أبحاث العدد:
 البحث في العدد ١٦:
 الصفحة الرئيسية » اعداد المجلة » العدد ١٦/ ربيع الأول / ١٤٤٥هـ » الولاية والتدبـير للإمام الغائب (عجَّل الله فرجه)
 العدد ١٦/ ربيع الأول / ١٤٤٥ه

المقالات الولاية والتدبـير للإمام الغائب (عجَّل الله فرجه)

القسم القسم: العدد ١٦/ ربيع الأول / ١٤٤٥هـ الشخص الكاتب: الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي التاريخ التاريخ: ٢٠٢٣/١١/١٥ المشاهدات المشاهدات: ٨٢٠ التعليقات التعليقات: ٠

الولاية والتدبـير للإمام الغائب (عجَّل الله فرجه)

الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي

تمهيد:
تكثرت المسائل المتعلقة بالقضية المهدوية تبعاً لأهميتها عند البشرية جمعاء، إذ إنها من المسائل المتجذرة في تاريخ الشعوب عموماً، وكان لها حظ وافر من الديانات، سواء الوضعية منها أو السماوية، كما ذُكر هذا في محله.
وبتبع ذلك، فقد تعددت الشبه حولها، وتنوعت، حتَّى أنَّك ربما لا تجد مفردة من مفرداتها إلّا وقد أثيرت حولها الشكوك والشبهات، أو على الأقل الأسئلة بغية معرفة تفاصيلها، خصوصاً وأن من طبع الإنسان الميل نحو معرفة المجهول، ومحاولة استشراف المستقبل والعلم به، ما أوتي إلى ذلك سبيلاً، فكان اهتمامه بهذه القضية من هذه الناحية شديداً.
من جهة أخرى، فإنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بحسب الاعتقاد الحق هو الإمام الثاني عشر لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، والمولود سنة (٢٥٥هـ)، ومن ثم فالاعتقاد بحياته إلى اليوم يلازم العديد من المفاهيم، كطول عمره الشريف، وغيبته، وغيرها.

↑صفحة ١١٧↑

وفي هذه النقطة أثير جدل واسع في مسائل متعددة، ومنها الاستفسار - إن لم نقل طرح شبهة - عن دوره وهو في زمن الغيبة، وماذا يفعل فيها، وما نفعه لأتباعه، وما نفعه للدين، وغيرها من الأسئلة التي تدور حول محور واحد هو التشكيك في قيامه بما أوكل إليه من أدوار ومهام متعلقة بالإمامة.
هذا البحث ليس في مقام استقصاء أدواره (عجَّل الله فرجه) وبيانها(١)، إنَّما هو في مقام تسليط الضوء على دور يقوم به (عجَّل الله فرجه) من وراء ستر الغيب، وله من التأثير ما لا يُستغنى عنه، وهو دور الولاية التدبيرية للكون عموماً، ولأتباعه خصوصاً.
وهنا عدة نقاط:
النقطة الأولى: أنظمة العالم:
تتحكم في عالم المادة أنظمة متعددة، هي تجلٍ لقانون السببية العام الذي جعله الله تعالى شاملاً للكون، فلا وجود للصدفة بالمعنى الفلسفي (أي وجود المعلول من دون علة)، ولا وجود لأثر من دون مؤثر، هكذا أراد الله تعالى للكون، وهو أمر مشاهد بالوجدان قبل أن يدلّ عليه البرهان.
ليس لنا شغل - هنا - بالقانون التشريعي الذي قنّنه الباري (عزَّ وجلَّ) للبشر، فهو ليس محل نظر البحث، إنَّما شغل البحث بالقانون التكويني لهذا العالم، وهو ما أُشير إليه قبل قليل بقانون الأسباب والمسببات، ولنطلق عليه: قانون النظام التكويني العام.
ويتضمن هذا القانون العام أنظمة فرعية عديدة، يهمنا منها نظام التدبير والعناية، بأن تجري قوانين تكوينية معينة في حياة الفرد - ولو من حيث لا يشعر ولا يعلم - تصبّ في مصلحته، ولها مظاهر متعددة، قد يأتي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) بيَّنت تلك الأدوار بالتفصيل في بحث سابق في العدد (١٥) من مجلة الموعود، فراجع.

↑صفحة ١١٨↑

بعضها بصورة ضرر ظاهري، ولكن باطنه نفع واقعي للعبد لا يعلم به إلّا بعد حين، ﴿باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ﴾ (الحديد: ١٣).
خذ على ذلك مثالاً الغنى والفقر، فإنَّك قد تجد شاباً يافعاً لم يدَّخر جهداً في تحصيل المال، ولكن الفقر ما زال يقبع عند باب داره، وقد تجد آخر لا يبذل جهداً كبيراً، إلّا أنَّ موارده المالية كثيرة، وقد يُخرّج هذا على أساس الخبرة والهدفية وما شابه مما يُذكر في علم سياسة المال والتجارات، إلّا أنَّه قد يكون وراء ذلك تدبير غيبي هو تطبيق لما روي عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: «لـمَّا أُسري بالنبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: يا ربِّ، ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمّد...، وإنَّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلَّا الغنى، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك، وإنَّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلَّا الفقر، ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك»(٢).
مثال آخر: قد يدعو الإنسان بما يحسب أنَّه من مصلحته، إلّا أنَّ الحكمة الإلهية تأبى الإجابة، لأنَّها تؤول إلى مضرة العبد من حيث لا يعلم، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «فلرُبَّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أُوتيته...»(٣).
ومن تجليات هذا النظام هي العقوبات التكوينية، بأن تُعجّل بعض العقوبات لبعض البشر لأجل غاية معينة، قد تكون هي تربيتهم، وقد تكون دفع الضرر عن بعضهم بإهلاك بعض آخر، وقد تكون لجلب مصلحة لبعض بإنزال العقوبة بالبعض، وستتبين بعض أمثلة ذلك خلال البحث إن شاء الله تعالى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢) الكافي للشيخ الكليني (ج ٢/ ص٣٥٢/ باب من آذى المسلمين واحتقرهم/ ح٨).
(٣) نهج البلاغة (ج ٣/ ص٤٨ و٤٩).

↑صفحة ١١٩↑

ولابد من الإشارة: إلى أنَّ كل هذه السنن والقوانين الأصلية منها والفرعية تجري بمشيئة الله سبحانه وقدرته وحاكميته، سواء كانت بالمباشرة منه (عزَّ وجلَّ) أو من خلال الأسباب والوسائل، ومنها الملائكة والأولياء وغيرهم من جنود ربك.
النقطة الثانية: الولاية التدبيرية:
يُقصد من الولاية التدبيرية هنا: القدرة على التصرف في قوانين التكوين ونظام العالم بما يدخل في صلاحه، وتسيير أموره إلى الهدف من وجوده والغاية القصوى له، فهي نوع من العناية الخاصة بأمور الكون عموماً، ومفرداته المتكثرة - ومنها الإنسان - خصوصاً.
أو قل: هي مرتبة كمالية مرتبطة بالقدرة على التصرف في شؤون العالم وسننه وقوانينه.
وهي فرع من فروع الولاية التكوينية التي تعني تدخّل الولي في علل الوجود، أو كونه جزء علة في التأثير في الوجود، أو (هي عبارة عن تسخير المكونات تحت إرادتهم (عليهم السلام) ومشيتهم بحول الله وقوته)(٤).
وبتعبير آخر: عبارة عن تأثير مشية النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الإمام (عليه السلام) في أمر كوني بمجردها [أي بمجرد المشيئة] أو مع فعل ما يكون ذلك التأثير، من قبيل خرق العادة كإحياء عيسى (عليه السلام) وتفجير موسى (عليه السلام) العيون بضرب عصاه إلى غير ذلك(٥).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤) كتاب المكاسب والبيع - تقرير بحث النائيني للآملي: ج٢، ص؛٣٢. ومصباح الهدى في شرح العروة الوثقى - للشيخ محمد تقي الآملي: ج١٠، ص٣٧٠.
(٥) إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب - للميرزا جواد التبريزي: ج٣، شرح ص٢٠.

↑صفحة ١٢٠↑

وقد اتَّفقت كلمة علمائنا على ثبوت هذا المعنى من الولاية التكوينية لأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد صرَّح الكثير منهم بأنَّ ثبوتها للمعصومين (عليهم السلام) أمر مفروغ عنه، قال السيد الخوئي (قدّس سرّه): (أمّا الولاية التكوينية: فلا إشكال في ثبوتها وأنَّ المخلوقات بأجمعها راجعة إليهم وإنّما خلقت لهم، ولهم القدرة على التصرف فيها وهم وسائط التكوين، ولعلّ ذلك بمكان من الوضوح ولا يحتاج إلى إطالة الكلام)(٦).
وقال (قدّس سرّه): (في ولايتهم (عليهم السلام) التكوينية... فالظاهر أنَّه لا شبهة في ولايتهم على المخلوق بأجمعهم، كما يظهر من الأخبار، لكونهم واسطة في الإيجاد، وبهم الوجود، وهم السبب في الخلق، إذ لولاهم لما خلق الناس كلهم، وإنَّما خلقوا لأجلهم، وبهم وجودهم، وهم الواسطة في الإفاضة، بل لهم الولاية التكوينية لما دون الخالق، فهذه الولاية نحو ولاية الله تعالى على الخلق ولاية إيجادية، وإن كانت هي ضعيفة بالنسبة إلى ولاية الله تعالى على الخلق)(٧).
وقال السيد الروحاني (قدّس سرّه):
(الولاية التكوينية - أي ولاء التصرف التكويني - والمراد بها: كون زمام أمر العالم بأيديهم، ولهم السلطنة التامة على جميع الأمور بالتصرف فيها كيف ما شاءوا إعداماً وإيجاداً، وكون عالم الطبيعة منقاداً لهم لا بنحو الاستقلال بل في طول قدرة الله تعالى وسلطنته واختياره، بمعنى أنَّ الله تعالى أقدرهم وملكهم كما أقدرنا على الأفعال الاختيارية، وكل زمان سلب عنهم القدرة بل لم يفضها عليهم انعدمت قدرتهم وسلطنتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٦) التنقيح في شرح المكاسب - البيع (موسوعة السيد الخوئي) تقرير بحث السيد السيد الخوئي للغروي: ج٣٧، ص١٥٧.
(٧) مصباح الفقاهة للسيد الخوئي: ج٣، ص٢٧٩ و٢٨٠.

↑صفحة ١٢١↑

ومن هذا الباب معجزات الأنبياء والأولياء، وقد دلَّ الكتاب الكريم على ثبوت ذلك لأشخاص، قال الله تعالى: ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل: ٤٠] وقال عز من قائل: ﴿فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ * وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ﴾ [ص: ٣٦-٣٨]، وقال سبحانه: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ﴾ [آل عمران: ٤٩] إلى غير ذلك من الآيات المتضمنة لثبوت ولاء التصرف لأشخاص.
وإذا ثبت ذلك لهؤلاء فثبوته للرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخليفته الذي عنده علم الكتاب بنص القرآن لا يحتاج إلى بيان، وعليه فالروايات المتواترة المتضمنة للمعجزات والكرامات الصادرة على المعصومين (عليهم السلام) - كالتصرف الولائي في النقش وصيرورته أسداً مفترساً وما شاكل - إنَّما نلتزم بها ونعتقد من غير التزام بالتأويل، كيف ونرى أنَّهم (عليهم السلام) بعد موتهم تصدر عنهم كرامات من إبراء المريض الذي عجز الأطباء عن إبرائه، وحل معضلات الأمور وما شاكل، وليس ذلك إلّا لما ذكرناه.
ويمكن أن تكون الآية الكريمة: ﴿النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب: ٦) ناظرة إلى ثبوت هذا المعنى من الولاية أيضا للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
بالجملة: ثبوت الولاية بهذا المعنى للنبي والأئمة المعصومين - الذين يثبت لهم جميع ما يثبت للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للروايات الكثيرة المتواترة - مما لا ينبغي التوقف فيه.

↑صفحة ١٢٢↑

وأمّا شبهة استلزام ذلك للشرك، فهي تندفع بأنّا لا ندَّعي ثبوت ذلك لهم بالاستقلال، بل إنَّ الله تبارك وتعالى ملَّكهم وأقدرهم كما ملَّكنا وأقدرنا على الأفعال الاختيارية، وبه يظهر أن لا ينافيه قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا﴾ [الأعراف: ١٨٨] فإنَّ المراد عدم الملكية بالاستقلال)(٨).
والحاصل: أنَّ المقصود من الولاية التدبيرية للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) هي قدرته على التدخل في أمور الكون والإنسان، وقيامه بما يصب في مصلحته، وتيسير أموره، وتنظيمها.
النقطة الثالثة: مقتضيات الحكمة في ولاية التدبير:
تعني الحكمة الإلهية: أنَّ الله تعالى لا يفعل فعلاً جزافاً، ولا لعباً ولا لهواً، وإنَّما كل أفعاله حكيمة، أو كما يعبِّر علماء الكلام: أنَّ أفعاله تعالى معللة بالغايات، فالحكيم «هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَه»(٩)، ولذلك فإنَّ صنعه تعالى وأفعاله وكل ما يصدر عنه يكون وفق هذا المعنى ﴿صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (النمل: ٨٨).
والحكمة بهذا المعنى تقتضي عدَّة تقييدات في صفات إلهية أخرى، يهمنا اثنان:
التقييد الأول: تقييد الحكمة للعلم:
فالله تعالى رغم أنَّه عالم بكل شيء، ويقدر أن يُعطي علوماً لا متناهية لكل عبيده، إلّا أنَّ الحكمة تقتضي أن يختص في بعض العلوم الخاصة على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٨) فقه الصادق (عليه السلام) للسيد محمد صادق الروحاني: ج١٦، شرح ص١٥٣ إلى ص١٥٥.
(٩) في نهج البلاغة: ج٤، ص٥٢: وقِيلَ لَه صِفْ لَنَا العَاقِلَ - فَقَالَ (عليه السلام): «هُوَ الَّذِي يَضَعُ الشَّيْءَ مَوَاضِعَه»، فَقِيلَ: فَصِفْ لَنَا الجَاهِلَ، فَقَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ»، قال الرضي: (يعني أنَّ الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه، فكأنَّ ترك صفته صفة له، إذ كان بخلاف وصف العاقل).

↑صفحة ١٢٣↑

 بعض أوليائه، ولذلك لا نجد علوماً غيبية عند الجميع، وإنَّما هي حصراً بالمعصومين (عليهم السلام).
التقييد الثاني: تقييد الحكمة للقدرة:
فالقادر قد يتمكَّن من فعل أشياء كثيرة، ولكنه ينتخب بعضاً منها ليفعله، ويترك بعضاً آخر، لا لشيء إلّا لأنَّ الحكمة تقتضي فعل الأول وترك الثاني.
إذا تبيَّن هذا نقول: إنَّ الحكمة الإلهية وإنْ اقتضت إيكال ولاية التدبير في الكون إلى بعض أوليائه، ولكنها لم تقتض أن يعلم البشر بكيفية إدارة الولي لهذه المهمة، ولا اقتضت أن يعلم البشر بالتصرف التدبيري الذي يصبّ في مصلحتهم، ولا أن يتمّ إعلامهم قبل الفعل التدبيري، كل ذلك لا ضرورة تقتضيه، بل قد تقتضي الحكمة إخفاء كيفية تصرف الولي، فضلاً عن اقتضائها إخفاء نفس الولي في بعض الأحايين.
وعلى هذا الكلام شاهد قرآني لا يُنكر، ذكره الباري (عزَّ وجلَّ) في قصة العبد الصالح الخضر والنبي موسى (عليهما السلام)، حيث إنَّنا نجد عدَّة تصرفات مخالفة لظاهر الشريعة، ولكن التدبير والعناية الإلهية اقتضت نفوذها، وهي باختصار:
التصرف الأول: خرق السفينة، إذ لا شك أنَّ التصرف في مال الغير بما يعيبه ومن دون إذنه مخالف لظاهر الشريعة، ولذا اعترض النبي موسى (عليه السلام) عليه.
التصرف الثاني: قتل الغلام، وحرمته الظاهرية لا ريب فيها.
التصرف الثالث: إقامة جدار مائل من دون أخذ أجر، وهذا الفعل وإن كان جائزاً في حدِّ ذاته، من باب الإحسان إلى الآخرين مثلاً، ولكنه بوجه من الوجوه تصرف غير حكيم ظاهراً، ولذا اعترض النبي موسى (عليه السلام) على إقامته من دون أخذ أجر، رغم أنَّ أهل القرية لم يطعموهما.

↑صفحة ١٢٤↑

في كل هذه التصرفات الثلاثة لم يُبيِّن الخضر (عليه السلام) وجه الحكمة في تصرفه في بداية الأمر، ولم يكن بالأمر اللازم عليه - وإلّا لبيَّنه للنبي موسى (عليه السلام) خصوصاً مع إلحاحه في كل مرة واعتراضه على تصرفه -، ولا أن الطرف الآخر - أصحاب السفينة أو أبوي الغلام أو صاحب الجدار - علم بمن قام بهذا التصرف، صحيح أنَّ الأخير استفاد من إقامته، ولربما كان يشكر الخضر (عليه السلام) لو علم به، لكن ما بالك بأهل السفينة عندما وجدوا سفينتهم معيبة، بل كيف ترى أبوي الغلام عندما وجداه مقتولاً؟! لا شك أنَّهما كانا يبوّبان هذه التصرفات في خانة القبيح.
روائياً، صرّحت بعض النصوص بهذه الحقيقة، وعلى ذلك مثالان:
المثال الأول: ما فعله الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) مما يُسمى بالصلح مع معاوية (لعنه الله)، حيث أشار (عليه السلام) إلى أن ما فعله كان فعلاً حكيماً - لمكان عصمته-، وإن لم يطلع الناس على وجه الحكمة فيه، فقد روي عن أبي سعيد عقيصاً قال: قلت للحسن بن علي بن أبي طالب: يا بن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟ فقال: «يا أبا سعيد ألستُ حجة الله (تعالى ذكره) على خلقه وإماماً عليهم بعد أبي (عليه السلام)»؟ قلت: بلى، قال: «ألستُ الذي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لي ولأخي الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا»؟ قلت: بلى، قال: «فأنا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذ لو قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل الله (تعالى ذكره) لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته

↑صفحة ١٢٥↑

ملتبساً ألا ترى الخضر (عليه السلام) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (عليه السلام) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضى هكذا أنا، سخطتم عليَّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلّا قُتِل»(١٠).
المثال الثاني: ما روي في وجه الحكمة من غيبة مولانا الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، حيث صرّح الإمام الصادق (عليه السلام) بأنه رغم معرفته بوجه الحكمة في ذلك، إلّا أنَّه لم يؤذن له بالكشف عنها، فلا يلزمه بيانها للناس، وأن هذا الوجه ينكشف عند ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه) كما لم يتبيَّن وجه الحكمة في أفعال الخضر للنبي موسى (عليهما السلام) إلّا عندما حان وقت الفراق بينهما، فقد روي عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عليهما السلام) يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدَّ منها، يرتاب فيها كلّ مبطل»، فقلت له: ولِـمَ جُعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يُؤذَن لنا في كشفه لكم»، قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟ فقال: «وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج الله تعالى ذكره، إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره كما لا ينكشف وجه الحكمة لما أتاه الخضر (عليه السلام) من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، لموسى (عليه السلام) إلَّا وقت افتراقهما، يا بن الفضل، إنَّ هذا الأمر أمر من أمر الله تعالى، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتى علمنا أنَّه (عزَّ وجلَّ) حكيم، صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلّها حكمة، وإن كان وجهها غير منكشف»(١١).
ومنه يتبيَّن: أنَّه ومن وجهة النظام التدبيري والعناية الغيبية لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلاً غير بالغ بحادثة معينة، ثم يموت ذلك الطفل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠) علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج١، ص٢١١.
(١١) كمال الدين: ٤٨١ و٤٨٢/ باب ٤٥/ ح ١١.

↑صفحة ١٢٦↑

بسبب هذه الحادثة، وذلك لعلم الله تعالى بأن أخطاراً كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل.
وأيضاً لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش، لعلمه تعالى بأنَّ خروجي من البيت - لو تم - فإنَّه يُعرّضني لحادثة خطيرة لا أستحقها، لذا فهو تعالى يمنعني منها.
بعبارة أخرى: إن مجموعة من أوليائه وعباده (عزَّ وجلَّ) مكلَّفون في هذا العالم بالبواطن، ولهم ضوابط وأصول وبرامج خاصة بهم، مثلما للمكلفين بالظواهر ضوابطهم وأصولهم الخاصة بهم أيضاً.
بالطبع لا يستطيع أحد أن يعمل كل ما يحلو له بحجة أنَّه يقصد تدبير أمر الآخرين، بل يجب أن يحصل على إجازة المالك القادر الحكيم الخالق جل وعلا، لذا رأينا الخضر (العالم الكبير) يوضح هذه الحقيقة بصراحة قائلاً: ﴿وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف: ٨٢]، بل وفقاً للبرنامج الإلهي والضوابط التي كانت موضوعة، هذا وقد جاء في الرواية عن أبي الحسن (عليه السلام): «أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إمّا جالساً وإمّا متَّكئاً، فسلَّم عليه موسى فأنكر السلام إذ كان بأرض ليس بها سلام، فقال: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران، قال: أنت موسى بن عمران الذي كلَّمه الله تكليماً؟ قال: نعم، قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلمني مما علمت رشداً، قال: إنّي وكِّلتُ بأمر لا تطيقُه، ووكلتَ بأمر لا أطيقُه»(١٢).
والحاصل: أنَّ العناية الغيبية والتدبير الحكيم لا يقتضي إلّا أن يقع الفعل على وجه الحكمة، وإن كان ظاهره مخالفاً لها أو للشريعة، وإن لم يعلم الطرف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٢) بحار الأنوار: ج١٣، ص٢٧٩.

↑صفحة ١٢٧↑

المستفيد، بل وإن كان ظاهره الضرر على الطرف الآخر، نعم، هي غير متاحة إلّا لمن له مؤهلات خاصة، سنعرفها في النقطة الآتية.
النقطة الرابعة: مؤهلات الولاية التدبيرية:
بعد أن ثبت أنَّ أفعاله (عزَّ وجلَّ) معللة بالغايات، يقع السؤال عن المؤهلات التي يلزم توفرها في الولي التدبيري، والتي بها يرتفع الجزاف والعبث عن إعطائه الإذن بالتصرف في عالم التكوين.
ويمكن القول: إنَّ المؤهلات الأساسية لذلك أمران، وهما مستفادان مما عبَّر عنه القرآن الكريم في شأن الخضر (عليه السلام): ﴿عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً﴾ (الكهف: ٦٥).
وهما:
المؤهِّل الأوَّل: الإذن الإلهي:
فإعطاء الولاية التدبيرية لغير الباري (عزَّ وجلَّ) إنَّما هو فعل إلهي، أي إنَّه بإذنه تعالى، وأي تصوير للولاية بدون إذنه (عزَّ وجلَّ) فهو من الغلو الذي لا يقول به أحد من الشيعة.
وهذا المؤهل يرتكز على:
أ - نفي التفويض المطلق والمستقل عن الإذن الإلهي، بل إنَّه تعالى ما زال قادراً على التصرف في مجريات الكون.
ب - إنَّه تعالى خلق العالم وفق قوانين خاصة، بعضها لا يعلمها إلّا هو، خاصة في تفرعات ومفردات نظام العلة والمعلول.

↑صفحة ١٢٨↑

ج - وأنَّ له تعالى الحق في أن يُعلِّم بعض مخلوقاته أنظمة تلك القوانين، أو قل: أن يجعل بعض مخلوقاته عالماً بقوانين العالَـم، وقادراً على التصرُّف فيه.
د - وينتج: أنَّه لا يحق لأي أحد بل لا يمكن أن يتصرف في تلك القوانين ما لم يأذن له الباري (عزَّ وجلَّ) في ذلك، ويتم الإذن عملياً بإعطاء مفاتيح تلك القوانين بيد الولي، وبالتالي يمكنه أن يتصرف في تلك القوانين ومخرجاتها التكوينية.
الماء من طبيعته أنَّه يروي، ولكن ذلك باعتبار أنَّ الله تعالى جعل فيه خاصية الإرواء، وإلّا فيمكن رفع هذه الخاصية منه، فلا يكون الماء مزيلاً للعطش، فيما إذا أراد المعصوم ذلك لغاية معيَّنة، كما ورد هذا المعنى في الإمام الحسين (عليه السلام)، حيث روى أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين ما نصه: وجعل الحسين (عليه السلام) يطلب الماء وشمر (لعنه الله) يقول له: والله لا ترده أو ترد النار، فقال له رجل: ألا ترى إلى الفرات يا حسين كأنَّه بطون الحياة، والله لا تذوقه أو تموت عطشاً، فقال الحسين (عليه السلام): «اللهم أمته عطشاً»، قال: والله لقد كان هذا الرجل يقول: أسقوني ماء، فيؤتى بماءٍ فيشرب حتى يخرج من فيه وهو يقول: اسقوني قتلني العطش، فلم يزل حتى مات (لعنه الله)(١٣).
النار من طبيعتها أنَّها محرقة، ولكنها إنما كانت كذلك بإذن الله تبارك وتعالى، وإلّا، فلو أمرها لكانت برداً وسلاماً لا محرقة مهلكة، ونار النمرود أوضح مثال على ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: ص٧٨.

↑صفحة ١٢٩↑

المؤهل الثاني: العلم الخاص:
إنَّ العالم قد صُمّم بطريقة علمية دقيقة، وأنَّ هناك قوانين تتحكم به من الذرة إلى المجرة، وبالتالي، فأي تغيير في مجريات ومخرجات قانون ما، لا يكون بطريقة عشوائية، وإلّا لأنتج الدمار الشامل، ولا يكون أيضاً من دون علم، لأنَّه ربما أدّى إلى نتائج غير منظَّمة، وعشوائية، وقد تؤدي إلى كوارث كونية.
فالولي، الذي تُدعى له الولاية التدبيرية، لابدَّ أن يكون عنده من العلم ما يتجاوز به الحدود الطبيعية للبشر، وهو الذي أهَّله إلى أن يتصرف في قوانين العالم، من دون أن يؤدي ذلك إلى العشوائية ولا الكارثية ولا حتى خلاف الحكمة الإلهية والهدف من الخلقة.
وهذا ما يبرِّر عدم تفعيل المعصومين (عليهم السلام) لولايتهم التكوينية مع أعدائهم بالخصوص، أو في مجمل حياتهم الشريفة، فالملاحظ في حياتهم (عليهم السلام) أنَّهم كانوا يتصرَّفون وفق القانون الطبيعي لهذا العالم، ولم يقع منهم غيره من الخوارق إلّا في حالات قليلة نسبياً قياساً إلى مجمل أفعالهم، وما ذلك إلّا لأنَّهم لا يستخدمون قدراتهم تلك إلّا في موضع الحكمة.
هذا العلم الخاص في الوقت الذي يكشف للعالم به لوحة الوجود الواقعية بكل تفاصيلها، هو يعطيه قدرة على التصرف في هذه اللوحة - وفق الحكمة طبعاً - بما لا يُمكن أن نتخيَّله لو لم يثبته القرآن الكريم، كما في آصف بن برخيا الذي تمكّن من الإتيان بعرش بلقيس من مملكتها إلى سليمان النبي (عليه السلام) بأسرع من لمح البصر بسبب أن لديه علماً من الكتاب، قال تعالى: ﴿قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ

↑صفحة ١٣٠↑

تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ (النمل: ٣٨-٤٠).
وحيث إنَّ هذين المؤهلين موجودان عند الأئمة (عليهم السلام) عموماً، والإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) خصوصاً، فتثبت الولاية التدبيرية والعنائية للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) للكون عموماً، وللبشر خصوصاً.
والأدلة الإثباتية على ثبوت الولاية لهم (عليهم السلام) كثيرة، سُطرت في كتب علم الكلام، والنصوص في ذلك متكثرة، من قبيل ما روي عَنْ مُثَنّى الْحَنَّاطِ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) فَقُلْتُ لَه: أَنْتُمْ وَرَثَةُ رَسُولِ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ قَالَ (عليه السلام): «نَعَمْ»، قُلْتُ: رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَارِثُ الأَنْبِيَاءِ، عَلِمَ كُلَّ مَا عَلِمُوا؟ قَالَ (عليه السلام) لِي: «نَعَمْ»، قُلْتُ: فَأَنْتُمْ تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تُحْيُوا المَوْتَى وتُبْرِؤُوا الأَكْمَه والأَبْرَصَ؟ قَالَ (عليه السلام): «نَعَمْ بِإِذْنِ الله».
ثُمَّ قَالَ (عليه السلام) لي: «ادْنُ مِنِّي يَا أَبَا مُحَمَّدٍ»، فَدَنَوْتُ مِنْه، فَمَسَحَ عَلَى وَجْهِي، وعَلَى عَيْنَيَّ، فَأَبْصَرْتُ الشَّمْسَ والسَّمَاءَ والأَرْضَ والْبُيُوتَ وكُلَّ شَيْءٍ فِي الْبَلَدِ، ثُمَّ قَالَ (عليه السلام) لِي: «أتُحِبُّ أَنْ تَكُونَ هَكَذَا ولَكَ مَا لِلنَّاسِ وعَلَيْكَ مَا عَلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ تَعُودَ كَمَا كُنْتَ ولَكَ الْجَنَّةُ خَالِصاً»؟ قُلْتُ: أَعُودُ كَمَا كُنْتُ، فَمَسَحَ عَلَى عَيْنَيَّ، فَعُدْتُ كَمَا كُنْتُ.
قَالَ (مُثَنّى الْحَنَّاطِ): فَحَدَّثْتُ ابْنَ أَبِي عُمَيْرٍ بِهَذَا، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا حَقٌّ كَمَا أَنَّ النَّهَارَ حَقٌّ(١٤).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٤) الكافي للكليني: ج١، ص٤٧٠، بَابُ مَوْلِدِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام)، ح٣.

↑صفحة ١٣١↑

وفي رواية يظهر منها تدبير المعصوم لشيعته، ما رواه الطبرسي عن أحمد بن إسحاق، قال: دخلت على أبي محمد (عليه السلام) فقال لي: «يا أحمد، ما كان حالكم فيما كان الناس فيه من الشك والارتياب»؟ قلت: يا سيدي، لما ورد الكتاب بخبر سيدنا ومولده، لم يبقَ منا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلّا قال بالحق، فقال: «أما علمتم أنَّ الأرض لا تخلو من حجة الله»؟ ثم أمر أبو محمد (عليه السلام) والدته بالحج في سنة تسع وخمسين ومائتين، وعرفها ما يناله في سنة ستين، وأحضر الصاحب (عليه السلام) فأوصى إليه وسلَّم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إليه، وخرجت أم أبي محمد (عليه السلام) مع الصاحب (عليه السلام) جميعاً إلى مكة، وكان أحمد بن محمد بن مطهر أبو علي المتولي لما يحتاج إليه الوكيل، فلما بلغوا بعض المنازل من طريق مكة، تلقى الأعراب القوافل، فأخبروهم بشدَّة الخوف، وقلة الماء، فرجع أكثر الناس إلّا من كان في الناحية، فإنَّهم نفذوا وسلموا، وروي أنَّه ورد عليهم الأمر بالنفوذ(١٥).
فآخر النص أنَّه (ورد عليهم الأمر بالنفوذ) يشير إلى تدبير أمر من كان يريد الذهاب إلى مكة المكرمة، وهو عناية من المعصوم الذي يبدو أنَّه هو الإمام العسكري (عليه السلام) في هذه الرواية.
وربَّما يقال: بإمكان ورود الأمر لهم بالنفوذ من الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه)، خصوصاً وأنه كان معهم في القافلة.
ولكنه يجاب: بأنَّ لفظ (وَرَد) لا ينسجم مع ذلك إذ ظاهره الورود من خارج القافلة، هذا فضلاً عن أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كان - حسب الظاهر - متخفِّياً في القافلة ولم يُعلن عن نفسه للجميع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥) خاتمة المستدرك للميرزا حسين النوري الطبرسي: ج٤، ص٥٥ و٥٦.

↑صفحة ١٣٢↑

النقطة الخامسة: ولاية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) التدبيرية:
قد يُشكل - كما تقدَّم - على غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) بأنَّها مانعة له عن القيام بدوره كإمام معصوم، وفي هذه النقطة نريد بيان الآتي:
إنَّ غيبة الإمام (عجَّل الله فرجه) لم تكن مانعة له عن القيام بمقتضيات ولايته التدبيرية والعنائية، مع التذكير بأنَّ قيامه بذلك لا يُشترط فيه الإظهار والإعلان وإعلام الطرف الآخر.
والشواهد الحاكية عن ثبوتها له (عجَّل الله فرجه) متعددة، منها:
الشاهد الأول:
ذكرت بعض النصوص أنَّ الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) كان يبتدئ بعض شيعته ببعض الأوامر العادية المتعلقة ببعض الأفعال التي يريدون القيام بها، فكان مثلاً ينهاهم عن الذهاب للحج في عام معين، ويخبرهم بأنهم يذهبون في عام لاحق، والمؤمن الذي يصل له الكتاب يأتمر بالأمر من دون اعتراض رغم أنَّه يجد في نفسه ضيقاً، لأنَّه يتصوَّر أنَّ ذهابه لا مشكلة فيه، وذلك من قبيل ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن أبي جعفر محمد بن علي بن نوبخت، قال: عزمت على الحج وتأهَّبت، فورد عليَّ: «نحن لذلك كارهون»، فضاق صدري واغتممت وكتبت: أنا مقيم بالسمع والطاعة غير أنَّي مغتم بتخلُّفي عن الحج، فوقع: «لا يضيقن صدرك، فإنَّك تحج من قابل».
فلما كان من قابل استأذنت فورد الجواب، فكتبت: إنَّي عادلت محمد بن العباس وأنا واثق بديانته وصيانته، فورد الجواب: «الأسدي نِعْم العديل، فإن قَدِم فلا تختر عليه»، قال: فقدم الأسدي فعادلته(١٦).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦) الغيبة للطوسي: ص٤١٦، ح٣٩٣.

↑صفحة ١٣٣↑

ربما كان التأخير لأجل مصلحة معادلة - أي مرافقة - الأسدي، وربما لأجل أنَّ ذهابه في السنة الأولى فيه ضرر عليه، المهم أنَّه (عجَّل الله فرجه) تدخل لتدبير أمر ابن نوبخت في هذا الأمر.
صحيح أنَّ هذا وقع في زمن الغيبة الصغرى، ولكن لا فرق من هذه الناحية من جهة أنَّ غيبته (عجَّل الله فرجه) لم تكن مانعة عن قيامه بتدبير أمور شيعته بالخصوص.
الشاهد الثاني:
وقريب من السابق، ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عَنْ أَبِي عَبْدِ اَلله اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ مُوسَى بْنِ بَابَوَيْهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ بَلَدِنَا اَلمُقِيمِينَ كَانُوا بِبَغْدَادَ فِي اَلسَّنَةِ اَلَّتِي خَرَجَتِ اَلْقَرَامِطَةُ(١٧) عَلَى اَلْحَاجِّ، وَهِيَ سَنَةُ تَنَاثُرِ اَلْكَوَاكِبِ أَنَّ وَالِدِي (رضي الله عنه) كَتَبَ إِلَى اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضي الله عنه) يَسْتَأْذِنُ فِي اَلْخُرُوجِ إِلَى اَلْحَجِّ، فَخَرَجَ فِي اَلْجَوَابِ: «لَا تَخْرُجْ فِي هَذِهِ اَلسَّنَةِ»، فَأَعَادَ، فَقَالَ: هُوَ نَذْرٌ وَاجِبٌ، أَفَيَجُوزُ لِيَ اَلْقُعُودُ عَنْهُ؟ فَخَرَجَ اَلْجَوَابُ: «إِنْ كَانَ لَابُدَّ فَكُنْ فِي اَلْقَافِلَةِ اَلْأَخِيرَةِ»، فَكَانَ فِي اَلْقَافِلَةِ اَلْأَخِيرَةِ فَسَلِمَ بِنَفْسِهِ وَقُتِلَ مَنْ تَقَدَّمَهُ فِي اَلْقَوَافِلِ اَلْأُخَرِ(١٨).
فانظر إلى عنايته (عجَّل الله فرجه) لشيعته، وكيف وقاهم من القتل بنهيه لهم عن الخروج إلى الحج، إلّا إذا خرجوا في القافلة الأولى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٧) هم فرقة من الشيعة الإسماعيليَّة المباركيَّة، فرقة باطنيَّة نظَّمت نفسها تنظيماً دقيقاً، قالوا بأنَّ الإمام بعد جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) هو محمّد بن إسماعيل بن جعفر، وهو الإمام القائم المهدي، وهو رسول، وهو حيٌّ لم يمت، وأنَّه في بلاد الروم، وأنَّه من أُولي العزم، تمكَّنوا من إنشاء دولتهم في البحرين، ثمّ توسَّعوا غرباً حتَّى وصلوا إلى بلاد الشام في سنة (٢٨٨هـ). [هامش المصدر بتحقيق مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)].
(١٨) الغيبة للطوسي: ص٣٢٢، ح٢٧٠.

↑صفحة ١٣٤↑

الشاهد الثالث:
روى الشيخ الطوسي بسنده عَنْ عَلِيٍّ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، قَالَ: وُلِدَ لِي مَوْلُودٌ، فَكَتَبْتُ أَسْتَأْذِنُ فِي تَطْهِيرِهِ (فِي) اَلْيَوْمِ اَلسَّابِعِ، فَوَرَدَ: «لَا تَفْعَلْ»، فَمَاتَ اَلْيَوْمَ اَلسَّابِعَ أَوِ اَلثَّامِنَ، ثُمَّ كَتَبْتُ بِمَوْتِهِ، فَوَرَدَ: «سَيُخْلِفُ اَللهُ غَيْرَهُ وَتُسَمِّيهِ أَحْمَدَ، وَمِنْ بَعْدِ أَحْمَدَ جَعْفَرٌ»، فَجَاءَ كَمَا قَالَ(١٩).
هذا النص يبيِّن دقَّة عنايته (عجَّل الله فرجه) في أمر بسيط جداً، وهو ختان الطفل في اليوم السابع، إلّا أنَّ العناية اقتضت أن لا يفعل ذلك لأنَّه سيموت، وفي نفس الوقت أخبر (عجَّل الله فرجه) والد الطفل بأنَّه سيولد له ولدان، تطييباً لخاطره، وتخفيفاً عن فقده لولده.
الشاهد الرابع:
جاء في نص ما يبدو منه أنَّه (عجَّل الله فرجه) وجَّه أحد شيعته ليذهب إلى الزراري ليعطيه ما ينفعه في دفع الحاجة عنه، ويذهب الرجل ويقول للزراري كلمة بسيطة، فيمتثل الزراري ويعطيه صرَّة فيها مال، فقد روى الشيخ الطوسي بسنده عن اِبْنِ أَبِي سُورَةَ، قَالَ: كُنْتُ بِالْحَائِرِ زَائِراً عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَخَرَجْتُ مُتَوَجِّهاً عَلَى طَرِيقِ اَلْبَرِّ، فَلَمَّا اِنْتَهَيْتُ [إِلَى](٢٠) اَلمُسَنَّاةِ جَلَسْتُ إِلَيْهَا مُسْتَرِيحاً، ثُمَّ قُمْتُ أَمْشِي وَإِذَا رَجُلٌ عَلَى ظَهْرِ اَلطَّرِيقِ، فَقَالَ لِي: «هَلْ لَكَ فِي اَلرِّفْقَةِ»؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَمَشَيْنَا مَعاً يُحَدِّثُنِي وَأُحَدِّثُهُ، وَسَأَلَنِي عَنْ حَالِي، فَأَعْلَمْتُهُ أَنِّي مُضَيَّقٌ لَا شَيْءَ مَعِي وَلَا فِي يَدِي، فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ لِي: «إِذَا دَخَلْتَ اَلْكُوفَةَ فَائْتِ أبا طَاهِرٍ اَلزُّرَارِيِّ فَاقْرَعْ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ إِلَيْكَ وَفِي يَدِهِ دَمُ اَلْأُضْحِيَّةِ، فَقُلْ لَهُ: يُقَالُ لَكَ:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٩) الكافي (ج ١/ ص٥٢٢/ باب مولد الصاحب (عجَّل الله فرجه)/ صدر الحديث ١٧.
(٢٠) من بحار الأنوار (ج ٥١/ ص٣١٨).

↑صفحة ١٣٥↑

أَعْطِ هَذَا اَلرَّجُلَ اَلصُّرَّةَ اَلدَّنَانِيرَ اَلَّتِي عِنْدَ رِجْلِ اَلسَّرِيرِ»، فَتَعَجَّبْتُ مِنْ هَذَا، ثُمَّ فَارَقَنِي وَمَضَى لِوَجْهِهِ لَا أَدْرِي أَيْنَ سَلَكَ.
وَدَخَلْتُ اَلْكُوفَةَ، فَقَصَدْتُ أَبَا طَاهِرٍ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ اَلزُّرَارِيِّ(٢١)، فَقَرَعْتُ بَابَهُ كَمَا قَالَ لِي، وَخَرَجَ إِلَيَّ وَفِي يَدِهِ دَمُ اَلْأُضْحِيَّةِ، فَقُلْتُ لَهُ: يُقَالُ لَكَ: أَعْطِ هَذَا اَلرَّجُلَ اَلصُّرَّةَ اَلدَّنَانِيرَ اَلَّتِي عِنْدَ رِجْلِ اَلسَّرِيرِ، فَقَالَ: سَمْعاً وَطَاعَةً، وَدَخَلَ فَأَخْرَجَ إِلَيَّ اَلصُّرَّةَ فَسَلَّمَهَا إِلَيَّ، فَأَخَذْتُهَا وَاِنْصَرَفْتُ(٢٢).
الشاهد الخامس:
ما جاء في توقيعه (عجَّل الله فرجه) للشيخ المفيد الصريح في كونه (عجَّل الله فرجه) رغم غيبته عن مباشرة شيعته، إلّا أنَّه مطَّلع على أخبارهم تماماً، وأنَّه غير ناسٍ لهم، ولا تاركٍ للعناية بهم، بل إنَّه لولا تلك العناية لتم استئصال الشيعة والقضاء عليهم.
يقول (عجَّل الله فرجه) في التوقيع المذكور:
«نحن وإنْ كنّا ناوين [ثاوين] بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا للفاسقين، فإنّا نحيط علماً بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنَّهم لا يعلمون، إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء أو اصطلمكم الأعداء»(٢٣).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١) قال النجاشي (رحمه الله) في رجاله (ص٣٤٧/ الرقم ٩٣٧): (محمّد بن سليمان بن الحسن بن الجهم بن بكير بن أعين، أبو طاهر الزراري، حسن الطريقة، ثقة، عين، وله إلى مولانا أبي محمّد (عليه السلام) مسائل والجوابات...، مات في سنة إحدى وثلاثمائة، وكان مولده سنة سبع وثلاثين ومائتين). [هامش المصدر بتحقيق مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)].
(٢٢) الغيبة للطوسي: ص٢٩٨، ح٢٥٤.
(٢٣) الاحتجاج للطبرسي: ج٢، ص٣٢٢ و٣٢٣.

↑صفحة ١٣٦↑

الشاهد السادس:
ورد في التوقيع الثاني للشيخ المفيد أنَّ الإمام (عجَّل الله فرجه) أخبر الشيخ المفيد بأنَّ هناك ظالماً سيعمد إلى قتل المؤمنين في الحرم المعظم، وطمأنه عليهم بأنَّ الظالم لن يصل إليهم، والسبب أنَّه (عجَّل الله فرجه) وراء حفظهم، لأنَّه سيدعو الله تعالى لهم بالحفظ من كيده، فقد جاء في التوقيع: «وآية حركتنا من هذه اللوثة حادثة بالحرم المعظم من رجس منافق مذمم، مستحل للدم المحرم، يعمد بكيده أهل الإيمان ولا يبلغ بذلك غرضه من الظلم والعدوان، لأنَّنا من وراء حفظهم بالدعاء الذي لا يحجب عن ملك الأرض والسماء، فليطمئن بذلك من أوليائنا القلوب، وليثقوا بالكفاية منه، وإن راعتهم بهم الخطوب، والعاقبة بجميل صنع الله سبحانه تكون حميدة لهم ما اجتنبوا المنهي عنه من الذنوب»(٢٤).
الشاهد السابع:
ما رواه الراوندي والمجلسي في فصل ما ظهر من معجزاته (عجَّل الله فرجه) من أنَّه (عجَّل الله فرجه) ساعد مسروراً الطباخ باثني عشر ديناراً من دون أن يخبره بشيء، فقد روى الراوندي أنَّ مسروراً الطباخ قال: كتبت إلى الحسن بن راشد لضيقة أصابتني، فلم أجده في البيت، فانصرفت، فدخلت مدينة أبي جعفر، فلمّا صرت في الرحبة، حاذاني رجل لم أرَ وجهه، وقبض على يدي ودس فيها صرة بيضاء، فنظرت فإذا عليها كتابة فيها اثنا عشرة ديناراً وعلى الصرة مكتوب: مسرور الطباخ(٢٥).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٤) الاحتجاج للطبرسي: ج٢، ص٣٢٤.
(٢٥) الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي: ج٢، ص٦٩٧؛ وبحار الأنوار للمجلسي: ج٥١، ص٢٩٥.

↑صفحة ١٣٧↑

الشاهد الثامن:
ما رواه الراوندي أيضاً في باب معجزاته (عجَّل الله فرجه) من أنَّه أعطى الحكم الشرعي للشك في الطواف لأحد شيعته، إذ روى عن حسن بن حسين الاسترآبادي، قال: كنت في الطواف، فشككت فيما بيني وبين نفسي في الطواف، فإذا شاب قد استقبلني، حسن الوجه، قال: «طف أسبوعاً آخر»(٢٦).
تضمن هذا الخبر حكماً فقهياً بلزوم إعادة الطواف عند الشك في أشواطه، وهو ما عليه الفقهاء.
والجدير بالذكر: أنَّنا نجزم بوجود قرينة قطعية عند الراوي عرف من خلالها أنَّ ذلك الشاب هو الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه)، ولذا أورده الراوندي في باب معجزاته (عجَّل الله فرجه)، خصوصاً وأنَّ المروي هو أنه (عجَّل الله فرجه) لم يقتصر في إعطاء الأحكام الشرعية في زمن الغيبة الصغرى على السفراء الأربعة، وإنما كان يعطي بعض الأحكام لبعض الوكلاء والثقات.
وإنما قلنا ذلك لئلا يتَّخذه الأدعياء ذريعة لدعوى اللقاء به (عجَّل الله فرجه)، ونقل الأحكام عنه، خصوصاً وأنَّ الرواية واردة في حادثة شخصية، فلا يؤخذ منها حكم عام، بل هي خاصة بموردها، والتعميم يحتاج إلى قرينة، ونصوص منع السفارة الخاصة والمشاهدة الخاصة، تدل على العدم.
الشاهد التاسع:
عن عَلِيٍّ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: خَرَجَ نَهْيٌ عَنْ زِيَارَةِ مَقَابِرِ قُرَيْشٍ والْحَيْرِ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَشْهُرٍ دَعَا الْوَزِيرُ الْبَاقَطَائِيَّ فَقَالَ لَه: ألْقَ بَنِي الْفُرَاتِ والْبُرْسِيِّينَ وقُلْ لَهُمْ: لَا يَزُورُوا مَقَابِرَ قُرَيْشٍ، فَقَدْ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ أَنْ يُتَفَقَّدَ كُلُّ مَنْ زَارَ فَيُقْبَضَ عَلَيْه(٢٧).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦) الخرائج والجرائح لقطب الدين الراوندي: ج٢، ص٦٩٧.
(٢٧) الكافي للكليني: ج١، ص٥٢٥، بَابُ مَوْلِدِ الصَّاحِبِ (عجَّل الله فرجه)، ح٣١.

↑صفحة ١٣٨↑

فالنص واضحٌ في أنَّه (عجَّل الله فرجه) حيث عَلِمَ بوجود خطر على شيعته في زيارة مقابر قريش والحائر الحسيني وجَّههم بترك الزيارة لفترة من الزمن إلى أن يزول الخطر عنهم.
الشاهد العاشر:
عن الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْعَلَوِيُّ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ نُدَمَاءِ روز حسني وآخَرُ مَعَه، فَقَالَ لَه: هُوَ ذَا يَجْبِي الأَمْوَالَ ولَه وُكَلَاءُ وسَمَّوْا جَمِيعَ الْوُكَلَاءِ فِي النَّوَاحِي وأُنْهِيَ ذَلِكَ إِلَى عُبَيْدِ الله بْنِ سُلَيْمَانَ الْوَزِيرِ، فَهَمَّ الْوَزِيرُ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ السُّلْطَانُ: اطْلُبُوا أَيْنَ هَذَا الرَّجُلُ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ غَلِيظٌ، فَقَالَ عُبَيْدُ الله بْنُ سُلَيْمَانَ: نَقْبِضُ عَلَى الْوُكَلَاءِ؟ فَقَالَ السُّلْطَانُ: لَا، ولَكِنْ دُسُّوا لَهُمْ قَوْماً لَا يُعْرَفُونَ بِالأَمْوَالِ، فَمَنْ قَبَضَ مِنْهُمْ شَيْئاً قُبِضَ عَلَيْه، قَالَ: فَخَرَجَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَى جَمِيعِ الْوُكَلَاءِ أَنْ لَا يَأْخُذُوا مِنْ أَحَدٍ شَيْئاً وأَنْ يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ ويَتَجَاهَلُوا الأَمْرَ، فَانْدَسَّ لِمُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُه وخَلَا بِه، فَقَالَ: مَعِي مَالٌ أُرِيدُ أَنْ أُوصِلَه، فَقَالَ لَه مُحَمَّدٌ: غَلِطْتَ، أَنَا لَا أَعْرِفُ مِنْ هَذَا شَيْئاً، فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُه ومُحَمَّدٌ يَتَجَاهَلُ عَلَيْه، وبَثُّوا الْجَوَاسِيسَ وامْتَنَعَ الْوُكَلَاءُ كُلُّهُمْ لِمَا كَانَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ(٢٨).
والنص واضح في تدبير الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) أمر شيعته.
هذا كلُّه فضلاً عن النص العام الوارد في الزيارة الجامعة والذي يُفيد مدخليتهم (عليهم السلام) عموماً - بما فيهم الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه) - في الحفاظ على الكون عموماً من الدمار والفساد، حيث ورد فيها: «وبكم ينزِّل الغيث، وبكم يُمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا بإذنه، وبكم ينفِّس الهَمّ ويكشف الضر...»(٢٩).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٨) الكافي للكليني: ج١، ص٥٢٥، بَابُ مَوْلِدِ الصَّاحِبِ (عجَّل الله فرجه)، ح٣٠.
(٢٩) من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج٢، ص٦١٥.

↑صفحة ١٣٩↑

وعلى كل حال، فالشواهد عديدة، ويكفينا الإثبات العقائدي المتقدِّم، من ثبوت الولاية التكوينية - فضلاً عن التدبيرية العنائية - له (عجَّل الله فرجه).
فتحصَّل من كل ما سبق:
أولاً: التناسب الطردي بين أهمية قضية، وبين زيادة الاهتمام بها من جهة، وتعرضها للإشكالات والشبه من جهة أخرى، وهو ما يصدق على القضية المهدوية بكل وضوح.
ثانياً: إنَّ الله تعالى خلق العالم وفق نظام السببية، ويتفرَّع عليه العديد من القوانين الفرعية، ومنها نظام العناية والتدبير.
ثالثاً: إنَّ الله تعالى فوَّض القيام ببعض القوانين التكوينية - ومنها التدبير والعناية - لبعض عبيده، كالملائكة، وكالمعصوم، وزوَّدهم لأجل أداء هذه المهمة بالعلم اللدني، وبالقدرة التكوينية بحيث يتدخَّلون في نظام العالم التكويني، ويتمكَّنون من خرق القانون الطبيعي وتطبيق القانون الإعجازي بإذن الله تعالى.
رابعاً: ليس من مقوِّمات القيام بالولاية التدبيرية إعلام الطرف الآخر، ولا كشف العلة من الفعل التدبيري، ولا الكشف عن الولي التدبيري، بل قوامه بالإذن الإلهي، وبالإقدار بإذن الله تعالى وبالإعلام الغيبي، وهو ما ثبت توفّره في المعصوم عموماً، وفي الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) خصوصاً.
خامساً: إنَّ أوضح أمثلة للولاية التدبيرية والعناية الغيبية بالحدود المبينة في (رابعاً) هو تصرفات العبد الصالح الخضر (عليه السلام)، فإنَّه قام بها من دون أن يُعلِم المستفيدين منها، بل كانت - في الجملة - مخالفة لبعض الأحكام التشريعية الظاهرية، ولكن حيث كانت الحكمة في فعلها، وقعت، ولم يُبيِّن الحكمة منها إلّا حين إرادة فراق النبي موسى (عليه السلام)، وهو مثال حي لما يمكن أن يقوم به الإمام

↑صفحة ١٤٠↑

المهدي (عجَّل الله فرجه) في زمن غيبته من تصرفات عنائية في عموم الكون والبشر، من دون أن يحتاج إلى كشف هويته، أو بيان الحكمة من تصرفاته.
سادساً: يكفي في الولاية التدبيرية للإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) ثبوتاً الأدلة الدالة على ثبوت الولاية التكوينية لعموم أهل البيت (عليهم السلام)، بما فيها التدبيرية العنائية، وفضلاً عن ذلك فتوجد أدلة إثباتية لتصرفاته (عجَّل الله فرجه) التدبيرية، يُمكن أن نجد العديد منها في التوقيعات المروية عنه (عجَّل الله فرجه)، وقد ذكرنا عدة أمثلة لذلك، ونحن نعتقد بلا أدنى تردّد أنَّه (عجَّل الله فرجه) كان وما زال يمارس ولايته التدبيرية في تسيير وتيسير أمور الكون عموماً، وشيعته خصوصاً، فهو دائم النظر لهم، والعناية بهم، ولو من دون أن يشعروا بذلك أو حتى يعلموا به.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا تحت نظره ورعايته، وبعين المولى صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)، وأن يدبّر أمورنا بما يراه من حكمة، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا التسليم لما فعل وما أراد، إنه ولي التوفيق.

↑صفحة ١٤١↑

التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *

Copyright© 2004-2013 M-mahdi.com All Rights Reserved