الأدب المهدوي / قصة قصيرة حُلم يحرق المسافات
قصة قصيرة
حُلم يحرق المسافات
عقيلة آل حريز ـ السعودية/شعبان 1427/كاتبة وأديبة وصحفية
غادرت القصر على عجل حين خرجت منه، لم تحمل شيئاً معها سوى روحها التي توافقت مع عقلها سعياً وراء حلم.. أكان حلماً إذاً ذاك الذي نبهها من غفلة كانت تعيشها، فأخرجها من نعيم الدنيا وزخرفها إلى حيث انتهت هنا في سوق النخاسين كجارية، ومن أجله وحده زهدت كل مباهج النعيم والترف.. قصور جدها قيصر ملك الروم، وحدائقه الغناء وجواريه الحسناء، ووصائفه وعبيده وخدمه وهالة من الحفاوة تحيط بها، ثم احتفال بزواج عريق كانت العدة تُعد من أجل إتمام مراسيمه، يترقبه الأمراء والأجناد وقواد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر، وتحسدها عليه بنات الملوك والأشراف من قومها وتزين لأجله شرفات القصر وساحاته فترصع بالحلي والدر والجوهر !.
* * *
الشمس حارقة في بغداد، والصحراء التي عبرتها ترسم فوقها خطوط طويلة، سارتها متلهفة إلى حيث انتهت هنا أخيراً... مرت الأيام عليها سريعاً وكأنها وميض برق خاطف... العيون ممتدة نحوها بلهفة يلسعها الفضول تتطلع لها من وراء الستر الرقيق فتجفل من نظراتها مذعورة، تخبئ نفسها في ظلها وتتراجع للخلف منكمشة لتتكوم مع رفيقاتها من الجواري والإماء المعروضات للبيع... الرجال من حولها يتهامسون بشأنها ويزايدون على رفع سعرها، لكنها بدت مطمئنة وكأنها على يقين تام من أنها لن تكون لأحد سوى من تختار... إن الرجال من حولها يتحدثون عن الربح والخسارة في التجارة، وهم يعنون بذلك تجارة الإنسان كرقيق !.
تساءلت بقلق وهي ترقبهم، هل ستربح هي الأخرى في تجارتها التي غامرت لأجلها بنفسها وهي ابنة الملوك التي لم تعرف ذل الرق والأسر من قبل ؟!... اقترب منها أحدهم يريد لمسها فامتنعت منه منزعجة بغضب.. ضربها (عمر النخاس) بشدة فصرخت متألمة تخشى هتك سترها، أُعجب بها أحد المبتاعين فقال:
- سأدفع لك (يا عمر) ثلاث مائة دينار في هذه الجارية، فقد زادني العفاف فيها رغبة.
ردت عليه بحزم:
- والله لو برزت لي يا هذا في زيّ سليمان بن داود ما بدت لي فيك رغبة أبداً.
تدخل النخاس مستاءً:
- ما الحيلة إذاً أيتها الصبية، ولابد من بيعك في نهاية المطاف لمن سيدفع لي ثمنك؟.
أجابته في صرامة الواثق المعتد بنفسه:
- تريث يا هذا.. لمََِ العجلة ؟!.. لن يبتاعني في النهاية إلا من أرتضيه وتطمئن نفسي إليه.
انتهى بينهما هذا النقاش بلا جدوى، فعادت هي للتأمل في الوجوه من حولها، تنقش الأمنيات فوق ملامحها الجافة لعلها تجد منها إشارة لمن ترتضيه فيهم.. تحدث نفسها بيقين تام عن أمر الخلاص وبأنه سيأتي حتماً، فلم تكن واهمة ولم يكن ذاك مجرد حلم عابث قد طرقها ذات مساء فأخرجها من قمة اتزانها ليلقي بها في قيود الأسر العربي .. إنه حقيقة لازالت تذكر تفاصيلها حتى هذه اللحظة.. لقد أقيم عُرسها تلك الليلة بحضور الحواريين وأشراف العرب وسادتهم، وخطبها سيّد الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم من المسيح ووصيه شمعون إلى أحد أبنائه وهو (الحسن العسكري عليه السلام)، وبعدها زارتها سيدة النساء الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام ومعها مريم ابنة عمران ليباركا لها هذا العرس الميمون، ولتخبراها بأنها ستكون (أُماً غير عادية) لمولود مبارك سيكون المهدي لهذه الأمة والحجة لله على خلقه أجمعين، وهو من سيملأ وجه الأرض عدلاً ورحمة بعد أن تمتلئ جوراً وظلماً.
لأجل هذا وحده أسلمت، وأسمت نفسها (نرجس)... ولأجله أيضاً فرت من القصر هاربة ولحقت بالخدم الذين رافقوا سرية الجيش متنكرة بزي الوصائف والجواري... ولنفس هذا الأمر أيضاً تيقنت أنها ستجد الخلاص هنا قريباً.
* * *
ظلت أحداث ذاك الحلم طازجة في ذاكرتها تستعيدها بوضوح كلما قهرها وأضناها التعب خلال رحلتها الشاقة التي قطعتها، تحمل سرها معها دون أن تٌطلع عليه أحداً من الخلق... وكانت أثناءها تحلم كثيراً وتنتظر تحقيق الحلم الذي تعيشه، وخلال هذه الرحلة الطويلة التي قطعتها ما بين قصور الروم الفاخرة وأسواق النخاسين في بغداد، كان يراودها حلم أشبه باليقين... متسائلة خلاله طويلاً عن هذا الرجل الذي نبئت بأنها ستتزوجه هنا وأنها ستلد منه إماماً وحجة على الخلق في آخر الأزمنة... لكنها ما زالت حتى الآن تشعر بالإعياء بعد أن أرهقتها حمى السير المتواصل، وعلى الرغم من كل الصعاب التي لاقتها إلا أنها لم تفقد هذا اليقين.
استوقفتها الكثير من التساؤلات حين مرت بها مع أفكارها.. فهل كانت تبدو كمن يُحلّق في الفراغ حين أقدمت على هجر حياتها المرفّهة ونعيمها الراغد وملكها المتوارث عن آبائها وأجدادها !؟... وهل هي وحدها من تدرك هذه الحقائق بينما يغفل الكثيرون عنها ؟!... إنها صفقة غريبة تلك التي عقدتها مع حُلمها، بل مغامرة عجيبة تلك التي راهنت عليها بنفسها وحريتها... إذ لازالت تنمو بداخلها تساؤلات حائرة رغم تيقنها به، وفي روحها المحلقة تمتد جذور نبتة عطشة تتطلع نحو سُقيا السماء بماء منهمر بعد طول جدب وقحط.
تبعثرت أفكارها لبرهة وسط سوق النخاسة والزحام... لم تستفق منها تماماً إلا بعد أن ترامى لمسمعها نهاية حديث طويل يبدو أنه كان حولها، واتفاق يٌبرم وشيكاً لبيعها.. حملها الخوف على الإصغاء، فتوسلت للأمل الممتد في روحها حين بدأت تحبس أنفاسها والفزع يسكنها لتستطلع صحته، متسائلة في حيرة:"أتراه يقدم هذا النخاس (عمر) على بيعي لمن لا أريد، ليتخلص مني؟!.. وهل تنتهي حدود رحلتي هذه بقيود الشقاء فأكون الخاسرة الوحيدة فيها، وأنا التي لم تعرف ذل الأسر والرق من قبل؟!..
جئت هنا لأمر أعرف أني خُلقت له، وأن هناك من يحرك القدر لأشغله وحدي دوناً عن بقية النساء في هذه الأرض، رباه.. هل أضيع وتتبعثر بواقي أحلامي وآمالي مـعي فـأكون قـد خـسرت ربـحي بـمـغامـرة لـم أحسب نتائجها جيداً؟!).
لكنها استدركت حين تذكرت بأن الأمر ليس مجرد حلم راودها في بعض الليالي ليغرر بها ويخرجها من جنة الملك إلى جحيم الرق... إنه اليقين الذي سيدخلها إلى الفردوس الأعلى وجنات عدن التي وعدت بها... حين تأكدت من ذلك تنفست بارتياح والتمعت عيناها بوميض الأمل فانعكس إشراقها على وجهها الحالم: (لن يكون الأمر بذاك السوء مطلقاً، فأنا الآن أسير نحو قدري المرسوم ولن ينتهي هذا القدر إلا بخير، فقد وعدني به محمد والمسيح عليهما السلام كما باركته لي الصديّقة فاطمة الزهراء والسيدة مريم العذراء، وسأكون زوجة لسيد شريف وأماً لمن سيغير وجه الأرض وسيصلي خلفه المسيح).
* * *
في هذه الأثناء، اقترب منها النخاس بانزعاج ونفاذ صبر ظاهر:
- (نرجس)، أيتها الجارية لقد أتعبتي قلبي معك، هذا (بشر بن سليمان) النخاس يريد أن يشتريك مني لأحد السادة وقد عرض عليّ فيك مبلغاً نفيساً لن أرفضه مطلقاً، وهو يحمل لك رسالة من سيده، فاقرأيها على مهل وقرري مصيرك بنفسك فقد نفد صبري معك..
تنهيدة رضا خرجت من مبسمها حين قرأت الكتاب، فوافقت على الفور وأشرق وجهها الوضيئ بالنور المتراسل حين أنهت قراءته... وفي الطريق إلى (سر من رأى) عندما اصطحبها النخاس "بشر" الأنصاري للإمام (علي الهادي عليه السلام) تبعثرت باقي مخاوفها على الأرض فغدت خفيفة من أثقالها ... وكانت تحدث نفسها بالكثير من الأمل: (إننا مخلوقات تطلب الغيث من السماء عادة إن جفت أراضيها وتشققت تربتها وامتلأت بالملح، وحين ننتظر هطول المطر تكون قلوبنا قد تعلقت برحمة الخالق وعظمته فآمنت بأسبابه وارتضت أرزاقه، وكفت عن التشكيك بمعجزاته ... ).
وبعد بضع خطوات قطعتها مع بشر موفد الإمام علي الهادي عليه السلام إليها، توقفت قليلاً عند حدود ظلها الممتد، متلفتة للخلف تحرق بيقين رؤيتها المسافات الطويلة التي مشتها لتقترب من حُلمها... نظرت إلى السماء وتبسمت هذه المرة تبسم الراضي بربحه، متيقنة تماماً بأن ما حدث معها لم يكن مجرد حُلم عابر... وتأكدت بأن الأحلام يمكنها أن تتحقق، فقط حين يريدها أصحابها أن تكون واقعاً يتلمسوه بقلوبهم وعقولهم معاً.. وحين يؤمنون بأنهم كانوا صادقين في بيعهم وتجارتهم مع الله.