المسار:
العربية » مجلة الانتظار » العدد: ٤ / صفر / ١٤٢٧ هـ
العدد: 4 / صفر / 1427 هـ

دراسات / المتمهدي السوداني بين الادعاء وحركة الإصلاح

المتمهدي السوداني
بين الادعاء وحركة الإصلاح

د. حسين سامي شير علي/ كلية الشيخ الطوسي الجامعة

ظهر خلال القرون الماضية أفراد نُسبت إليها المهدوية، أو سوّلت لهم أنفسهم أن يدّعو المهدوية كذباً وزوراً، وقد أحصاهم بعض المؤرخين فبلغوا خمسين رجل(1) والجدير بالذكر إن بعضهم مجهول النسب والهوية والاتجاه والدين والمذهب، وبعضهم كانت له تصرفات شاذة وأعمال غير عقلانية تشبه تصرفات المجانين، وبعضهم هلك واتباعه في أوائل دعوته، وأزيلوا عن الوجود ولم تبق منهم بقية وبعضهم مات وبقي إسمه وذكره.(2)
فالظاهرة النشاز التي تركت تأثيراً نفسياً وفكراً ضاراً على الايمان بعقيدة المهدي الموعود الحقيقي في النصوص الاسلامية هي تكرار حالات الادعاء بالمهدي، ورغبة بعض الافراد في المجتمع الاسلامي ـ ومنذ تاريخ بعيد ـ تقمص شخصيته الكريمة والتشبه بالادوار الجهادية التي يؤديها بعد ظهوره المبارك، وظلت هذه الحالة تظهر فتخبو وهكذا، حتى برزت كمشكلة تواجه الفكر الإسلامي على امتداد عصور متتابعة(3) الى يومنا هذا، إذ لازلنا نتسامع بين الفينة والاخرى عن أشخاص يزعمون في مجتماعتهم إنهم المهدي المنتظر أو إنه قد قام بتكليفهم كسفراء له، أو إنه تجلى لهم في عوالم خيالية... الخ، ثم ما تلبث دعواتهم أن تموت في عقرها وتخبو، كما كُتب للتي عاشت قبلها.
مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام بأنها حسينية النسب حيث صرح في بعض رسائله بأنه حسيني الأب عباسي الأم(5)، وكان أبوه فقيهاً، فتعلّم منه القراءة والكتابة وحفظ القرآن وهو في الثانية عشرة من عمره، ومات أبوه وهو صغير، فعمل مع عمه في نجارة السفن مدة قصيرة، وذهب إلى ورغم إن بعض هذه الدعوات قد لقيت رواجاً في بعض البلدان كونها ولدت في مجتمعات فقيرة مادياً وساذجة فكرياً، ونشأت في ظل أنظمة سياسية منحرفة لاتعبأ بحقوق الناس ولا تقيم وزناً لحريات الآخرين وتستأثر بالخيرات والنعم، الأمر الذي كان عاملاً مساعداً على انضواء الناس وقبولهم بالاطروحة المهدوية المزعومة لعلّهم يجدون فيها ما يخلصهم من عذابات الفقر والحرمان، سيما وان مثل هذه الحركات كانت غالباً ما تستخدم الخطاب الديني الممزوج بالثورة على الظلم والتخلص من الاستبداد وقد نجحت بعض هذه الحركات فعلاً في تاسيس دول واقامة حكومات والقضاء على انظمة سياسية وتهديد كيانات كبيرة.
ومن هذه الحركات التي كتب لها النجاح لفترة ليست بالقصيرة هي حركة محمد أحمد بن عبد الله الملقب بالمهدي السوداني أو مهدي السودان (1259 ـ 1302هـ) (1844 ـ 1885م) وهو من قبيلة (الدناقلة) ولد في جزيرة (نبت) مقابل مدينة (دنقلا) أو فــي (حنك) حسب قول بعض المؤرخين(4) من أسرة اشتهــرت الخرطوم فقرأ الفقه والتفسير، وتصوّف.(6) وكان أهله يرسلون اليه بالمال القليل لينفقه على نفسه وليستعين به على قضاء حاجاته، ولكنه كان حين يصله المال يصيب منه حاجاته، ثم يتصدق بما بقي منه، فاذا احتاج إلى المال ذهب إلى الغابة فاحتطب وباع ما إحتطبه، أو يذهب إلى النيل فيلقي بصنارته في الماء ليصطاد من السمك ما يقتات به.(7)
تتلمذ على الشيخ محمود الشنقيطي ـ سالكاً الطريقة السمانية القادرية الصوفية متلقياً على شيخها محمد شريف نور الدائم، ثم فارق محمد شيخه لما لاحظه عليه من تهاون في بعض الأمور، وانتقل للدراسة على يد الشيخ القرشي (وَد الزين) في الجزيرة، وجدد البيعة على يديه.(8)
في عام 1870م انقطع في جزيرة (أبا) حيث يقيم أهله، وإلتزم أحد الكهوف مستغرقاً في التأمل والتفكير واشتغل بالدرس والتدريس، وكثر مريدوه واشتهر بالصلاح، وفي عام 1880م توفي شيخه القرشي، فصار خليفته من بعده، حيث توافد عليه المبايعون مجددين الولاء للطريقة في شخصه.
وسافر إلى (كردفان) فنشر فيها رسالة من تأليفه يدعو بها إلى (تطهير البلاد من مفاسد الحكام)، وجاءه عبد الله بن محمد التعايشي، فبايعه على القيام بدعوته، وقويت عصبيته بقبيلة (البقارة) وقد تزوج منها وهي عربية الاصل من جهينة.
في عام 1881 م أصدر فتواه بأعلان الجهاد ضد المستعمرين الانكليز الكفار وأخذ يعمل على بسط نفوذه في جميع انحاء غرب السودان، وانبث اتباعه المعروفون بـ (الدراويش) بين القبائل يحضون على الجهاد وانتشرت دعوته في مختلف انحاء السودان.
اعتكف اربعين يوماً في غارة بجزيرة (آبا) وفي غرة شعبان 1298هـ/ 19 يونيو 1881 اعلن للفقهاء والمشايخ والاعيان إنه المهدي المتنظر الذي سيملأ الارض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً وبويع على ذلك، وكتب إلى فقهاء السودان يدعوهم إلى نصرته، ودعا إلى تحكيم الشريعة ونشر العدل.
وكانت صيغة بيعته هكذا (بايعنا الله ورسوله، وبايعناك على طاعة الله، وأن لا نسرق ولا نزني، ولا نأتي بهتاناً نفتريه ولا نعصيك في أمر بمعروف، ونهي عن منكر بايعناك على الزهد بالدنيا وتركها، وان لا نفر من الجهاد رغبةً فيما عند الله).(9)
ويذكر السيد القزويني انه (كان يقال له المتمهدي، ادعى انه الامام الثاني عشر الذي ظهر مرة قبل هذه، وكان يبشر السودانيين المضطهدين بظهور المـهدي المنتظــر لأنقاذهم مــن الضرائب التي كانت الدولة ـ يومذاك ـ تستوفيها من الناس، فانتشر اسم الإمام المهدي المنتظر في الاوساط، وسألوه يوماً: لعلك المهدي المنتظر؟! فقال: أجل أنا هو!!
في عصر محمد أحمد السوداني كانت السودان ترزح تحت حكومة الجبارين والمستغلين، الامر الذي جعل الاحساس بالمصلح والاصلاح العالمي أمراً قريباً للنفوس لاشتداد المحنة وتكالب الزمان وإنتشار الظلم والفساد في ارجاء هذا البلد.(10)
استغل هذا الرجل الظروف السائدة والاحاسيس المترقبة للظهور الحقيقي للمصلح الموعود وبدأ بنسج المسرحيات ليضل الناس من قبيل ان أحد المشتغلين بالنجوم تشرف بخدمته، وما أن رأى الأنوار المهدوية في وجهه خرّ مغشياً عليه، وبعد برهة من الزمن انتبه فسألوه عن ذلك فقال: إنها الانوار المهدوية قد أثرت على حواسي.(11)
وقد هيأت هذه الاساطير وغيرها العقول والنفوس في المجتمع السوداني الساذج لتقبل دعوته فكتب إلى الاصقاع يدعوهم إلى ما يقوم به، فنسب لنفسه التنصيب من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتشرف برؤيته ورؤية خلفائه والقتال إلى جانبهم مع الملائكة، وإنه المهدي الموعود وصاحب الخلافة الكبرى، المتابع له في الجنة والمارق عنه في النار وقال في هذا الكتاب.
(والحمد لله الوالي والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم وبعد...
من العبد المفتقر إلى الله محمد المهدي بن عبد الله الى أحبائه المؤمنين بالله وبكتابه، اما بعد فلا يخفى تغيّر الزمن وترك السنن ولا يرضى بذلك ذوو الإيمان والفطن بل أحق أن يترك لذلك الاوطار والوطن لأقامة الدين والسنن، ولا يتوانى عن ذلك غافل لأن غيرة الإسلام للمؤمن تجبره، ثم احبائي كما أراد الله في أزله وقضائه تفضّل على عبده الحقير الذليل بالخلافة الكبرى من الله ورسوله واخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وآله وسلم بأني المهدي المنتظر وخلّفني عليه الصلاة والسلام بالجلوس على كرسيه مراراً بحضرة الخلفاء الأربعة والاقطاب والخضر عليه السلام ، وايّدني الله تعالى بالملائكة المقربين وبالأولياء الاحياء والميتين من لدن آدم إلى زماننا هذا وكذلك المؤمنون من الجن وفي ساعة الحرب يحضر معهم أمام جيشي سيد الوجود عليه الصلاة والسلام بذاته الكريمة وكذلك الخلفاء الأربعة والأقطاب والخضر عليه السلام واعطاني سيف النصر من حضرته صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم اخبرني سيد الوجود صلى الله عليه وآله وسلم بأن الله جعل لي على المهدية علامة، وهي الخال على خدي الايمن ـ وكذلك جعل لي علامة اخرى تخرج راية من نور ـ وتكون معي في حال الحرب ويحملها عزرائيل عليه السلام فيثبت الله بها أصحابي وينزل الرعب في قلوب أعدائي فلا يلقاني أحد بعداوة الا خذله الله.
ثم قال لي عليه السلام: انك مخلوق من نور عنان قلبي، فمن له سعادة صدّق بأني المهدي المتنظر..).(12)
وقد استطاع هذا الرجل أن يجمع من الاتباع والانصار جيشاً اثار رعب الحاكم العام للسودان رؤوف باشا المصري الذي استدعاه إلى الخرطوم، فامتنع، فأرسل رؤوف قوة تأتيه به، فانقض عليها اتباع المهدي في الطريق وفتكوا بها.
وساقت الحكومة المصرية جيشاً لقتاله بقيادة (جيجلر) باشا البافاري، فهاجمه نحو خمسين ألف سوداني وهزموه بالسيوف والعصي، مما كان له أثر فعل في زيادة الاتباع،واستولى المهدي على مدينة (الأُبَيّض) سنة 1300هـ.
ثم أرسلت بريطانيا حملة عسكرية بقيادة القائد الانكلزي (هكس) باشا للقضاء على الحركة المهدية، ولكنها فشلت وأبيدت وقتل قائدها.
ثم أرسل الخديوي إلى السودان حاكماً انكليزياً آخر هو الجنرال (جوردون) فوصل السودان ـ وحاول إرضاء المهدي ببعض الاصلاحات ورفع المظالم وتعيينه أميراً على بعض المناطق، وعرض عليه فتح طريق الحج وحقن دماء المسلمين، وأهدى اليه هدية، وشاور المهدي أصحابه، ثم قرر رد الهدية وأعلن إنه لا يريد ملكاً ولا جاهاً ولا مالاً وإنما يريد رد الناس إلى دينهم ومنع الظلم والفساد. ودعا الجنرال (جوردن) إلى الهداية والاسلام، وكان مما قاله في رده على الجنرال (.. وأما فتح طريق الحج فانها خديعة منك وتظاهر بحماية الدين الإسلامي، مع انك لا تؤمن بحرف مما جاء في هذا الدين، وإنك لمن معشرٍ عرفوا بعدائه وكرهه، فأن كنت ممن يشفق على المسلمين ـ فأولى بك أن تشفق على نفسك، وتخلصها من سخط خالقها، وتحملها اتباع الدين الحق).(13)
وهنا أحس (جوردن) بخطورة الدعوة المهدية فطلب إرسال حملة عسكرية للقضاء عليها وكان للمهدي ولد يدعى عبد الرحمن بن محمد بن أحمد المهدي (1885 ـ 1956م) ولد في أم درمان وتلقى تعليماً دينياً ـ وعندما شبّ سعى لتنظيم المهدية بعد أن انفرط عقدها، وصار في عام 1914م زعيماً روحياً للأنصار وفي عام 1919م بعثت به الحكومة لتهنئة ملك بريطانيا بأنتصار الحلفاء، حيث قام بتقديم سيف والده هدية للملك البريطاني الذي قبله ثم أعاده إلى عبد الرحمن طالباً منه أن يحتفظ به لديه نيابة عن الملك وليدافع به عن الامبراطورية، وقد شكّل هذا اعترافاً ضمنياً بالطائفة واعترافاً بزعامته لها، وقد أنشأ عبد الرحمن ايام الاستعمار الانكليزي على السودان (حزب الأمة) وهو حزب المهدية السياسي، والذي يرأس الجناح الاقوى من اجنحته الثلاثة اليوم الصادق بن الصديق بن عبد الرحمن المهدي زعيم المهدية المعاصرة.
دراسة في سلوك وفكر المهدي والسوداني
لقد دون بعض المؤرخين صفات المهدي السوداني التي لم نجد فيها ما يخالف الدين أو الأعراف الشرعية، فقد ذكروا انه كان ورعاً زاهداً في متاع الدنيا وزخرفها، ثابتاً على خشن العيش في مطعمه وملبسه حتى بعد أن كثرت لديه الاموال والغنائم وكان يتحرج من أن يمد يده إلى مال فيه شبهة، فقد رفض أن يتناول طعاماً من دار شيخه حين علم إنه يتقاضى راتباً من أموال الدولة، ولاحظ شيخه ذلك فعظم مكانه عنده، وقال له: يا بني إني ورثت عن آبائي هذه الساقية وهذه الارض وإني لأقتات أنا وأهلي منها، وإنك لتوليني فضلاً، لو شاركتني القليل مما لدي، وقبل المهدي بعد لأيٍ على أن يؤدي عوض ذلك عملاً في حرث الارض وزراعتها.
وذكروا انه كان يثور على كل منكرٍ رآه مهما كانت منزلة صاحبه، فقد أنكر ما رآه في بيت شيخ له حين شاهد الرقص والغناء والاسراف في انفاق المال في حفلة ختان ولده، وفارق شيخه.
وقد أشرنا إلى إنه كان رافضاً لما عُرض عليه من مناصب وولايات ورافضاً ايضاً لما قُدّم اليه من الهدايا وانما كان على حد قوله يريد رد الناس إلى دينهم ومنع الظلم والفساد.
وإلى جانب ذلك فقد وُصف بأنه كان يهتم بتزكية نفسه عن طريق الخلوة والاخذ بحظ من العزلة عن الخلق، ومجاهدة النفس، ومع ذلك كان يخالط الناس ويعلمهم ويربيهم مما ساهم في ايجاد قاعدة شعبية عريضة مهيأة لقبول دعوته ومناصرتها.
وهو لم يهمل الصلات الاجتماعية إذ كان ـ كما ينقلون ـ حريصاً على توثيق علاقاته بالقبائل المنتشرة في انحاء السودان الى جانب إطلاعه على احوال الناس ومشاكلهم ومعاناتهم ومتابعته لظلم الحكام والولاة وتأثره وانفعاله الدائم بسبب الظروف المعاشية القاسية التي كانت تمر بها بلاده في تلك الفترة.
كما شهدوا له اهتمامه العظيم بتربية اتباعه وتزكية نفوسهم، فقد غرس فيهم الزهد في الدنيا والتضحية بالنفس والمال في سبيل الله، والبُعد عن الآثام، فلا خمر تُشرب ولا غواية ترتكب، ولا لهو، ولا كذب، ولا حسد، وضرب لهم من نفسه امثالاً لكل ما دعاهم إليه.
وقد اقترن ميلاد دولته ببناء مسجد ومصنع للذخيرة إلى جانب عنايته بأنشاء مؤسسات الدولة ودواوينها وقيامه بأصلاحات اجتماعية شاملة، وهذا يدل بوضوح على إنه كان يدرك ان وظيفة الدولة الاسلامية هي حراسة الدين وسياسة الدنيا به، فضلاً عن إنه كان يمتلك بُعداً سياسياً لا يستهان به من خلال براعته في المفاوضات التي أجراها مع حكام عصره، فلم ينخدع بحيل اعدائه ووعودهم المعسولة التي كانت تستهدف احتوائه واحتواء حركته، كما يعكس ذلك موقفه مع الخديوي وجوردن.
وجميع هذه المقومات ساهمت في نجاح حركة المهدي في السودان وتأسيسه لكيان ديني سياسي فرض نفسه على أقوى دول العالم يومئذٍ.
على ان تلك الاهداف الاصلاحية والدينية التي كانت تشكّل السمة البارزة لحركته قد لا يمكن أن تبرّر الوسائل التي إستخدمها للوصول إلى مآربه، والتخيلات التي ادعى انه رآها في خلوته، وهي سمة يشترك فيها مع غيره من مدعي النبوة أو المهدوية فهؤلاء جميعا يتراءى لهم (إنهم اصبحوا يسمعون ما لا يسمعه غيرهم ويرون ما لا يراه سواهم، وحين يخبرون بنبأ فيتحقق أو يرون حدثاً بعيداً مكانياً فيتأكد أو يقرأ لهم طوية إنسان فتبرز بعدئذٍ، أو يستحوذ عليهم وينطق بألسنتهم أو يتصرف بهم ويوجههم، وامثال هذه الظواهر المعروفة لدى المروجين قدماء ومحدثين من دون خصوصية دين أو إلتزام يزدادون اعتقاداً بانهم أصبحوا مقربين او موصولين بالفعل وعندها تتأكد تنظيرات مدعي المهدوية وتوجيهاته وبشاراته عندهم ويصبحون بالايحاء الدائم والمناجاة المستمرة رهن إشارته وعند أمره ونهيه حتى فيما جاوز حدود الله وخالف سبيله وخرج عن منطق العقل وميزان الاخلاق العامة)(14) امثال ما إدعاه السوداني بأن الله جعل له علامة: تخرج راية من نور وتكون معه في حال الحرب ويحملها عزرائيل فيثبت الله بها اصحابه وينزل الرعب في قلوب الاعداء.. وهو مما لا يقبله عاقل، وأما إدعائه بأنه لاقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وان الرسول قام بتكليفه بالخلافة الكبرى وتخويله بإمامة الناس في الصلاة وانه المهدي المنتظر... الخ، فهو مما يخالف الواقع، وهو مما لا يستحق المناقشة، حتى ولم يكتف بذلك وانما ادعى العصمة نظراً لأمتداد النور الاعظم فيه من قبل خالق الكون إلى يوم القيامة، وان الرسول جاءه في اليقظة ومعه الخلفاء الراشدون والاقطاب والخضر عليه السلام ، وان الرسول أمسك بيده وأجلسه على كرسيه وقال له: انت المهدي المنتظر ومن شك في مهديتك فقد كفر!!
ولم ينفرد السوداني بهذه الادعاءات وإنما هي تتكرر مع كل مهدي يدعيها وقد أجاب عنها العلماء مراراً وتكراراً حيث إنها من وحي وافكار شيطانية لا علاقة لها بالاسلام ولا بأي دين، وإنما هي وسيلة للوصول إلى أهداف دنيوية بحتة، واذا كانت هذه الأهداف تنشد الاصلاح الديني فلابد أن لا ترتكز على مجموعة من الأكاذيب والافتراءات مما يخالف عقيدة المهدي الحقيقي تلك العقيدة التي قامت على أسس متعددة يستحيل تجاوزها، ولتغطية هذا الخلل المتعلق بالعقيدة حاول هؤلاء اتخاذ الانتقائية مذهباً في طرح الافكار، فقد وجدنا مثلاً ان ابن تومرت الذي تحدثنا عن فكره في حلقة سابقة قد أخذ من الشيعة عقيدة العصمة ومن الاشاعرة والمعتزلة بعض أفكارهم فأنشأ مذهباً انتقائياً بما يتوافق مع اهدافه العامة، وهكذا فأن المهدي السوداني حذف من قائمة اعتقاداته المذاهب السنية الاربعة، وادعى بأن مذهبه هو الكتاب والسنة والتوكل على الله، أي أنه اصبح مجتهداً يستنبط احكامه وفق ما يراه هو، وبذلك تخلص من القيود الكثيرة التي يفرضها عليه فقه المذاهب الاربعة فضلاً عن مذهب الإمامية.
ومع ذلك فان ملامح الفكر الصوفي تتجلى ظاهرةً في أقواله وأفعاله، وهي بلاشك تمثل هروباً من تساؤلات واقعية عديدة حول رؤيته للرسول وللخلفاء وللخضر عليه السلام ، ثم حديثه معهم من قبيل ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أخبره بأن الله جعل له علامات معينه، ومثل هذه التساؤلات لابد أن تضعه في مواقف يكون عاجزاً عن الاجابة عليها، فكان التصوف ذريعة مقنعة للتخلص من إشكالات كبيرة كان يواجهها، وهذا هو دأب جميع الذين إدعوا المهدوية في التاريخ.
على ان ذلك لا يجب أن ينسحب على اولئك الذين نهضوا لتخليص شعوبهم بعنوان إنهم ممهدون للامام وألصقت بهم المهدوية كذباً وزوراً، بل أن المقصود هم أولئك الذين ادعوا المهدوية ونسبوها لأنفسهم صراحة ومنهم محمد أحمد بن عبد الله السوداني.
 

 

 

الهوامش:
ــــــــــــــــــ
(1) ظ: محمد فقيه ايماني، اصالة المهدوية في الإسلام: 145 ـ 156 وغيره.
(2) السيد محمد كاظم القزويني ـ الإمام المهدي من المهدي على الظهور: 448 ـ 449.
(3) يوسف مدن، سيكولوجيه الانتظار: 59.
(4) مجلة الهلال، السنة الرابعة، العدد 17 ص 644 والسنة السابعة العدد/ 6.
(5) السودان بين يدي غردون وكتشز: 1/ 75.
(6) الزركلي، الاعلام: 6/ 20.
(7) ظ: نفسه.
(8) فتحي يكن، الموسوعة الحركية: ص 229.
(9) محمد بن أحمد بن اسماعيل، المهدي حقيقة لا خرافة: 163.
(10) السيد نذير الحسني، المصلح العالمي من النظرية إلى التطبيق: 158.
(11) السودان بين يدي غردون وكتشر: 1/ 75.
(12) ظ: المصلح العالمي من النظرية إلى التطبيق: 159.
(13) المهدي حقيقة لا خرافة: 163.
(14) السيد عدنان البكاء، الامام المهدي وادعياء البابيه والمهدوية: 17.

العدد: ٤ / صفر / ١٤٢٧ هـ : ٢٠١٣/٠٧/١٦ : ٥.٩ K : ٠
: د. حسين شير علي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

لتحميل أعداد المجلة (pdf):