تمهيدنا
يرون ما لا يُرى
رئيس التحرير
وُجِد الناس في هذه الدنيا ومصيرهم إلى غيرها، قال تعالى: ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ (العنكبوت: ٦٤).
يدرك هذه الحقيقة جميع الناس، إلّا أنَّ من يعمل لها هم أقل القليل.
نحن على يقين تام أنَّنا سنغادر هذه الحياة إلى حياة أخرى رغم شدة تمسُّكنا بها.
نسير جميعاً بإرادتنا - أو رغماً عنا - إلى تلك الدار، وكل ساعة تنقضي من أعمارنا تقربنا إلى دار مستقرنا.
هذه الحقيقة الناصعة الحاضرة في وجدان ومرتكزات جميع بني آدم، يتم تغيبها بقصد أو بغيره.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام)(١): «وإِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الأَعْمَى - لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً - والْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُه - ويَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا - فَالْبَصِيرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) - (تحقيق صالح): ص١٩١.
↑صفحة ٥↑
مِنْهَا شَاخِصٌ - والأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ - والْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ - والأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ».
وقال (عليه السلام)(٢): «وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا وَلِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ وَلِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَةٍ وَدَارِ بُلْغَةٍ وَطَرِيقٍ إِلَى الْآخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَرِيدُ المَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْهُ هاَرِبُه (وَلَا يفَوُتُهُ طاَلِبُه) وَلَابُدَّ أنَّه مُدْرِكُه».
وكم من نظير لهذا في الكثير من قضايا الإنسان العلمية والعملية، الدينية أو الدنيوية، ومن بين تلكم القضايا الواضحة الحضور والارتكاز، والمغيبة في ذات الوقت، هي العقيدة بالإمام الحجة بن الحسن (عجَّل الله فرجه)، فهو الإمام الحاضر الذي يجب على الناس الإيمان بإمامته الفعلية واليقين بحضوره معنا، ولكن بعض من يؤمن بهذه العقيدة لا يستحضرها ولا يرى حضور الإمام (عجَّل الله فرجه) في نفسه ووجدانه فضلاً عن أن يتعامل معه (عجَّل الله فرجه) بأنَّه حاضر ويراقب الناس ويوجِّههم من وراء الغيب بما فيه صلاحهم، قال (عليه السلام)(٣): «نحن وإن كنّا ثاوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح، ولشيعتنا المؤمنين في ذلك، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنّا يحيط علمنا بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالزلل الذي أصابكم، مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢) نهج البلاغة (ط . بنياد نهج البلاغة) - خطب الإمام علي (عليه السلام): ص٣٧٥.
(٣) بحار الأنوار - العلامة المجلسي: ج٥٣، ص١٧٩.
↑صفحة ٦↑
إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء، فاتقوا الله (عزَّ وجلَّ)، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم، يهلك فيها من حم أجله، ويحمى عليه من أدرك أمله، وهي أمارة لأزوف حركتنا ومباثتكم بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو كره المشركون».
العقيدة المهدوية مما دلَّت عليها الأدلة اليقينية القطعية وتفرع عنها الكثير من العقائد والأحكام والقيم.
إلّا أنَّنا نشعر بالوجدان غيابها عند بعض الناس.
حتى عبرت بعض الروايات بأنَّ جملة من هؤلاء يصل به التشكيك إلى حدِّ إنكار الولادة وعدم الإيمان بها كما جاء في ما رواه المفضل بن عمر قال(٤): سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «إياكم والتنويه، أما والله ليغيبن إمامكم سنين من دهركم، وليمحصن حتى يقال مات قتل (هلك) بأي وادٍ سلك، ولتدمعن عليه عيون المؤمنين ولتكفأن كما تكفأ السفن بأمواج البحر، فلا ينجو إلّا من أخذ الله ميثاقه، وكتب في قلبه الإيمان وأيَّده بروح منه، ولترفعن اثنتا عشرة راية مشتبهة لا يدرى أيٌّ من أي»، قال: فبكيت وقلت: فكيف نصنع؟ فقال: «يا أبا عبد الله» - ونظر إلى الشمس داخلة إلى الصفة - قال: «فترى هذه الشمس»؟ قلت: نعم ، قال: «والله لأمرنا أبين من هذه الشمس».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٣٦٥.
↑صفحة ٧↑
في مقابل هؤلاء هناك من يرى وجود الإمام (عجَّل الله فرجه) حاضراً في كل زاوية ومقطع من وجوده فيرى ما لا يراه غيره، ويستشعر ما لا يستشعره الناس ويتعامل مع وجود الإمام الغائب على أنَّه عين الله تعالى في الخلق والرقيب عليهم، فعن أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام)، قَالَ(٥): «نَحْنُ المَثَانِي الَّتِي أَعْطَاها اللهُ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وَنَحْنُ وَجْهُ اللهِ نَتَقَلَّبُ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَنَحْنُ عَيْنُ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَيَدُهُ المَبْسُوطَةُ بِالرَّحْمَةِ عَلى عِبَادِهِ، عَرَفْنَا مَنْ عَرَفَنَا، وَجَهِلْنَا من جهلنا...».
وفي الزيارة المخصوصة به في يوم الجمعة (عجَّل الله فرجه)(٦): «السلام عليك يا حجة الله في أرضه، السلام عليك يا عين الله في خلقه، السلام عليك يا نور الله الذي به يهتدي المهتدون، ويفرج به عن المؤمنين، السلام عليك أيها المهذب الخائف، السلام عليك أيها الولي الناصح، السلام عليك يا سفينة النجاة السلام عليك يا عين الحياة».
وهؤلاء القلة من الناس ممن يملك هذا الإيمان، قد وصفتهم بعض الروايات بأنَّهم أعز من الكبريت الأحمر لأنهم يؤمنون به سواداً على بياض، ولكن هذا الإيمان العلمي كان حافزاً لهم على تجسيده والتماسه في كل زاوية من زوايا وجودهم، فإنَّهم يرون ما لا يرى الناس بسبب عقيدتهم بالإمام (عجَّل الله فرجه) على حدِّ تعبير أمير المؤمنين (عليه السلام) حينما قال (عليه السلام): «فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥) الكافي (دار الحديث) - الشيخ الكليني: ج١، ص٥٩٢.
(٦) بحار الأنوار - العلامة المجلسي: ج٩٩، ص٢١٧.
↑صفحة ٨↑
وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنما اطَّلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الإقامة فيه، وحقَّقت القيامة عليهم عداتها، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون»(٧).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧) نهج البلاغة: ص٣٤٣، ح٢٢٢.
↑صفحة ٩↑