دراسات / كيف تكون منتظراً حقيقياً؟
كيف تكون منتظراً حقيقياً؟
ـ الحلقة الأولى ـ
بقلم/ السيد محمد القبانجي
مدير مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام
في هذه الأجواء المشحونة بالصراع العقائدي لا بدّ للإنسان أن يدلي بدلوه ويعلو بحجته ويجادل بالتي هي أحسن فـي سـبـيل بـنـاء عـقـيدة رصـيـنـة مـسـتـمدة من الأدلة العقلية والنقلية، بعيدة عن جنوح العاطفة وإفرازات التمذهب.
ولكن الحديث عن الإمام المهدي عليه السلام يختلف باختلاف الثقافة التوعوية التي يحملها المخاطب والأسس والتراكمات التي بُنيت عليها شخصيته العقائدية, فالخطاب الموجّه إلى الفرد المنتظِر خطاب يفترض به أن يكون قد تجاوز مرحلة النفي والإثبات والنقض والإبرام والدليل والدليل المعاكس.
فإن الحديث العلمي وبسط النظريات ومطارحة الأفكار والرأي والرأي الآخر يكون ضرورياً ومعطاءاً إذا كانت تركيبة المتلقي الثقافية وموروثاته العقائدية مخالفة ومتضاربة في خطوطها العريضة مع البنية العقائدية للمتكلم. إذن للحديث العلمي مجاله الخاص مكاناً وزماناً فإن بالامكان أن يؤتي ثماره إذا كان هناك من يخالفك في الفكر والعقيدة، وإنّ حديث النفي والإثبات يؤتي أكله إذا كان هناك من أعرض عن آيات الله تعالى الدالة على طرح الإصلاح العالمي كضرورة تأريخية وسنّة إلهية كما يعبر عنها الشهيد الصدر.
أما إذا اُريد للحديث أن يكون مع المنتظرين وللمنتظرين فقط فسيأخذ منحى وطريقاً آخر، وسيكون له مذاقه الخاص ولونه المنفرد، لأن المتلقي مهيأ ومعدّ لمثل هذه الاطروحة أساساً، فتراه يحمل في قلبه العقيدة المهدوية متطلّعاً إلى مولاه تطلّعه لاشراقة الشمس في أوّل إطلالها وجمال بزوغها.
إذن فليس من الصحيح البداية من الصفر والبحث في قضية هي أساساً من المسلمات عند المخاطَب، فيكون فضولاً من القول وتحصيلاً للحاصل بتعبير المناطقة.
فلا بدّ أن يكون مجرى الحديث عاطفياً تعبوياً مع مَن حمل في فكره عقيدة الانتظار وآمن بها في قلبه، فنحن لسنا بحاجة _ مع المنتظرين _ إلى دليل يثبت لنا أصل وجود الإمام عليه السلام وولادته وأنه حي يرزق ليومنا الحاضر وحتّى يأذن الله تعالى له فيخرج ليملأها عدلاً وقسطاً كما ملأت ظلماً وجوراً, نعم نحن لسنا بحاجة إلى كل هذا بقدر ما نحن بأمسّ الحاجة إلى معرفة حقيقة الإمام ومقامات الإمام والإمامة, نحن بحاجة إلى الالتفاف حول الإمام... إلى حبّ الإمام... إلى عشق الإمام عليه السلام.
وليس المقصود من حب الإمام هو الإعتقاد بوجوب محبته، فإنها من القضايا الضرورية في الفكر الإسلامي (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وهكذا ليس المقصود هو التلفظ بها وطروّها على اللسان، فإن الأمر إذا كان بهذا الحد فهو سهل يسير. لكن المقصود والذي يسعى الفرد المنتظر _ وكذلك المجتمع المنتظر _ إلى تحقيقه والوصول إليه هو جوهر الحب ولبّه وأصل العشق ومعدنه ومنبت الوله ومركزه.
لا بدّ للمنتظر من السعي الجاد والفاعل لاستشعار حضور الإمام عليه السلام وتنسّم عبيره الفواح والهيام به والشوق للقياه، وأن لا يقرّ له قرار ولا يهنأ له عيش ولا يهدأ له بال ولا يرقأ له دمع إلاّ باكتحال نواظره بطلعته الرشيدة وغرّته الحميدة.
حقيقة الحب:
الحب الحقيقي هو أن يحترق القلب ثمّ يحترق حتّى يذوب في هوى محبوبه، الحبّ ليس كلمات تنمّق ولا عبارات تزيّن ولا أحرفاً تكتب.
الحب لا تسعه الكلمات ولا تحيط به الحروف ولا تستوعبه العبارات، فهو إحساس وشعور واحتراق وذبول وسهر الليل وفكر النهار وشخوص البصر بانتظار رؤية الحبيب، وذهاب الفكر سعياً لرضاه، وخوض المخاطر في سبيل لقياه.
الحب هو حزن القلب وابتسامة الثغر، هو أنين الكتوم وصَرخة الموتور, الحب هو تتبع حركات المحبوب وسكناته والأنس بألم الفراق على أمل اللقاء.
ما أروع صورة الحب وهي تتجلى في زيارة (آل ياسين) حيث تلتهب عواطف المحب وتجيش لواعج عشقه فيبعث بسلامه ليس إلى شخص الحبيب فحسب بل لكل سكناته ولحظات حياته وخفقات قلبه، فتراه يقول: (السلام عليك في آناء ليلك وأطراف نهارك... السلام عليك حين تقوم، السلام عليك حين تقعد، السلام عليك حين تقرأ وتبين، السلام عليك حين تصلّي وتقنت، السلام عليك حين تركع وتسجد، السلام عليك حين تحمد وتستغفر، السلام عليك حين تهلّل وتكبّر، السلام عليك حين تُصبح وتُمسي، السلام عليك في الليل إذا يغشى والنهار إذا تجلّى...).
نعم هذا هو كُنه الحب ومعدنه وأصله وفرعه ومبدأه ومنتهاه.
من هنا يجب أن نبدأ المسير وتتحرك قافلة المنتظرين ونتعلّم كيف نحب وكيف نعشق، فنحن بحاجة إلى مناجاة الإمام وعطفه ورأفته. نحن بحاجة إلى استشعار حضور الإمام عليه السلام لا مجرد وجوده المقدس. نحن بحاجة إلى التعلّم خطوة بعد خطوة ومرحلة تلو أخرى من أجل الوصول إلى الهدف المنشود والعلم المنصوب والأمل المصبوب والغوث والرحمة الواسعة.
فكما أن العلم يحصل بالكسب والتعلّم، فهكذا العاطفة الصادقة والحبّ الصافي والعشق الخالص لا يأتي جزافاً، بل لا بدّ له من السير والسلوك والجدّ والاجتهاد والحركة والمثابرة في طريق رسمه لنا أئمّة الهدى، وخطّه لنا قادة الورى، وثابر على سلوكه العلماء، وثبت على نهجه العرفاء، وولج في بحر أمواجه الأولياء.
فلا بدّ للوالج في أعماق الحب، والواله في غمراته أن يسلك الطريق ويحثّ الخطى ويديم المسير _كما أسلفنا_ للوصول إلى بركان الحب الحقيقي ومنبع الفيض المهدوي.
إشارة:
قد يصل البعض _ وهو القليل النادر _ ويرتقي بمدارج الوله والعشق من دون اعتماد الطرق والوسائل التي سنذكرها، وما ذاك إلاّ بعناية خاصة ونظرة عاطفة ونفحة قدسية من ينبوع الحب ومعدن العشق، لأن هذه الإشارات والاضاءات ما هي إلاّ مقدمة موصولة _كما يعبر عنها الأصوليون_ فمن وصل إلى ذي المقدمة بدونها فبإمكانه الاستغناء عنها، وإن كانت تفيده في الثبات والزيادة، فإن مَن وصل في سيره وسلوكه يحتاج إلى الاستقرار، فليس كل من وصل استقر، ولا كل من عرج ثبت.
وهكذا فإن الواصل محتاج دائماً إلى الزيادة لأن المحبوب متّصل بغير المحدود، فيكون حبه لا حدود له, فلو وقف سبقه الآخرون، ولو لم يتزوّد تجاوزه العاشقون.
والخلاصة إن هذه الطرق ضرورية لمن وصل إلى النبع ولمن لم يصل، فهي للأوّل زيادة في الكمال وللثاني أساس للمسار.
الطريق الأوّل معرفة الحبيب:
ينبغي لنا قبل الحديث عن أقسام المعرفة وأنواعها أن نشير إلى الفارق بين العلم من جهة والمعرفة من جهة أخرى، حيث أن المعرفة وإن كانت فرع العلم إلاّ أنها تمتاز عنه بخصوصيات وميزات ارتقت بها لتكون محطّاً لنظر أهل البيت عليهم السلام، فمن هنا كان تأكيدهم عليها ولفت نظرهم إليها في الكثير من أحاديثهم ورواياتهم, ففي رواية الصدوق كما جاء في أماليه عن الصادق عليه السلام: (لا يقبل الله عملاً إلاّ بمعرفة, ولا معرفة إلاّ بعمل, فمن عرف دلّته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له, إن الإيمان بعضه من بعض).
هذا الترابط والتلاحم الوثيق بين المعرفة والعمل لا نجده متوفراً وحاصلاً بين العلم والعمل حيث يمكن افتراق الأوّل عن الثاني كما جاء في الحديث الشريف: (العلم بلا عمل كالشجرة بلا ثمر).
فهو صريح بإمكانية فصل العلم عن العمل، بينما نلاحظ أن هناك ترابطاً ذاتياً وتلائماً عضوياً بين المعرفة والعمل، فالعمل من مقومات وذاتيات المعرفة وهي بدونه تسلخ عن هويتها (فلا معرفة إلاّ بعمل)، (ومن لم يعمل فلا معرفة له).
إذن تحصّل من كل هذا أن العلم والذي هو (إنطباع صورة الشيء في الذهن) كما يعرّفه المناطقة ليس بالضرورة أن تكون فيه جنبة عملية ودافع حركي، بخلاف المعرفة فإنها تتفاعل ذاتياً مع العمل وتنسجم عضوياً مع الحركة الميدانية.
ويمكن أن نلاحظ مائزاً آخر بينهما، وهو أن المعرفة فيها جنبة شهودية وكاشفية باعتبار تولّدها من القلب، فهي ليست وليدة الفكر، بخلاف العلم فهو تراكم معلومات وحركة العقل بينها وبين المجاهيل, فلذا لا يمكن أن تكون المعرفة حجاباً بخلاف العلم, فما أكثر ما يحجب الإنسان من الوصول إلى ربه ويبقى غارقاً في عالم الألفاظ, لذا نقرأ في المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين عليه السلام: (إلهي هَب لي كمال الانقطاع إليك وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك) فـهـي إشـارة واضحة إلى كون العلم لا يمتلك ولا يختزن في طياته الحالة الكشفية، فهو في أفضل مراتبه يشكّل (حجاباً نورانياً) وهذا ما يميزه عن الجهل باعتبار الأخير (حجاباً ظلمانياً)، ولا يمكن أن يكشف هذه الحجب النورانية إلاّ المعرفة القلبية ونور البصيرة كما أشارت إليه المناجاة.
ولذلك كانت المعرفة من أهم الركائز التي بُنيت عليها أسس الهداية، وهذا ما نجده واضحاً وجلياً في دعاء المعرفة حيث يقول: (اللهمّ عرّفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيّك, اللهمّ عرّفني نبيّك فإنك إن لم تعرفني نبيّك لم أعرف حجّتك، اللهمّ عرّفني حجّتك فإنك إن لم تعرفني حجّتك ضللتُ عن ديني). فالضلالة والغرق في بحار الظلمة ناتج عن عدم المعرفة. وحينما نلاحظ الدعاء وربطه بين معرفة الحجة وبين النجاة من الضلال يتبيّن لنا العنصر الوحيد المنجي والمنقذ في الدارَين والمحور الأساس التي تثمر معه معرفة الله ورسوله، ألا وهو (معرفة الإمام). بل نستطيع القول أن لا معرفة بالله ورسوله بدون معرفة الإمام, إذ كيف يعرف الأوّل والثاني وهو ضال عن الدين, وهل الضلال عن الدين إلاّ جهل بهما؟
ويمكن اختزال محاور المعرفة في نقطتين:
1 _ معرفة مقامات الإمام المهدي عليه السلام.
2 _ معرفة حقه على الخلق.
ومن الحسن إلفات النظر إلى أنه كلّما سبرنا غور مقامه وعرفنا جزءاً من حقيقة كنهه زادت حقوقه علينا وكثرت مسؤليتنا تجاهه.
من الممكن أن تتداخل بعض مقاماته لتشكل إحدى الوسائل في إثبات حقوقه على الخلائق.
1 _ معرفة مقامات الإمام المهدي عليه السلام:
لا بدّ لنا من إعطاء ضابطة عامة، وهي ضرورية للدخول في خضم هذه الأنوار الألهية والفيوضات الربانية، وهي أنه لا يمكن لغير المعصوم أن يعرف المعصوم حقّ معرفته ويكون على إطلاع تام بكل مقاماته وقربه, فهذا مما لا يمكن، إذ أن العصمة كمال ولا يمكن معرفة الكمال لمن هو محتاج إليه, ولهذا نجد الزيارة تؤكد على ذلك، فنقرأ بزيارة صاحب العصر عليه السلام: (السلام عليك يا حجّة الله التي لا تخفى, السلام عليك يا حجّة الله على من في الأرض والسماء, السلام عليك سلام من عرفك به الله ونعتك ببعض نعوتك التي أنت أهلها وفوقها... ).
مما يعني أن هناك بعض الحقائق لا يمكن الوصول إليها وبعض الجوانب الحقيقية في عظمة الإمام المهدي عليه السلام.
والتعمق بزيارة الجامعة يرشدنا إلى حقائقهم النورانية، فنلاحظ هذا المقطع من الزيارة الكريمة: (كلامكم نور, وأمركم رشد, ووصيّتكم التقوى, وفِعلكم الخير, وعادتكم الإحسان, وسجيّتكم الكرم, وشأنكم الحقّ والصدق والرفق, وقولكم حكم وحتم, ورأيكم علم وحلم وحزم, إن ذُكر الخير كنتم أوّله وأصله وفرعه ومعدنه ومأواه ومنتهاه, بأبي أنتم وأمي ونفسي، كيف أصف حُسن ثنائكم وأُحصي جميل بلائكم...) حيث تدرّج الإمام عليه السلام في بيان بعض حقائقهم والتي تنطبق على إمامنا وسيدنا صاحب العصر والزمان عليه السلام.
وذلك من خلال تقسيم مراتب الموصوف إلى ثلاثة مقاطع، حيث وصفتهم الزيارة في مقطعها الأوّل بتسعة أوصاف كل واحد منها غاية في العظمة ويعجز الآخرون عن الإتصاف بها بشكل تام, ثمّ لمّا عجزت الكلمات وضاقت المصاديق عن الإحاطة بعلو شأنهم وجلالة قدرهم استعاض الإمام الهادي عليه السلام عن المصاديق المتكثّرة الحاكية عن علوّ مقامهم بمعنى جامع وشامل ينطبق على كل الصفات والنعوت المذكورة وغيرهما، وذلك في المقطع الثاني فقال: (إن ذُكر الخير كنتم أوّله...) فالخير اسم جنس يحوي جميع الكمالات، ولكن هل يا ترى قد استوعب بعد حقيقة الإمام عليه السلام ؟ كلا, لذا نجد الزائر يعترف بالعجز ويقرّ بالقصور فيتحول من الإخبار ببعض مقاماتهم ونعوتهم إلى التساؤل والحيرة أمام هذه الأنوار فيقول: (بأبي أنتم وأمي ونفسي كيف أصف حُسن ثنائكم وأُحصي جميل بلائكم) كما هو في المقطع الثالث من الزيارة.
2 _ حقوق الإمام المهدي عليه السلام على الخلق:
ذكرنا سالفاً أن معرفة الحقّ كلما ازدادت وتعاظمت كان ذلك موجباً لبيان عظم شخصية صاحب الحقّ, فهي من جهة تشترك مع الفقرة الأولى في بيان مقام الإمام المهدي عليه السلام ، ومن جانب آخر فهي مدعاة للوصول والارتباط إليه, فمن الواضح أن الارتباط يختلف شدّة وضعفاً بالسبب الموصل والرابط المقرب, فيتغير طردياً باختلاف الرابط قوة وضعفاً.
ومن هنا كان لا بدّ لتمتين وتأصيل العلاقة وتركيزها في نفس المنتظر من بيان ومعرفة الحقّ الذي عليه تجاه الإمام عليه السلام ، وقد ذكر الكثير في هذا الشأن في كتاب (مكيال المكارم في الدعاء للقائم) للميرزا الاصفهاني وهنا نذكر نبذة منها للفائدة.
فنقول:
الأوّل: حق الوجود:
كما في توقيع الإمام المهدي عليه السلام المروي في الإحتجاج: (ونحن صنائع ربنا والخلق بَعدُ صنائعنا) (البحار 53). ويحتمل الحديث عدة معان منها: ما روي في الاحتجاج، أنه اختلف جماعة من الشيعة في أن الله عز وجل فوّض إلى الأئمّة صلوات الله عليهم أن يخلقوا ويرزقوا.
فقال قوم: هذا محال لا يجوز على الله تعالى، لأن الأجسام لا يقدر على خلقها غير الله عزوجل, وقال آخرون: بل الله (عزوجل) أقدر الأئمّة على ذلك وفوّض إليهم فخلقوا ورزقوا، وتنازعوا في ذلك نزاعاً شديداً.
فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلى أبي جعفر محمّد بن عثمان, فتسألونه عن ذلك ليوضح لكم الحقّ فيه فإنه الطريق إلى صاحب الأمر، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلّمت وأجابت... إلى قوله... فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقيع نسخته: إن الله تعالى هو الذي خلق الأجسام وقسّم الأرزاق لأنه ليس بجسم ولا حالّ في جسم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وأمّا الأئمّة عليهم السلام فإنهم يسألون الله تعالى فيخلق، ويسألون فيرزق، إيجاباً لمسألتهم وإعظاماً لحقّهم. (الإحتجاج: ج 2).
يشير هذا التوقيع الشريف الصادر من الناحية المقدسة إلى وسائطية أهل البيت عليهم السلام في ايصال الفيوضات الإلهية إلى سائر المخلوقات, وإلى هذا تضمّنت الإشارة أيضاً في دعاء الندبة: (أين السبب المتّصل بين الأرض والسماء). ونسبة الفعل إلى السبب والواسطة كثيرة جداً في العُرف واللغة.
المعنى الثاني: أنه العلة الغائية والغرض الحقيقي من خلق جميع ما أنشأه الله تعالى من عالم الإمكان. وممّا يؤيد هذا المعنى بأنهم عليهم السلام العلة الغائية للخلق الكثير من الروايات منها حديث الكساء المشهور.
ونكتفي في بيان هذا الحقّ على هذا القدر ونعتقد بأنه يفي للتدليل على أن من حقّه عليه السلام على الخلق هو (حق الوجود).
الثاني: حق البقاء:
إضافة إلى أن حق الوجود هو من حقوق الإمام والحجة علينا، فإن استمرارية الوجود وبقاء عالم الإمكان مرتبط بالحجة، والحديث في الكافي الشريف بسند صحيح عن الوشاء قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام: هل تبقى الأرض بغير إمام؟ قال: (لا), قلت: إنا نروي أنها لا تبقى إلاّ أن يسخط الله عز وجل على العباد. قال: (لا تبقى إذاً لساخت) (الكافي: ج 1؛ البحار 23).
وفيه أيضاً عن أبي عبدالله عليه السلام: (لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت) ومن الواضح أنه ليس المقصود بالأرض هي مجرد هذا الكوكب الذي نعيش عليه، بل هو مجرد مثل للحياة, والمقصود أن منبع الحياة سوف ينضب باعتبار أن الأرض هي مركز الحياة والخلافة الإلهية.
وجاء في غيبة النعماني عن الصادق عن أمير المؤمنين عليهما السلام: (واعلموا أن الأرض لا تخلو من حجة لله عز وجل ولكن الله سيعمي خلقه عنها بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم ولو خلت الأرض ساعة واحدة من حجة الله لساخت بأهلها).
الثالث: حق القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
ففي سورة الشورى (23): (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وفي حديث نداء القائم عليه السلام حين ظهوره في مكّة يسند ظهره الشريف إلى الكعبة ويكلم الناس ويقول: (وأسألكم بحقّ الله وبحقي، فإن لي عليكم حقّ القربى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) (غيبة النعماني).
الرابع: حقّ المنعم على المتنعم وحقّ واسطة النعمة:
ففي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أتى إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له حتّى تعلموا من أنفسكم أنّكم كافأتموه) وقد اجمتع الحقّان لمولانا صاحب العصر والزمان عليه السلام فإن ما ينتفع به أهل كل زمان إنما هو ببركات إمام زمانه عليه السلام كما جاء في الزيارة الجامعة: (وأولياء النعم).
وفي دار السلام من كتاب بصائر الدرجات عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليهما السلام: (يا أبا حمزة لا تنامنّ قبل طلوع الشمس فإني أكرهها لك، إن الله يقسّم في ذلك الوقت أرزاق العباد وعلى أيدينا يُجريها).
وفي الكافي الشريف عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إن الله خلقنا فأحسن خلقنا، وصوّرنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزانه في سمائه وأرضه, بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض وبعبادتنا عبد الله ولولا نحن ما عبد الله).
الخامس: حقّ الوالد على الولد:
فإن الشيعة مخلوقون من فاضل طينتهم كما أن الولد مخلوق من صلب والده، ففي الكافي الشريف عن الرضا عليه السلام: (الإمام الأنيس الرفيق والوالد الشفيق).
وفيه أيضاً عن أبي عبد الله عليه السلام: (إن الله خلقنا من عليين، وخلق أرواحنا من فوق ذلك، وخلق أرواح شيعتنا من عليين، وخلق أجسادهم من دون ذلك، فمن أجل ذلك القرابة بيننا وبينهم قلوبهم تحنّ إلينا).
وفي إكمال الدين عن عمر بن سالم صاحب السابري قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية (أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ).
قال: (أصلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفرعها أمير المؤمنين عليه السلام ، والحسن والحسين ثمرتها، وتسعة من ولد الحسين أغصانها، والشيعة ورقها. والله إن الرجل منهم ليموت فتسقط ورقة من تلك الشجرة). وإلى هذا المعنى يشير الشاعر (أبو يعقوب النصراني) بقوله:
يا حبّذا دوحة في الخُلد نابتة *** ما مثلها نبتت في الخُلد من شجرِ
المصطفى أصلُها والفرع فاطمة***ثمّ اللقاح عليّ سيّد البشر
والهاشميّان سبطاه لها ثمرٌ***والشيعة الورق الملتفّ بالثمر
هذا مقال رسول الله جاء به***أهلُ الرواية في العالي من الخبر
إني بحبهّم أرجو النجاة غداً***والفوز مع زمرة من أحسن الزمر
السادس: حقّ الإمام على الرعية:
في الكافي الشريف ج 1 بإسناده عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام: ما حقّ الإمام على الناس؟
قال عليه السلام: (حقّه عليهم أن يسمعوا له ويطيعوا).
وفي خطبة أمير المؤمنين عليه السلام المروية في روضة الكافي, قال عليه السلام: (أما بعد فقد جعل الله تعالى لي عليكم بولاية أمركم ومنزلتي التي أنزلني الله عزّ ذكره بها منكم... إلى أن قال: فأعظم ما افترض الله تبارك وتعالى من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية).
وكما قلنا, فهناك الكثير من الحقوق لا نذكرها طلباً للاختصار ويمكن مراجعتها في مظانّها من الكتب المختصة.
إلى هنا نكتفي بالعنصر والطريق الأوّل من عناصر الوصول والارتباط بالإمام المهدي عليه السلام وهو المعرفة بالمقام أوّلاً ثمّ بالحقوق، لننتقل إلى الطريق والعنصر الثاني من عناصر الارتباط والتعلّق وهو (دوام الذكر للإمام المهدي عليه السلام) في حلقة لاحقة.