السفير الرابع للإمام المهدي (عليه السلام)
علي بن محمد السمري
الشيخ ضياء الدين الخزرجي
المبحث الأول: علي بن محمد السمري في الميزان
المبحث الثاني: التحركات السياسية والفكرية والاجتماعية للسمري
المبحث الثالث: معجزات الإمام المهدي (عليه السلام) على يدي السمري (رض)
المبحث الرابع: وفاة علي بن محمد السمري (رض)
المبحث الخامس: دراسة ونقد لتوقيع الإمام المهدي (عليه السلام) للسمري بانتهاء الغيبة الصغرى
المبحث الأول: علي بن محمد السمري في الميزان
والسمري عادل ذو العزم * * * وقد توفي لسقوط النجم(١)
والغيبة الكبرى بموته بدت * * * فنور اللهم عينا كدرت
وهو أبو الحسن علي بن محمد السمري(٢)، أو السيمري(٣)، أو الصيمري(٤)، والمشهور الأول؛ مضبوطًا بالسين المهملة المفتوحة والميم المضمومة والراء؛ وقيل بالسين المهملة المكسورة والميم المكسورة المشددة والراء(٥).
وسَمَّر: بفتحتين وتشديد الميم موضع في اليمامة فيه نخل كثير(٦)، قال الحموي: وسمر أعتقد بأنه لفظ نبطي وليس عربي، وهي بلد من أعمال (كسكر) وهي داخلة الآن تحت أعمال البصرة وهي واقعة بين البصرة وواسط(٧)، وذكر النهاوندي مثله عن السمعاني(٨).
لم تذكر النصوص تاريخ ومحل ولادته وأسرته؛ وإنما ذكر فيها كواحد من أصحاب العسكري (عليه السلام)، ثم ذكر أنه قام بمهام السفارة عن الإمام المهدي (عليه السلام)(٩).
أثنى عليه العلماء قديمًا وحديثًا، فقد عدّه الطوسي من السفراء الممدوحين بعد أن ذكر طرفًا من أخباره وأحواله(١٠)؛ وقال فيه الصدوق:
إنه ممن أجمع الشيعة على عدالته وثقته(١١)؛ ووصفه المفيد: بأنه أهل عقل وأمانة وثقة ودراية وفهم وتحصيل ونباهة(١٢)؛ وقال عنه الطبرسي: بأنه صادق اللهجة في مقالته(١٣).
وأثنى عليه متأخرو العلماء أيضًا؛ وأطنبوا في مدحه وتعظيمه؛ قال المامقاني: إنه من السفراء والنواب؛ وهو السفير بعد أبي القاسم بن روح، وكان يكنى بأبي الحسن، وثقته وجلالته أشهر من أن يذكر، وأظهر من أن يحرز، فهو كالشمس لا يحتاج إلى بيان نوره، وقد كانت سفارته عن الحجة المنتظر (عليه السلام) بوصية الشيخ أبي القاسم بن روح إليه عند موته بأمر من الحجة (عليه السلام)(١٤).
وقال السيد الصدر عنه: كان حجة المولى على المؤمنين، عالمًا ربانيًا زاهدًا ورعًا، شيخنا في الحديث والفقه، وكان المرجع بعد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح (رض) وباب الأحكام للطائفة؛ وله حكايات وكرامات ومكاشفات رواها الثقات(١٥).
وجاء في (تعق): علي بن محمد السمري من السفراء والنواب وجلالته تغني عن التعرض بحاله، وفي (النقد) مثله(١٦).
تولى السفارة من حين وفاة أبي القاسم بن روح النوبختي بأمر الإمام المهدي (عليه السلام)(١٧).
وقد تسالمت الأمة عليه وقبولها له، وكان تصديه للسفارة عام ٣٢٦هـ، إلى أن لحق بالرفيق الأعلى عام ٣٢٩هـ في النصف من شعبان(١٨)؛ فتكون مدة سفارته حوالي ثلاثة أعوام كاملة غير أيام(١٩).
وقد وقع توهم في هذه الشخصية:
في أنها نفسها شخصية علي بن زياد الصيمري، أو علي بن محمد بن زياد الصيمري أم هي ثلاث شخصيات؟ ومنشأ هذا التوهم والاختلاف يعود إلى اختلاف الأخبار والروايات..
فقد ذكر الطوسي في رجاله: علي بن محمد السمري – سفير الإمام المهدي (عليه السلام) – بأنه من أصحاب الإمام العسكري تحت عنوان الصيمري لا السمري(٢٠)؛ وروى ابن شهرآشوب دخول علي بن محمد بن زياد الصيمري على أحمد بن عبد الله بن طاهر وفيه يديه رقعة أبي محمد.. الخ(٢١)، وهو نفس ما رواه الأربلي ولكنه عن علي بن محمد السمري(٢٢).
فنقول في رفع التوهم: أمّا علي بن زياد الصيمري، فقد ذكر الوحيد: بأنه مما لا شاهد عليه، ولا يوجد هذا الاسم في بعض النسخ(٢٣)؛ وقال التستري: يمكن الاستشهاد له بأن دلائل الحميري وكذا الاكمال ودلائل الطبري روت في معجزات الحجة (عليه السلام) عن علي بن محمد بن زياد الصيمري: أن علي بن محمد كتب يسأل كفنًا.. الخ؛ ورواه الكافي والغيبة عن علي بن زياد الصيمري.. فلابد أن لفظ الأول و«علي بن زياد الصيمري» نسبة إلى الجد؛ والثاني «علي بن محمد بن زياد الصيمري» نسبة إلى الجدّ، كما أن الغيبة رواه في إسناد آخر عن (محمد بن زياد الصيمري) وهو محرّف عن علي بن زياد الصيمري، هذا والصيمري كما قال السمعاني: نسبة إلى صيمر، نهر من أنهار البصرة عليه عدة قرى، وإلى صيمرة بلد بين ديار الجبل وخوزستان، لكن لا يبعد أن يكون الصيمري في رجال الشيخ والمهج، والخبر محرّف الصهري لقربهما في الخط؛ فكان قول المسعودي: صهر جعفر بن محمود الوزير هو تفسير للقبه، ومن تزوج بنت أحد الأشراف يُعرف به، كالداماد في المتأخرين(٢٤).
أمّا الخوئي فقد ذكر أنه تقدم عن الشيخ في رجاله عدّ «علي بن زياد الصيمري» من أصحاب الهادي (عليه السلام)، وظاهره مغايرته لعلي بن محمد بن زياد، ولكن الصحيح أنهما واحد، وذلك لما تقدم عن الكافي والإرشاد والغيبة من أن علي بن زياد كتب إليه (عليه السلام) يسأله كفنًا، فكتب إليه.. الخبر، فيعلم من ذلك اتحاد علي بن محمد بن زياد مع علي بن زياد(٢٥).
وهما شخصية واحدة لا متعددة. وكان الطوسي قد عدّ علي بن محمد بن زياد الصيمري من أصحاب الإمام الهادي والعسكري (عليهما السلام)(٢٦)، ووثقه ابن طاووس قائلًا: كتاب الأوصياء تأليف السعيد علي بن محمد بن زياد الصيمري؛ كان قد لحق مولانا الهادي والعسكري (عليهما السلام) وخدمهما؛ وكاتباه ودفعا إليه توقيعات كثيرة، وكان رجلًا من وجوه الشيعة وثقاتهم ومقدمًا في الكتابة والعلم والأدب والمعرفة(٢٧).
فيتضح أن محمد بن علي بن زياد الصيمري يختلف تمامًا عن علي بن محمد السمري سفير الإمام المهدي (عليه السلام).
إن النصوص التاريخية لم تذكر طبيعة العمل، الذي كان يقوم به السمري فترة إمامة الحسن العسكري (عليه السلام)، سوى أنه كان من أصحابه والمقربين إليه(٢٨)، وأمّا فترة إمامة المهدي (عليه السلام) فقد كانت الظروف صعبة للغاية؛ وقد كثر فيها الكذابين والمدعين للسفارة زورًا وكذبًا، وأخذت السلطات تضايق أصحاب الإمام؛ وتحدّ من نشاطهم؛ وهكذا أعلن السفير ابن روح النوبختي للأمة بأن السمري هو السفير بعده بأمر الإمام المهدي (عليه السلام) مراعيًا فيه جانب الحذر والكتمان، ولم نعثر على نصّ تاريخي في تنصيب الإمام المهدي (عليه السلام)(٢٩) السمري سفيرًا له بعد ابن روح، ولعلّ ذلك يعود لتسالم الأمة عليه؛ الحاصل من ثقة الأمة المطلقة بابن روح النوبختي والتسليم له؛ وما كان ابن روح يقول ذلك من نفسه في تنصيبه السمري بل ذلك من الأصل ومسموع من الحجة (عليه السلام)(٣٠).
ولم يقم أحد من السفراء إلّا بنصّ عليه من قبل الصاحب (عليه السلام) ونصب صاحبه الذي تقدم عليه، ولم تقبل الشيعة قول السمري إلّا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يده من قبل صاحب الأمر (عليه السلام) تدل على صدق مقالته وصحة بابيته(٣١)، ثم كانت الأموال تحمل إليه، فيخرج لهم التوقيعات وكان يذكر كمية الأموال جملة وتفصيلًا ويسمي أصحابها بالإعلام من قبل القائم (عليه السلام) له في ذلك(٣٢).
وقد امتازت سفارة السمري بميزات.. نلخصها كالتالي:
أولًا- قصر مدة سفارته:
لقد كانت مدة سفارته ثلاث سنوات إلّا أيام؛ ويعود سبب قصرها إلى الجو الخانق الذي كان يعيشه هذا السفير وصعوبة الزمان وكثرة الحوادث؛ وتشتت الأذهان.
ثانيًا– ضآلة النشاط:
وامتازت هذه الفترة بالذات بقلّة نشاط هذا السفير وضآلة عمله بالنسبة إلى أسلافه، لعدم تهيؤ الظروف المناسبة والفرص المؤاتية للعمل؛ وليس كما ذكره بعض المستشرقين من أن السمري ربما أدركته الخيبة فشعر بتفاهة منصبه وعدم حقيقته كوكيل معتمد للإمام المفترض(٣٣).
وما دراسة هذا المستشرق لهذا السفير إلّا كونه بمستوى حدّه وضآلة تفكيره وإلّا فأي تفاهة في هذا المنصب الإلهي الخطير وكونه ممثلًا عن الإمام المهدي (عليه السلام) فكرًا وروحًا.
إن الشعور بعدم حقيقة الوكالة أمر لا معنى له على الإطلاق، خاصة في ما يتجلى مع موقفه المباشر من الإمام المهدي (عليه السلام) وتلقيه التوقيعات منه (عليه السلام)، وجلب رضا واعتماد الأمة وتسالمها عليه وقبولها أقواله وأفعاله.
ثالثًا– قلّة التوقيعات الصادرة إليه.
رابعًا– كثرة المدعين للسفارة كذبًا وزورًا عن الإمام المهدي (عليه السلام).
خامسًا– كثرة المنازعات والمناقشات بين الفرق الإسلامية واختلافها.
سادسًا: خروج توقيع من الإمام المهدي (عليه السلام) في إنهاء السفارة بموت السمري.
المبحث الثاني: التحركات السياسية والفكرية والاجتماعية للسمري
إن فترة سفارة السمري كانت قد امتازت بميزات نلخصها فيما يلي:
في خدمة الراضي بالله والمتقي:
أ– بغداد.. والفوضى:
شهدت العاصمة بغداد في هذه الفترة بالذات من سفارة السمري فترة خلافة الراضي والمتقي بالله الاضطرابات والفوضى التي عمّت كل قطاعات البلاد، قال الصولي في حوادث عام ٣٢٧هـ: عاثت العامة في الأرض فسادًا، وانقضوا على الحمامات العامة وأخذوا ثياب من فيها، وكثرت المصادرات، وتفاقم شرّ اللصوص الذين تسلّحوا بالعدد لكبس الدور ليلًا، وشكى الناس من غير جدوى إلى (بجكم) ما أحله بهم أصحابه من بلاء، وانتشرت الفوضى والمنازعات وساءت أحوال العراق(٣٤).
ب– المنازعات الدينية والطائفية ونشاط القرامطة:
ولم تخل فترة سفارة السمري من عبث القرامطة، فقد كانت تلك الفترة آخذة بالمد والجزر، وكان الحج آنذاك معطلًا من عام ٣١٧هـ إلى عام ٣٢٧هـ لاعتراض القرامطة(٣٥).
أمّا المنازعات الدينية فقد بقيت بين الطوائف في بغداد عاصمة الخلافة مما زاد الأمر إدبارًا(٣٦).
ج– الضعف الإداري.. وتوقف الفتوحات:
وتوقفت الفتوحات الإسلامية في هذه الفترة بالذات لضعف الخلافة والجهاز الإداري للبلاد وتدهور حالها، فإن الخليفة لم يكن له سوى بغداد وأعمالها، والحكم فيها جميعًا لابن رائق وليس للخليفة حكم(٣٧)!!
د– الغارات والتقسيمات الطائفية:
لقد كانت البلاد الإسلامية تعاني من الانقسامات الطائفية والعرقية، فالبصرة في يد ابن رائق وخوزستان في يد البريدي، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه، وكرمان في يد أبي محمد الياس، والري وأصبهان والجبل في يد ركن الدولة بن بويه، و(يد) و(شكمير) أخي مرداويج يتنازعان عليها؛ والموصل وديار بكر ومضر وربيعة في يد بني حمدان ومصر والشام في يد محمد بن طغج، والمغرب وأفريقيا في يد عبد الرحمن محمد الملقب بالناصر الأموي(٣٨)... وكان النزاع قائمًا على قدم وساق بين تلك الأمصار؛ وكان شنّ الغارات والحروب بينها قد هدّ كيان الدولة العباسية(٣٩).
هـ- شهوات الخليفة.. واستهتاره بالمبادئ:
لقد عاصر السمري بقية خلافة الراضي بالله المتوفى عام ٣٢٩هـ، وخمسة أشهر وخمسة أيام من خلافة المتقي بالله، وكانت هذه السنوات مليئة بالظلم وسفك الدماء(٤٠)، فلما نصب الراضي ابن أخي القاهر خليفة، كان له من العمر خمسة وعشرين عامًا؛ وكان له من العيب أنه يؤثر لذاته وشهواته على رأيه؛ ولم يسلم عهده من سفك الدماء، فقد احتال مثلًا على الوزير (ابن مقلة) بعد تركه الوزارة حتى قبض عليه وسجنه وقبض على جماعة من أهله وأقاربه ممن سعى في تقليد الأمر لنفسه؛ وبايعه الناس عليه، فمنهم من قتله؛ ومنهم من ضربه وسجنه، فمات في سجنه، ومنهم من استتر طول المدة(٤١).
و– الطبقة البرجوازية.. والأوضاع الاقتصادية المتردية:
كان المجتمع يومذاك فترة سفارة السمري قائمًا على أساس الطبقية الملموسة؛ فالأموال مرتكزة بيد الأقوياء والمتنفذين في السلطة ويحظى الأتراك والقواد والموالي بقسط كبير منها؛ على حين يعيش سائر الناس بالمستوى المتوسط أو دونه إلى حدّ الفقر المدقع من دون ضمان عيش أو أمل حياة(٤٢).
ز– الانقلابات العسكرية المتوالية.. وحالات الوزارة:
أمّا الإدارة للبلاد فترة سفارة السمري فهو حديث ذو شجون، فقد استعان الراضي والمتقي في إدارة شؤون دولتهما ببعض الوزراء الضعاف الذين بذلوا للخليفة الكثير من الأموال؛ مقابل أن يرفعهم إلى مرتبة الوزراء!!
وليس أدل على ذلك مما بذله أبو علي بن مقلة حينما تقلّد أمر الوزارة للمرة الثالثة في عهد الراضي، فقد دفع للخليفة خمسمائة ألف دينار!! غير أنه لم يتمتع بالوزارة طويلًا إذ ثار عليه الجند؛ وقامت في البلاد فتنة انتهت بعزله، وصرفه الراضي عن الوزارة، واستوزر عبد الرحمن بن عيسى بن داوود الجراح فظهر عجزه في إدارة البلاد، وقلّد الراضي أخاه الوزارة فاختلت أمور الدولة في عهد وزارته، ولم يلبث أن استقال من منصبه، فحلّ محلّه محمد بن القاسم الكرخي، وكان كغيره من الوزراء الذين سبقوه ضعيف الجانب لم يقم بأي عمل في سبيل إصلاح شؤون البلاد وإقالتها من عثرتها، بل قد اشتد ضعف الدولة في عهده واضطر أخيرًا إلى الاختفاء حتى لا يلحق به أذى الأهلين(٤٣).
ح– إمرة الأمراء.. والملوك الميروفنجيين:
كان ابن رائق وكاتبه هما اللذان ينظران في كافة شؤون الدولة، وصارت أموال النواحي تحمل إلى خزائن الأمراء(٤٤)، فكانوا يأمرون وينهون وينفقونها كما يرون، ويطلقون لنفقات السلطان ما يريدون!! وبطلت بيوت الأموال، وأن حالة الخلفاء العباسيين في عهد إمرة الأمراء لتشبه في كثير من الوجوه حالة الملوك الميروفنجيين المتأخرين الذين كانوا أشبه بألاعيب في أيدي نظار السراي «Maires» والذين لم يعد لهم من الأمر شيء إلّا ما كان من ظهورهم في الحفلات الرسمية، وفيما عدا ذلك عاشوا عيشة العزلة في إحدى ضياعهم(٤٥).
ط– الجيش والبنية الدفاعية:
لقد بلغت الخلافة العباسية فترة سفارة السمري – من الضعف بحيث لم يتمكن من دفع أرزاق الجيش، وارتفاع النقمة العسكرية وضعف البُنية الدفاعية، فلم يتمكن الخليفة في الحصول على ما يكفيه، وظلت الحالة على ذلك حتى توفي الراضي عام ٣٢٩هـ، بعد أن حكم الدولة العباسية ست سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام، واجتمع كاتب «بجكم» الكوفي مع سليمان بن الحسن وزير الراضي وغيره ممن تقلّد الوزارة وأصحاب الدواوين والعلويين والقضاة وأفراد البيت العباسي وسائر رجالات الدولة وشاورهم فيمن يصلح للخلافة، فرشحوا إبراهيم بن المقتدر لهذا المنصب فأحضر لدار الخلافة وعرضت عليه ألقاب.. فاختار منها لقب المتقي؛ وبويع له في العشرين من شهر ربيع الأول سنة ٣٢٩هـ، وسيّر الخلع واللواء إلى (بجكم) بواسط(٤٦).
المبحث الثالث: معجزات الإمام المهدي (عليه السلام) على يدي السمري (رض)
كانت الغيبة الصغرى كافية لإثبات وجود المهدي (عليه السلام) بما يصل إلى الناس عن طريق سفارته من البيّنات والبيانات، كما أوجبت بكل وضوح أن يعتاد الناس على غيبة الإمام (عليه السلام) ويستسيغون فكرة اختفائه بعد أن كانوا يعاصرون عهد ظهور الأئمة (عليهم السلام) وإمكان الوصول إلى مقابلة الإمام (عليه السلام).
لقد كان الإمام المهدي (عليه السلام) متدرجًا في الاحتجاب أول مرة وكلما سار به الزمن زاد احتجابه حتى لا يكاد ينقل عنه المشاهدة فترة سفارة السمري لغير السفير نفسه، وحينما كانت هذه الفترة مشارفة على الانتهاء، فقد كان الجيل المعاصر لزمن ظهور الأئمة (عليهم السلام) قد انتهى وبدأت تظهر أجيالًا جديدة إلى الوجود قد اعتادت غيبة الإمام المهدي (عليه السلام) وفكرة القيادة وراء الحجاب، وأصبحت معدّة ذهنيًا وبشكل تام لتقبل فكرة انقطاع السفارة أساسًا.
وهكذا استوفت الغيبة أغراضها وانحصرت رؤية الإمام (عليه السلام) في السفير نفسه، ولو طال أمر السفارة لاحتمل انكشاف أمرها لعدم إمكان المحافظة على السرية الملتزمة في خطّها.
أمّا المعجزات التي ظهرت من الإمام المهدي (عليه السلام) على أيدي السمري فنلخصها بما يلي:
إخباره بوفاة الصدوق قبل وقوعها:
علي بن بابويه والد الشيخ الصدوق هو من أجلاء الشيعة والأدلاء على الصراط؛ فقد كان شيخ القميين في عصرهم وفقيههم وثقتهم ومتقدمهم(٤٧) وهو أول من ابتكر طرح الأسانيد وجمع بين النظائر وأتى بالخبر مع القرينة وكان الأصحاب يأخذون الفتاوى من رسالته إذا أعوزهم النص ثقة واعتمادًا عليه(٤٨)، ولقد جمع من غزارة علمه وكمال عقله وجودة فهمه وشدة حفظه وحسن ذكائه وعلو همته، وخاطبه الإمام العسكري (عليه السلام) بقوله: يا شيخي ومعتمدي وفقيهي أبا الحسن علي بن الحسين القمي وفقك الله لمرضاته وجعل من صلبك أولادًا صالحين برحمته بتقوى الله(٤٩)، وكانت له مكاتبات مع النوبختي وتوقيعات منه (عليه السلام) إليه ومنها قوله (عليه السلام): قد دعونا الله لك وسترزق ولدين ذكرين خيرين، فولد له أبو جعفر وأبو عبد الله من أم ولد، وكان أبو جعفر – الشيخ الصدوق – يقول: أنا ولدت بدعوة صاحب الأمر (عليه السلام) ويفتخر بذلك(٥٠).
لقد كانت لعلي بن بابويه منزلة خاصة ومقامًا رفيعًا عند السمري الذي كان يسأل عن أخباره كل قريب وقادم إلى بغداد(٥١)، وأخبر بموته زمن وساعة وفاته وهو في قم؛ فأرخوا؛ فأتى الخبر بعد سبعة عشر يومًا أو ثمانية عشر يومًا: أنه قبض في تلك الساعة التي ذكرها – السمري(٥٢) -.
فقد روى الطوسي بإسناده عن أبي الحسن صالح بن شعيب الطالقاني (رحمه الله) في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن إبراهيم بن مخلّد قال: حضرت بغداد عند المشايخ (رحمهم الله) فقال الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري – قدس سره – ابتداء منه: رحم الله علي بن الحسين بن بابويه القمي، فكتب المشايخ تاريخ ذلك اليوم، فورد الخبر أنه توفي في ذلك اليوم، ومضى أبو الحسن السمري بعد ذلك في النصف من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة(٥٣).
وهناك خبر آخر رواه الطوسي مشابهًا لما ذكر(٥٤).
أقول: ولم نعثر عن معاجز أخرى للسمري لنذكرها في هذا الباب.
المبحث الرابع: وفاة علي بن محمد السمري (رض)
ذكرنا أن فترة سفارة السمري هي ثلاثة أعوام؛ وقد بدأت من عام ٣٢٦هـ إلى عام ٣٢٩ه(٥٥)، ولم ينفتح السمري في سفارته، كما كان لأسلافه السفراء ولم يكتسب ذلك العمق والرسوخ في الأمة كمن كان قبله؛ وإن كان الاعتقاد بجلالته ووثاقته كالاعتقاد بهم(٥٦).
لقد روى السمري أيضًا عن الأئمة (عليهم السلام)؛ روى الطبري بإسناده عن علي بن محمد السمري قال: كتبت إليه أسأله عما عندك من العلوم؟! فوقع؛ علمنا على ثلاثة أوجه ماضٍ وغابر وحادث...(٥٧) الخ، وروى الأربلي بإسناده عن محمد بن علي السمري أنه قال: دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله وبين يديه رقعة أبي محمد العسكري (عليه السلام) – فيها: إني نازلت الله في هذا الطاغي – أي الزبيري – وهو آخذه بعد ثلاث؛ فلما كان في اليوم الثالث، فعل به ما فعل(٥٨)، ورواه الحافظ في أماليه(٥٩)، وقد وصلت كتب أبي جعفر العمري وفيها أحاديث سمعها من العسكري والمهدي (عليهما السلام) ومن أبيه عثمان بن سعيد إلى علي بن محمد السمري، واحتفظ بها عنده وكان فيها الأسرار كما ذكرنا(٦٠)، وقد ألف السمري ديوانًا من الشعر سمّاه: ديوان السمري أو شعره، فقد عده ابن شهرآشوب في شعراء الشيعة(٦١)؛ ولكننا لم نرَ له شعرًا(٦٢).
وقبل وفاة السمري بأيام أخرج إلى الناس توقيعًا من الإمام المهدي (عليه السلام) أعلن فيه عن انتهاء الغيبة الصغرى والسفارة، روى الطوسي بإسناده عن الصفواني قال: لما حضرته الوفاة حضرت الشيعة عنده وسألته عن الموكل بعده ولمن يقوم مقامه! فلم يظهر شيئًا من ذلك، وذكر أنه لم يؤمر بأن يوصي إلى أحد بعده في هذا الشأن(٦٣)، وقال: لله أمر هو بالغه.. فالغيبة التامة هي التي وقعت بعد مضي السمري (رض)(٦٤).
وقد وردت نصوص عديدة في أنه قدم طلبًا للإمام المهدي (عليه السلام) – بأن يرسل إليه كفنًا فورد منه (عليه السلام): إنك تحتاج إليه سنة ثمانين، فمات في الوقت الذي حدّده وبعث إليه بالكفن قبل موته(٦٥)، وقد رواها الطبري في دلائله، والصدوق في إكماله، والحميري في دلائله عن علي بن محمد الصيمري: أن علي بن محمد السمري كتب يسأل كفنًا..(٦٦) الخ ولكن الكليني في الكافي والطوسي في الغيبة روياها عن علي بن محمد الصيمري أنه كتب يسأل كفنًا.. فورد فيها أنك تحتاج إليه سنة إحدى وثمانين..(٦٧) الخ.. وقد حلّ المجلسي هذا فقال: المقصود من طالب الكفن قبل موته هو الصيمري لا السمري، والمظنون أن المراد بالسنة المحددة هي سنة إحدى وثمانين ومائتين، وإن كان يحتمل أن يُراد به السنة الحادية والثمانين من عمره(٦٨).
لقد علمت الأمة بموت السمري، وكان أمرًا واضحًا لديها بأن كل من ادعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس ضال مضل(٦٩)، وعلمت أيضًا بالتوقيع الآخر الذي أخرجه السمري للأمة من الإمام المهدي (عليه السلام) في نهاية الغيبة الصغرى بانتهاء السفارة، وإعلانه (عليه السلام) عن بداية الغيبة الكبرى.. وسنذكره في ختام البحث إن شاء الله تعالى.
لقد ذكر المؤرخون أن وفاة السمري كانت في سنة تناثر النجوم وهي عام ٣٢٩هـ، قال صاحب الروضات: رأى الناس في تلك السنة أي عام ٣٢٩هـ تساقط الشهب الكثيرة من السماء، وفسّر ذلك بموت العلماء، وقد كان ذلك؛ فإنه مات في تلك السنة جملة من العلماء منهم: محمد بن علي السمري؛ وعلي بن بابويه القمي ودفن بقم والكليني وغيرهم، فصارت تلك السنة تاريخًا من هذه الجهة، وقد ذكر في كتاب تاريخ أخبار البشر موت جماعة كثيرة من العلماء ومنهم علي بن محمد السمري(٧٠).
وقد اختلف العلماء في سنة تناثر النجوم؛ فقد ذكر البهائي أنها عام ٢٤١ه(٧١)، وأول كلامه صاحب الروضات قائلًا: ولا يبعد كونها بعينها؛ هي سنة تسع وعشرون وثلاثمائة، وذلك كما ذكره غير واحد منهم؛ فيحتمل أن يكون قد وقع للبهائي اشتباه في الضبط أو لأحد النساخ في رموزها الهندسية فلا تغفل(٧٢).
وقال التستري: إن العلامة توهم في موت علي بن الحسين بن بابويه سنة تسع وعشرين وثلاثمائة – وهي السنة التي تناثر فيها النجوم؛ فإن سنة التناثر لم تكن في عام ٣٢٩هـ بل كانت سنة ٣١٣هـ، ثم استشهد التستري يقول ابن الأثير في وقائع سنة ٣٢٣هـ أنه قال: وفيها في الليلة الثانية عشرة من ذي القعدة وهي الليلة التي أوقع القرمطي بالحجاج – انقضت الكواكب من أول الليل إلى آخره انقضاضًا دائمًا مسرفًا لم يعهد مثله، وقال المسعودي بعد ذكر انقضاض الكواكب سنة ٢٣٢هـ في عصر المتوكل العباسي: وقد كان في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة انقضاض كوكب عظيم هائل، وهي الليلة التي وقعت فيها القرامطة بحاج العراق(٧٣).
ويمكن الجمع بين الأقوال بأن تناثر النجوم وتهافتها لم ينحصر في سنة معينة ومحددة بالذات كما تقدم في أقوال العلماء والمؤرخين، ولعلّ أقربها ما ذكره النجاشي وهو وقوعها عام ٣٢٩هـ؛ لأنه أقرب زمانًا من الغيبة وأعرف بها من غيره. وقد أيّد هذا البحراني(٧٤)؛ ووافقه بعض مؤرخي الجمهور(٧٥).
وانتقل السمري إلى الرفيق الأعلى؛ فأودع الأرض في قبره في الشارع المعروف بشارع الخلنجي من ربع المحول قريب من شاطئ نهر أبي عتاب؛ وهو بقرب الكليني (رحمه الله)(٧٦)؛ وله الآن في بغداد مزار معروف(٧٧).
المبحث الخامس: دراسة ونقد لتوقيع الإمام المهدي (عليه السلام) للسمري بانتهاء الغيبة الصغرى
أمّا التوقيع الصادر من الإمام المهدي (عليه السلام) في إعلانه لسفيره السمري بانتهاء الغيبة الصغرى والسفارة، وبدء الغيبة الكبرى.. فهو:
روى الطوسي بإسناده عن أبي محمد أحمد بن الحسن المكتب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري – قدس سره – فحضرته قبل وفاته بأيام، فأخرج إلى الناس توقيعًا نسخته:
«بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمد السمري، أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام؛ فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور إلّا بعد إذن الله – تعالى ذكره – وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جورًا، وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر؛ ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم».
قال: فنسخنا هذا التوقيع، وخرجنا من عنده، فلما كان اليوم السادس؛ عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل له: من وصيّك من بعدك؟ فقال: «لله أمر هو بالغه» وقضى.. فهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه»(٧٨).
ويقع الكلام هنا في مقامين:
أولًا: في سند هذا الحديث المشهور المستفيض.
ثانيًا: في دلالته.
أما الكلام في المقام الأول:
فاعلم أن هذا الحديث صحيح عال اصطلاحًا؛ لأنه مروي عن الإمام المهدي (عليه السلام) بواسطة ثلاثة من الرواة هم:
١– السمري، سفير الإمام المهدي (عليه السلام).
٢– الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه القمي.
٣– أبو محمد الحسن بن أحمد المكتب.
ونخص الكلام في الشخصية الثالثة لتقدم الكلام في الشخصين الأولين:
قال عناية الله: وقد روى عنه الصدوق مكررًا مترضيًا مترحمًا؛ وهذا من أمارات الصحة والوثاقة، ثم ذكرت شواهد له كثيرة(٧٩).
ونشير هنا إلى أمرين:
الأمر الأول: روي في الغيبة هكذا: أخبرنا جماعة عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه قال: حدثني أبو محمد أحمد بن الحسن المكتب قال: كنت بمدينة السلام..(٨٠) الخبر، وساق مثله ما نقله ابن بابويه في كمال الدين وتمام النعمة(٨١)، وقد عرفت أن الذي روى عنه ابن بابويه هو الحسن بن أحمد وليس أحمد بن الحسن؛ والظاهر أن السهو في كتاب الشيخ وقع من النساخ ويؤيد هذا السهو ما رواه النوري الطبرسي في جنة المأوى في الفائدة الأولى؛ وعن غيبة الطوسي عن الحسن بن أحمد المكتب(٨٢).. والله العالم.
الأمر الثاني: أن صاحب المستدرك مع سعة باعه وكثرة اطلاعه واهتمامه في استقصاء أسماء مشايخ الصدوق، كان قد غفل عن هذه الشخصية العظيمة التي روى عنها الصدوق مكررًا مترضيًا مترحمًا؛ وأمثال هذه الأمور تبعث على الفحص والتتبع، وتوجب الظفر بما غفل عنه من قبله، فقد روى عناية الله في مجمع رجاله هذا الحديث عن كتاب ربيع الشيعة لابن طاووس حاكيًا عن الحسن بن أحمد المكتب فتأمل(٨٣).
وقد طعن في سند هذا الحديث...
فقالوا: إنه خبر واحد، مرسل ضعيف لم يعمل به ناقله - وهو الشيخ في الكتاب المذكور - وأعرض عنه الأصحاب، فلا يعارض تلك الوقائع والقصص التي يحصل القطع عن مجموعها بل من بعضها المتضمن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها عن غيره (عليه السلام)(٨٤).
ويمكن المناقشة في تلك المطاعن وردها كلّها بأمور:
أولًا: إن كونه خبرًا واحدًا ليس نقصًا فيه، لما ثبت في الأصول من حجية الخبر الواحد الثقة؛ والقول بعدم حجيته هو قول شاذ لا يقول به إلّا النادر من العلماء.
ثانيًا: إن كونه مرسلًا، غير تام؛ إذ قد رواه الطوسي في الغيبة والصدوق في إكماله وغيرهما(٨٥)؛ فأين الإرسال؟!
والزمن بحسب العادة مناسبًا مع وجود الواسطة الواحدة، وأمّا ما ذكره الطبرسي هذا الخبر مرسلًا من دون ذكر السند؛ فإنه التزم في أول كتابه «الاحتجاج» بأنه لا يذكر فيه سند الأحاديث، إمّا بسبب موافقتها الإجماع أو اشتهارها بين المخالف والمؤالف أو موافقتها بحكم العقل(٨٦).
فظهر أن الحديث المذكور أيضًا كان غنيًا عن ذكر السند إما لموافقته للإجماع أو لاشتهاره أو كليهما معًا؛ لأن علماءنا ابتداءً من الصدوق إلى زماننا هذا استندوا إليه واعتمدوا عليه ولم يناقش فيه أحد أو يتأمل في اعتباره كما لا يخفى على من له أنس وتتبع في كلماتهم ومصنفاتهم؛ إذن هذه من الروايات القطعية التي لا ريب فيها ولا شبهة تعتريها، قال (عليه السلام): المجمع عليه لا ريب فيه(٨٧).
ثالثًا: إن كونه ضعيفًا لا نسلم به، وعلى تقدير التسليم فإنه للإثبات التاريخي وإن لم يكن كافيًا لإثبات الحكم الشرعي.
رابعًا: وأمّا إعراض الأصحاب كالطوسي وغيره؛ فهو تخيّل ووهم، لأن الشيخ وغيره اعتبروا إثبات رؤية المهدي (عليه السلام) في غيبته الكبرى هو مما لا شكّ فيه، إلّا أنه إنما يصلح دليلًا على إعراضهم لو كانت هناك معارضة ومنافاة بين التوقيع وإثبات الرؤية؛ وأمّا عدم المعارضة فيمكن أن يكون الطوسي وغيره قد التزموا بكلا الناحيتين من دون تكاذب بينهما، ومعه لا دليل على هذا الإعراض منهم؛ ولو كان هذا حاصلًا عنهم لما أضرّ بحجية الخبر؛ لما هو الثابت المحقق في علم الأصول بأن إعراض العلماء عن الرواية لا يوجب وهنًا في الرواية لا سندًا ولا دلالة(٨٨).
أمّا الكلام في المقام الثاني:
فقد تقدم ذكرنا التوقيع عنه (عليه السلام) وقد جاء فيه: «فقد وقعت الغيبة التامة»؛ وهو تعليل لقوله (عليه السلام): «ولا توص لأحد يقوم مقامك»؛ ويدل هذا على أن الغيبة الكبرى هي التي انقطعت النيابة والسفارة الخاصة فيها.. وأكد ذلك بقوله (عليه السلام): «وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة» ولا شبهة في أن المراد بها هو وقوعها على نحو ما وقع للسفراء الأربعة، وقد صرّح بأن كل من ادّعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس ضال مضلّ(٨٩).
فالمشاهدة هنا مقيدة بكونها على نحو البابية والسفارة الخاصة لا مطلق المشاهدة، وهو من باب ذكر المطلق وإرادة المقيد؛ أو ذكر العام وإرادة الخاص، وهذا شائع في العُرف واللغة.
فلا تنافي إذن بين التوقيع الشريف ووقوع المشاهدة زمن الغيبة الكبرى لكثير ممن فاز بشرف رؤيته (عليه السلام)، قال العلماء: إن هذا الوجه قريب جدًّا، وقد نقل عن البحار وغيره(٩٠)، هذا وقد قيل في الجمع بين وقوع المشاهدة في الغيبة الكبرى والتوقيع الصادر منه (عليه السلام) وجوه، وهي بعيدة ولا حاجة للتعرض لها هنا، وهي مذكورة في البحار فراجعها(٩١).
وقد أكد الإمام المهدي (عليه السلام) في توقيعه للسمري أمورًا عديدة هي:
أولًا: إخباره بموت السمري في غضون ستة أيام؛ وهو من الإخبار بالغيب الذي يمكن تحققه للإمام (عليه السلام)، ولم يشك أحد يومئذٍ في صدق الخبر؛ فغدا أصحابه بعد ستة أيام؛ فوجدوه يجود بنفسه وتحقق كما أخبر عنه الإمام (عليه السلام)(٩٢).
ثانيًا: إيعازه (عليه السلام) بانتهاء السفارة وبداية الغيبة الكبرى بموت السمري وأن لا يوصي بعده لأحد.
ثالثًا: الإغماض عن ذكر تاريخ الظهور، وأن لا ظهور منه (عليه السلام) إلّا بإذنه تعالى.
رابعًا: إعرابه عن أمد الغيبة الكبرى بأنه سيكون طويلًا مديدًا.
خامسًا: إشارته في التوقيع إلى أمور غيبية كقسوة القلوب، وضعف الوازع الإيماني، وعدم الشعور بالمسؤولية، والمشارفة على الانحراف.
سادسًا: إخباره (عليه السلام) عن السفياني والصيحة، وأنه حقّ لا محيص عنه قبل خروجه وظهوره؛ وتصديقه ما جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمور الغيبية.
سابعًا: إخباره (عليه السلام) عن امتلاء الأرض ظلمًا وجورًا، وفقدان العدالة وغلبة الشهوات وسيطرتها على العالم.
ثامنًا: تصريحه (عليه السلام) بأن من ادعى المشاهدة له كرؤية السفراء له، مدعين البابية عنه (عليه السلام) والسفارة قبل خروج السفياني والصيحة فهو مفتر كذاب(٩٣).
الهوامش:
(١) الدرر الكامنة للتبريزي: ١٨٢.
(٢) الغيبة للطوسي: ٢٤١.
(٣) كمال الدين للصدوق: ٢/١٩٣؛ الأنوار النعمانية للجزائري: ٢/ ١٩.
(٤) الغيبة الصغرى للصدر: ٤١٢.
(٥) إيضاح الاشتباه للعلامة الحلي: ٢٢١؛ بهجة الآمال للتبريزي: ٥/٥١٧.
(٦) معجم البلدان للحموي.. لفظة «سمر».
(٧) معجم البلدان للحموي.. لفظة «سمر».
(٨) العبقري الحسان: ٢/٢٧.
(٩) الغيبة للطوسي: ٢٤٢ و٧٦.
(١٠) الغيبة للطوسي: ٢٤٢ و٧٦.
(١١) كمال الدين: ١/١٨٩.
(١٢) عدة رسائل للمفيد: ٣٦١.
(١٣) الاحتجاج للطبرسي: ٢/٤٧٨.
(١٤) تنقيح المقال للمامقاني: ٢/٣٠٥.
(١٥) تأسيس الشيعة للصدر: ٤١٢.
(١٦) بهجة الآمال للتبريزي: ٥/٥١٧.
(١٧) الغيبة للطوسي: ٢٤٢؛ إعلام الورى للطبرسي: ٤١٧.
(١٨) الغيبة للطوسي: ٢٤٢.
(١٩) الغيبة للطوسي: ٢٤٢.
(٢٠) رجال الطوسي: ٤٣٢.
(٢١) المناقب لابن شهرآشوب: ٤/٤٣٠.
(٢٢) كشف الغمة للأربلي: ٣/٢٠٧.
(٢٣) قاموس الرجال للتستري: ٧/٥٠.
(٢٤) قاموس الرجال: ٧/٥٠.
(٢٥) معجم رجال الحديث للخوئي: ١٢/١٤٢.
(٢٦) رجال الطوسي: ٤١٩ و٤٣٢.
(٢٧) مهج الدعوات: ٢٧٣؛ رسالة النجوم لابن طاووس: ٨٠.
(٢٨) رجال الطوسي: ٤٣٢؛ كشف الغمة للأربلي: ٣/٢٠٧.
(٢٩) الغيبة للطوسي: ٢٤٢؛ إعلام الورى للطبرسي: ٢٤٢؛ ودائرة المعارف الإسلامية المعربة: ١/١٨١.
(٣٠) الغيبة للطوسي: ١٩٩.
(٣١) الاحتجاج للطبرسي: ٢/٤٧٨.
(٣٢) الخرائج والجرائح للراوندي: ١٨٦.. المخطوط.
(٣٣) عقيدة الشيعة – رونلدسن: ٢٥٧.
(٣٤) تاريخ الإسلام – حسن إبراهيم: ٣/٢٨.
(٣٥) الحضارة الإسلامية – آدم متز: ١/٢٨.
(٣٦) محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية – الخضري: ٢٦٥.
(٣٧) الكامل في التاريخ لابن الأثير: ٨/١١٢.
(٣٨) الكامل في التاريخ لابن الأثير: ٨/١١٢.
(٣٩) حياة الحيوان للدميري: ١/١٣٠.
(٤٠) عقيدة الشيعة – رونلدسن: ٢٥٧.
(٤١) الحضارة الإسلامية – آدم متز: ١/١٥؛ العيون: ١٦١؛ الأوراق للصولي: ١٤٨.
(٤٢) تاريخ الإسلام – حسن إبراهيم حسن: ٣/٢٧، الفخري: ٢٥٣.
(٤٣) تاريخ الإسلام – حسن إبراهيم حسن: ٣/٢٧؛ الفخري: ٢٥٣.
(٤٤) تجارب الأمم لابن مسكويه: ١/١٩٢.
(٤٥) تاريخ الإسلام – حسن إبراهيم حسن: ٣/٢٨.
(٤٦) تاريخ الإسلام – حسن إبراهيم حسن: ٣/٢٨.
(٤٧) روضات الجنات للأصبهاني: ٤/٢٧٥.
(٤٨) رياض العلماء للأفندي: ٤/٦ و٧.
(٤٩) روضات الجنات: ٤/٢٧٣.
(٥٠) روضات الجنات: ٤/٢٧٥ نقلًا عن الخلاصة والكشي والغيبة للصدوق: ٢٤٣.
(٥١) تنقيح المقال للمامقاني: ٢/٣٠٥.
(٥٢) الغيبة للطوسي: ٢٤٣.
(٥٣) الغيبة للطوسي: ٢٤٢.
(٥٤) الغيبة للطوسي: ٢٤٣.
(٥٥) إعلام الورى للطبرسي: ٤١٧؛ الغيبة للطوسي: ٢٤٢.
(٥٦) الغيبة الصغرى لمحمد الصدر: ٤١٣.
(٥٧) دلائل الإمامة للطبري: ٢٨٦.
(٥٨) كشف الغمة للأربلي: ٢/٤١٧.
(٥٩) كشف الغمة للأربلي: ٢/٤١٧.
(٦٠) الغيبة للطوسي: ٢٢١.
(٦١) معالم العلماء: ١٣٧.
(٦٢) الذريعة للطهراني: ٩/٤٧٠.
(٦٣) الغيبة للطوسي: ٢٤٢.
(٦٤) الغيبة للطوسي: ٢٤٢.
(٦٥) قاموس الرجال للتستري: ٧/٥٠.
(٦٦) قاموس الرجال للتستري: ٧/٥٠؛ دلائل الإمامة للطبري؛ البحار للمجلسي: ٥١/٣٠٦.
(٦٧) قاموس الرجال للتستري: ٧/٥٠.
(٦٨) البحار للمجلسي: ٥١/٤٠٠؛ الغيبة الصغرى لمحمد الصدر: ٤٧٦.
(٦٩) الغيبة للطوسي: ٢٥٥.
(٧٠) روضات الجنات للأصبهاني: ٤/٢٧٨؛ رياض العلماء للأفندي: ٤/١٣.
(٧١) الكشكول للبهائي: ٢٧١؛ روضات الجنات للأصبهاني: ٤/٢٧٨.
(٧٢) روضات الجنات للأصبهاني: ٥/٣٩.
(٧٣) قاموس الرجال للتستري: ٦/٤٧٢.
(٧٤) لؤلؤة البحرين: ٣٨٤.
(٧٥) روضات الجنات للأصبهاني: ٤/٢٧٨.
(٧٦) سفينة البحار للقمي: ٢/٢٤٨.
(٧٧) الغيبة الصغرى لمحمد الصدر: ٤١٦.
(٧٨) الغيبة للطوسي: ٢٤٣.
(٧٩) مجمع الرجال للقهبائي: ١/٣٢٠.
(٨٠) الغيبة للطوسي: ٢٤٣.
(٨١) كمال الدين للصدوق: ٢/٥١٦.
(٨٢) جنة المأوى للنوري: ١٨.
(٨٣) مجمع الرجال للقهبائي: ١/٣٢٠.
(٨٤) منتخب الأثر للصافي: ٤٠؛ البحار للمجلسي: ٥٣/٣١٨.
(٨٥) الغيبة للطوسي: ٢٤٣؛ كمال الدين للصدوق: ٢/٥١٦؛ منتخب الأثر للصافي: ٤٠؛ البحار للمجلسي: ٥٣/٣١٨.
(٨٦) الاحتجاج للطبرسي: ١/٥.
(٨٧) الاحتجاج للطبرسي: ١/٤٠.
(٨٨) الغيبة الصغرى لمحمد الصدر: ٦٤١ – ٦٤٢.
(٨٩) الغيبة للطوسي: ٢٥٥.
(٩٠) البحار للمجلسي: ٥٣/٣١٨؛ منتخب الأثر للصافي: ٤٠٠.
(٩١) البحار للمجلسي: ٥٣/٣١٨.
(٩٢) الغيبة للطوسي: ٢٤٣.
(٩٣) انظر الغيبة الصغرى – محمد الصدر: ٦٣٤.