الأدب المهدوي / اليقين الأخضر
قصة قصيرة
اليقـين الأخضر
حسن حمزة نجم الحميري مركز المصطفى الثقافي ـ بابل
في الثلث الأخير من الليل، أُبَرُ الضوء ترتعش في تلك اللية الخريفية بتناغم كوني هائل.. البرودة المنعشة بعد صيفٍ طويل، ونوم عميق رسَم على وجه أُم زهراء سكينةً ساحرةً.. وجه مطمئن، وهدوء متوازن يستر لوعةً مخيفة، وأحزان قديمة. إستيقظتْ كعادتها لصلاة الليل.. الأَوجاع تطرق بوابات القلب في هذا البلد مبكراً.. الفرح مهنة الأنذال والجواسيس والجلادين والكادر المتقدم و....... القائمة أطول من أحزان العراقيين.
أبا زهراء.. أبا زهراء.. تهادى صوتها الرخيم ليملأ أركان الغرفة بذلك السحر اللذيذ.
أبو زهراء وجههُ يبدو مألوفاً لديك للوهلة الأولى تقرأ كلّ تفاصيله بسهولة.. ثقة ممزوجة بحذر قديم تترجم حقيقة انتصار الإنسان بالرغم من كل ألوان المسخ والإلغاء.. نظرات ساهمة محلّقة في الغيب البعيد تستنشق أملاً أخضر يمسح كل أحزان الحيارى على وجه الأرض!
حلم طري يسترخي في عيون أطفال الشهداء.. الذين تحفّ حول أضرحتهم همهمات وتسبيح الملائكة..
البغاة يشنقون أشعة القمر، يطلون وجه العالم بالخوف.. الشرّ المطلق يتنامى في كل مفاصل الحياة.. يهيمن على السهول المترامية، الجبال الموحشة، القرى النائية.. المدن التي تتكدس بأحلام الغرباء، التلول المنسية، الأحراش الغامضة.. هنا في هذه الأصقاع الموبوءة يتنفس المرء رائحة الموت في كل مكان.
زهراء تمط جسدها الغض بحركات متناغمة.. زهراء عذوبة الأزهار تحت برودة الفجر.. الأمان والسكينة، العافية، السعادة الكبرى تتوهج بألق الطفولة، هذه اللحظات المسروقة من ذاكرة الدهر لن تتكرر في حياة الإنسان إلا هناك في دار السلام ـ حيث العدالة المطلقة والسلام التام.. إبتسامة مشرقة وصوت عذب ولثغة محببة (اللّهم كن لوليك الحجة بن الحسن.....)، أمتص السَحَر نغمات هذا النشيد الكوني الذي يتفجر بالقدسية.. وعادت ثانية تلثغ (اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن......).
زهراء الطفلة الأولى.. الأول من شعبان المبارك 2004 .. الرجاء الناعم الجميل في رحلة الحياة الطويلة.
في عام 1992 .. اليوم الخامس من الزواج في ذلك المساء الربيعي المتألق فجأة امتلأت دروب القرية بالعسكر المدجج بالسلاح .. سيارات لاندكروز .. بدلات زيتوني كما هو المعتاد في تلك المواقف .. مجموعة من الأنذال المدرّبين على الحقد والخسّة التي لا يستوعبها وصف واصف. داهموا المكتبة فوراً.. على منضدة متواضعة.. كتب للشيخ المفيد، مجلة العربي الكويتية على غلافها رسم كاريكاتيري.. سافر البطل القومي، جريدة الحياة اللندنية، عملة إيرانية متواضعة القيمة.. مع كل هذه الأدلة الدامغة والخطيرة في نظرهم بدأت رحلة من العذاب لا يمكن تصديقها إلاّ من عانى التجربة نفسها.. ألوان من التعذيب الوحشي.. وحقد غريب لا تدرك تبريراته أبداً.. حتى بات من المعجز أن يحافظ المرء على عنوانه كإنسان..
وسط هذه الفوضى الأخلاقية الهائلة التي تتجاوز كل الاعتبارات... الحيـوانات المتوحشة نفسها لا تمارس إلاّ جزءاً يسيراً من هذه
الحيونة تفرضها أحياناً بعض قوانين الغريزة.. أما هؤلاء فالحديث يطول............
عشرُ سنوات في هذه المحنة المتصلة التي تتخللها بعض الطرائف..
في بداية التحقيق شيء من الطرافة ممزوجة بالأسى.. مفوّض الأمن الذي تبدو على وجهه إمارات النذالة.. يسأل بحدّة: من أين لك هذه العملة الاجنبية؟ وكانت الإجابة صادقة جداً.. كان وفد إيرانيّ قد نثرَ هذه العملة في ضريح الإمام موسى بن جعفر عليه السلام للتبرك، وكانت والدة أبي زهراء في ضريح الإمام عليه السلام للزيارة، فالتقطت هذه الورقة النقدية للتبرك أيضاً.. وكانت المفاجأة التي لا تصدق أن استدعوا (العَلَوية) للتحقيق معها في مديرية أمن الحلة للتأكد من صحة هذه المعلومات....
أبو زهراء وجه فيه إلفة مع وقار يجبرك على وضع حواجز إعتبارية وإن رقّت بعض الشيء ـ خريج كلية الآداب/ قسم اللغة العربية.. في عينيه أَلقٌ عذبٌ لم تنجح سنوات التعذيب في إطفاء هذا البريق.. هذا المتهم والعميل والخائن والمحكوم بالتهم المخلة بالشرف (ولا أدري ما هي مقاييس الشرف عند هؤلاء الشرفاء جداً؟) هذه السلسلة من الافتراءات الطويلة جداً ممكن أن تلصق بأي شخص تكون علاقته بالله حسنة.. وهناك قياسات معروفة روّجها (قائد الحملة الإيمانية الكبرى) عن طريق بعض العمائم الملفوفة بورق الدولار.. ومنها أنه لا يتم الإيمان الصادق إلا بطاعة (أولو الأمر) الذي تروّج له هذه القياسات الغريبة.
في أماسي الشتاء الباردة الحزينة.. تتكوّر أم زهراء على نفسها بحزن عميق عند عتبة الدار وتضيع عينيها في ذلك الأفق الغائم بالنخيل.. تراقب بأسى شفيف عشرات الطيور المسرعة التي تعود إلى أوكارها بجذل وطمأنينة، وكلما هاجت دواعي الأسى في هذا القلب الرقيق تتوغل في ذلك التيه اللذيذ الذي تتخلله نفحات من الأمل.. حزن يفتح في الأفق كوّة مشرقة.. تيه يفجرُ قوةً خفيةً وضياع في الظاهر يؤسس وجوداً تاماً.. تنخرط في نوبةٍ صافية وعميقة من التسبيح (يا الله يا محمد يا علي، يا صاحب الزمان أدركني ولا تهلكني).. وكلما اتسعت خفقة الضوء في الصدر، تستنشق روحها غيباً خفياً ترى من خلاله صورة أبي زهراء سعيداً مشرقاً صامداً كالجبل على وجهه سكينة وثقة وطمأنينة.
أبو زهراء يتألق على وجهه ذلك الخدر اللذيذ يشبه نعاس نجمة منسية في صفحة السماء البعيدة.. نظراته التي تتألق بودّ عميق وعناية غريبة تشيع جواً من الألفة هي مزيج من التوفيق الربّاني والرياضة الروحية المدهشة حلمٌ وسكينة وروح فيها خيط طرافة.. صمت طويل.. يتمخض أحياناً عن حلمةٍ تغسل جدار القلب، إبتسامة عذبة تشع صدقاً وعاطفة فيها عذوبة وحرارة.
في ليل الشتاء الطويل القاسي وغربة القرى المنسية في الظلام كانت أم زهراء تبتهل إلى الله.. تبتهل إلى الله وتردد بعذوبة ويقين (يا وصي الحسن والخلف الحجة أيها القائم المنتظر يا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ........) ويرتفع في داخلها الشموخ كلّما ازدادت أوجاعها. تهيّج القولون، الصداع النصفي، صدى الذكريات البعيدة. في الليلة الخامسة. منظر الجنود المدججين بالسلاح.. منظر العَلَوية والدة أبي زهراء التي جمّدها الرعب. هل تمتلك هذه المرأة ذاكرةً من شمع حتى لا تستوعب الأحداث الساخنة. ولتلك الأيام طعم لذيذ صوفي حزين لأن الحزين قريب من الله بين سندان الخوف ومطرقة الحرمان كانت تردد (يا وصي الحسن....). بدأ الفجر يفكك مفردات الظلام التقليدية، نجوم تبهت وظلام ينسحب خلف الحقول، فتكشف أشباح الطبيعة شيئاً فشيئاً.. غبش الفجر الحلو يعانق صفحة الماء الرمادية.. موجة هائلة من التسبيح الكوني تلفّ الأرض، ويتسلل ذلك النشيد الرائع وإلى الأرواح النقية فتفور بهذا الألق القدسي (يا وصيّ الحسن...........).
تتألق الشمس، وبهجة تلفّ الوجوه ويستمر النشيدُ الكوني إلى ساعة الفرج العظيم (يا وصي الحسن..........).