذا عرفت إمامك لم يضرك تقدم هذا الأمر أو تأخر، ومن عرف إمامه ثم مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، لا بل بمنزلة من كان قاعداً تحت لوائه»(٣٨).
وفي سندها محمد بن جمهور الذي لا توثيق له إلّا بناء على تمامية كبرى من ورد في أسانيد كامل الزيارة، كما أن فيها محمد بن مروان المشترك. وكيف كان فهي غير تامة السند.
ومثلها في الدلالة وضعف السند رواية إسماعيل بن محمد الخزاعي قال: سأل أبو بصير أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا أسمع، فقال: أتراني أدرك القائم (عليه السلام)؟ فقال: «يا أبا بصير، لست تعرف إمامك»؟ فقال: بلى والله وأنت هو، فتناول يده وقال: «والله ما تبالي يا أبا بصير أن لا تكون محتبياً بسيفك في ظل رواق القائم (عليه السلام)»(٣٩).
وهناك روايات أخرى، وفيما نقلناه كفاية.
لماذا صُبّ الطلب على الانتظار مع عدم كونه مراداً بالذات؟
تشكّل حالة الترقب عنصر ضغط كبير على النفس البشرية تضيق به، وهذا ما يخرجها عن الموضوعية. وكلما ازدادت أهمية المترقَّب ازداد اضطراب النفس، فإن لم يكن حصول الأمر المترقَّب اختيارياً لها ولا كانت مقدماته أو بعضها اختيارياً انعكس ذلك على نوع الأُمنْية التي تملك النفس أو على متعلق الدعاء لمن كان معتقداً بتأثير المدعو، وقد سجلت لنا الروايات حال بعض المترقبين يوم القيامة في مفردة جديرة بالتأمل.
فعن خيثمة الجعفي قال: كنت عند جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنا ومفضل بن عمر ليلاً ليس عنده أحد غيرنا، فقال له مفضل الجعفي: جعلت فداك، حدثنا حديثاً نُسَرُّ به، قال: «نعم، إذا كان يوم القيامة حشر الله الخلائق في صعيد واحد حفاة عراة غرلاً(٤٠)»، قال: فقلت: جعلت فداك، وما الغرل؟ قال: «كما خلقوا أول مرة، فيقفون حتى يلجمهم العرق(٤١) فيقولون: ليت الله يحكم بيننا ولو إلى النار...»(٤٢).
وعن تفسير القمي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ (يس: ٥٩)، قال: إذا جمع الله الخلق يوم القيامة بقوا قياماً على أقدامهم حتى يلجمهم العرق فينادوا: يا رب حاسبنا ولو إلى النار...»الخبر(٤٣).
انظر إلى شدة الضغط على النفس التي أوصلتها إلى طلب الحساب ولو كان فيه احتمال الدخول إلى النار. والنار ليست بعيدة عنهم، ومع ذلك يخاطرون بطلب الحساب. اذا لاحظنا مجرد تصبب العرق ولو بلغ الى مستوى غطى الأفواه فهو غير قابل للمقايسة بالنار، ولو لم نلاحظ حالة الضغط التي تمر بها النفس لما كان طلبها للحساب - مع احتمال أن يكون المآل إلى النار - منطقياً أبداً، لكن ملاحظته تجعله أمراً منسجماً مع البنية النفسية لأبناء النوع البشري.
أمّا إذا كان الأمر المترقَّب اختيارياً أو كانت بعض مقدماته اختيارية أو كان مما يتوهم كونه كذلك، فإن ذلك يدفع باتجاه الاستعجال لتحقيقه أو تحقيق بعض مقدماته الاختيارية.
والاستعجال سمة من يخاف الفوت.
ولما كان بنو النوع متلبسين بالعجز وإن أوتوا من أسباب القوة ما أوتوا، كانت العجلة شأناً لهم. وقد نبه القرآن لهذه السمة البشرية، فقد قال تعالى: ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً﴾ (الإسراء: ١١).
وقال تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ (الأنبياء: ٣٧).
ويقول في آية أخرى عن بني النوع: ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ (القيامة: ٢٠-٢١).
ولما كانت هذه سمة لأبناء النوع البشري، امتدت لتشمل حتى الأنبياء، ومن هنا قال له الله تعالى: ﴿وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى * قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى﴾ (طه: ٨٣-٨٤).
وطلب الله تعالى من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن لا يستعجل بتلاوة القرآن قبل وحيه فقال:
﴿وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾ (طه: ١١٤).
وقال تعالى: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ (القيامة: ١٦).
فإنه لولا وجود مقتض للاستعجال في نفس النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما نهاه الله تعالى عن ذلك.
وقيام الإمام (عجّل الله فرجه) ونهوضه لإقامة العدل في الأرض شيء تتوق له نفوس المؤمنين، وهذا ما يدعوهم للاستعجال وفق بنية النفس البشرية، وهذا ما له تبعات سيئة جداً، فأراد الأئمة (عليهم السلام) أن يوجدوا رادعاً عن ذلك وعنصر توازن يفترض أن يترك أثره على الأتباع والمناصرين من خلال التركيز على الانتظار وأهميته في الشريعة وعظم الثواب المترتب عليه.
إن اجتماع الضغط الكبير على النفس - انعكاساً للترقب واتِّصاف النفس بالاستعجال، الذي يرجع سببه أو بعض سببه إلى خوف الفوت، فيده ليست مبسوطة القدرة لتحقق ما ترغب به في الكون - كان سبباً في خروج الإنسان عن الموضوعية في قراءة الواقع، والممكن من النتائج المرادة، فاحتاج ذلك إلى أن يقف الشارع أمام هذا الدافع لإعمال الموازنة من منطلق محبة الله تعالى لخلقه، وعدم اقتصاره على ما تتم به الحجة.
إن وجود مفردات الضغط المتقدمة وغيرها على المكلفين، دعت إلى أن يتخذ الشارع بعض ما يمكن أن يكون عنصراً في إحداث عملية توازن في نفس المكلف، يدفعها نحو التشبث بمعتقدها والتأمل فيه، ويتمثل ذلك في إعمال عناية التعبد واستحقاق الثواب على هذا العمل المطلوب شرعاً بمآلاته، فوردت الروايات المتعددة التي ألبست الانتظار ثوب العبادة وجعلته منشأ لاستحقاق الثواب العظيم والأجر الجزيل.
كما كانت عنصر موازنة في مقابل حالة الاستعجال في التحرك قبل أوانه التي قد تتملك المؤمنين به (عجّل الله فرجه) والثابتين على معتقدهم. وقد وردت بعض الروايات التي حذرت المستعجلين.
ففي الرواية مسنداً عن أبي المرهف قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) قال: «هلكت المحاضير»، قلت: وما المحاضير؟ قال: «المستعجلون، ونجا المقربون وثبت الحصن على أوتادها، كونوا أحلاس بيوتكم، فإن الفتنة على من أثارها...» الخبر(٤٤).
وجاء مسنداً بسند مجهول عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله (عزَّ وجلَّ): ﴿أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ قال: «هو أمرنا أمر الله لا يستعجل به...» الخبر(٤٥).
وفي ثالثة عن الإمام الباقر (عليه السلام) بسند مجهول أيضاً عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: «هلك أصحاب المحاضير ونجا المقرِّبون وثبت الحصن على أوتادها، إن بعد الغم فتحاً عجيباً»(٤٦).
ومن المصالح المترتبة على الانتظار - وبتعبير أدق من فوائد انصباب الأمر ظاهراً على الانتظار للفرج - الأمل الذي يبعث على التحرك ويمنع من اليأس، وقد ورد هذا في كلام الإمام الكاظم (عليه السلام) لعلي بن يقطين:
«يا علي، إن الشيعة تربى بالأماني منذ مائتي سنة»(٤٧).
وقد استفاد علي من كلام الإمام الكاظم (عليه السلام) في جوابه لأبيه الذي كان عباسي التوجه فسأل علياً: ما بالنا قيل لنا فكان، وقيل لكم فلم يكن؟ فقال له علي: إن الذي قيل لكم ولنا من مخرج واحد، غير أن أمركم حضر فأعطيتم محضه وكان كما قيل لكم، وأن أمرنا لم يحضر فعللنا بالأماني، ولو قيل لنا: إن هذا الأمر لا يكون إلى مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة لقست القلوب ولرجعت عامة الناس عن الإسلام، ولكن قالوا ما أسرعه وما أقربه تألفاً لقلوب الناس وتقريباً للفرج(٤٨).
وكان علي قد سأل الإمام الكاظم (عليه السلام) حين قال له: ما بال ما روي فيكم من الملاحم ليس كما روي، وما روي في أعاديكم قد صح؟ فقال (عليه السلام): «إن الذي خرج في أعدائنا كان من الحق فكان كما قيل، وأنتم عللتم بالأماني فخرج إليكم كما خرج»(٤٩).
هذا فضلاً عن أن الانتظار وانصباب الطلب عليه ووصفه بالعبادة الأفضل عند الله تعالى، يدفع باتجاه المعرفة والثبات على المبدأ، كما لاح لك من طيات البحث فلا تغفل.
توجيه روايات المنع عن التحرك في زمن الغيبة:
وفق ما تقدم من السياق يمكن أن نفهم ما ورد مطلقاً مما ظاهره المنع عن التحرك في زمن الغيبة، وأن كل راية ترفع فيها فهي راية ضلالة أو أن صاحبها طاغوت.
ففي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): «واعلم أنه لا تقوم عصابة تدفع ضيماً أو تعز ديناً إلّا صرعتم البلية حتى تقوم عصابة شهدوا بدراً مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يوارى قتيلهم ولا يرفع صريعهم ولا يداوى جريحهم»، قلت: من هم؟ قال: «الملائكة»(٥٠)، وهي مرسلة.
وفي أخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام): «كونوا أحلاس بيوتكم، فإن الفتنة على من أثارها، وأنهم لا يريدونكم بحاجة، إلّا أتاهم الله بشاغل لأمر يعرضهم»(٥١).
وفي سندها علي بن الصباح بن الضحاك وهو مجهول، وكذا أبو مرهف.
وفي رواية جابر بن يزيد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: «اسكنوا ما سكنت السماوات والأرض، أي لا تخرجوا على أحد فإن أمركم ليس به خفاء، إلّا أنها آية من الله (عزَّ وجلَّ) ليست من الناس...» الخبر(٥٢).
وهي ضعيفة أيضاً لمكان عبيد الله بن موسى ومنخل بن موسى.
وفي رواية أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كل راية ترفع قبل قيام القائم (عليه السلام) فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله (عزَّ وجلَّ)»(٥٣)، وهو موثق على قول المجلسي في مرآة العقول(٥٤).
وبغض النظر عن الإشكال السندي، فإن هذه الروايات وإن كانت مطلقة، إلّا أنه يكفي وجود القرينة الخارجية لتقييد إطلاقها أو لرفع اليد عن ظهورها في وجوب القعود.
والقرينة الخارجية يمكن أن تكون إطلاقات أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مضافاً إلى الإطلاقات فيما حث على الجهاد والتي سوّغت الجهاد الدفاعي وفق نظر كل الفقهاء، والأعم منه ومن الجهاد الابتدائي وفق نظر البعض وإن كان قولاً نادراً. مضافاً إلى وجوه أخرى تحتاج إلى بحث تخصصي منفرد.
والذي يبدو: أن الأئمة (عليهم السلام) لخصوصية الاستعجال في النوع البشري واقترانه بمظلومية دامت دهوراً على أتباع المذهب، مع قراءة منهم (عليهم السلام) لواقع أن الحكومات الجائرة ولوقت طويل غير قابلة للسقوط، مع ملاحظة ما يترتب على التحرك بعد فشله من الخسائر الكبيرة، أغلقت الباب بظاهر أدلة مطلقة حذراً من تلك التضحيات التي كانت ستذهب جفاء لو أن الاتباع أو بعضهم كان قد اتبع مسلك الثورة ضد الظالمين، فضلاً عن التداعيات التي تأتي بعدها، فتنفر الحاكم الجائر ثم تنكيله وفتكه باتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) قبل الثورة عليه ليس كما بعد ثورة فاشلة.
والإمام (عليه السلام) ببيانه لا يكون ناظراً إلى زمان دون زمان، وإنما هو خطاب واحد يصدر منه.
فإن قيل: كان بإمكان المعصوم أن يحدد تلك الضوابط الواقعية للتمييز بين مورد الثورة وزمان وجوبها أو رجحانها بالحد الأدنى عن موارد المنع، فلم لم يسلك هذا الطريق.
قلنا: المشكلة تكمن في التطبيق لو كان الإمام (عليه السلام) قد بيَّن الضابطة، والتطبيق في هذا الموضوع مورد احتمال كبير للوقوع في الاشتباه والخطأ.
هذا مضافاً إلى أن مثل هذا البيان لو صدر فإنه يمكن أن يقع في أيدي الظالمين مما يعطي انطباعاً لماكنة الحكم الجائر عن الشيعة وأن مذهبهم يدعوهم إلى الثورة على حكوماتهم، مما يستوجب توجيه يد البطش والتنكيل إليهم، مع ملاحظة أن دائرة النجاح في مواجهة عسكرية مع الحكم ضيقة جداً على مرِّ التاريخ.
الهوامش:
(١) الكافي: ج١، ص٢٣.
(٢) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): باب٣١، ح٨٧.
(٣) كمال الدين: ب٢٥، ح٦.
(٤) الخصال: ج٢، أبواب المائة فما فوق، ح١٠.
(٥) الخصال: ج٢، أبواب المائة فما فوق، ح١٠.
(٦) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٢٦.
(٧) الخصال: ج٢، أبواب المائة فما فوقه، ح١٠.
(٨) مجمع البحرين: ج٤، ص٢٥٧، مادة (شحط).
(٩) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٢٦.
(١٠) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٢٥.
(١١) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٢٦.
(١٢) ج٥، ص٩٩.
(١٣) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٤٠.
(١٤) الكافي: ج٣، ص٢٢٨، ح٤.
(١٥) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٤٩-١٥٠.
(١٦) كمال الدين: ج١، ب٤٥، ح٨.
(١٧) الاحتجاج: ج٢، ح١٨٨.
(١٨) الخصال: ج٢، أبواب المائة فما فوقه، ح١٠.
(١٩) الغيبة للنعماني: ص١٧٦.
(٢٠) الكافي: ج٢، ص٤٢٤.
(٢١) الاحتجاج: ج٢، رقم١٨٨.
(٢٢) كمال الدين: ج٢، ب٣٣، ح٥٥.
(٢٣) كمال الدين: ج١، ب٣١، ح٧.
(٢٤) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٣٢.
(٢٥) في البحار الحريق وفي غيبة النعماني الغريق.
(٢٦) البحار: ج٥٢، ص١٣٣.
(٢٧) نفس المصدر والصفحة.
(٢٨) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٣٤.
(٢٩) القاموس: ج٢، ص١٧١.
(٣٠) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٣٥.
(٣١) كمال الدين: ج٢، ب٣٣، ح٤٤.
(٣٢) كمال الدين: ج٢، ب٣٣، ح٣٨.
(٣٣) كمال الدين: ج٢، ب٣٣، ح٢٤.
(٣٤) مرآة العقول: ج٤، ص٣٥.
(٣٥) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٣١.
(٣٦) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٤٢.
(٣٧) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٤١.
(٣٨) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٤١.
(٣٩) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٤٢.
(٤٠) الغرل بالغين المضمونة جمع أغرل من لم يختن.
(٤١) أي يصل إلى أفواههم فيصير لهم بمنزلة اللجام يمنعهم عن الكلام. هذا ما نقله المجلسي عن الجزري [بحار الأنوار: ج٨، ص٤٧].
(٤٢) بحار الأنوار: ج٨، ص٤٥.
(٤٣) بحار الأنوار: ج٧، ص١٠٣.
(٤٤) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٣٨.
(٤٥) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٣٩.
(٤٦) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٠٠-١٠١.
(٤٧) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٠٢.
(٤٨) غيبة الطوسي: ح٢٩٢.
(٤٩) علل الشرائع: ج٢، ب٣٨٥، ح١٦.
(٥٠) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٣٦.
(٥١) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٣٨.
(٥٢) بحار الأنوار: ج٥٢، ص١٣٩.
(٥٣) الكافي: ج٨، ص٢٩٥.
(٥٤) مرآة العقول: ج٢٦، ص٣٢٥.