دراسات / الإمام المهدي عليه السلام في المنطق الفلسفي
الإمام المهدي عليه السلام في المنطق الفلسفي
سماحة السيد عبد الستار الجابري/ باحث في المركز
هناك أدلة عقلية على ضرورة ثبوت حقيقة وجودية ذات مرتبة كمالية عالية تقوم بدور ايصال الفيض من المفيض الحقيقي ـ الله عز وجل ـ إلى المراتب التي هي دون تلك المرتبة الوجودية.
والبحث يقع في تشخيص الملاك في المرتبة الوجودية كي يَستحق صاحب تلك المرتبة ان يكون واسطة في الفيض الإلهي.
وقبل الدخول في تشخيص ملاك الوساطة يجدر البحث عن نوع هذه القضية كي يمكن معرفة المنهج العملي الذي يتعين اتباعه في البرهنة على مسألتنا.
بصورة عامة ان القضايا إما ان تكون اعتبارية او تكوينية.
والقضايا الاعتبارية لا حقيقة لها وراء اعتبار المعتبر، فمثلاً ملكية الدار أمر اعتباري اذ ليس في الواقع الا الشخص والدار، أما الملكية فهي اعتبار تشريعي يحدد طبيعة العلاقة بين الشخص وداره من جواز السكن والبيع والاجارة وغيرها من انحاء التصرفات.
أما القضايا التكوينية: فهي قضايا ثابتة في الواقع سواء وجد المعتبر أم لم يوجد فالشمس موجود تكويني سواء وجد من يعتبر أن هذه شمس أم لا، وكونها مصدراً من مصادر الطاقة الحرارية أمر تكويني أيضاً لا ترتب فيه على الاعتبار.
ويمكن أن نميّز بطريقة أخرى بين القضيتين ان القضايا الاعتبارية يكون موضوعها تصرفات الانسان وتنظيم علاقاته بما هو موجود على أسس قانونية، أما الأمور التكوينية فهي الأمور المتحققة بنفسها دون الحاجة إلى أي اعتبار قانوني أو تشريعي.
ومن هنا يتضح أن قضية وساطة الفيض قضية تكوينية وليست اعتبارية لأن الوساطة متقدمة زماناً على وجود المعتبر، فالاعتبار متأخر عنها لأنه فرع وجود المعتبر ولا يمكن إخضاع المتقدم وجوداً لما هو معلول له ومتفرع عليه. وحيث ان قضية الوساطة ليست اعتبارية فهي تكوينية ولما كانت كذلك فالأمور التكوينية يمكن اثباتها بأحد طريقين:
الأول: هو العلوم التجريبية وموضوعها المادة المحضة والمتعلق بالمادة.
الثاني: العلوم غير التجريبية والتي تبحث بحوثاً عقلية بحتة مجردة عن المادة.
والطريق الأول لا يمكن من خلاله إثبات وساطة الفيض ولا الخصوصيات المطلوبة في واسطة الفيض لأن العلوم التجريبية إذا كان موضوعها المادة المحضة كالتجربة المراد إثبات علاقة الضغط بحجم الغاز من خلالها فيثبت فيها دائماً ان العلاقة عكسية بين الضغط وحجم الغاز، فكلما ازداد الضغط قلّ الحجم، أو أن الجسم يتمدد بالحرارة ويتقلص بالبرودة، وهذا الطريق موضوعه البحث عن خواص المادة بعد وجودها ولا يتناول البحث عن أصل وجود المادة وكيفية إفاضة الوجود عليها، وأما ما كان موضوعها ما هو متعلق بالمادة كالمحاولات التي يقوم بها علماء النفس في تسخير قوى النفس الانسانية والاستفادة من طاقاتها الكامنة كما في البحث في عملية التخاطر أو التنويم المغناطيسي وأشباهها فالبحث عنها عن إثارة الطاقة الكامنة وتسخير القوى العظيمة عند الانسان بعد الغاء الحس وإضعاف دوره، وهذا المنهج لا يمكنه إثبات مسألة وساطة الفيض ولا خصوصيات الواسطة. فانحصر الدليل على إثبات واسطة الفيض وكشف خصوصياتها بالمباحث العقلية التي تتناول أصل الوجود.
الدليل الفلسفي ينص على ضرورة وجود سنخية بين العلة والمعلول ويتفرع عليه ان الواحد لا يصدر منه الا واحد.
ومعنى السنخية ان هناك مماثلة بين العلة ومعلولها، وهذه المماثلة ضرورية، لأنه في حال عدم اشتراط السنخية بين العلة ومعلولها فحينئذ يمكن لكل شيء ان يكون علة لكل شيء فالنار ـ على فرض عدم اشتراط السنخية ـ يمكن ان تكون علة للإنجماد مع اننا نجد في الواقع ان المماسة مع النار تكون سبباً لارتفاع درجة حرارة الجسم الملامس بينما الإنجماد نتيجة لفقدان الجسم لحرارته.
كما يمكن بناءً على عدم اشتراط السنخية أن يكون الماء علة للاشتعال مع أن الماء يكتسب الحرارة ولا يهبها.
فمن هنا يثبت أن السنخية بين العلة والمعلول شرط ثابت تكويناً وحيث أن علة العلل هو الله تبارك وتعالى وان الله تعالى واحد من جميع الجهات وليس فيه جهة كثرة وبناء على لزوم السنخية فيكون الصادر عنه واحداً أيضاً، وان الصفات الموجودة في المرتبة الواجبة موجودة في الصادر الأول ولا تختلف مرتبة الصادر الأول عن مرتبة الوجود الواجب إلا بالوجوب والامكان، فالمرتبة الواجبة واجبة الوجود بالذات اما مرتبة الصادر الأول فهي ممكنة بالذات اما بقية الصفات فانها موجودة في مرتبة الصادر الأول فالواجب عالم والصادر الأول عالم والواجب حي والصادر الأول حي والواجب مريد والصادر الأول مريد والواجب مختار والصادر الأول مختار والواجب له القيومية على جميع الموجودات والصادر الأول له القيموية على ما دونه من المراتب الوجودية.
ومن هنا يتضح لنا كما ان الصادر الأول في وجوده وبقائه مفتقر إلى الواجب تبارك وتعالى لأن الممكن محتاج إلى علته وجوداً وبقاءاً فكذلك المراتب الوجودية التي هي دون مرتبة الصادر الأول محتاجة في وجودها وبقائها إلى الواجب تبارك وتعالى وإلى الصادر الأول لأن المعلول محتاج في وجوده وبقاءه إلى العلة الأولى والى العلل المتوسطة، فالبذرة تحتاج إلى الماء لكي تنبت وتتحول إلى شجرة فالماء ليس الا علة متوسطة في هذه العملية التكوينية وليس هو العلة الحقيقية إذ العلة الحقيقية هي الله تبارك وتعالى وإلاّ من الذي أوجد الماء ومن الذي أوجد القابلية في البذرة على النمو بل من أوجد أول شجرة وأول بذرة.
كذلك في بعض الأحيان يكون الفلاح علة معدة لوجود النبتة في هذا المكان دون ذلك وذلك بسبب اختياره، ولذا العلل المتوسطة والعلل المعدة بعضها مختار كالفلاح والآخر مجبر كالماء والبذرة.
وجميع هذه العلل المتوسطة والمعدة محتاجة في وجودها وبقائها إلى الصادر الأول لأنه هو الذي يوصل اليها الفيض الإلهي وحيث انه عالم مختار فهو علة مختارة لها القيومية على ما دونها من المراتب باذن الله تبارك وتعالى. كما ان هذه العلة ليس مادية بل هي عقل محض، ولا تعلق لها بالمادة بل المادة مفتقرة إليها في وجودها وتحققها.
هذا غاية ما يمكن استفادته من الدليل العقلي وهو ضرورة وجود واسطة في الفيض وأنه جوهر عقلي مجرد ليس بمادي ولا متعلقاً بالمادة وهو فاعل مختار محتاج إلى الله تعالى وله القيومية على ما دونه من المراتب.
السؤال الآن هل لنا أن نعرف المناط في استحقاق الصادر الأول مرتبة الوساطة في الفيض والجواب على ذلك اننا في سبيل الكشف عن هذه الحقيقة نحتاج إلى اخبارات من الله تعالى اما بالمباشرة أو بالواسطة أي اما ان يكون النص من الله تعالى كما في القرآن الكريم أو عمن يخبر عن الله تعالى وهو المعصوم عليه السلام.
وبالرجوع إلى الروايات نجد اشارة إلى هذا المطلب حيث ورد في البحار ان جابر بن عبد الله الأنصاري رضوان الله عليه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أول شيء خلق الله ما هو؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير.(1)
فالرواية تقول ان الصادر الأول عن الله تعالى هو نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم خلق الله تعالى من نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل المخلوقات الأخرى.
فمن هذه الروايات يتضح ان نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم علة مادية لجميع المخلوقات التي هي أدون مرتبة من مرتبة واسطة الفيض.
المراد من العلة المادية منشأ الشيء فمثلاً الخشب علة مادية للكرسي المصنوع من الخشب والحديد علة مادية للسرير الحديدي وهكذا، ونور النبي صلى الله عليه وآله وسلم علة مادية لجميع الموجودات الامكانية، طبعاً ليس المراد من العلة المادية ان يكون هو بذاته مادياً لأن نور النبي صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة مجردة عن المادة ولهذا نحن لا نحس في وجودنا بنور حسي، فالنور هنا في وجود العالم الامكاني كالطين لوجودنا البشري فالقرآن الكريم ينص على أن البشر مخلوق من طين، ولكن لو بحثنا في أجسادنا لا نجد طينا بل نجد لحماً وعظماً ودماً وشعراً ومواد دهنية اما الطين فلا نشعر بوجوده ولا نحس به.
فمن هذه المقدمة يتضح ان الذي له أهلية أن يكون واسطة في الفيض هو ما كان له مقام نوري فمن كان له هذا المقام تحقق فيه الملاك في أن يكون واسطة في الفيض والا فلا يستحق مقام الوساطة.
ولكي نعرف من كان له في عالم الخلقة وجود نوري ومقام نوري علينا أن نرجع إلى النصوص لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لولا النصوص الدالة على مقامه النوري لم يمكن لنا اثبات هذا المقام له.
هناك عدد كبير من الروايات ينص على المقام النوري للأئمة عليهم السلام منها ما روي عن الجارود بن المنذر الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الحديبية وأسلم على يديه وسأله عن الأشخاص الذين كان قس بن ساعدة يحدثهم عنهم فاجابه صلى الله عليه وآله وسلم:
(ثم أوحي إلي أن التفت عن يمين العرش فالتفت فاذا علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والمهدي في ضحضاح من نور يصلون).
هذه الرواية كانت بعد صلح الحديبية أي في سنة سته للهجرة النبوية وكان الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يولدوا بعد إذ لم يولد منهم في ذلك الوقت سوى أمير المؤمنين والحسنين عليهم السلام، والحديث كان عن العالم العلوي، فالحديث لم يكن عن وجودات جسمانية بل كان عن حقائق نورية، ومن هنا يثبت لنا ان المهدي عجل الله فرجه له مقام وساطة الفيض بسبب تحقق ملاك وساطة الفيض فيه وهو وجوده النوري ومرتبته النورية.
وبضم هذه الروايات إلى الروايات الناصة أن الأرض لا تخلو من حجة والا لساخت بأهلها وأن الحجة لا يكون الا معصوماً فينحصر المهدي بالشخص الذي يكون ولداً مباشراً للإمام العسكري صلوات الله وسلامه عليه.
الهوامش:
ــــــــــــــــــــ
(1) البحار ج15 ص 24.