المنهج التحليلي في معالجة روايات
المنهج التحليلي في معالجة روايات الملاحم والفتن
(الروايات المهدوية نموذجاً)
السيِّد محمّد القبانچي
تمهيد............................................... ١٢
تطبيق السيد الخوئي (قدس سره) للمنهج:............................................... ١٢
تطبيق السيد السيستاني (دام ظله) للمنهج:........................................... ١٣
بيان خطورة المنهج التحليلي:.................................................... ١٣
ويبقى سؤال: هل استخدام هذا المنهج يوصل دائماً إلى القطع بالنتائج؟............. ١٤
شمولية المنهج التحليلي:........................................................ ١٥
دواعي الوضع والتحريف في الموروث المهدوي:................................. ١٦
١ - الدواعي السياسية:........................................................ ١٦
٢ - عدم وضوح العقيدة المهدوية لدى أغلب المسلمين:.......................... ١٩
٣ - عدم المتابعة من قبل الآخر باعتبار أنَّها قضية ليست محلاً للابتلاء والسؤال والجواب عنده:...............................................٢٢
مكانة القصاصين عند البلاط:.................................................. ٢٥
٤ - عدم إمكانية تكذيب الناقل والمتحدث لعدم وقوع الحادثة:................... ٢٦
٥ - تعميم ظاهرة السطحية وإغراق المجتمع بالأساطير والخرافات:.............. ٢٦
المقصود من (المنهج التحليلي):.................................................. ٢٧
نماذج من استعمال المنهج التحليلي عند الأعلام في الروايات المهدوية المستقبلية:..... ٢٩
المورد الأول:.................................................................. ٣٠
المورد الثاني:................................................................... ٣١
المورد الثالث:................................................................. ٣٢
تطبيقات في المنهج التحليلي:.................................................... ٣٢
خروج المهدي (عجَّل الله فرجه) من المغرب:................................................. ٣٣
أولاً: دراسة في شخصية المؤلف:................................................ ٣٦
ثانياً: دراسة الظرف الزمكاني لحياة المؤلف:...................................... ٣٨
ثالثاً: دراسة معارضته القواعد التاريخية الثابتة في الموروث المهدوي:...............................................٣٩
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
تمهيد:
اعتمد الباحثون والكُتّاب طرقاً ومناهج متعدِّدة لدراسة المعارف الإنسانية، بهدف الوصول إلى بيان النتائج النهائية التي يمكن الاعتماد عليها وجعلها قواعد وأُسساً تأصيلية للبناء العلمي الفوقاني، ومن تلك المناهج المنهج التاريخي، والمنهج الوصفي، والمنهج التوقيفي النصي وما إلى ذلك، ومن هذه المناهج المتَّبعة هو المنهج التحليلي للنص الموروث، وهو منهج له ضرورته القصوى وأهميته الكبيرة كما سوف يتَّضح.
ومن ركائزه عدم الاعتماد على مجرد فهم النص وصحة الطريق المؤدي إليه والمعبر عنه بـ(صحة السند).
فالذي يعتمد المنهج التحليلي قد يجد النص واضح المعنى، والسند صحيحاً، ولكنه يتوقف في الأخذ بمضمون النص بعد تحليله وإرجاعه إلى الماورائيات، من القواعد والأُسس العامة العقلية، أو التاريخية أو العقائدية، أو الروائية أو الأصولية التي تخص هذا المضمون لمخالفته لها، وهو أمر نجد علماءنا قد اعتمدوه في بحوثهم التخصصية.
↑صفحة ١١↑
تطبيق السيد الخوئي (قدّس سرّه) للمنهج:
وكمثال على ذلك ما ذهب إليه السيد الخوئي (قدّس سرّه) في رفض الأخذ بمدلول صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «تُصَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، إِنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةِ رُكُوعٍ ولَا سُجُودٍ، وإِنَّمَا تُكْرَه الصَّلَاةُ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وعِنْدَ غُرُوبِهَا الَّتِي فِيهَا الْخُشُوعُ والرُّكُوعُ والسُّجُودُ لأَنَّهَا تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ وتَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ شَيْطَانٍ»(١).
حيث قال (قدّس سرّه): (وأمّا صحيحة محمد بن مسلم، فيتوجه على الاستدلال بها أنَّها غير قابلة التصديق بمدلولها - في نفسها - لاشتمالها على أنَّ الشمس تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان، وهذا إنَّما يمكن الإذعان به فيما إذا كان لطلوع الشمس وغروبها وقت معين، ومعه أمكن أن يقال: إنَّ الشمس تطلع وتغرب بين قرني شيطان. وليس الأمر كذلك فإنَّ الشمس في كل آن من الأربع والعشرين ساعة في طلوع وغروب، كما أنها في كل آن منها في زوال وذلك لكروية الأرض، فهي تطلع في آن في مكان وبالإضافة إلى جماعة، وفي آنٍ آخر تطلع في مكان آخر وبالإضافة إلى جماعة آخرين، كما أنها دائماً في زوال وغروب. ومعه ما معنى أنَّ الشمس تطلع بين قرني الشيطان وتغرب بين قرني الشيطان؟! فهو تعليل بأمر غير معقول في نفسه وهو أشبه بمفتعلات المخالفين، لاستنكارهم الصلاة في الأوقات الثلاثة معلّلاً له بهذا الوجه العليل، فلا مناص من حمل الصحيحة وما هو بمضمونها على التقية، فلا مجال للاستدلال بها بوجه.
على أنّا لو صدقنا الرواية في مدلولها لم يكن تعليلها هذا بمانع عن الصلاة في وقتي الطلوع والغروب، لأنها وقتئذٍ من أحسن ما يرغم به أنف الشيطان، فلا موجب لتركها)(٢).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) الكافي (دار الحديث) - الشيخ الكليني: ج٥، ص٤٦٥، ح ٤٤٩٨/٢.
(٢) كتاب الصلاة - السيد الخوئي (قدّس سرّه): ج١، ص٥٣٦.
↑صفحة ١٢↑
تطبيق السيد السيستاني (دام ظلّه) للمنهج:
وهكذا ما ذهب إليه المرجع الأعلى للطائفة السيد السيستاني (دام ظلّه) في خصوص دراسة متن الحديث وقبوله أو رفضه من خلال انسجامه مع المباني والقواعد المتبعة الروائية منها أو العقلية أو غيرها، حيث قال:
(إنَّ معظم الأصوليين المتأخرين فسَّروا الأحاديث الآمرة بعرض الخبر على الكتاب والسُنَّة نحو: ما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف فذروه بالموافقة والمخالفة النصية، بمعنى أن يعرض الخبر على آية قرآنية معينة، فإن كانت النسبة بينهما هي التباين أو العموم من وجه طرح الخبر، وإن كانت النسبة هي التساوي أو العموم المطلق أخذ، ولكننا نفهم أنَّ المراد بالموافقة الموافقة الروحية أي توافق مضمون الحديث مع الأصول الإسلامية العامة المستفادة من الكتاب والسنة، فإذا كان الخبر مثلاً ظاهره الجبر فهو مرفوض لمخالفته قاعدة الأمر بين الأمرين المستفادة من الكتاب والسنة بدون مقارنته مع آية معيَّنة، وهذا المفهوم الذي نطرحه هو الذي يعبر عنه علماء الحديث المتأخرون بالنقد الداخلي للخبر، أي مقارنة مضمونه مع الأصول العامة والأهداف الإسلامية، وهو المعبر عنه في النصوص بالقياس، نحو: فقسه على كتاب الله، إذن فمن المحتمل كون المراد من عمل ابن الجنيد بالقياس هو كونه من المدرسة المتشددة في قبول الحديث التي تلتزم بنظرية النقد الداخلي للحديث والموافقة الروحية فيه للكتاب والسُنَّة، في مقابل مدرسة المحدِّثين التي تعتقد بقطعية صدور أكثر الأحاديث دون مقارنتها مع الأصول الإسلامية)(٣).
بيان خطورة المنهج التحليلي:
ولا يخفى أنَّه منهج بقدر ضرورته القصوى - كما أشرنا إليه - إلّا أنَّه محفوف بكثير من الخطورة، وهو محل لزلل الأقدام وانحراف العقول وعدم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣) الرافد في علم الأصول: ص١١.
↑صفحة ١٣↑
الموضوعية، فإنَّ الباحث قد لا تكون عنده الأهليَّة الكافية للخوض في هذا المنهج، أو أنَّ له أجندة خاصة مسبقة، فلا يصل إلى النتيجة المرجوّة، وذلك لأسباب منها:
١ - عدم الإحاطة بالقواعد العامة وما وراء مضمون الخبر مما يجب الرجوع إليه في تحكيم هذا المضمون، فيخطئ الباحث في النتائج بسبب عدم إلمامه بتلك القواعد التي هي من أساسيات التحكيم في صحة الخبر وصدوره أو عدم ذلك.
٢ - قد لا يكون الباحث قادراً على فهم مضمون النص بشكل جليّ وعميق، كما لو كان قليل الخبرة، أو مما لا خبرة له أصلاً في هذا المجال الدقيق، فيقع في الخطأ أيضاً.
٣ - قد لا يكون الباحث موضوعياً ومنصفاً، وهنا أيضاً يكون في معرض الانزلاق في وحل التخبط والخطأ والاشتباه، بل ربما تعمد التزوير والتحريف.
٤ - عدم استعمال الأدوات العلمية في التحليل، والاقتصار على الاستحسان والميول القلبية، وهذا بطبعه سوف يغلق أبواب الوصول إلى الحقيقة المراد إثباتها.
وغير ذلك من الأسباب.
وعلى كل حال فهناك الكثير من المخاطر العلمية في اتخاذ مثل هذا المنهج، ولذا لا يمكن لكل أحد استخدامه لمعرفة صحة النص الروائي أو التاريخي إلّا بعد التعمق والإحاطة الكبيرة بالتراث الإسلامي عموماً، والمهدوي بشكل خاص.
ويبقى سؤال: هل استخدام هذا المنهج يوصل دائماً إلى القطع بالنتائج؟
وفي معرض الجواب نقول: ليس بالضرورة ذلك، فقد يتوصل هذا
↑صفحة ١٤↑
المنهج إليها، وقد يصل إلى مجرد الاستبعاد أو التوقف والحذر من أخذ المعلومة، وهذا أمر مهم أيضاً في نفسه، خصوصاً في النتائج التي لها علاقة بثوابت الدين أو المذهب أو النتائج التي يترتب عليها موقف عملي معين للفرد أو للأُمَّة.
وقد أقرَّ أهل البيت (عليهم السلام) كلا النتيجتين في الأخذ بمروياتهم فعن سفيان بن السمط، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك، إنَّ الرجل ليأتينا من قبلك فيخبرنا عنك بالعظيم من الأمر فيضيق بذلك صدورنا حتى نكذبه، قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «أليس عني يحدثكم»؟ قال: قلت: بلى، قال: «فيقول لليل: إنَّه نهار وللنهار إنَّه ليل»؟ قال: فقلت له: لا، قال: فقال (عليه السلام): «ردّه إلينا فإنَّك إن كذّبت فإنَّما تكذّبنا»(٤).
ممّا يعني أنّهم (عليهم السلام) أعطوا للمتلقّي فسحة في عدم التفاعل مع جميع المرويات، إذ الرواية صريحة بإمكانية تكذيب الموروث إذا كان مخالفاً للأسس والقواعد الدينية أو العقلية القطعية عند استخدام المنهج التحليلي، كما يمكن التوقّف فيها وردّها إلى أهلها عندما لا تكون معطيات التحليل قطعية ويقينية.
ولكن لابد من توضيح أنّه يجب على الباحث في هذا المنهج أن يفحص ويتأمّل ويكون مختصاً وقادراً على التعاطي مع مخرجات الموروث ونتائجه.
شمولية المنهج التحليلي:
ويجدر بنا القول: إنَّ استخدام هذا المنهج يمكن أن يكون في جميع موارد البحث العلمي الروائي، ولا يقتصر استخدامه على الموروث الديني المهدوي، بمعنى آخر: أنَّه يمكن استخدام المنهج التحليلي في أبواب الفقه كافة، إلّا أنَّ الاحتياج إليه في مجال معرفة الحقائق والوصول إلى النتائج في روايات الملاحم والفتن - وبالأخص المهدوي منها - هو آكد وأهم، بخلافه في بقية المعارف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤) بصائر الدرجات - محمد بن الحسن بن فروخ: ص٥٥٧، ب٢٢، ح٣.
↑صفحة ١٥↑
- خصوصاً الفقه وأحكام الشريعة - إذ قد لا يجد الفقيه في كثير من المسائل الفقهية حاجة إلى اتِّخاذ المنهج التحليلي للوصول إلى النتيجة، باعتبار أنَّ المسألة الفقهية مسألة في معرض الابتلاء عند المكلفين، لذا فإنَّ المشرِّع الإسلامي قد أكثر من بيان حكمها لكثرة السؤال عنها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنَّ أغلب المسائل الفقهية ليس لها قواعد وماورائيات عقائدية وتاريخية لابد من الإحاطة بها - كما هو في النص المستقبلي الروائي - وذلك لابتنائها على التعبد عادةً، إلّا ما ربما يقال من ضرورة الاطِّلاع على تاريخ النص الفقهي وظرفه الزماني والمكاني لمعرفة وجه إصدار الحكم، وهل كان صدور النص في ظرف صعب ومتشابك وتضييق أهل الجور وإرهابهم الفكري، حتّى يمكن حمل النص الفقهي الوارد من المعصوم على التقية مثلاً، أو حمله على القضية الخارجية دون الحقيقية أو غير ذلك.
أمّا في النص الروائي المهدوي، أو بعبارة أوسع (أحاديث الملاحم والفتن) فإنَّ دواعي التحريف والوضع عموماً كثيرة، مما يستدعي إعمال المنهج التحليلي بشكل واسع وعميق، ومن هذه الدواعي:
دواعي الوضع والتحريف في الموروث المهدوي:
١ - الدواعي السياسية:
وذلك لأنَّ القضية المهدوية - بما لها من زخم كبير في ترصين عقل الإنسان المسلم واتِّزانه، بل واستشرافه وتطلعه وانتظاره لدولة العدل الإلهي والتمهيد لها - ومن خلال الروايات الكثيرة المادحة لشخص المهدي (عجَّل الله فرجه) من جهة، ولسيرته وعصره المزدهر من جهة أخرى، فإنَّ الكثير من الجهات السياسية الحاكمة - أو غيرها آنذاك - حاولت وبشدَّة تقمُّص هذه الشخصية من أجل جمع الأنصار وقيادة المجتمع المسلم، من قبيل الأمويين ودعواهم
↑صفحة ١٦↑
في عمر بن عبد العزيز(٥)، والعباسيين ودعواهم في محمد المهدي بن عبد الله المنصور(٦)، بل إنَّ هناك حركات قامت على الفكرة المهدوية، كما في الحركة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥) عمر بن عبد العزيز تولى سنة ٩٩ ومات ١٠١هـ.
حاولت المنظومة الإعلاميَّة للدولة الأُمويَّة استغلال العقيدة المهدويَّة المتسالم عليها بين المسلمين لصالحها، لما في ذلك من الدلالات الكثيرة كما لا يخفى على الفطن، ومنها الإيحاء بأنَّ من كانت هكذا صفته (يملأ الأرض عدلاً) فلابدَّ أنْ تكون عشيرته أو آباؤه هم أهل الحقِّ والحقُّ معهم، لذا نجد بعض الأحاديث المفتعلة عن لسان عمر بن الخطَّاب أو ابنه في صالح بعض ما يُسمَّى بالخلفاء أو الملوك الأُمويِّين الذين ينتسبون من ناحية الأُمِّ إلى عمر بن الخطَّاب، وهو عمر بن عبد العزيز، فعن عبد الله بن دينار، عن عمر، قال: (يا عجباً! يزعم الناس أنَّ الدنيا لن تنقضي حتَّى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر)، قال: فكانوا يرونه بلال بن عبد الله بن عمر، قال: وكان بوجهه أثر، قال: فلم يكن هو، وإذا هو عمر بن عبد العزيز، وأُمُّه ابنة عاصم بن عمر بن الخطَّاب) [دلائل النبوَّة - أحمد بن الحسين البيهقي: ج٦/ص٤٩٢]، وعن نافع، عن عمر: (يكون رجل من ولدي بوجهه شين، يلي فيملأها عدلاً)، قال نافع: لا أحسبنَّه إلَّا عمر بن عبد العزيز [الفتن لنعيم بن حمَّاد: ص٦٧]، وعن نافع أيضاً، عن ابن عمر، قال: كنت أسمع ابن عمر كثيراً يقول: (ليت شعري من هذا الذي من ولد عمر في وجهه علامة، يملأ الأرض عدلاً) [طبقات ابن سعد: ج٥ ص٣٣١]، مجلة الموعود (١٥) - أثر الحركات المنحرفة في الموروث المهدوي (الإسماعيلية نموذجاً): ص١٣.
(٦) محمد المهدي بن عبد الله المنصور الدوانيقي يكنى أبا عبد الله، ولد سنة سبع وعشرين ومائة... ومات المهدي لثمان بقين من المحرم سنة تسع وستين ومائة [تاريخ بغداد - الخطيب البغدادي: ج٣، ص٩] بتصرّف.
وهكذا نجد الدولة العبَّاسيَّة - وعى غرار من سبقها - حاولت ليَّ عنق العقيدة المهدوية الثابتة لصالحها، وذلك بافتعال ووضع الأحاديث المهدوية لإقناع الناس بصحَّة حركتهم ومسيرتهم، فعن أحمد بن راشد الهالي، عن سعيد بن خثيم، رفعه إلى أُمِّ الفضل، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «يَا عَبَّاسُ، إِذَا كَانَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ وَمَائَةٍ، فَهِيَ لَكَ وَلِوُلْدِكَ، مِنْهُمْ: اَلسَّفَّاحُ، وَمِنْهُمْ اَلمَنْصُورُ، وَمِنْهُمْ اَلمَهْدِيُّ» [تاريخ بغداد - الخطيب البغدادي ج ١/ص٨٤ و٨٥]، وعن ابن عبَّاس مرفوعاً: «هَذَا عَمِّي أَبُو الخُلَفَاءِ الأَرْبَعِينَ، أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفّاً وَأَحْمَاهَا، مِن وُلْدِهِ اَلسَّفَّاحُ، وَاَلمَنْصُورُ، وَاَلمَهْدِيُّ، يَا عَمّ، بِنا فَتَحَ اَللهُ هَذَا الأَمْرَ، وَيَخْتِمُهُ بِرَجُلٍ مِنْ وِلْدِكَ» [الموضوعات لابن الجوزي: ج٢/ص٣٧ ] وأحاديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «اَلمَهْدِيُّ مِنْ وُلْدِ العَبَّاسِ عَمِّي» [العلل المتناهية - ابن الجوزي: ج٢/ص٣٧٣/ح١٤٣١]؛ مجلة الموعود (١٥) - أثر الحركات المنحرفة في الموروث المهدوي (الإسماعيلية نموذجاً): ص١٤.
↑صفحة ١٧↑
الإسماعيلية(٧) والواقفة(٨)، وهكذا ما نجده في التاريخ القريب من حركة المهدي السوداني(٩) ناهيك عن حركات الضلال في عصرنا الحاضر من قبيل (حركة اليماني المزعوم أحمد إسماعيل ابن كاطع).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٧) الإسماعيلية فرقة من فِرَق الشيعة تنقسم إلى عدَّة فرق:
١ - القرامطة: القائلة بإمامة محمد بن إسماعيل ابن الإمام الصادق وغيبته، ثمّ دخلت الإمامة في كهف الاستتار.
٢ - الدروز: وهم يسوقون الإمامة إلى الإمام الحادي عشر الحاكم بأمر الله، ثمّ يقولون بغيبته وينتظرون ظهوره.
٣ - المستعلية: وهؤلاء يسوقون الإمامة إلى الإمام الثالث عشر المستنصر بالله، ويقولون بإمامة ابنه المستعلى بالله بعده، وهم المعروفون بالبهرة، وقد انقسمت المستعلية سنة ٩٩٩هـ إلى فرقتين: داودية وسليمانية، سيوافيك بيانها.
٤ - النزارية: وهؤلاء يسوقون الإمامة إلى المستنصر بالله، ثمّ يقولون بإمامة ابنه الآخر نزار بن معد، وقد انقسمت النزارية إلى: مؤمنية وقاسمية المعروفة بالآغاخانية، وسيأتي سبب الانقسام وزمانه والركب الإمامي منقطع عن السير عند الجميع إلّا القاسمية حيث يقولون باستمرار الإمامة إلى العصر الحاضر. [بحوث في الملل والنحل - الشيخ السبحاني: ج٨، ص٣و٤].
(٨) عُرّفت الفرقة الواقفية في كتب الملل والنحل أنَّها فرقة وقفت على الإمام الكاظم (عليه السلام) ولم تعترف بإمامة الإمام الرضا (عليه السلام)، ولا ريب أنَّ هذا التعريف إنَّما اختصَّت به هذه الحركة بسبب ضخامتها واتِّساعها في أوساط الشيعة حتَّى انصرف مصطلح الوقف إليها، وإن كان واقع الحال ليس كذلك، فإنَّ الوقف - فكراً وعقيدةً - حدث قبل الإمام الكاظم (عليه السلام) كما نجد ذلك في الكيسانية والناووسية وغيرهما، وحدث أيضاً بعد شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام) كما في الذين وقفوا على الإمام الحسن العسكري (عليه السلام). [مجلة الموعود (١٦) - مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): أثر الحركات المنحرفة في الموروث المهدوي (الواقفة نموذجاً): ص١٦و١٧و١٨و١٩].
(٩) المهدي السوداني (١٢٥٩ - ١٣٠٢هـ = ١٨٤٣ - ١٨٨٥م): محمد أحمد بن عبد الله: المهدي السوداني: ثائر: كان لحركته أثر كبير في حياة السودان السياسية، ولد في جزيرة تابعة لدنقلة: من أسرة اشتهر أنَّها حسينية النسب، وكان أبوه فقيهاً: فتعلم منه القراءة والكتابة، وحفظ القرآن وهو في الثانية عشرة من عمره، ومات أبوه وهو صغير: فعمل مع عمه في نجارة السفن مدة قصيرة: وذهب إلى الخرطوم: فقرأ الفقه والتفسير: وتصوف، وانقطع في جزيرة في النيل الأبيض: مدة خمسة عشر عاماً للعبادة والدرس والتدريس، وكثر مريدوه: واشتهر بالصلاح، وسافر إلى (كردفان) فنشر فيها (رسالة) من تأليفه يدعو بها إلى (تطهير البلاد من مفاسد الحكام) وجاءه عبد الله بن محمد التعايشي فبايعه على القيام بدعوته، وقويت عصبيته بقبيلة (البقارة) وقد تزوج منها، وهي عربية الأصل، من جهينة وتلقب سنة: (١٢٩٨هـ = ١٨٨١م) بالمهدي المنتظر... [الأعلام - خير الدين الزركلي: ج٦، ص٢٠].
↑صفحة ١٨↑
وهذا أمر طبيعي جداً، إذ كلما كانت القضية مهمة وضرورية، تكالب عليها الآخرون من ذوي الأطماع وحاولوا تقمصها لينعموا بنور وهجها، وذلك إمّا من خلال وضع النصوص الموافقة لحركتهم، أو تفسير النصوص الموجودة أساساً بما يتناغم مع أهدافهم المزعومة.
ومن الطريف ما ذكره بعضٌ من أن كتاب (نوستراداموس)(١٠) هو من أكثر الكتب التي وجد فيها اختلاف في الترجمة من لغته الأصلية (الفرنسية) إلى لغات العالم، فكل أُمّة ودولة تسعى لتفسير النص بل تغييره من كتابه إلى مصالحها الذاتية، فالألمان مثلاً ترجموا الكتاب بما يخدم مصالحهم في فترة الحرب العالمية الثانية، وهكذا الإنكليز وغيرهم.
فكل دولة ترجمته بما يخدم مصالحها الذاتية، لذا فقد تعرَّض الكتاب إلى كثير من التحريف والتزوير.
وهكذا القضية المهدوية، فإنَّها تعرَّضت إلى التزوير زيادة ونقصاً ووضعاً وتحريفاً للمعنى والمضمون.
لذا نجد من الضروري استعمال المنهج التحليلي واعتماده لفحص وتقييم الموروث المهدوي والخروج بنتائج مقنعة، تنسجم مع القواعد الماورائية في الفهم الديني والعقلي.
٢ - عدم وضوح العقيدة المهدوية لدى أغلب المسلمين:
إنَّ الشخصية المهدوية تختلف صورتها بين الشيعة والسنة، فإنَّها في العقلية الشيعية شخصية واضحة المعالم من جميع الجهات، فهي معلومة النسب، لأنَّه عندهم الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن العسكري (عجَّل الله فرجه)) وهكذا من جهة الولادة فهو عندهم مولود عام (٢٥٥هـ)، وكذلك في سيرته، إذ إنَّ له غيبة يطول أمدها حتّى يأذن الله له بالخروج فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وهكذا في مقاماته من العصمة والعلم والنص وغيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٠) صيدلاني ومنجِّم فرنسي ولد في ديسمبر ١٥٠٣م وتوفي في يوليو ١٥٦٦م.
↑صفحة ١٩↑
ولكن المهدي في الذهنية الأخرى يختلف كثيراً، فهو شخصية ضبابية غير واضحة المعالم، فهو عندهم فرد علوي، لم يولد بعد، واسمه (محمد بن عبد الله) وهو حسني النسب لا حسيني، ولذا تجد أنَّ مَن ادَّعى المهدوية من أبناء المدرسة السنية أكثر بكثير من الطائفة الشيعية، إذ يكفيهم في الانطباق والادِّعاء بأن يكون اسمه محمد بن عبد الله ويدَّعي المهدوية، ولذا نجد أنَّ أحد أهم أدلة الحركة الحسنية للنفس الزكية أنَّ اسمه محمد بن عبد الله وهو موافق لما يزعمون أنَّه ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القول: (إنَّ المهدي اسمه محمد بن عبد الله) كما جاء في الرواية:
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: خَرَجْتُ مِنَ الْكُوفَةِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ المَدِينَةَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام)، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي: «هَلْ صَاحَبَكَ أَحَدٌ؟»، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «أَكُنْتُمْ تَتَكَلَّمُونَ؟»، قُلْتُ: نَعَمْ، صَحِبَنِي رَجُلٌ مِنَ المُغِيرِيَّةِ(١١)، قَالَ: «فَمَا كَانَ يَقُولُ؟»، قُلْتُ: كَانَ يَزْعُمُ أَنَّ مُحَمَّداً بْنَ عَبْدِ الله بْنِ الْحَسَنِ هُوَ الْقَائِمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اسْمَهُ اسْمُ النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وَاسْمَ أَبِيهِ اسْمُ أَبِي النَّبِيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فَقُلْتُ لَهُ فِي الْجَوَابِ: إِنْ كُنْتَ تَأْخُذُ بِالْأَسْمَاءِ فَهُوَ ذَا فِي وُلْدِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) مُحَمَّدٌ بْنُ عَبْدِ الله بْنِ عَلِيٍّ، فَقَالَ لِي: إِنَّ هَذَا ابْنُ أَمَةٍ - يَعْنِي مُحَمَّداً بْنَ عَبْدِ الله بْنِ عَلِيٍّ -، وَهَذَا ابْنُ مَهِيرَةٍ(١٢) - يَعْنِي مُحَمَّداً بْنَ عَبْدِ الله بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ -، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ الله (عليه السلام): «فَمَا رَدَدْتَ عَلَيْهِ؟»،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١١) المغيريَّة هم أصحاب المغيرة بن سعيد الكذَّاب، الذي كان يكذب على الإمام أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (عليهما السلام)، وكان يدعو إلى محمّد بن عبد الله بن الحسن في أوَّل أمره. وما في بعض النُّسَخ من (المعتزلة) من تصحيف النُّسَاخ.
(١٢) المهيرة: الحرَّة البالغة المهر، وجمعها: مهائر. والمراد بـ(محمّد بن عبد الله بن الحسن) محمّد بن عبد الله محض، راجع أحواله في مقاتل الطالبيِّين (ص ١٥٧ فصاعداً).
↑صفحة ٢٠↑
فَقُلْتُ: مَا كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ أَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَالَ (عليه السلام): «أَوَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّهُ ابْنُ سَبِيَّةٍ(١٣) - يَعْنِي الْقَائِمَ (عليه السلام) -؟»(١٤).
أمّا عند الشيعة فالأغلب في دعوى المنحرفين منهم هو تقمّص شخصيات مرتبطة بالإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) مثل ادِّعاء النيابة الخاصة كالحلّاج والشلمغاني وأحمد بن هلال العبرتائي، أو يتقمّص شخصية اليماني أو الحسني، وذلك لصعوبة تقمّص نفس شخصية الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) لوضوحها وتحديدها في العقل والوجدان الشيعي، ولثبوت المواصفات الخاصة به (عجَّل الله فرجه) والتي منها صفات إعجازية لا يمكن توفرها في المدَّعي.
ولذا ساعدت الشخصية الضبابية للمهدي في الذهنية السنية على اختلاق شخصيات مهدوية كثيرة مما نتج عنه الكثير من التدليس والتحريف والوضع في النص الروائي.
ومن هنا يتَّضح ضرورة الاعتماد على المنهج التحليلي للروايات المهدوية لفرز الغث من السمين والصحيح من السقيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٣) النُّسَخ في ضبط كلمة (ابن سبيَّة) مختلفة، ففي بعضها: (ابن ستَّة)، وفي بعضها: (ابن سبيَّة)، وفي بعضها: (ابن ستَّه)، والظاهر أنَّ الصواب ما في المتن بقرية ابن خيرة الإماء. والسبيَّة: المرأة تُسبى.
وقال العلَّامة المجلسي (رحمه الله) بعدما ضبطها في بحار الأنوار (ج٥١، ص٤١): (ابن ستَّة): (لعلَّ المعنى ابن ستَّة أعوام عند الإمامة، أو ابن ستَّة بحسب الأسماء، فإنَّ أسماء آبائه (عليهم السلام) محمّد وعليّ وحسين وجعفر وموسى وحسن، ولم يحصل ذلك في أحد من الأئمَّة (عليهم السلام) قبله. مع أنَّ بعض رواة تلك الأخبار من الواقفيَّة، ولا تُقبَل رواياتهم فيما يوافق مذهبهم).
أقول: ولا يبعد احتمال كونه (ابن ستَّه)، والمراد ابن سيِّدة، ولا ينافي كونها أَمَة، ويُؤيِّد ذلك أنَّ في كمال الدين (ص٣١٥ و٣١٦/ باب٢٩/ ح٢) في حديث مسند عن الحسن بن عليٍّ المجتبى (عليهما السلام): «ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ابن سيَّدة الإماء».
هذا، وقال البهبودي في هامش بحار الأنوار: لعلَّ الصحيح أنَّه (ابن ستَّه)، وهو عبارة أُخرى عن كونه (عليه السلام) أزيل، يعني متباعداً ما بين الفخذين.
(١٤) الغيبة للنعماني: ص٣٤٣-٣٤٤، ح١٢/٢٧٢، تقديم وتحقيق مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، ط١، سنة ١٤٤٣هـ.
↑صفحة ٢١↑
٣ - عدم المتابعة من قبل الآخر باعتبار أنَّها قضية ليست محلاً للابتلاء والسؤال والجواب عنده:
عند تتبُّع التراث السُنِّي - خصوصاً في مسألة الملاحم والفتن - يجد الباحث الكم الغفير من الأساطير والخرافات، مما يجعله حائراً ومتسائلاً: كيف أجاز هؤلاء المؤلفون نسبة هذه الخزعبلات إلى الدين وإلى المعصوم (عليه السلام)؟
ولعلَّ السبب وراء ذلك هو ما ذكرنا - ونذكره لاحقاً من ضمن النقاط - وهو أنَّ هناك تعمُّداً وإصراراً من قبل حُكّام الجور على نشر (ثقافة التفاهة)، بل كان للقصاصين حظوة ومكانة عند البلاط الأموي والعباسي آنذاك، بل يرجع ذلك إلى عصر الخلفاء الثلاثة الأوائل، ولم يكن الأمر يقتصر على عدم محاسبة ومتابعة هؤلاء القصاصين، بل كان هناك دعم لا محدود لهم، حتّى يكونوا بديلاً عن تراث آل محمد (عليهم السلام)، وهذا بخلاف مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فإنَّك لا تجد فيها مثل هذا الهراء المعرفي، بل إنَّ التاريخ يثبت متابعة أهل البيت (عليهم السلام) لما يصدر من أصحابهم من معلومات تنسب إليهم، سواء كانت على الصعيد الفقهي أو المعارف الإلهية أو الموروث المهدوي.
وكمثال على ذلك - في خصوص التراث المهدوي - ما ورد عن الحسن بن علي الخزاز، قال: دخل علي بن أبي حمزة على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) فقال له: أنت إمام؟ قال (عليه السلام): «نعم»، فقال له: إنِّي سمعت جدك جعفر بن محمد (عليهما السلام) يقول: لا يكون الإمام إلَّا وله عقب، فقال (عليه السلام): «أنسيت يا شيخ أو تناسيت؟ ليس هكذا قال جعفر (عليه السلام)، إنَّما قال جعفر (عليه السلام): لا يكون الإمام إلَّا وله عقب، إلَّا الإمام الذي يخرج عليه الحسين بن علي (عليهما السلام)، فإنَّه لا عقب له»، فقال له: صدقت جعلت فداك، هكذا سمعت جدك يقول(١٥).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٥) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٢٢٤، ح١٨٨.
↑صفحة ٢٢↑
وعن هشام، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: لمّا خرج طالب الحق قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): نرجو أن يكون هذا اليماني؟ فقال (عليه السلام): «لا، اليماني يوالي علياً (عليه السلام)، وهذا يبرأ»(١٦).
بل تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك، وهو الدخول والملاحقة في ساحة الشعر والأدب عموماً، فتجدهم يصحِّحون لأصحابهم الشعراء بعض أبياتهم الشعرية، ويزيدون عليها ويغيرون من كلماتها حتَّى تحاكي المرادات والحقائق الواقعية للخط المعرفي الأصيل.
وكمثال على ذلك: ما ورد في الكافي الشريف عن يونس بن يعقوب، قال: أنشد الكميت(١٧) أبا عبد الله (عليه السلام) شعراً فقال:
أخلص الله لي هواي فما * * * أغرق نزعاً ولا تطيش سهامي
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «لا تقل هكذا فما أغرق نزعاً، ولكن قل: فقد أغرق نزعاً ولا تطيش سهامي»(١٨)،(١٩).
ولم يكتفِ أهل البيت (عليهم السلام) في متابعة وتصحيح المنهج لأتباعهم فقط،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١٦) الأمالي - الشيخ الطوسي: ص٦٦١، ح١٣٧٥ /١٩.
(١٧) الكميت بن زيد الأسدي الكوفي من أصحاب الباقر (عليه السلام) مات في حياة أبي عبد الله (عليه السلام)، روى الكشي عن حمدويه عن حسان بن عبيد بن زرارة عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال للكميت: «لا تزال مؤيداً بروح القدس ما دمت تقول فينا»، وفي رواية أُخرى: أن أبا جعفر (عليه السلام) قال له: «لا تزال معك روح القدس ما ذببت عنا».
(١٨) الكافي (دار الحديث) - الشيخ الكليني: ج١٥، ص٤٩٤، ح ١٥٠٧٨/٢٦٣.
(١٩) بيان: أخلص الله لي هواي: أي جعل الله محبَّتي خالصة لكم، فصار تأييده تعالى سبباً لأن لا أخطئ الهدف، وأصيب كلما أريده من مدحكم، وإن لم أبالغ فيه، يقال: أغرق النازع في القوس إذا استوفى مدها، ثم استعير لكل من بالغ في شيء ويقال: طاش السهم عن الهدف أي عدل، وإنَّما غيَّر (عليه السلام) شعره لإيهامه بتقصير وعدم اعتناء في مدحهم، أو لأنَّ الإغراق في النزع لا مدخل له في إصابة الهدف، بل الأمر بالعكس، مع أنَّ فيما ذكره (عليه السلام) معنى لطيفاً كاملاً وهو أنَّ المداحين إذا بالغوا في مدح ممدوحهم، خرجوا عن الحق، وكذبوا فيما يثبتون له، كما أنَّ الرامي إذا أغرق نزعاً أخطأ الهدف، وإني كلما أبالغ في مدحكم، لا يعدل سهمي عن هدف الحق والصدق. [بحار الأنوار: ج٤٦، ص٣٣٩].
↑صفحة ٢٣↑
بل تصدّوا للانحرافات المعرفية عند الآخرين أيضاً، ففي رواية عن كعب يذكر فيها أفضلية بيت المقدس على الكعبة المشرَّفة، وذلك استجلاباً لعطايا معاوية وتزلُّفاً للبلاط الأموي من جهة، ونشراً وترسيخاً لعقيدته اليهودية بين المسلمين من جهة أخرى.
فحينما عُرِضَت الرواية على الإمام الباقر (عليه السلام) رفضها وأنكرها.
فعن زرارة، قال: كُنْتُ قَاعِداً إِلى جَنْبِ أَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) وَهُوَ مُحْتَبٍ مُسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: «أَمَا إِنَّ النَّظَرَ إِلَيْهَا عِبَادَةٌ»، فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَجِيلَةَ يُقَالُ لَهُ : عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، فَقَالَ لِأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام): إِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ الْكَعْبَةَ تَسْجُدُ لِبَيْتِ المَقْدِسِ فِي كُلِّ غَدَاةٍ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «فَمَا تَقُولُ فِيمَا قَالَ كَعْبٌ»؟ فَقَالَ: صَدَقَ، الْقَوْلُ مَا قَالَ كَعْبٌ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «كَذَبْتَ، وَكَذَبَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ مَعَكَ» وَغَضِبَ.
قَالَ زُرَارَةُ: مَا رَأَيْتُهُ اسْتَقْبَلَ أَحَداً بِقَوْلِ «كَذَبْتَ» غَيْرَهُ.
ثُمَّ قَالَ: «مَا خَلَقَ اللهُ (عزَّ وجلَّ) بُقْعَةً فِي الْأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهَا» ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْكَعْبَةِ «وَلَا أَكْرَمَ عَلَى اللهِ (عزَّ وجلَّ) مِنْهَا، لَهَا حَرَّمَ اللهُ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ فِي كِتَابِهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ لِلْحَجِّ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ؛ وَشَهْرٌ مُفْرَدٌ لِلْعُمْرَةِ وَهُوَ رَجَبٌ»(٢٠).
وسيأتي مزيد كلام حول شخصية كعب ودوره في بث الإسرائيليات والأساطير بما يرتبط بالروايات المهدوية.
وما متابعة المعصوم لمثل تلك النصوص إلّا لشعوره بمدى فداحة هذا المنهج وأثره السلبي على المعرفة الإسلامية في حال استشرائه فوقف بحزم ضدّه، وحاول تطويقه بمختلف الوسائل وعلى الأقل ألّا يتسرَّب إلى أتباعه وشيعته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٠) الكافي (دار الحديث) - الشيخ الكليني: ج٨، ص١٤٦، ح٦٨٣٥.
↑صفحة ٢٤↑
ولا بأس بذكر بعض النصوص لبيان دور القصاصين في نشر الإسرائيليات والأساطير والخزعبلات في الموروث الديني بين المسلمين.
مكانة القصاصين عند البلاط:
حظي صنف القصاصين بمكانة عالية عند الأوائل الثلاثة، وكانوا ينعمون بالخير الوفير، وتغدق عليهم الأموال والهدايا، وهكذا في عصر الأمويّين والعباسيين، وتم استخدامهم من قبل السلاطين كسلاح إعلامي في مواجهة نور محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآل محمد (عليهم السلام).
(لقد سمح الخلفاء الثلاثة للقصّاصين من أهل الكتاب الذين أسلموا حديثاً بالترويج للإسرائيليات بين المسلمين، وقد أخذ بعض الصحابة هذه الإسرائيليات ونشروها بين المسلمين بيد أنَّ أصحاب وشيعة الأئمة الأطهار (عليهم السلام) كانوا بشكل عام ينقلون الروايات من المصدر والمرجع الحقيقي للسُنَّة النبوية، وبذلك يمكن أن نشاهد اختلافاً ظاهراً بين مرويات مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ومرويات مدرسة الخلفاء(٢١).
ويعطينا ابن عساكر في تاريخه صورة مرعبة لمدى تمكُّن القصاصين في المجتمع المسلم، حيث حدث ابن عون: (أدركت المسجد - مسجد البصرة - وما فيه حلقة تنسب إلى الفقه، إلّا حلقة واحدة تنسب إلى مسلم بن يسار، وسائر المسجد قصّاص)(٢٢).
وهكذا ما ذكره العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي (رحمه الله) في موسوعته المباركة (الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)) أثناء بيانه لخطورة القصاصين ومدى تقبُّل المجتمع لهم وتأثيرهم عليه، حيث قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢١) نصوص معاصرة - آثار الإسرائيليات في الأحاديث المهدوية: د. مجيد معارف/السيد جعفر صادقي/ترجمة: حسن مطر: السنة الثالثة عشر، العدد الخمسون: ربيع ٢٠١٨م، ١٤٣٩هـ، ص١٧٩.
(٢٢) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج٥٨، ص١٣٠.
↑صفحة ٢٥↑
ودعا عطاء بن أبي رباح بخمسة قصاص، فقال: (قصوا في المسجد الحرام، قال: وهو جالس على أسطوانة، قال: فكان خامسهم عمر بن ذر...)، بل لقد بلغ الاحترام والتقديس لمجلس القصص والقصاصين أنَّه تخيَّل البعض: أنَّ الكلام أثناء القصص لا يجوز كما لا يجوز الكلام في خطبة الجمعة حتّى أعلمه عطاء أنَّ الكلام أثناء القصص لا يضر(٢٣).
وهم السبب في انتشار الإسرائيليات في كتب التاريخ والتفسير(٢٤).
٤ - عدم إمكانية تكذيب الناقل والمتحدث لعدم وقوع الحادثة:
فمن ينقل خبراً تاريخياً خلافاً للواقع فبالإمكان أن يوجد شخص أو أشخاص يردون عليه ويفندون رأيه، اعتماداً على الوقائع التاريخية، وهكذا من ينقل خبراً فقهياً وحكماً شرعياً مخالفاً للقرآن والسُنَّة الثابتة، فبالإمكان مقاطعته والإشكال عليه من قبل السامعين، ولكن هذا غير متوفّر في أخبار الغيب وروايات الملاحم والفتن، إذ لا توجد تفاصيل تُعارض ما يذكره ويسرده القصّاصون من أساطير، حتَّى يُعترض عليهم بها، فمن هنا ساعد هذا الأمر على فسح المجال للخيال القصصي وللذهنية الخصبة التي يتمتع بها كل قاصّ من الإغراق في قصّ الأساطير والأوهام على الحضور، وكلّما كانت القصة أكثر غرابة كان فيها عنصر الجذب أقوى عند المتلقّي، ويمكن عدّ عنصر الجذب من أحد النقاط الداعية إلى رواج الأساطير والخرافات في الروايات المهدوية خصوصاً وروايات الملاحم والفتن عموماً.
٥ - تعميم ظاهرة السطحية وإغراق المجتمع بالأساطير والخرافات:
وهي قضية مدروسة ومؤصَّل لها وملتفت إليها من قبل الحُكّام في العصور السابقة، وليست حالة وظاهرة معاصرة، فما نجده اليوم من تعميم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٣) الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - السيد جعفر مرتضى العاملي: ج١، ص١٤٨.
(٢٤) تاريخ المذاهب الإسلامية: ج١، ص١٥.
↑صفحة ٢٦↑
وإغراق المجتمع بظاهرة (ثقافة التفاهة) ليست وليدة العصر، بل لها جذورها التاريخية، وما ذلك إلّا لأجل إبعاد المجتمع عن التفكير في القضايا العادلة للأُمَّة، والتي لها مساس بتغيير حالهم لما فيه صلاحهم وخيرهم، وقد تندرج هذه النقطة في النقطة الأولى، وإنَّما خصصناها بالذكر لأهميتها وضرورة الالتفات إليها، فهي تدخل في الحرب الناعمة كما هو المصطلح عليه في عصرنا.
المقصود من (المنهج التحليلي):
قبل الخوض في بيان بعض تفاصيل وتطبيقات المنهج المراد توضيحه، لابد من إضاءة وإطلالة نتعرف بها على ما هو المراد من المنهج التحليلي، أو بالأحرى ماذا نقصد منه نحن، فقد يختلف قليلاً أو كثيراً مع ما ذكره أهل الاختصاص.
عُرِّف المنهج التحليلي بأنَّه أحد مناهج البحث العلمي والقائم على تحليل عنوان الدراسة ومضمونها وتفسير واستنتاج الدلالات المرادة وتفهّم أصولها واستخلاص النتائج.
بينما ذهب بعضهم إلى أنَّه: عملية تفكيك موضوع الدراسة لعناصر بسيطة وأولية ثم عملية نقد وتقويم للمعلومات والبيانات ومن ثمّ عملية الاستنتاج.
فيكون للمنهج التحليلي على التعريف الثاني ثلاث مراحل، الأولى هي النقد، والثانية هي التفسير، والثالثة هي الاستنباط(٢٥).
وهنالك تعاريف أخرى كثيرة لم يتَّفق الباحثون في تحديد عناصرها المشتركة ليكون التعريف جامعاً مانعاً، كما يقال في علم المنطق.
وهذا دَيدن كل تعريف، فإنَّه بالكاد تجد تعريفاً ينطبق عليه التعريف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٥) بحث منشور في موقع (مبتعث للدراسات والاستشارات الأكاديمية) الإلكتروني تحت عنوان (تعريف المنهج التحليلي وأنواعه).
↑صفحة ٢٧↑
المنطقي وأن يكون جامعاً ومانعاً من جميع الجوانب، لذا فإنَّ ما ذهبوا إليه في التعريف لا يعدو أن يكون (من باب شرح الاسم) فقط.
وحتَّى في هذا فإنَّهم لم يفلحوا أيضاً، إذ إنَّ بعض الباحثين عرَّف المنهج بأنَّه عرض للنص وفهمه وإيضاح المراد منه، وبعبارة مختصرة، قال: إنَّ تحليل المضمون يُعدّ أداة جمع للبيانات، وهو أشبه بالتعريف الوصفي والاستعراضي.
ولعله قريب من التعريف الأول الذي أشرنا إليه، وبغض النظر عن كل هذا، فإنَّه وباختصار نقول: إنَّ ما نقصده من العنوان هو (قراءة النص بطريقة فاحصة تفصيلية، بعد إيضاحه ومعرفة المقصود منه، ثم عرضه على الماورائيات، وهي القواعد والأُسس العقائدية والتاريخية والدينية والعقلية الثابتة، وإن لم تكن مرتبطة بشكل مباشر بمضمون النص الخاص، وكمثال على ذلك فالرواية التي تذكر خروج المهدي من المغرب مردودة وغير صالحة للإثبات لمخالفتها للقواعد والأسس - كما سيأتي تفصيله لاحقاً تحت عنوان (تطبيقات في المنهج التحليلي) -.
ومن الجدير بالذكر أنَّ البحث في تعارض الأدلة يندرج في المنهج التحليلي للنص الروائي، وهو مستعمل بكثرة بين الأعلام منذ عصر النص وإلى يومنا هذا، فاللجوء إلى ترجيح أحد الخبرين حين التعارض على الآخر واستعمال أدوات الترجيح إن وجدت ما هو إلَّا تحليل للمضمون النصي وبيان مدى قبوله وعدم معارضته للماورائيات من القواعد والأُسس الثابتة علمياً عند الأعلام، وهو ما نجد جذوره في الروايات الشريفة.
كما ورد في غوالي اللئالي عن زرارة بن أعين، قال: سألت الباقر (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال (عليه السلام): «يا زرارة، خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر»، فقلت: يا سيدي، إنهما معاً مشهوران مرويان مأثوران عنكم، فقال (عليه السلام): «خذ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك»، فقلت: إنهما معاً عدلان مرضيان
↑صفحة ٢٨↑
موثقان، فقال: «انظر ما وافق منهما مذهب العامة فاتركه وخذ بما خالفهم»، قلت: ربما كانا موافقين لهم أو مخالفين فكيف أصنع؟ فقال: «إذن فخذ بما فيه الحائطة لدينك واترك ما خالف الاحتياط»، فقلت: إنهما معاً موافقان للاحتياط أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال (عليه السلام): «إذن فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر»(٢٦).
وهكذا في عرض وإرجاع الروايات إلى القرآن الكريم، كما جاء في قرب الإسناد عن جعفر، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «قرأت في كتاب لعلي (عليه السلام) أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إنَّه سيُكذَب عليَّ كما كُذِبَ على من كان قبلي، فما جاءكم عني من حديث وافق كتاب الله فهو حديثي، وأمّا ما خالف كتاب الله فليس من حديثي»(٢٧).
وكذلك جاء في الكافي الشريف عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: «مَا لَمْ يُوَافِقْ مِنَ الْحَدِيثِ الْقُرْآنَ فَهُوَ زُخْرُفٌ»(٢٨).
فهو منهج تحليلي للموروث الديني لبيان صحته إذا وافق الكتاب الكريم، وسقمه إذا خالفه.
نماذج من استعمال المنهج التحليلي عند الأعلام في الروايات المهدوية المستقبلية:
عند مطالعة أغلب كتب علمائنا التي لا تقتصر على ذكر الروايات، بل تتعرَّض إلى الفحص والتأمُّل في متون الأخبار واستخلاص النتيجة المراد الوصول إليها من خلال موافقة الخبر أو مخالفته للماورائيات والقواعد والأُسس المتَّبعة العقلية والتاريخية والروائية وغيرها، فإنَّنا نجد أنَّهم استعملوا هذا المنهج واعتمدوا عليه بشكل كبير، وقلَّما نتصفَّح كتاباً - سواء من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٦) بحار الأنوار: ج٢، ص٢٤٥، ح٥٧.
(٢٧) قرب الإسناد - الحميري القمي: ص٩٢، ح٣٠٥.
(٢٨) الكافي ( دار الحديث ) - الشيخ الكليني: ج١، ص١٧٣، ح٢٠٦/٤.
↑صفحة ٢٩↑
المتقدمين أو المتأخرين - لا نجد فيه مثل هذا المنهج، وكمثال على ذلك ما ذكره الشيخ الطوسي (رحمه الله) في بعض الموارد:
المورد الأول:
قال: وحدّثني أبو محمد الصيرفي، عن عبد الكريم بن عمرو، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «كأنّي بابني هذا - يعني أبا الحسن (عليه السلام) - قد أخذه بنو فلان فمكث في أيديهم حيناً ودهراً، ثم خرج من أيديهم فيأخذ بيد رجل من ولده حتّى ينتهي به إلى جبل رضوى».
فهذا الخبر: لو حمل على ظاهره لكان كذباً، لأنَّه حبس في الأولة وخرج ولم يفعل ما تضمَّنه، وفي الثانية لم يخرج.
ثم ليس فيه أن من يأخذ(٢٩) بيد رجل من ولده حتَّى ينتهي إلى جبل رضوي أنَّه يكون القائم وصاحب السيف الذي يظهر على الأرض فلا تعلق بمثل ذلك(٣٠).
دلالة الحديث:
إنَّ الصادق (عليه السلام) في هذا الحديث يكشف عن كون سجن الإمام الكاظم (عليه السلام) علامة على كونه صاحب الأمر، من جهة أنَّ بني فلان إذا أخذوه ومكث في أيديهم حيناً ودهراً ثم يخرج، يأوي مع ولد له إلى جبل رضوى، وجبل رضوى كناية عن الحجة القائم الغائب.
ويردّه:
إنَّ حمل الخبر على ظاهره يلزم تكذيبه على ما صرّح به شيخ الطائفة (قدّس سرّه) من أنَّ الخبر يقول: إنَّ الإمام الكاظم (عليه السلام) إذا سُجن ثم خرج يأوي مع ولد له إلى جبل رضوى، في حين أنَّ أبا الحسن (عليه السلام) سُجن عدَّة مرَّات وخرج ولم يفعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٢٩) في نسخ (أ، ف، م): ليس فيه أنَّه يأخذ.
(٣٠) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٥٤، ح٤٧.
↑صفحة ٣٠↑
في خروجه الأول ما تضمّنه الحديث، وفي سجنه الأخير لم يخرج حياً على ما مرَّ عليك من خبر سمّه (صلوات الله عليه).
ثم من هذا الذي يأخذ بيده من ولده؟ وهل أنَّه القائم بعده أو أنَّ في البين شيئاً لا نعلمه.
نعم هذا الحديث مفصّل على ذوق الإسماعيلية، فلا تعلّق لهم به أو بمثله.
المورد الثاني:
قال: وروى بعض أصحابنا، عن أبي محمد البزاز، قال: حدّثنا عمرو بن منهال القمّاط(٣١)، عن حديد الساباطي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنَّ لأبي الحسن (عليه السلام) غيبتين إحداهما تقل والأخرى تطول، حتَّى يجيئكم من يزعم أنَّه مات وصلّى عليه ودفنه ونفض تراب القبر من يده، فهو في ذلك كاذب ليس يموت وصي حتَّى يقيم وصياً ولا يلي الوصي إلَّا الوصي فإنَّ وليه غير وصي عمي.
وإنَّما فيه: تكذيب من يدَّعي موته قبل أن يقيم وصياً، وهذا لعمري باطل فأمّا إذا أوصى وأقام غيره مقامه فإنه ليس فيه ذكره»(٣٢).
ويرده:
لابد من تأويله بأنَّ الغيبة وتعددها فيها كناية عن وقوع السجن عليه وتغيبه عن أتباعه وأهل بيته، نظير ما حصل مع يوسف (عليه السلام)، ولولا القطع بإمامة الخلف من بعده وقيام البرهان على إمامة الرضا (عليه السلام) ومن بعده من ولده (عليهم السلام) لكان لهذا الحديث وجه مقبول، ولكن كيف لمن وقف على طريقة أهل البيت (عليهم السلام) ومنهجهم في إثبات الإمامة لمن بعدهم أن يركن إلى مثل هذا الخبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣١) الظاهر أنَّه عمرو بن المنهال بن مقلاص القيسي.
(٣٢) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٥٧، ح٥٢.
↑صفحة ٣١↑
المورد الثالث:
قال: وحدَّثني حنان، عن أبي عبد الرحمن المسعودي، قال: حدَّثنا المنهال بن عمرو، عن أبي عبد الله النعمان، عن أبي جعفر (عليه السلام) صاحب الأمر يسجن حيناً ويموت حيناً ويهرب حيناً(٣٣).
ويرده: معارضته لما هو قطعي، وقد أوله شيخ الطائفة (قدّس سرّه) بما نصه: (فأول ما فيه: أنه قال: يموت حيناً وذلك خلاف مذهب الواقفة، فأمّا الهرب فإنَّما صح ذلك فيمن ندعيه نحن دون من يذهبون إليه، لأنَّ أبا الحسن موسى (عليه السلام) ما علمنا أنَّه هرب وإنَّما هو شيء يدعونه لا يوافقهم عليه أحد، ونحن يمكننا أن نتأوَّل قوله: يموت حيناً، بأن نقول: يموت ذكره)(٣٤).
وهكذا فيما ذكره الأعلام والباحثون في عصرنا الحاضر أمثال المرحوم العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي (رحمه الله) في موسوعته (الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)) حيث نجده يعالج الكثير من الموروث الديني بهذه الطريقة، أي بطريقة المنهج التحليلي للمضمون الروائي، فيأخذ بما يوافق المباني المتَّفق عليها ويرفض ما خالفها، وكتابه (الجزيرة الخضراء) مبني أساساً على هذا المنهج، فراجع.
وكذلك المرحوم العلامة الشيخ محمد الريشهري (رحمه الله) في موسوعته (الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه) في الكتاب والسُنَّة والتاريخ)، وغيرهم من الأعلام الكثير، لا نطيل البحث في ذكر أسمائهم وكتبهم.
تطبيقات في المنهج التحليلي:
عند التأمُّل بالموروث المهدوي وروايات الملاحم والفتن عموماً، نجد الكثير منها يحتاج إلى إعمال المنهج التحليلي، خصوصاً إذا لاحظنا التراث المهدوي الخاص بالفِرَق المهدوية المنحرفة كالإسماعيلية والواقفة وغيرهما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٣) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٥٨، ح٥٤.
(٣٤) الغيبة - الشيخ الطوسي: ص٥٩.
↑صفحة ٣٢↑
فضلاً عن الروايات العامية التي كثر فيها الغث والضعيف والموضوع، وقد استعرضنا هذا المنهج بشكل مفصَّل أثناء كتابة بحث حول (أثر الحركات المنحرفة في الموروث المهدوي - الحركة الإسماعيلية نموذجاً) و(أثر الحركات المنحرفة في الموروث المهدوي - الواقفة نموذجاً) وقد نشرت في الأعداد السابقة للمجلة(٣٥)، ويكفينا أن نذكر هنا تطبيقاً واحداً لإعمال المنهج التحليلي في الروايات المهدوية غير ما ذكرناه في ذينك المقالين، وهو:
خروج المهدي (عجَّل الله فرجه) من المغرب:
أورد القاضي النعمان في كتابه (شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام)) روايات عدَّة تنص وتصرِّح بأنَّ مبدأ خروج صاحب الزمان المهدي المنتظر (عجَّل الله فرجه) يكون من المغرب، ثم يعلِّق عليها ويطبّقها على الخلفاء الفاطميين في بلاد المغرب العربي، نذكر بعضاً منها مع تعليقاته وتطبيقاته:
١ - عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أنَّه قال: «المهدي من نسل فاطمة سيدة نساء هذه الأُمَّة - طالت الأيام أو قصرت - يخرج فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظلماً»، قيل: ومتى يخرج يا رسول الله؟ قال: «إذا كان زلازل في أطراف الأرض وارتشت القضاة، وفجرت الأمة، يخرج من المغرب، في ساقه شامة وبين كتفيه شامة فرداً غريباً»، قيل: وكيف يكون فرداً غريباً يا رسول الله؟ قال: «لأنَّه ينفرد من أهله ويتغرب عن وطنه».
وكذلك قام فرداً غريباً من المغرب، وكانت قبل قيامه زلازل، وكانت به العلامة التي وصفها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولم يقم حتَّى ارتشت القضاة، وصار القضاء كذلك يتقبل بالمال، وفجرت الأمة(٣٦).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٥) مجلة الموعود الصادرة عن مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه): العدد ١٥ و١٦.
(٣٦) شرح الأخبار- القاضي النعمان المغربي: ج٣، ص٣٦٣، ح١٢٣٣.
↑صفحة ٣٣↑
٢ - وعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أنَّه قال: «لابد من قائم من ولد فاطمة يقوم من المغرب بين الخمسة إلى السبعة يكسر شوكة المبتدعين، ويقتل الضالين»(٣٧).
٣ - وعن جعفر بن محمد بن علي (عليهم السلام)، أنَّه ذكر المهدي (عجَّل الله فرجه) فقال: «تطلع الرايات السود»، وأومى بيده إلى المشرق، «وتطلع رايات المهدي من هاهنا»، وأومى بيده إلى المغرب.
وذلك في أيام بني أمية قبل قيام بني العباس.
وطلعت راياتهم السود من قبل المشرق من جهة خراسان، فطلعت رايات المهدي بعد ذلك من المغرب كما قال صلوات الله عليه(٣٨).
٤ - عبد الرحمن بن بكار الأقرع القيرواني، قال: حججت، فدخلت المدينة، فأتيت مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فرأيت الناس مجتمعين على مالك بن أنس يسألونه ويفتيهم، فقصدت نحوه، فإذا أنا برجل وسيم حاضر في المسجد وحوله حفدة يدفعون الناس عنه، فقلت لبعض من حوله: من هذا؟ قالوا: موسى بن جعفر، فتركت مالكاً، وتبعته، ولم أزل أتلطف حتى لصقت به، فقلت: يا بن رسول الله، إنِّي رجل من أهل المغرب من شيعتكم وممن يدين الله بولايتكم، قال لي: «إليك عنّي يا رجل، فإنَّه قد وُكّل بنا حفظة أخافهم عليك»، قلت: باسم الله، وإنَّما أردت أن أسألك، فقال: «سل عمّا تريد»؟ قلت: إنَّا قد رُوِّينا أنَّ المهدي منكم، فمتى يكون قيامه، وأين يقوم؟ فقال: «إنَّ مثل من سألت عنه مثل عمود سقط من السماء رأسه من المغرب وأصله في المشرق، فمن أين ترى العمود يقوم إذا أقيم»؟ قلت: من قبل رأسه، قال: «فحسبك من المغرب يقوم، وأصله من المشرق، وهناك يستوي قيامه ويتم أمره».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٧) شرح الأخبار - القاضي النعمان المغربي: ج٣، ص٣٦٣، ح١٢٣٣.
(٣٨) شرح الأخبار - القاضي النعمان المغربي: ج٣، ص٣٦٤، ح١٢٣٤.
↑صفحة ٣٤↑
وكذلك كان المهدي ونشأته بالمشرق ثم هاجر إلى المغرب، فقام من جهته، وبالمشرق يتم أمره، ويقوم من ذريته من يتم الله به ذلك فيما هناك، ويورثه الأرض كما قال (عزَّ وجلَّ) في كتابه المبين: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ (الأنبياء: ١٠٥)، وكله ينسب إلى المهدي لأنَّه مفتاحه وبدعوته امتد أمره، وكل قائم من ولده من بعده مهدي قد هداهم الله (عزَّ وجلَّ) ذكره، وهدى بهم عباده إليه سبحانه، فهم الأئمة المهديون والعباد الصالحون الذين ذكرهم الله في كتابه أنَّه يورثهم الأرض وهو لا يخلف الميعاد(٣٩).
٥ - ومما رواه زاذان، عن سلمان الفارسي (رحمه الله)، ومن ذلك مما آثره عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «لابد من قائم من ولد فاطمة يقوم من المغرب يقتل الزنادقة، ويملك الترك، والخزر، والديلم، والحبش، ويؤتى بملوك الروم مصفدين في الحديد، ولا تقوم راية إلَّا راية الإيمان».
وهذا من معنى ما تقدم ذكره وشرحناه(٤٠).
٦ - وروى زاذان، عن سلمان الفارسي، أنَّه قال: لا بد من قائم من ولد فاطمة يقوم من المغرب فيكسر شوكة المبتدعين، ويقتل الظالمين.
وكذلك قام المهدي من المغرب، وهو من فاطمة، ولما جاءت به الروايات من هذا خاف بنو العباس من إدريس بن الحسين لما صار إلى المغرب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٣٩) شرح الأخبار - القاضي النعمان المغربي: ج٣، ص٣٦٤، ح١٢٣٥.
(٤٠) شرح الأخبار - القاضي النعمان المغربي: ج٣، ص٣٧٦، ح١٢٤٧.
↑صفحة ٣٥↑
واحتالوا في أن سموه - وقد ذكرت فيما مضى - وكانوا في ذلك كما قال الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ﴾(٤١).
ولبيان كيفية استخدام وإعمال المنهج التحليلي في الموروث المهدوي لابد من دراسة شخصية المؤلف أولاً، ثم الظرف الزمكاني لكتابة الكتاب ثانياً، ثم بيان مخالفته ومعارضته للأُسس والقواعد التاريخية والروائية الثابتة في الموروث المهدوي المتسالم عليه عند المسلمين جميعاً شيعةً وسُنَّة.
أولاً: دراسة في شخصية المؤلف:
عند مراجعة كتب التراجم لشخصية القاضي أبي حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي (ت ٣٦٣هـ) نجد أنَّ المشهور ذهب إلى أنَّ عقيدة القاضي النعمان هي عقيدة إسماعيلية تؤمن بأنَّ المهديين هم من أبناء إسماعيل بن الإمام الصادق (عليه السلام).
ولنذكر بعض ما ذكره مقدِّم كتاب القاضي النعمان (شرح الأخبار) وهو سماحة السيد محمد حسين الحسيني الجلالي حيث قال في بيان فضله أولاً: (وقال معاصره المعز لدين الله (ت٣٦٥هـ) رابع خلفاء الفاطميين: (... من يؤدي جزء مما أداه النعمان أضمن له الجنة بجوار ربِّه).
ووصفه ابن زولاق الحسن بن إبراهيم الليثي (ت٣٨٧هـ) بقوله: (... في غاية الفضل من أهل القرآن والعلم بمعانيه، وعالماً بوجوه الفقه وعلم اختلاف الفقهاء واللغة والشعر والعقل والمعرفة بأيام الناس مع عقل وإنصاف).
وذهب الأعلام جلّهم إلى كونه من أتباع العقيدة الإسماعيلية حيث قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤١) شرح الأخبار - القاضي النعمان المغربي: ج٣، ص٣٩٥، ح١٢٧٥.
↑صفحة ٣٦↑
عنه محمد بن علي بن شهرآشوب (ت٥٨٨هـ): (ابن فياض القاضي النعمان بن محمد ليس بإمامي وكتُبُه حِسانٌ...).
ويقول عنه الكاتب الإسماعيلي فيض: (إنَّ النعمان كان إسماعيلي المذهب منذ نعومة أظفاره).
والإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب يقول: (لقد أدّى القاضي النعمان للدعوة الإسماعيلية خدمات علمية جلّى كان لها الفضل الأكبر في تركيز دعائم الدعوة، ولا غروّ، فقد كان اللسان الناطق للإمام، واستحق أن يتربّع على عرش الدعوة العلمية وأن يورث أبناءه هذه الزعامة).
هذا مضافاً إلى ما تجده في كتبه من التصريح والتأكيد على إمامة ومهدوية الخلفاء الفاطميين، وقد ذكرنا بعض تعليقاته.
لكن بعض الأعلام ذهب إلى أنَّ القاضي النعمان كان إمامياً اثني عشرياً ولكنه تستَّر واتَّقى وتماشى مع الخلفاء الفاطميين وسايرهم خوفاً من بطشهم في أقوالهم، وأول من ذهب إلى هذه الفكرة هو العلامة المجلسي (ت١١١١هـ) وتبعه جمع من الأعلام، قال ما نصه:
(كان مالكياً أولاً ثم اهتدى وصار إمامياً، وأخبار هذا الكتاب [دعائم الإسلام] موافقة لما في كتبنا المشهورة، لكن لم يروِ عن الأئمة بعد الصادق (عليهم السلام) خوفاً من الخلفاء الإسماعيلية وتحت ستر التقية، أظهر الحق لمن نظر فيه متعمقاً، وأخبارُه تصلح للتأييد والتأكيد).
وهكذا وصفه الكاظمي (ت١٢٣٧هـ): (بأنَّه من أفاضل الإمامية...)(٤٢).
وكيف كان فسواء قلنا بإسماعيليته أو إماميته فإنَّ ما في كتابه - من التصريحات والتعليقات على الروايات التي تذكر خروج الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٢) مقدمة كتاب شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار (عليهم السلام) - مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجامعة المدرسين، ط٢ ١٤٣١هـ، بتصرف واختصار.
↑صفحة ٣٧↑
من المغرب - موافقة ومنسجمة مع تطلُّعات الخلفاء الفاطميين، فلذا لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال قبول ما ذكره من روايات أو تعليقات.
ثانياً: دراسة الظرف الزمكاني لحياة المؤلف:
عند استعراض حياة وسيرة المؤلف نجد أنَّه قضاها في بطانة الخليفة الفاطمي الأول - وهو عبد الله المهدي - حيث شارك في الدعوة الفاطمية في مهدها بالمغرب، وقام بتأصيل أصولها حتَّى أصبحت الدعوة تعتمد على النشاط الفكري للمؤلف بقدر اعتمادها على النشاط السياسي للخلفاء الفاطميين.
وخدمه تسع سنين وشهوراً وأياماً من أواخر عمر المهدي (ت ٣٢٢هـ)، وهكذا في عهد الخليفة الثاني الفاطمي القائم بأمر الله أبي القاسم محمد (ت ٣٣٤هـ) حيث خدمه لفترة اثني عشر عاماً، ثم من بعده الخليفة الفاطمي الثالث إسماعيل الذي لُقِّب بأبي طاهر المنصور بالله وتولى في عصره القضاء حيث قال هو: (وكنتُ أول من استقضاه من قضاته، وأعلى ذكري ورفع قدري...).
وكذلك في عهد الخليفة الفاطمي الرابع المعز لدين الله، فقد كانت بينهما مصاهرة مما زاد في علو شأنه عندهم، حيث صحبه إلى مصر بعد انتقال المعز إليها، قال اليافعي (ت ٧٦٨هـ): (كان ملازماً صحبة المعز ووصل معه إلى الديار المصرية أول دخوله إليها من أفريقية).
وبعد أقل من عام - بعد انتقاله إلى مصر - توفي المؤلف النعمان في القاهرة في ٢٩ جمادى الآخرة، سنة ٣٦٣هـ.
فبعد الاطِّلاع على حياته بهذا الشكل نجد أنَّ عنده طاعة مطلقة إلى الخلفاء الفاطميين وبه يتَّضح مدى انصياعه لرغباتهم ومراداتهم، حيث صرَّح بذلك وقال: (... وكان اعتمادي أيام المنصور بالله فيما أحاوله عنده وأرفعه إليه وأطالعه فيه على المعز لدين الله، فما أردته من ذلك بدأته به ورفعته إليه
↑صفحة ٣٨↑
وسألته حسن رأيه فيه، فما أمرني أن أفعله من ذلك فعلته... وما كرهه لي تركته...).
فهذه الطاعة المطلقة للمعز هي التي سهَّلت له الوصول إلى أعلى المراتب في الدولة الفاطمية، وجعلته من أقطاب الفكر الإسماعيلي، وفي هذا العهد بلغ المؤلف مبلغاً عظيماً من الثراء حيث يقول عن ملك له: (فبلغ كراؤه في السنة نحواً من مائتي ديناراً)، كما أنَّه في هذا العهد كتب ونشر كتبه وتصانيفه(٤٣).
ثالثاً: دراسة معارضته القواعد التاريخية الثابتة في الموروث المهدوي:
لا أجد داعياً للعناء في الفحص والتتبُّع لبيان مكان ظهور الإمام صاحب العصر والزمان (عجَّل الله فرجه)، فقد تسالم المسلمون جميعاً على أنَّه (عجَّل الله فرجه) يخرج من مكة المكرمة، وقد تواترت الروايات من الطرفين في ذلك، نذكر بعضاً منها لمزيد من الإيضاح:
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «وَالله لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَقَدْ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى الْحَجَرِ، فَيَنْشُدُ اللهَ حَقَّهُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ يُحَاجُّنِي فِي الله فَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِالله. أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ يُحَاجُّنِي فِي آدَمَ فَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِآدَمَ. أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ يُحَاجُّنِي فِي نُوحٍ فَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِنُوحٍ. أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ يُحَاجُّنِي فِي إِبْرَاهِيمَ فَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ. أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ يُحَاجُّنِي فِي مُوسَى فَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِمُوسَى. أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ يُحَاجُّنِي فِي عِيسَى فَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى. أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ يُحَاجُّنِي فِي مُحَمَّدٍ فَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِمُحَمَّدٍ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). أَيُّهَا النَّاسُ، مَنْ يُحَاجُّنِي فِي كِتَابِ الله فَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِكِتَابِ الله، ثُمَّ يَنْتَهِي إِلَى المَقَامِ فَيُصَلِّي عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ وَيَنْشُدُ اللهَ حَقَّهُ».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٣) مقدمة كتاب (شرح الأخبار) بتصرف.
↑صفحة ٣٩↑
ثُمَّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): «وَهُوَ وَالله المُضْطَرُّ الَّذِي يَقُولُ اللهُ فِيهِ: ﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرضِ﴾ [النمل: ٦٢]، فِيهِ نَزَلَتْ وَلَهُ»(٤٤)،(٤٥).
وعن أبي داود في (سننه) والترمذي في (جامعه) وأحمد في (مسنده) وابن ماجة في (سننه) والحافظ أبي عبد الرحمن في (سننه) والبيهقي في (البعث والنشور) وغيرهم، عن أم سلمة زوجة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنَّه قال: «يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة فيأتيه الناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام»(٤٦).
وهكذا فإنَّ هناك العشرات من الروايات المثبتة لمكان خروجه (عجَّل الله فرجه)، فإذن ما انفرد به القاضي النعمان في كتابه (شرح الأخبار) يعارض ويخالف القاعدة الروائية والتاريخية التي اتَّفقت عليها الأُمَّة.
تنبيه:
مضافاً إلى ما سبق من الدراسات الثلاث، فإنَّ التأمل فيما ذكره القاضي النعمان في بعض الروايات من التأكيد والإصرار على ذكر علامة وهي أنَّ (بساقه شامة) تدعو للتأمل في إدراج هذه العلامة لاحتمال وجود خلل في ساق الخليفة الأول الفاطمي (عبد الله المهدي) مما استدعى ذكر هذه العلامة والتشديد عليها لكي تنطبق على شخصية المهدي الفاطمي، خصوصاً وأنَّها غير موجودة في الروايات الشيعية.
كما فعل الحسنيون في تطبيقهم المهدوية على محمد بن عبد الله الحسني (ذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٤) الغيبة للنعماني: ص٢٧٠، ح[٢٠٢/ ٣٠]، تقديم وتحقيق مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
(٤٥) ونحوه في: تفسير العيَّاشي (ج ٢/ ص ٥٦ و٥٧/ ح ٤٩)، تفسير القمِّي (ج ٢/ ص١٢٩ و٢٠٥).
(٤٦) بحث (خروج المهدي (عجَّل الله فرجه) بمكة بين الركن والمقام - للشيخ كاظم المصباح) - منشور في جريدة صدى المهدي (عجَّل الله فرجه) التي صدرت عن مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه)، لسنة ١٤٣٦هـ - ذو الحجة - العدد ٧٨.
↑صفحة ٤٠↑
النفس الزكية) حيث ذكروا أنَّ من علامة المهدي أن يكون في لسانه رِتَّة، حيث كان محمد هذا في لسانه رِتَّة، فلكي يطبّقوا الحديث الذي يقول: إنَّ المهدي هو محمد بن عبد الله الحسني أضافوا له هذه العلامة لمزيد من التطبيق على صاحبهم محمد.
حيث قال صاحب كتاب مقاتل الطالبيين: (وكان محمّد بن عبد الله الحسني في لسانه رتَّة فوضعوا حديثاً رفعوه إلى أبي هريرة بأنَّه قال: (إنَّ المهديَّ اسمه محمّد بن عبد الله، في لسانه رتَّةٌ)(٤٧).
الخلاصة:
وباختصار شديد فالنص الروائي القائل بخروج المهدي من المغرب حتى إذا كان صحيح السند إلّا أنَّ الملم بالتاريخ الإسلامي وتاريخ الحركات المهدوية المنحرفة يعلم بأنَّ هذا النص إنَّما جيء به للترويج للعقيدة الإسماعيلية حيث أسست دولتها في المغرب العربي، ولتدعيم دعوتها بين المجتمع المسلم استخدمت آليات عدَّة، منها وضع الأحاديث ونسبتها إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للتأثير على عموم المسلمين، أو نسبتها إلى العترة الطاهرة للتأثير على أتباعهم وشيعتهم باعتبار أنَّ الإسماعيلية فرقة شيعية تعتقد بإمامة بعض الأئمة - أي إلى الإمام الكاظم (عليه السلام) - ثم إسماعيل ولده وأنَّه المهدي المنتظر، وهكذا إلى بقية خلفائهم الفاطميين.
وختاماً:
فإنَّ الباب مفتوح وواسع لإعمال المنهج التحليلي في كثير من موارد الموروث المهدوي، وكمثال على ذلك:
١ - طائفة كبيرة من الروايات في مدح الشام وبيت المقدس وتفضيلها على مكة، كما مرَّ في الرواية السابقة(٤٨).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٧) مقاتل الطالبيين - أبي الفرج الأصفهاني: ص١٦٤.
(٤٨) مرَّ في صفحة ٢٤.
↑صفحة ٤١↑
مما يُشعِر بأنَّها روايات موضوعة جيء بها تملُّقاً وتزلُّفاً إلى البلاط الأموي ونكايةً بأهل بيت النبوة (عليهم السلام).
وهكذا يمكن أن تكون بسبب ضغينة اليهود المتأسلمين على الدولة البيزنطينية، بل وعلى الدولة الإسلامية أيضاً.
٢ - طائفة كبيرة من الروايات في فتح القسطنطينية وتفاصيلها، مما يُشعِر بأنَّها روايات كان للعامل السياسي والعسكري يدٌ فيها من قِبَل السلاطين ووعّاظهم، إضافةً إلى نكاية اليهود المتأسلمين ضد النصارى.
٣ - طائفة كبيرة من الروايات تتحدَّث عن تفاصيل خروج الدجال، وفيها الكم الهائل من الأساطير والأوهام التي لا واقع لها.
لذا ذهب الشيخ محمود أبو رية إلى أنَّ الروايات الذاكرة خروج الدجال وخصائصه الخارقة إنَّما هي من أوهام القصّاصين.
٤ - دراسة شخصيات وأقطاب القصاصين وأصحاب الإسرائيليات أمثال كعب الأحبار(٤٩) وتميم الداري(٥٠)...
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٤٩) كعب الأحبار: كعب بن ماتع الحميري المحدّث اليهودي، أسلم في زمن أبي بكر، وقدم اليمن في خلافة عمر، وتوفّي في خلافة عثمان، إن كان صادقاً فهو صاحب الإسرائيليات المحرّفة والكاذبة المعتمد على الكتب المحرّفة بنص القرآن الكريم، فلم يكن عنده سوى تلك الأساطير والقصص الموهومة، أمّا إذا كان كاذباً فالخطب أفدح وأجل، ولا يقارن بشيء.
والمطالع في مروياته يقف على أنَّه يركز على القول بأمرين: التجسيم والرؤية، وقد اتَّخذهما أهل الحديث والحنابلة من الآثار الصحيحة، فبنوا عليهما العقائد الإسلامية وكفروا المخالف. [بحوث في الملل والنحل - الشيخ السبحاني: ج١، ص٨٢/بتصرّف].
(٥٠) تميم بن أوس الداري: من رواة الأساطير الإسرائيليات المبثوثة في كتب التفسير والحديث والتاريخ التي ترجع أُصولها إلى رجال الكنائس والبيع، وله دور كبير في بثّها حيث إنَّه أوَّل من تولى نشر هذه الأساطير، وقد حدّث عنه علماء الرجال والتراجم وأطبقوا على أنَّه كان نصرانياً قدم المدينة فأسلم في سنة ٩هـ، وله من الأوّليات أمران:
١ - كان أوّل من أسرج في المسجد.
٢ - أوّل من قصّ بين المسلمين، واستأذن عمر أن يقصّ على الناس قائماً، فأذن له، وكان يسكن المدينة ثمّ انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان.
هذا ما اتّفقت عليه الكتب الرجالية، ويستنتج منها ما يلي:
إنَّ الرجل كان قصّاصاً في المدينة يوم لم يكن هناك من يعارضه، بل كان هناك من يكافئه، وبما أنَّ الرجل كان قد قضى شطراً من عمره بين الأحبار والرهبان، فمن الطبيعي أن يقوم بقص كلّ ما تعلّمه من أساتذته من الإسرائيليات والأساطير المسيحية وبثّها بين المسلمين وهم يأخذونها منه زاعماً أنَّها حقائق راهنة. [بحوث في الملل والنحل - الشيخ السبحاني: ج١، ص٩١/بتصرّف].
↑صفحة ٤٢↑
... ووهب بن منبِّه(٥١) وغيرهم، حيث نجد أنَّ أمثال هؤلاء قد ثنيت لهم الوسادة وفُتِحت لهم أبواب الحديث بعد أن حُرّمَ على الأُمَّة وأُغلِق عليها حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فكان لأمثال هؤلاء الباع الطويل في اختراق تراث الأُمَّة الإسلامية ونشر الأساطير والخرافات بينها بمباركةٍ ورعايةٍ خاصة ودعمٍ لا محدود من قِبَل الثلاثة الأوائل مروراً بالعصر الأموي والعباسي.
٥ - روايات (دابة الأرض) التي تصفها بصفات خيالية لا يمكن تعقُّلها.
هذه نماذج من الروايات المهدوية التي ينبغي إعمال المنهج التحليلي فيها لكثرة التخليط والتحريف فيها، نأمل من الأخوة المحققين النظر في ذلك.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
* * *
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(٥١) وهب بن منبّه: كتابي آخر قد بلغ الغاية في بثّ الإسرائيليات بين المسلمين حول تاريخ الأنبياء والأُمم السالفة، وقد تسنَّم الرجل، منبر التحدُّث عن الأنبياء والأُمم السالفة يوم كان نقْلُ الحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ممنوعاً وأخذ بمجامع القلوب فأخذ عنه من أخذ، وكانت نتيجة ذلك التحدُّث انتشار الإسرائيليات حول حياة الأنبياء في العواصم الإسلامية، وقد دوّن ما ألقاه في مجلد واحد، أسماه في كشف الظنون (قصص الأبرار وقصص الأخيار)، ويظهر من تاريخ حياته أنَّه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار والمشيئة عن الإنسان، حتَّى المشيئة الظلية التي لولاها لبطل التكليف ولغيت الشريعة. [بحوث في الملل والنحل - الشيخ السبحاني: ج١، ص٩٠/بتصرّف].
↑صفحة ٤٣↑