دراسات / أدعياء المهدوية المهدي العباسي
أدعياء المهدوية
المهدي العباسي
(127ـ 169هـ)
د. حسين سامي شير علي كلية الشيخ الطوسي الجامعة
مما لا شك فيه ـ منذ انبثاق عقيدة الإنتظار في التاريخ وإلى يومنا الحاضر ـ أن من أهم العوامل التي دعت الكثيرين إلى ادّعاء المهدوية هو العامل السياسي المتمثّل في طلب السلطـة والجاه، وحتى حركات الإصلاح التي تبنّت هـذه القضية بنيّة سليمة لم تكـن تخفي طموحها السياسي كمحصلة نهائية، وبذلك كان ادعاؤها للمهدوية مرحلياً يزول بزوال مصالحها أو يتلاشى بوصولها الى الهدف.
ومن النماذج الفاضحة للإدعاء بهدف تثبيت الملك وإثبات حق غير مشروع هو ظاهرة المهدي العباسي أبي عبد الله محمد بن عبد الله المنصور الذي تولّى الخلافة بموت أبيه المنصور الدوانيقي سنة 158هـ .
ويُعدّ المنصور هو المروّج لمهدوية ولده الذي كان طفلا صغيراً لا يتجاوز الخامسة من عمره، إذ ولد سنة 127هـ، أي قبل تسلم العباسيين السلطة بخمس أو ست سنين، وظل حلم المهدوية يراود مخيلة المنصور إلى أن تمكن من إعلانه رسمياً على الملأ سنة 147هـ.(1)
ويشير إلى ذلك ما قاله أبو سلمة المصبحي، قال: حدثني مولى لأبي جعفر، قال: أرسلني أبوجعفرـ يعني المنصور ـ فقال: إجلس عند المنبر فاسمع ما يقول محمد بن عبد الله بن الحسن (وهو الملقب بالنفس الزكية)، قال: فذهبت وجلست عند المنبر فسمعت محمد بن عبد الله بن الحسن يخاطب الناس ويقول: إنّكم لا تشكّون أني أنا المهدي، وأنا هو، قال: فأخبرت أبا جعفر بذلك، فقال: كذب عدوُّ الله، بل هو ابني(2).
وقد ورد من الروايات ما يفيد بأن المنصور ادّعى ذلك زوراً وبُهتاناً من خلال اعترافه لبعض خاصّته، منها ما ذكره يوسف بن قتيبة بن مسلم، قال: (أخبرني أخي، مسلم بن قتيبة، قال: أرسل إليّ أبو جعفر المنصور فدخلت عليه فقال: قد خرج محمد بن عبد الله ـ يريد النفس الزكية ـ وتسمّى بالمهدي، ووالله ما هو به، وأخرى أقولها لك لم أقلها لأحد قبلك، ولا أقولها لأحد بعدك، وابني هذا والله ما هو بالمهدي الذي جاءت به الرواية، ولكنني تيمّنت به، وتفاءلت به)(3).
وقداستخدم المنصور ـ كعادة الخلفاء من قبله ومن بعده ـ بعض الذين مارسوا صناعة الحديث النبوي لترويج مهدوية ابنه على لسان الرسول، أمثال مقاتل بن سليمان المشهور بالكذب وإبراهيم بن المهاجر، وأحمد بن راشد الهلالي، واسماعيل بن ابراهيم بن المهاجر، والحسن بن أحمد العطاردي وزيد بن عوف ابي ربيعة القطعي، وسالم الأعشى، ومحمد بن جابر بن سيار الحنفي ومحمد بن زياد بن أبي بكر، ومحمد بن مخلد، ومحمد بن الوليد المقري مولى بني هاشم وغيرهم. ومنها:
1. ما أخرجه السيوطي في (الجامع الصغير) والمتقي الهندي في (البرهان) عن عثمان بن عفان، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: المهدي من ولد العباس عمي، قال السيوطي: حديث ضعيف(4) وقال الدار قطني: هذا حديث غريب تفرّد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم(5).
وقال المناوي: رواه الدار قطني في الأفراد، وقال ابن الجوزي: فيه محمد بن الوليد المقري، قال ابن عدي: يضع الحديث ويصله ويسرق ويقلب الأسانيد والمتون، وقال عن أبي معشر: هو كذاب، وقال السمهودي: فيه محمد بن الوليد وضّاع(6).
2. روى الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعمه العباس: إن الله ابتدأ الإسلام بي، وسيختمه بغلام من ولدك وهو الذي يتقدم عيسى بن مريم(7).
وفي هذا الحديث محمد بن مخلد وهو ضعيف(8). قال الذهبي في الحديث المذكور: رواه الخطيب عن محمد بن مخلد العطار، فهو آفته، والعجب أن الخطيب ذكره في تاريخه ولم يضعّفه وكأنه سكت عنه لانتهاك حاله(9).
3. روى الخطيب وابن عساكر عن أم الفضل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لعمه العباس: (ياعباس إذا كانت سنة خمس وثلاثين ومائة فهي لك ولولدك، منهم السفاح ومنهم المنصور ومنهم المهدي)(10).
وقد صرح الذهبي بوضع هذا الحديث من قبل أحمد بن راشد الهلالي وشهد ببطلانه(11) وشيء آخر أشار إليه الذهبي، هو جهل واضع الحديث بالتأريخ المذكور في الحديث، لأن حكم العباسيين لم يبدأ بسنة 135هـ وإنّما حكمهم سنة 132ه(12).
ولو صح هذا الحديث فإن لفظ المهدي لا ينصرف إلى المهدي المنتظر عليه السلام الذي يظهر في آخر الزمان، بل هو ناظر إلى ما عطف عليه، وهو المنصور وقبله العباس، أي هو المهدي العباسي، لا المهدي القائم بالحق الذي يملأ الأرض قسطا وعدل(13).
أخرج أحمد في مسنده عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال (إذا رأيتم الرايات السود قد أقبلت من خراسان فأتوها ولو حبوا على الثلج، فإن فيها خليفة الله المهدي)(14) وقريب منه حديث ابن ماجة في سننه(15). كما روى الترمذي بسنده عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: (تخرج من خراسان رايات سود، فلا يردّها شيء حتى تنصب بإيلياء).(16)
ومثل هذه الأحاديث قد يستفيد البعض منها دلالتها على المهدي العباسي، بتقريب أن تلك الرايات السود يحتمل أن تكون هي الرايات التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني من خراسان فوطد بها دولة بني العباس فتكون ناظرة الى المهدي بن المنصور.
على أن حديث مسند أحمد وسنن ابن ماجة ضعّفهما غير واحد من العلماء، منهم ابن القيم الجوزية في (المنار المنيف) ثم قال: (وهذا ـ حديث ابن ماجة ـ والذي قبله لم يكن فيه دليل على أن المهدي الذي تولى من بني العباس هو المهدي الذي يخرج في آخر الزمان)(17).
وأما عن حديث الترمذي فقد وصفه ابن كثير بأنه حديث غريب ثم قال: (وهذه الرايات السود ليست هي التي أقبل بها أبو مسلم الخراساني فاستلب بها دولة بني أمية في سنة إثنتين وثلاثين ومائة، بل رايات سود أخرى تأتي بصحبة المهدي، وظهوره من ناحية المشرق(18).
ومن الواضح أن بني العباس قد استفادوا من صحة حديث الرايات، فسخّروا بعض الوضاعين للالتفاف على أحاديث الرايات السود التي صحّ الحديث بخروجها من المشرق في آخر الزمان لنصرة الامام المهدي عليه السلام وتوطيد سلطانه الشريف، وهي أحاديث صحيحة رواها الفريقان، وصحح الحاكم بعض طرقها على شرط البخاري ومسلم مع(19) ولهذا حاولوا صرف الانظار الى ما يوحي للأمة بأن تلك الرايات السود هي الرايات السود التي أقبل بها داعيتهم أبو مسلم الخراساني لإنشاء دولتهم، ولم يصعب عليهم إيجاد من يصغي لهم في ذلك، الأمر الذي يكشف لنا عن أن اختيار العباسيين لبس السواد ـ كشعار لهم ـ لم يكن جزافاً وبلا هدف، وإنّما جاء منسجماً مع وسائلهم في الوصول الى السلطة وسبل تثبيتها بالغدر والقتل تارة، وبالكذب على الله ورسوله تارة أخرى(20).
فقد استغل المنصور شيوع كلمة المهدي عند الناس واعتقادهم فيها، فلقّب ابنه بالمهدي على أساس هذه الفكرة، ودعا إليه على أنه المهدي المنتظر، ليحيط الخلافة بالسلطان الدنيوي والتقديس الديني(21).
وكانت هذه الخطوة تدور ضمن منهج التزمه المنصور، وهو محاولة الظهور بدولته على أنها الدولة الدينية المثلى. فلم يكتف بتلقيب ابنه بالمهدي، وإنما قام بتسمية أم المهدي بأم الخلفاء تشبهاً باسم أم المؤمنين، وتسمية بغداد بدار السلام تشبهاً باسم الجنة أيضاً، وتسميته أحد قصوره بقصر الخلد تشبها باسم الجنة أيضاً، وجعل باباً قصيراً لا يدخله إلا من انحنى كأنه راكع تعظيماً له، وتكليفه بعض الفقهاء أن يضعوا الأحاديث في مدح العباسيين ومدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه بصفات تنطبق على ابنه المهدي وتسميته لولدي إبنه بأسماء الأنبياء موسى وهارون، وتلقيبه موسى بالهادي، ولما يئس من تسمية هارون بالمهدي لان لقب إبنهِ (المهدي) لقبه بالرشيد وهي كلمة مساوية للمهدي بمعناها الأول.
ولم يفت المنصور استخدام وسائل الدعاية والاعلام السائدة في ذلك العصر للترويج لمهدوية ابنه، فضرب اسمه وصورته على النقود المعروفة الدرهم الفضي والدينار الذهبي مدعياً أنه المهدي القائم في بعض العبارات وأنه سيملأ الأرض قسطاً وعدلاً في عبارات أخرى.(22)
وكان للشعر والشعراء ـ بما أنهم وسيلة الاعلام والنشر السائدة آنذاك وتشجيع بني العباس للشعراء من خلال الهبات السنية على نظم الشعر الدعائي في مدح الخلفاء وهجاء مخالفيهم ـ أثر كبير في الترويج لمهدوية المهدي العباسي، وهم أمثال مروان بن أبي حفصة وسلم الخاسر وأبي العتاهية وغيرهم ممن باع دينه بدراهم معدودة.
فمن قول مروان بن أبي حفصة في المهدي:
مهدي أمّته الذي أمست به للذل آمنة وللأعدام(23)
وقال سلم الخاسر:
له شيمة عند بذل العطاء لا يعرف الناس مقدارها
ومهدي أمتنا والذي حماها وأدرك أوتارها
فأمر له بخمسمائة درهم(24).
ومدح سلم ـ ذات يوم ـ بعض العلويين، فبلغ ذلك المهدي العباسي، فتوّعده فاعتذر له بقصيدة يقول فيها:
إني أتتني على المهدي معتبة تكاد من خوفها الأحشاء تضطرب(25)
ورثى سلم الخاسر هذا المهدي العباسي حين موته بقوله:
وباكية على المهدي عبرى كأن بها ـ وما جُنّت ـ جنون(26)
وقال أبو العتاهية في جارية المهدي العباسي (عتبة) وكان يحبها:
نفسي بشيء من الدنيا معلقة الله والقائم المهدي يكفيها
إني لآيس منها ثم يطمعني فيها احتقارك للدنيا وما فيه(27)
وقال أحد شعراء البلاط العباسي مهنئاً المهدي بولاية العهد:
يابن الخليفة إن أمة أحمد تاقت إليك بطاعة أهواؤها
ولتملأنّ الأرض عدلاً كالذي كانت تحدّث أمةً علماؤها
حتى تمنّى لو ترى أمواتُها من عدل حكمك ما ترى أحياؤها
فعلى أبيك اليوم بهجة ملكها وغداً عليك إزارها ورداؤه(28)
ومهدوية المهدي هذا ومنصبه الرسمي لم يمنعانه من الفسق والفجور وشرب الخمور علناً، فقد ذكر السيوطي أنه كان لا يحتجب عن ندمائه في الشراب خلافا لأبيه المنصور الذي كان يحتجب عنهم، فأُشير عليه أن يحجب فقال: (إنّما اللذة مع مشاهدتهم).(29)
وهو القائل في نديمه عمر بن بزيع:
رب تمم لي نعيمي بأبي حفص نديمي
إنما لذة عيشي في غناء وكروم
وجوار عطرات وسماع ونعيم(30)
وقد عرف عن المهدي عشقه للغناء والطرب، وتأثر به إبنه إبراهيم المغني الشهير وأخته علية المغنية التي شغفت بخادمها (رشأ) حباً.(31)
وفي ذلك يقول أبو فراس الحمداني:
منكم علية أم منهم؟ وكان لكم شيخ المغنيين (ابراهيم) أم لهم(32)
وفي نفس الوقت فقد عُرف ـ كآبائه ـ بكرهه لآل أبي طالب، فلما حضرت القاسم بن مجاشع التميمي المروزي الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ)، ثم كتب: والقاسم يشهد بذلك، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله ووارث الإمامة من بعده، فعُرضت الوصية على المهدي بعد موته، فلما بلغ إلى هذا الموضع رمى بها، ولم ينظر فيها. (33)
الهوامش:
ـــــــــــــــــــ
(1) ثامر العميدي، غيبة الامام المهدي عند الامام الصادق: ص250.
(2) أبو الفرج الاصفهاني، مقاتل الطالبين: ص212.
(3) مقاتل الطالبين:226.
(4) الجامع الصغير: 2/ 672/ 9242، البرهان في علامات آخر الزمان: 95/25.
(5) المتقي الهندي:البرهان: 96.
(6) المناوي، فيض القدير: 6/ 278/ 9242.
(7) تايخ بغداد: 3/ 323.
(8) الذهبي، ميزان الاعتدال: 1/ 89.
(9) نفسه.
(10) تاريخ بغداد: 1/ 63، تاريخ دمشق: 4/ 178.
(11) ميزان الاعتدال: 1/ 97.
(12) نفسه.
(13) حسين الشاكري، المهدي المنتظر:ق:382.
(14) مسند أحمد: 5/ 277.
(15) سنن ابن ماجة: 2/ 1366.
(16) سنن الترمذي: 4/531.
(17) ابن القيم، المنار المنيف: 137ـ 138.
(18) ابن كثير، النهاية: 1/ 55.
(19) الحاكم، المستدرك: 4/ 547.
(20) السيد ثامر العميدي، غيبة الامام المهدي: 261.
(21) ظ: أحمد أمين: المهدي والمهدوية: 12.
(22) ظ: مجلة المسكوكات الاسلامية.
(23) السيوطي،تاريخ الخلفاء: 220.
(24) ابو الفرج الاصفهاني، الأغاني: 19/ 279.
(25) نفسه: 19/ 275.
(26) السيوطي، تاريخ الخلفاء: 220.
(27) المسعودي، مروج الذهب: 3/ 326 ـ 327.
(28) السيوطي، تاريخ الخلفاء: 222.
(29) نفسه: 216.
(30) نفسه:222.
(31) الصولي، أشعار اولاد الخلفاء وأخبارهم من كتاب الأوراق: 62.
(32) ديوان ابي فراس الحمداني: 304.
(33) ابن الاثير الكامل في التاريخ.