تمهيدنا
آليات التعاطي المعرفي مع المهدوية
رئيس التحرير
المعروف ومنذ القِدَم أنَّ الخوض في كل قضية معرفية كانت أو عقائدية أو فقهية أو قرآنية أو أخلاقية أو غيرها يحتاج إلى منهج ورؤية مسبقة تتيح للباحث مساحة من الخوض في القضية التي يروم بحثها.
وبقدر إلمامه بالقواعد العامة والأُسس والضوابط ستتجسَّد على ورقة البحث تلك القدرة - لو كانت مشفوعة ببيان يناسب حجم الإمكانات التي يمتلكها الباحث والبيئة التي ينطلق منها- في ضبط التفصيلات وعدم الوقوع في التهافتات، وبقدر هذا الضبط وما يترتب عليه، نجد الابتعاد عن هذه القواعد يؤثر سلباً في تشوش البحث وعدم انضباطه وخروج النتائج مشوهة ومجتزئة، بل وتكون موجبة في بعض الأحيان إلى الإنكار والجحود، لا بل إلى التلبس الخارجي الممقوت والضار.
القضية المهدوية تشكِّل جزءاً من البناء العقائدي والكلامي في مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
ومنذ القِدَم وما قبل زمان شيخ الطائفة (قدّس سرّه) ومن زمان يونس بن عبد الرحمن (رحمه الله) وهشام بن الحكم (رحمه الله) وأضرابهم، يجد المتتبِّع في زوايا كلماتهم
↑صفحة ٥↑
منهجية واضحة رصينة تنم عن جهد استثنائي وكبير بذله هؤلاء الأعاظم (قدّس سرّهم) لتشييد أركان البناء العقائدي وبالخصوص في مسألة الإمامة وإمامة الإمام المهدي (عجَّل الله فرجه).
وكنموذج من ذلك نلاحظ كلمات بعضهم في بعضهم وكيف يترجمون إلى من مَنهج المسائل وقعّد القواعد:
ما قاله شيخ الطائفة (قدّس سرّه) في الفهرست في حق هشام (رحمه الله) (ت ١٧٩ هجرية)، عند ترجمته له: (كان من خواص سيدنا ومولانا موسى بن جعفر (عليه السلام)، وكانت له مباحثات كثيرة مع المخالفين في الأصول وغيرها.
وكان له أصل... وكان ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذَّب المذهب بالنظر، وكان حاذقاً بصناعة الكلام...).
فلاحظ كيف وصفه بالحذاقة في هذه الصناعة وتفتيقه وتهذيبه للمسائل الكلامية ووضع القواعد لها، هذا كله ما قبل سنة (١٧٩).
ولاحظ في هذا الصدد ما قاله أيضاً (قدّس سرّه) في معرض ترجمة شيخه، الشيخ محمد بن محمد بن النعمان (ت ٤١٣ هجرية)، قال في الفهرست: (محمد بن محمد بن النعمان المفيد، يكنى أبا عبد الله، المعروف بابن المعلم، من جملة متكلِّمي الإمامية، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته، وكان مقدّماً في العلم وصناعة الكلام، وكان فقيهاً متقدّماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب).
مقدماً في العلم وصناعة الكلام...
ولم يقف الحد عند هذا القدر، بل كان للحذاق منهم والأساطين كرسي لا يجلس عليه إلّا من كان قيّماً بهذا الأمر ومن المقتدرين فيه، لاحظ
↑صفحة ٦↑
ما قاله الشيخ النجاشي (رحمه الله) في ترجمة الشيخ محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري (ت ٤٦٥ هجرية)، في الفهرست: (أبو يعلى خليفة الشيخ أبي عبد الله بن النعمان والجالس مجلسه، متكلِّم، فقيه، قيم بالأمرين جميعاً، له كتب، منها: المسألة في مولد صاحب الزمان (عليه السلام) المسألة في الرد على الغلاة... الموجز في التوحيد موقوف على التمام، مسألة في إيمان آباء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)).
والذي يتابع كلمات حتَّى المستبصر منهم كالشيخ عبد الرحمن ابن قبة يقف على منهج رصين وقدرة فائقة إلى التطبيق وضبط تفرعات المسائل(١).
حتَّى خرج لنا أمثال كتاب غيبة الشيخ وما ناظره من الكتب في هذا الصدد من تراث السيد المرتضى ومن قبله شيخه المفيد.
ولكن ولفترة زمنية طويلة عزَّ التماس وضوح المنهج والرؤية الواضحة أو امتلاك المنهجية في ما يرتبط بالقضية المهدوية.
فتجد بعض الباحثين وفي بحث واحد، بل في مورد واحد ومسألة فاردة يضعف عدداً من الروايات لأنها لا تناسب رؤيته ويعتمد على واحدة منها ضعيفة لأنها تناسب رؤيته التي بنى عليها مسبقاً والتي يسعى جاهداً إلى تحشيد الأدلة عليها دونما نظر إلى آثار ترك ما يدل على غيرها، ودونما رؤية في إبطال الأدلة المخالفة لفكرته ولو تكاثرت، فيما تجد نفس هذا الباحث وفي بحث آخر يقوّي نفس هذه الأدلة التي ضعَّفها في بحثه السابق ويضعِّف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي (مات ما قبل (٣٠٩هـ) تقريباً)، قال الشيخ النجاشي (رحمه الله) في الفهرست: (أبو جعفر، متكلِّم، عظيم القدر، حسن العقيدة، قوي في الكلام، كان قديماً من المعتزلة، وتبصر وانتقل، له كتب في الكلام... له كتاب الإنصاف في الإمامة، وكتاب المستثبت نقض كتاب أبي القاسم البلخي، وكتاب الرد على الزيدية، كتاب الرد على أبي علي الجبائي، المسألة المفردة في الإمامة).
وقال الشيخ (قدّس سرّه) في الفهرست: محمد بن قبة الرازي، يكنى أبا جعفر، من متكلِّمي الإمامية وحذاقهم...).
↑صفحة ٧↑
ما قوّاه، لا لأجل منهجة واضحة وطريق مرسوم محدّد الملامح، بل لأجل الانتصار للفكرة ليس إلّا.
وهذا مما يوجب ضعف البحث وتقليل حجم مؤثريته في وسط القارئ الحصيف.
فما هو الضير من الاشتغال بالمتابعة الدقيقة لكتب المشايخ الثلاثة المفيد والسيد المرتضى والطوسي والوقوف على منهجهم وتحريه وتحريره واعتماده أو بعضه، بل وإخراجه بعنوانه أو بغيره، كي تنتظم المنظومة المهدوية بشكل يوازي انتظام المسائل الكلامية الأخرى من التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد، بل والفقهية بعد ضبط المناهج الأصولية.
فالحري بالباحث في تفصيلات القضية المهدوية أن يمتلك - بالحد الأدنى - القراءة الدقيقة الفاحصة لكتب المشايخ الثلاثة لما فيها من مخزون معرفي مرتبط بالعقيدة المهدوية مرتكز على قواعد رصينة ومبادئ صلبة تضبط البحث وتدفع اختلال النتائج.
فالمنهج موجود ومسطر في كتب الأصحاب إنَّما يحتاج إلى إعمال عناية وبذل الجهد في ضبطه والعمل عليه، وهو عينه ما يعتمده المتكلِّم في مسائل التوحيد والنبوة والإمامة العامة والخاصة، سوى بعض التفصيلات التي تعتمد على ما مُنهج في علم الأصول أو الفقه أو الحديث أو غيرها.
وليس فرز القضية المهدوية عن غيرها من مسائل الإمامة إلّا لأجل إبراز الأهمية وتفعيل جانب الاهتمام لدى الكُتّاب الكرام نظير ما قاله الشيخ الآخوند الخراساني في مفهوم الوصف أنه وإن لم نقل بالمفهومية له إلّا أنه توجد له عدة فوائد، منها لبيان الأهمية، فالعقلاء جرت سيرتهم إذا أرادوا أن يبرزوا
↑صفحة ٨↑
شيئاً لغرض من الأغراض يكثروا من الاهتمام به لإنصات النظر إليه، فلأجل إعلام الآخرين بأهمية الأمر وإلفات السامعين له يفردونه ويبرزونه مع أنه مدوّن في الكتب ومنظور إليه عند أهل التخصص والنحو من الأنحاء.
↑صفحة ٩↑