المسار:
العربية » مجلة الانتظار » العدد: ٦ / رجب / ١٤٢٧ هـ
العدد: 6 / رجب / 1427 هـ

دراسات / الحتمية المهدوية بين فلسفة التاريخ والمنطق العلمي

الحتمية المهدوية
بين فلسفة التاريخ والمنطق العلمي

د.م: أسامة عبد الباقي

إن أهمية دراسة فلسفة التاريخ ـ وخصوصاً نظريات المؤرخ الانكليزي آرنولد توينبي وما بعده من فلاسفة المؤرخين المتأخّرين ـ تتأتّى من قدرتها على تفسير التاريخ بحركة دينــاميكية للحضارات تشبه حيــاة الإنسان من الولادة ولغاية الموت وبوجود القائد لـهذه الحركة. إنّ ما ذكرناه يمهّد أيضاً لفكرة حتمية وجود إمام حقّ يُهتدى به في كلّ عصر، يكون حجّةَ الله عز وجل على أهل زمانه في الدنيا والآخرة، يوم يُدعى كلُّ أُناس بإمام زمانهم الحق، ويُقال للضالّين عنه: هذا إمامكم الذي كان بين أظهركم، فلماذا عميتم عنه؟ وبذلك تتم الحجة البالغة عليهم، وتتضح حكمة دعوتهم وإحضارهم به يوم القيامة. أضف إلى ذلك أن القرآن الكريم يؤكد ذلك بقوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ).(1) أي حتمية وجود إمام حق في كل زمان.
في المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) قال: كلّ إمام هادٍ لكلّ قوم في زمانهم.
وفي الكافي، بإسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: ( وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فقال: كلّ إمام هادٍ للقوم الذي هو فيهم.
والروايات الواردة عن الشيعة والسنة تُثبت ما ذهبنا إليه، فحديث: (من مات ولم يعرف إمام زمانه...) قد سُجّل بألفاظ مختلفة، وكلّها ترجع إلى معنىً واحد ومقصد فارد، ويكفي على ذلك اتّفاق البخاري ومسلم ـ من أهل السنة ـ على روايته، والكليني، والصدوق، ووالده، والحميري، والصفار ـ من الشيعة الإمامية ـ فالحديث مما لا مجال لأحد أن يُناقش في سنده. والحديث ـ كما ترى ـ في تخريجه لا يبعد القول بتواتره، وهو لا يحتمل التأويل ولا صرف دلالته الواضحة على وجوب معرفة الإمام الحق على كل مسلم ومسلمة، وإلاّ فإنّ مصيره ينذر بالعقاب الإلهي. وعلى أية حال، فالحديث يدلّ على وجود إمام حق في كل عصر وجيل، وهذا لا يتم إلاّ مع القول بوجود الإمام المهدي الذي هو حق ومن ولد فاطمة عليها السلام كما تقدم.
ومما يؤيّده: حديث: (إنّ الأرض لا تخلو من قائم لله بحجة): وهذا الحديث قد احتج به الطرفان أيضاً وأوردوه من طرق عدّة (مثلاً البيهقي في المحاسن والمساوئ: 40 والرازي في مفاتيح الغيب 2: 192 وابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري6: 385. وقد أخرجه الكليني من طرق عن أمير المؤمنين عليه السلام في أصول الكافي 1: 136).
انطلاقاً من هذا المبدأ، سيكون من الممكن ـ إلى حد ما ـ تفسير الحتمية التاريخية لظهور الإمام المهدي عليه السلام.
الحتمية العلمية:
أما الحتمية في الفلسفة والعلوم الطبيعية فإنها تشير إلى مفهوم (العلّية) أو السببيّة. السّبب: هو ما يبعث على نشوء أمر وحادثة. وهو مبدأ من مبادئ العقل يفيد أن هناك علاقة ثابتة بين السبب والمسبّب. فلكلّ ظاهرة سببٌ أو علة. وتشكّل الفلسفة الأرسطية مثالاً متميّزاً للاستخدام الفلسفي لهذا المبدأ. فأرسطو يعتبر أنّه لا يمكن فهم أيّ كائن طبيعي إلاّ إذا أرجعناه إلى الأسباب المتدخّلة في وجوده وهي: العلّة الماديّة، العلّة الصورية، العلة الغائية والعلة الفاعلة.
يشمل مفهوم الحتمية معرفة جملة الشروط الضرورية واللازمة لحدوث ظاهرة معيّنة. وتتماهى الحتميّة من جهة أخرى مع الاعتقاد بأنّ كلّ الظواهر تابعة لبعضها البعض، بحيث اذا كان بالإمكان معرفة حالة الكون الرّاهنة في كليته، فإنه من الممكن التنبّؤ بدقّة بكلّ أحواله اللاّحقة كما يذهب إلى ذلك العالم الفيزيائي والرياضي الفرنسي لابلاس.
إن مفهوم الحتمية العلمية يلمّ بجملة شروط وجود الظاهرة، وهو ـ من حيث هو كذلك ـ يشكّل شرط معرفتها. فعندما تعطى الشروط الضرورية لوجود الظاهرة، وعندما يعي العالم وجودها وطبيعتها، فإن ظهور وأنماط الظاهرة يمكن توقّعها.
فكرة الحتمية ـ إذن ـ ترافق كلّ علم، وهي الشرط الضروري للعلم. يقول الفيلسوف والرياضي بوانكاراي في هذا السياق: (إنّ عالماً لا تسوده الحتمية هو عالم موصد في وجه العلماء. العلم بطبيعته حتمي). فالحتمية غاية العلم: هدف العلم الحديث هو الكشف عن الحتمية في مجال الطبيعة التي تفترض أن حدوث ظاهرة معينة محدّد سلفاً بجملة من الشروط الضرورية إن تحقّقت تحدث الظاهرة بصفة ضرورية. والحتمية العلمية ـ بهذا المفهوم ـ يمكن أن تساعد على فهم أعمق لعصر الظهور المبارك للإمام المهدي عليه السلام، بحيث يكون مركز الإمام المعصوم عليه السلام ضرورة وحتمية لصلاح الكون وتوازن عناصره ككل، ولا فرق هنا في البين أكان التوازن مادياً بالمفهوم الطبيعي أو مثالياً بالمفهوم الفلسفي الميتافيزيقي.
فالإمام هو الميزان الفيصل بين مراحل الكون والفساد، وهو التوازن القائم بينهما، وإذا غلبت كفّة الفساد نفترض وجود من يثقل كفة الإصلاح والكون. وأنه لا يصحّ خلوّ العصر عن إمام من أهل البيت عليهم السلام وإلا لساخت الأرض بأهلها كما دلّ الحديث الشريف.. وإن خاتمهم المهدي صاحب الزمان عليه السلام، وإنه حي إلى أن يأذن الله تعالى له ولغيره. وبالتالي فإن وجود الإمام المهدي عليه السلام هو ضرورة وحتمية، أي أن الموازين المنطقية والتفكير العقلائي ـ إضافة للدليل الروائي والقرآني ـ يؤكد ويفرض حتمية وجود الإمام عليه السلام، ذلك أن ثبات العالم بعد قلقلة موازين الطبيعة الكونية الشاملة في حاجة ملحة إلى ذلك المنقذ، فهو صمام الأمان عندما تشتد الأزمات وتحل الكوارث. وهذه سنّة كونية خالصة في قوله عز وجل: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).(2) (وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ).(3) هاتان الآيتان المباركتان مع الآية التي سنذكرها فيما بعد إنّما تسري مسار هذه الفكرة، وهي تطبيق عام تقع فكرة حتمية وضرورة وجود الإمام المهدي عليه السلام ضمن أفراده، بل هي أهمها وأعظمها، والروايات التالية المتداولة في كتب الحديث تحت باب <أن الأرض لا تخلو من حجّة> تؤكد ذلك.(4)
قال الباقر عليه السلام: ما خلت الدنيا ـ منذ خلق الله السماوات والأرض ـ من إمام عدل إلى أن تقوم الساعة حجة لله فيها على خلقه.
وعن أبي عبد الله عليه السلام... قال: لمّا انقضت نبوة آدم عليه السلام وانقطع أجله، أوحى الله عز وجل إليه أن يا آدم، قد انقضت نبوّتك، وانقطع أجلك، فانظر إلى ما عندك من العلم والايمان وميراث النبوة وأثرة العلم والاسم الأعظم، فاجعله في العقب من ذريتك، عند هبة الله، فإنّي لن أدع الأرض بغير عالم يُعرف به طاعتي وديني، ويكون نجاة لمن أطاعه.
عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: لا يصلح الناس إلاّ بإمام، ولا تصلح الأرض إلا بذلك.
وعنه عليه السلام، قال: لو لم يبق في الأرض إلاّ اثنان، لكان أحدهما الحجّة.
وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: لو أن الإمام رُفع عن الأرض ساعة، لماجت بأهلها كما يموج البحر بأهله.
وعنه عليه السلام: قال: لو بقيت الأرض يوماً بلا إمام منا لساخت بأهلها، ولعذّبهم الله بأشد عذابه، إن الله تبارك وتعالى جعلنا حجة في أرضه وأماناً في الأرض لأهل الأرض، لم يزالوا في أمان من أن تسيخ الأرض بهم مادمنا بين أظهرهم، فإذا أراد الله أن يهلكهم، ثم لا يُمهلهم ولا يُنظرهم، ذهب بنا من بينهم ورفعنا إليه، ثم يفعل الله ما يشاء وأحب.
وعن سليمان الجعفري قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام، فقلت: أتخلو الأرض من حجة؟ فقال: لو خلت من حجة طرفة عين لساخت بأهلها.
فمجموع هذه الروايات اذن تقود إلى نتيجة مفهومها هو أن حياة الأرض ووجود العالم مرتبط بحياة ووجود الإمام ارتباطاً ضرورياً لا انفكاك فيه. وهذا الارتباط ليس ارتباطاً يتعلق بهداية الناس فحسب، وإنما يصح أيضاً بلحاظ قوانين الفيزياء والعلوم الطبيعية. ولا عجب أن تفسير الآية الكريمة: (وَالأَْرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ(5) إنما يشير إلى هذه الحقيقة بشكل واضح. ذلك أن الضرورة في وجود الإمام في كل عصر هو شيء متجذر ومتأصل في الطبيعة التي خلقها الباري تعالى، بل هو مغروس في دقائق الكون الأساسية (الالكترونات، البروتونات، النيوترونات وانتهاءً بالكواركات وأوتار الطاقة) كأصغر وحدات أساسية عرفها الإنسان ابتداءاً، وفي المجرّات الهائلة التي تبلغ قطرها ملايين السنين الضوئية انتهاءاً، وبالحجر الجامد إلى أكرم من خلق الله وهو الإنسان وفضّله تفضيلاً. بل يمكننا حتى إثبات حتمية وجود الإمام المعصوم عليه السلام بالمنطق الرياضي بعد الأخذ بنظر الاعتبار نظرية الاحتمالات القائمة على الاستقراء ونظرية التفاضلات الجزئية في بحث ليس مكانه هنا. إن من يتمعّن في الآية التي ذكرناها يستشف الكثير، وخصوصاً إطلاق الفكرة التي تحملها الكلمة (وأنبتنا).
ولا نريد التطويل في الموضوع، والملخّص المفيد هنا أن بعثة الأنبياء والمرسلين ابتداءاً بآدم عليه السلام وانتهاءاً بالرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ومن ثم وصاية الرسول بأمناء يكملون طريقه في إبلاغ علم الله الذي استودعه الرسول هو مسألة ضرورية وحتمية في آن واحد، مثلما نقول ضرورة دوران الأرض حول الشمس وبقاء المسافة ثابتة إلى البعد عن الشمس، لأنه لو انعكس ذلك لما بقي حي على وجه الأرض، والمفهوم ذاته ينطبق على بقية الأمناء المستخزنين لعلم الرسول في حياتهم، ونقصد بهم الأئمة المعصومين عليهم السلام وخاتمهم الإمام المهدي عليه السلام، فهم أيضاً ضرورة لا تنفصل عن بعثة الأنبياء والمرسلين في غايتها، باستثناء أن العلم الضروري للبشرية أحضر في الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والأئمة عليهم السلام إنما يبلغون عن الرسول ويحدّثون عنه بالعلم اللدنّي الذي رُزقوه من الله تعالى شأنه العزيز، ولا يضيفون منهم ويجتهدون في الأحكام، إذ أن لله تعالى في كل واقعة حكم، فلا مجال لاجتهاد المجتهدين وقياسات المبطلين لوحدة تسلسل مفردات بناء الشريعة ككل. أما الاجتهاد في عصر الغيبة الظاهرية للإمام عليه السلام فالاجتهاد في الأحكام الشرعية، وهو بإذن الإمام المعصوم عليه السلام يهدف إلى كشف الأحكام الظاهرية على أمل مطابقتها للحكم الواقعي الذي لا يكون معلوماً بتفصيلاته إلا للإمام المهدي عليه السلام، وهو مرحلة مؤقتّة ورخصة أذن الله تعالى بها تيسيراً للأمة ولإقامة الحجة الشرعية عليها. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والحمد لله رب العالمين.

 

 

الهوامش:
ـــــــــــ
(1) الرعد: الآية 7.
(2) سورة الأحزاب: آية 62.
(3) الأنعام: آية 34.
(4) أنظر مثلاً كتاب الإمامة والتبصرة من الحيرة للفقيه المحدّث أبي الحسن علي بن الحسين بن بابوية القمي.
(5) سورة الحجر: الآية 19.

العدد: ٦ / رجب / ١٤٢٧ هـ : ٢٠١٣/٠٨/٠٥ : ٦.٨ K : ٠
: د. أسامة عبد الباقي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

لتحميل أعداد المجلة (pdf):