دراسات / مشكلة الغيبة والعقل الحسي والتجريبي مشكلة ما وراء الحس
مشكلة الغيبة والعقل الحسي والتجريبي
مشكلة ما وراء الحس
سماحة الشيخ نزيه محي الدين/ باحث ومحقق
الحقيقة لو فكرنا في جذر قضية إنكار وجود من يتصل بالله ويتلقّى ألطافه وفيوضه العلمية، لنجد أن السبب الرئيسي لعدم التعقل هو طرق المعرفة التي يتربى عليها الإنسان المسلم.
إن كل من يشتغل في علوم التاريخ، وعلم المجتمع الإسلامي، يعلم أن حكام المسلمين يريدون للناس أن يكونوا حسيين... وهم يستهزئون من كل فكر غيبي عن الحس، وقد دربوا الناس على هذه الطريقة في التفكير، وحين يصطدمون بثوابت الإسلام الغيبية، يقولون: هذا من باب التصديق، نصدّق بالخبر من دون أن نعقله أو نفهمه. وهذا من اخطر ما يواجهه المسلم في حياته العلمية.
صحيح أن الغيب لا يفهم، ولكن ليس كل ما كان خارج الحس لا يعقل، ولا يمكن إدراكه، فهذه مغالطة واضحة، فهنا نقطة الخلاف بين المنهج الحسي الذي يؤمن به العوام من المثقفين ويدّعون خلاف ذلك، وبين علماء المسلمين الذين يؤمنون بالمنهج العقلي بمختلف اتجاهاتهم وتفسيراتهم لنظرية المعرفة.
مشكلة الحسيين على العموم هي أنهم لا يتعقلون ما وراء حسهم حتى لو كانوا متدينين وليسوا بعلمانيين أو ليسوا بملحدين.
فلو قيل لهم أن الله أحي ميتاً فسيقولون لك: هل لديك دليل؟
فتقول لهم: أن الله قد قال ذلك في كتابه .
فهنا يقولون سلّمنا لأن حسّهم وقع على معرفة حسية معينة، وهو الكتاب وهو أمر حسي سماعي بالنسبة لهم.
ولكن لو قلت لهم: أن الولي الفلاني أحيى الموتى.
فسيناقشون خارج كون الخبر صادقا أم لا؟
بل سيقولون لك: أنه مستحيل ولا يمكن أبداً، بناءً على مرجعيتهم الحسية في المعرفة من دون شعور منهم، وحين تلفت نظره إلى أن الله يحيي الموتى وأن العملية ممكنة أساسا!!!
فسيقولون لك: وهل تحوّل الولي إلى إله ؟
وقد يقولون لك: لا يجوز تحويل الإمكان إلى واقع وغير ذلك .
بينما المنهج العلمي هو التحقق من صدق دعوى الإحياء مثلا، قبل كل شيء، وبعد ذلك تأتي مرحلة التفسير.
فكل قضية إذا فرغ من إمكانها لا يجوز العود إلى بحث الإمكان والاستبعاد مجددا، بناءً على الاستحالة، وإنما يكون البحث عن الوقوع وطرق التحقق منه، وهذا ما لا يفعله الحسي، بل يقفز مباشرة إلى قضية استحالة حصول شيء خلاف العادة، وخلاف الملوس من الوقائع التي عاشها، فكل غريب وصعب يعتبر مستحيلا عنده بطريقة لا شعورية، فلهذا يسارع الحسي إلى رفض معان بعيدة وغيبية، تتعلق بإرادة الله المتحققة في الوجود الإنساني، بشكل نادر.
فهو لا يؤمن حقيقة بأن إنسانا يمكن أن يبقى في آتون نار من دون أن يحترق، ولكن لأن دليلا حسيا، وهو النقل، قد اثبت ذلك، فهو يسلّم بهذا الأمر وبهذا المقدار، كتصديق للخبر، وليس أكثر من ذلك، معتبرا أن ما وصل سمعه من خبرٍ يكفي لأن يقنعه، بينما لو كان منسجما لرفض حتى إخبار الله لأنه أيضا أمر خارج عن الحس.
ولهذا نرى منهج بعض المسلمين ينص صراحة بأن المعاد ومشاهد القيامة وقصص الأنبياء هي من باب التصديق، وليست من باب البرهان والبحث العلمي.
وهذا المنهج سواء أكان مسلكا علميا في نظرية المعرفة أو ممارسة عملية لنظرية المعرفة يعتبر مناقضا للإسلام ولمرتكزاته، وهو مسلك يحوّل الإسلام إلى مجرد دعاوى يجب التصديق بها مهما كانت منافية للعقل.
البحث في (الإمكان)..... ثم البحث في (الوقوع) ...... هو مسير كل قضية عقلائية، فإذا ثبت الإمكان انتقلنا للوقوع والتحقق وأدوات إثباته، وهذا من ابسط قواعد التفكير الإنساني، ولكن الحسي لا يستطيع المجاراة، فهو بعد التسليم بالإمكان والدخول في مادة الوقوع معرفيا، نراه ينكص ويعود ليدعي عدم الإمكان. بل يتهم الطرف المقابل بأنه يستخدم الإمكان كدليل على الوقوع من دون التفات إلى دليل مدعي الوقوع، وبهذا يكون مجرد قصاص خيالي، ولا يقبل من الآخر أي براهين على الوقوع، ويرفض سماع أي دليل، معتبرا إن الأمر محسوم، وهو غير ممكن مثلا، لأنه مخالف لمداركه الحسية. وهذا نكوص على الطريق العقلي البسيط الذي يفكر بطريقة مباشرة. فقد رجع عن التسليم بالإمكان حين دخل في بحث الوقوع، وقد يكون لا يلتفت إلى هذا المسلك المشوه عقليا وعقلائيا.
والذي يريد أن يناقش الحداثويين الجدد، عليه أن يفهم طبيعة مقرراتهم الفكرية في نظرية المعرفة، وكيفية إتباعهم للنمط التفكيري الممنهج عندهم، فإذا طابق هذا السلوك فليعلم بأنه لا حاجة لمناقشتهم وإذا لم يطابق فيجب أن يعرف حقيقة مقولتهم في نظرية المعرفة وترتيب أولويات الدليل عندهم.
مشكلة غيبية الإمام كجزء من مشكلة معرفية كبيرة لها ابعاد سياسية وعقلية:
قضية الإمام المهدي عليه السلام تعاني من هذا الاتجاه بشكل واضح، ومكثف, فهي قضية فيها جانب غيبي، لا حسي، بشكل واضح، وهو وقوع الغيبة ومفهومها، وقد انفتقت عبقرية الكثير من الحسيين ليقولوا بأن المهدي لا وجود له، لأن هناك غيبة، وهي غير معقولة. كما أن ادعاء إمامة من عمره خمس سنوات أو أكثر قليلا، أمر غير منطقي بحسب المقاييس الحسية. فكيف يعلم حقائق الشرائع وإدارة الناس من هو بهذا العمر؟
كل هذا مقاييس حسية وتجريبية .
وهنا يجب أن نتفق أنه لولا وجود التدخل الإلهي ومفهوم التواصل الرباني لكانت قضية غيبية مثل قضية الغيبة، مجالا للشك بل الرفض، لأن عقل الإنسان الحسي لا يكاد يصدق بقضية لا يعتاد عليها، مهما كانت واقعية، فالإنسان يريد ما اعتاد عليه، ولا يريد الصحة أو الإمكان أو القضية المبرهنة.
فهو لا يؤمن بوجود شيء لم يعتد عليه، ويؤمن بوجود المستحيل إذا تكرر في سمعه أو حسه، فقد آمن الإنسان الحسي بأشياء لا وجود لها، وفي بعض الأحيان مستحيلة الوجود، لأن هناك من قال له بوجودها وكررها عليه يوميا. وما اكثر الموهومات والمخترعات التي لا وجود لها والتي يؤمن بها البشر إيمانا مطلقا كأنه رآها، ومن الطريف أن قسما من الحسيين المتدينيين يؤمنون بالجن إيمانا مطلقا بل ليسوا يدعون وجود الجن فقط بل يدعون التعامل معهم عيانا ويوميا بشكل عجيب، مع أن الجن مستور والاتصال بهم يحتاج الى الف دليل بمستوى الدليل القرآني الذي اقر بمخاطبة الجن للرسول، ولو اخذنا السلوك السلفي مثلا في الحوار فإنهم حين يدافعون عن دعواهم مشاهداتهم الجن فيستدلون بأن الرسول قد شاهدهم وأن الله ذكر ذلك ويصرون على ان هذا الاستدلال صحيح ومنتج، ولكنهم ينسون أنهم ينفون كرامات أهل البيت التي يستدل عليها بأدلة اهم من هذه، فيعترضون على من يقول بأن الله سبحانه قد ذكر ثبوت الكرامات للرسل وللأولياء من غير الرسل، قائلين: فأين الرسل من أناس عاديين؟ وما شابه ذلك، بينما أهل البيت وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ليسوا من الأشخاص العاديين، وفيهم نصوص ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من الصفات والكرامات ما لم يرد في احد من المسلمين . على ان منهج اثبات الكرامات ليس منهجا عقليا وانما هو منهج نقلي، ولكن ترد هذه الإجابات على من يمنع الكرامات اصلا أو من يمنعها لغير الرسل، فنراهم يسارعون لنفي اصل الموضوع باعتبار ان من تنسب له الكرامة إنسان عادي لا يجوز نسبة الكرامة إليه فيتحول الى بحث صغروي خطير.
وأين هذه الدعوى من دعاوهم الفارغة المليئة بالكذب والدجل في ملاقاة الجن واستخدامهم. لأن الجن معناه الاستتار ومادتهم غير مرئية، ولا نعلم أن الرسول رآهم بشكل مادي كثيف بحت، وانما هناك احتمال للكشف عن بصره وهذا احتمال يبطل استدلالهم على طريقتهم في التفكير.(1)
إنه النظرية الحسية التي تبتني على القناعة الشخصية بكل دوافعها وآلياتها من دون نظر إلى واقع الحال والبرهان الصحيح على الإحساس نفسه، وبعبارة مختصرة إن الفكر الحسي مبني على خداع العقل والحواس، وليس على ما يسمونه ذات الحواس والإحساس بها، ولهذا فهناك تناقضات في المحسوسات عندهم، حيث يرفضون المبرهن عليه وقد يعتبرونه ممتنعا، ويقبلون المستحيل والممتنع .
إن معضلة الخروج عن العقل الحسي عند الإنسان غير القادر على استغلال العقل بطريقة ذاتية، لهي مشكلة المشاكل، وهي أم مصائبه السياسية والدينية والتربوية والاقتصادية، ولعلي بت أؤمن أن جزءً مهماً من سبب الفقر والتخلف والتبعية للإنسان، هو عدم تشغيل المنظومة العقلية الصرفة المرتبة عنده، وتعطيلها كليا أو جزئيا، بينما من يمتاز بالنهوض الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فهو من يشغّل منظومته العقلية في جزئها الذي يوفر الصعود في ذلك الاتجاه، حين لا تكون المكانة مسألة حظ أو وراثة، وأما التسلقيون فهؤلاء أيضا قد شغلوا منظومة عقلية لا حسية، بالقدر الذي يوفر ذلك من النهوض المحدود.
فالاستهانة بتقدير خطورة المنهج الحسي في التفكير، جريمة حقيقية في حياة البشر، والمستهين: إما أن يكون حسّيا لا يدرك ما يجري في الدنيا، أو انه خبيث يعرف إن خير وسيلة للسيطرة على عقول الناس، وتحويلهم إلى خدم، ورعاع ينعقون مع كل ناعق، هو الإبقاء على طريقة التفكير الحسي، وتنويم المنظومة العقلية الصرفة في الإنسان التي وهبها الله له لكرامته ورفعته. وليس من باب الصدفة أن يصرح معاوية بن أبي سفيان بأنه يريد من الناس أن لا يفرّقوا بين الناقة والجمل.
أنه منهج تنويم وتعطيل المنظومة العقلية الصرفة، ولهذا نرى مذاهب إسلامية تفرعت من نظرية معاوية هذه، تعلّم روادها حتى مماتهم أن لا فرق بين الوجود والعدم، كقولهم أن العبد مجبور على اختياره، وأنه لا تأثير للمؤثر على الأثر، ومن قال بهذا التأثير فقد أشرك بالله، وقد قال احد الزاجين أنفسهم في زحام الفكر، المنحدرين من سلالة من لا يفرق بين الناقة والجمل: (أن الباري لو كان علة تامة للعالم لكان العالم قديماً بالشخص، ولما وجد في العالم تغير متعاقب لأن العلة التامة يجب أن يصاحبها معلولها في الوجود ويستحيل أن يتخلف عنها)(2)، فأراد أن ينفي أزلية المادة، فاعتمد أن يكون لله شريك في الخلق، لحل هذه القضية المشكلة عنده بكل بساطة، ونفى أن يكون الله علة تامة للخلق بل هو مع غيره يكون العلة، من دون تفريق أو إحساس بالذنب الشركي، فهو يؤمن بأنه موحّد، مع برهنته على وجوب وجود الشريك لله بل وجوده الفعلي إلا استحال وجود العالم، وأن الله ليس بعلة تامة للكون. وهذا الفكر نفسه حين يأتي إلى فعل الإنسان الاختياري، ينفي الاختيار، ويقول بأن القول بالاختيار هو شراكة لله في فعله! ومن قال بأن الله يشاركه احد في فعله فكلامه شرك لا يجوز!! وحين يُسأل عن مصدر الهاماته العجيبة هذه، يقول لك إن مصدره هو العقل الذي هو الحس والنقل عنده، وأن لا شيء وراء الحس والنقل. وأما ما يسمى بالعقل وراء الحس والنقل فهذا باطل باطل باطل، ولنعرف مستوى التفكير الحسي وقبوله بالعجائب والمتناقضات لنجول جولة قصيرة في حديقة التناقض العجيبة لنبرهن أن العقل الحسي يتمتع بصفات عجيبة في تناول المعلومات، فقد قالوا في تعريف الوجود الذي هو من ابده البديهيات ما يضحك الثكلى، ولا يرون في ذلك نشازاً قالوا: (والوجود هو حال واجبة للذات ما دامت الذات غير معللة بعلة)(3) يعني لا يتصف بالوجود إلا من كانت ذاته غير معلله، أي قديم قدم الله، هذا أولاً، ثم أن الوجود نفسه ليس بموجود عندهم بل يشوبه العدم فلا تعجب من ذلك، لأنه عندهم حال يحتمل الوجود والعدم حيث ان تعريفهم لـ (الحال المذكورة هو: (صفة ثابتة في الخارج عن الذهن تقوم بموجود وليست موجودة بالاستقلال ولا معدومة عدما صرفا بل هي واسطة بين الموجود والمعدوم، أي إنها لم تبلغ درجة الموجود ولم تنحط إلى درجة المعدوم، ولعدم بلوغها درجة المعدوم لا تمكن رؤيتها).(4) فهذه هي نتائج العقل الحسي، ولو قرأت أكثر فستجد أن هناك ما هو أعجب بالنسبة لمن يشغّل منظومته العقلية، وهو غير عجيب بالنسبة للحسي، فهو يبادل بين المحسوسات: فيرى المسموع، ويسمع المرئي، ويشم الملموس، ويلمس المسموع، وهكذا تتبادل عنده صيغ المدركات، والعلاقة بين أدواتها وتفسيرها، فلننظر لهذا النص العجيب الذي يقول إن الله يرى سمعه، فيقول قائلهم: (فيسمع سبحانه ويرى في الأزل ذاته العلية وجميع صفاته الوجودية التي منها سمعه ...).(5) فلو قال أن صفاته عين ذاته، ولا فرق بين صفاته، لأمكن أن نجد لها متسعا في المنظومة العقلية، باعتبار وحدة الله وذاته، من دون أن نقول انه يسمع المرئي، أو يرى المسموع أو يرى سمعه نفسه، وإنما نقول يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية.
ولكن من يقول بأن صفاته غير ذاته، وان صفة السمع نفسه حالٌ (لا موجود ولا معدوم) فهم يقولون: (كونه سميعا: هي حال واجبة للذات)(6)، فكيف يُرى الحال وهو مما لاتمكن رؤيته عندهم؟ فقد قال في نفس الموضوع أن الحال (لم تنحط إلى درجة المعدوم، ولعدم بلوغها درجة المعدوم لا تمكن رؤيتها)، ومع ذلك عنده أن الله يشاهد سمعه بصريا، ويشاهد علمه بصريا. ويسمع بصره حسيا، ويسمع ذاته !!!!
فكيف نحل هذا الشكل العجيب اللاعقلاني. القائل بأن السمع حال لا يمكن رؤيته (لأنه لا موجود ولا معدوم)، وفي نفس الوقت أن الله يرى سمعه الذي هو حال لا يرى؟؟
إن هذا الحال قد يبدو مضحكا ومستنكرا لمن لم يتعمق بمقالات المذاهب الإسلامية، لكنه واقع حال متحكم في مفاصل الثقافة لدى المسلمين بشكل عام فرغم الاستنكار الأولي للمثقف حين تطرح عليه الفكرة ابتداءً، ولكنه ما أن يراجع الثقافات الإسلامية العقائدية ويلتزم بها، فسيتحول وسيجد نفسه مصطّفا مع اللامعقول الذي استنكره سابقا، متمسكا به مدافعا عنه متعقلا له ويستغرب من عدم فهم الناس لمثل يسمع ذاته ويرى سمعه فهذه الأمور عنده صحيحة، وهذا حال طبيعي لمن يريد أن يثبت هويته مهما كانت غير معقولة، لأنه يرى انتماءه لمجموعته أهم بكثير من تحقيق المعقول، وفرزه عن غير المعقول، وبهذا الاصطفاف سيرفض المعقول حين يكون مستنكرا مرفوضا من المجموعة البشرية التي ينتمي إليها، ففي الحقيقة قد لا يكون عند الحسي مانع من الإيمان بما هو غير معقول، ولكنه سيرفض المعقول أو المبرهن عليه إذا كان ضمن مجموعة لا ينتمي إليها، وهذا السلوك بمجمله يدل على أن المنهج الحسي متفش بين الناس، وهو ليس منهجا لتلمس الحقائق، وإنما هو طريقة تفكير، لتكوين حالة رضا نفسي عن المعلومة، نتيجة المدركات الحسية بدون تمييز، فهو لا يؤمن بمسائل يتم البرهنة عليها عقليا ومنطقيا، ولكنه يؤمن بالمستحيلات، لأن آخرين يقولون له ذلك وهو يتعقل ما يقوله الآخر باعتباره معلوما حسيا، فكل ما يسمعه من جهةٍ يرتاح إليها، فهو معقول، باعتباره دخل حسه السمعي وهو مرتاح للمصدر، وهذا غاية ما يريد، فليس صحيحا ما يشاع بأن المنهج الحسي هو طريقة تفكير عقلية أو نظرية معرفة محددة، وإنما هو طريقة تلقٍ حسيٍ صرفٍ بغض النظر عن قيمة المدرك بواسطة هذه الطريقة. أو قل طريقة رضا بالمعلومة نتيجة ارضاء النفس بحقيقة انتمائها الحزبي أو الاجتماعي او السياسي. ويتحكم بهذا المنهج نوازع كثيرة تكونها الرغبات والتحزبات والانحيازات، بل في الحقيقة تشكلها الدعايات والتأثيرات الخارجية من دون شعور بالحاجة للتمحيص أو اتخاذ القرار الشخصي المبني على القدرة العقلية الحقيقية، بل أن قراره متخذ من قبل من يوجه فكره. وهذا الموضوع خطير جدا من ناحية حضارية وسياسية.
فلهذا فإن من ذكاء الحكام أن يوفروا وسائل المنهج الحسي للناس حتى يبقوهم بهذه الحالة العجيبة، فيدعمون قيادات فكرية تقول بهذا التناقض الصارخ وبهذه المقولات التي لا يتوفر فيها أدنى متطلبات العقل والذوق الإنساني في التعاطي مع الأفكار. ومن هنا يكمن السر في رضا الناس عن حكامهم الظلمة الجائرين، وعن جميع ما يقومون به من جرائم ومن أمور حمقاء خرقاء لا تتصف بأي نوع من الحكمة والعقل والذوق واللياقة في التعامل، فلا يحس المجتمع العربي أي غضاضة فيما يرى حكاما على درجات رفيعة في المسؤولية يتشاتمون في مؤتمرات بشتائم العياريين من تربية الشوارع غير الملتزمة، فلا يقال يجب أن نقف ونسأل أنفسنا هل نحن بهائم ليقودنا أمثال هؤلاء؟ وما ميزة هؤلاء عن أخس طبقات المجتمع؟ فلماذا يجلسون هذا المجلس؟ ويأخذون هذه الصلاحيات؟
أن هذا المنهج يجب أن لا يفرح به الحكام، لأنه سيتحوّل يوماً ما إلى سيف على رقابهم، فإن هذه العقول التي ربيت على المنهج الحسي والذي تحركه الدعاية والمعلومات الواردة على الإنسان، يعتبر جهاز التقاط مفتوح يمكن استغلاله من قبل من يمتلك القوة الاكبر في الدعاية فيسيره بعكس الاتجاه الذي يريده الحكام، وسيكون هو سبب سقوطهم بدون فهم من العقول المتلقية لأسباب الإسقاط، وإنما هي كالببغاوات تفعل ما يقال لها وتتخذ القرار الذي وجهت به عبر وسائل الاتصال. وهذا ما حدث على مر العصور.
الدارس الحقيقي لمشكلات التفكير الإنساني ومناهج المعرفة، ومواطن الثغرات فيها، وكيفية التلاعب بالعقول، يدرك جيدا السبب الحقيقي لشن قادة المسلمين وغيرهم في العالم المتخلف الحرب على العولمة واعتبارها أمرا خطيرا، وتحذير الناس منها، وإقامة هالة من الغموض حولها، وشتمها بوسائل الإعلام، مبررين ذلك بأن العولمة جزء من مؤامرة دولية يقصد بها تدمير القيم وتكريس الهيمنة الاستعمارية والخضوع للإمبريالية الدولية كما يدعون.
كل هذا الهلع والتبرير، لا يلتقي مع الحقيقة، والهلع الحقيقي هو من إمكانية استغلال العقول التي تقبل التأثير.
إنهم يعلمون بأن الكتلة الإنسانية قوة جبارة، يمكنها تدمير الكيانات والتخندقات، مهما كانت حصينة، ولكنهم يعرفون أيضا، بأن الكتلة الإنسانية يحكمها كم هائل من قوانين العقل الجمعي، والسطحية الحسية، وتقبّل التربية والتربية المعاكسة، و قوانين التواصل ونقل المعلومات، والعواطف والخوف والرضا النفسي بين البشر.
العولمة مارد عملاق في الوصول إلى عقول الناس من خلال التواصل الإنساني وتشكيل الأفكار عبر ذلك، ولهذا فبما انه يمكن أن تكون هذه الصفات أدوات للقمع والسيطرة على المجتمع البشري بالباطل، من قبل الحاكم، فهو يخشى انعدام تأثيره، وتحوّل الكتلة البشرية عليه، نتيجة الانفتاح الثقافي والعولمة الاتصالية، التي تغزو كيان المجتمعات، بطريقة خارجة عن هيمنة الحاكم. ولهذا أرى إن العولمة هي نصير لكل صاحب حق في إيصال صوته المظلوم إلى جماهير البشر الذين ضربت عليهم الأسوار الحديدية من المعرفة المبرمجة.
فقضية التربية على المعرفة الحسية، وإبقائها، وعدم تعليم الناس للمقاييس العقلية، والتجرد عن الحاجات النفسية والمادية والاجتماعية، هي قضية سياسية بالدرجة الأولى، ومن ثم هي قضية إدارة من يريد الانتفاع بالمصالح التي يكوّنها من خلال تجميع الكتل البشرية على طاعته شخصيا بمختلف الحجج. وهي قضية مصالح من جهة وقضية حرب حضارية ضارية من جهة ثانية، لكنها سلاح فعال ضد الظالمين(7) الذين يستغلون العولمة ابشع استغلال فهم يخافون استغلال الآخرين لها.
فالحكام والجهات الإعلامية تخشى من العقل السطحي اذا سيطرت عليه قوى خارجة عن سيطرتها، وكل ما يجري عبارة عن صراع للسيطرة على عقول الناس بتسطيحها وقلب المفاهيم وجعلها تقبل التبرير غير المنطقي. ولهذا فان ابقاء السطحية امر مطلوب ولكن الخوف من غزوه أمر مبرر باعتبار ان العقل السطحي لا يمانع من قلب المفاهيم، والانقلاب على من يقدسه سابقا نتيجة نشر دعايات مهما كانت صحيحة أو كاذبة.
ومن هنا يتبين أن طرح مسألة الإمام المهدي عليه السلام وغيرها على المجتمعات الحسية معقدة نسبيا، حيث يكلّم العالِمُ مجتمعا تم تربيته على المنهج الحسي، الذي يزرع فيه الظن ان هذه القضية هي ضد منهج العقل أو يقال له (إيحاءً أو مباشرة) إن منهجك في التفكير هو منهج علمي رائع، ومنسجم، ويعتمد الوسطية بخلاف الفكر المتطرف الذي يؤمن بأمور غيبية، وما شابه ذلك من الإيهامات، التي يوهمون بها مجتمعاتنا، بينما في نفس الوقت لا يستطيع الثبات الفكري على رأيٍ لتلمس الحقيقة، فقد تم تربية الناس على عدم الثبات على فكرة وعلى عدم التمييز الحقيقي للخطا والصواب وللمصلحة والمفسدة فكل ساعة يمكن ان ينقلب الى عكس ما كان يعتمده ويدافع عنه. وقد قمت شخصيا بتجارب في مجتمعات كثيرة في منطقة الشرق الأوسط، متحديا مجاميع ليختبروا طريقة تفكيرهم، فاعرض لهم الرأي بأدلته، فيقولون: هذا صحيح، ويساعدونني فيأتون بشواهد مؤيدة، ثم اعرض لهم الرأي المخالف تماما، فيقولون: صحيح، ويأتون بشواهد مؤيدة جدا، ثم اقلب القضية، فاعرض رأيا ثالثا، فيتأكدون من صحته، وأعود لأعرض الرأي الأول و الثاني، فيتفانون في التطبيل له، وحين اخبرهم بأنهم خسروا الرهان، ولم يفوزوا في الامتحان، يتناقشون ويختلفون، ويتبيّن بأن القضية لم تكن فكرية، وإنما مجرد طرح أفكار.
إن هذه الكارثة العقلية في الاستدلال، وتحقيق المعرفة هي ظاهرة غارقة في القدم، وموغلة في عمق التاريخ. ولكن لا ينبغي أن تكون بنفس حدتها في زمننا هذا، بعد انفتاح وسائل المعرفة، ووصول بركات العولمة إلينا، والأمر يعود في الحقيقة إلى عدم تعليم الإنسان لطريق التفكير السليم، بشكل حقيقي ومرتب. ولهذا وجدت إن من يعمل في علوم البرمجة بشكل حقيقي يتعامل بسهولة مع الأفكار التي تحتاج إلى ترتيب في الاستدلال، وفي الوصول للنتيجة وقد يقتنع بصورة سلسة في الحوارات، وذلك لأنهم يدرسون ترتيب الأفكار ولو جزئيا بمقدار حاجتهم المهنية، وحين يكون مبطلا ومتحزبا أراه يعترف بأنه يواجه صعوبة معينة، لأن طريقة تفكيره المرتبة اصطدمت مع حواجز التربية على القوالب الجاهزة للفكر، الذي يصعب عليه الخروج من شرنقته، ولهذا يتهرب بمواضيع ثانوية، طلبا لعدم الدخول في فهم الحقائق، لأنها بدأت تصطدم بواقعه الداخلي الذي تربى عليه من الباطل.
وفي سبيل أن نحاور ذاتنا حوارا داخليا مقنعا علينا أن نواجه قضايا مهمة في طبيعة التفكير .
فأول سؤال يجب أن نسأل أنفسنا: هل الغَيبة مستحيلة عقلا؟ أم هي ممكنة؟
وثاني سؤال يجب أن نسأل أنفسنا به: هل هناك غيبة حدثت فعلا ؟ وهل هناك قناعة خارج حدود التمذهب الضيق لوجود غيبة فعلية؟
ثم نحاول أن ندرس القيمة الحقيقة للنصوص الدالة على التبشير بالغيبة ابتداءً قبل وقوعها، ثم على النصوص الدالة على وقوع الغيبة انتهاء.
وبعد إن نخرج من حوارنا الداخلي مع أنفسنا علينا أن نتحرر من مرض الاستخفاف والسطحية، ونركّز على الحقيقة القرآنية، وعلى أن الغيبة لم تكن عملية طارئة، فتحتاج إلى تفسير ارضي لتحوّل الحالة، وإنما هي عملية مدروسة ومنصوصة قبل حدوثها، وهي من قبل الله لأمر يعلمه الله وهو خارج نطاق القدرة العقلية التي نمتلكها لأنها خارج نطاق المألوف، فهي ليست ذات مصلحة مرتبطة بنا فقط، وإنما هي حقيقة ذات علاقة كونية مرتبطة بإرادة الله، والعقل الذي يدرك الحسن والقبح ويدرك الحقائق لا يعني انه قادر على إدراك ما هو خارج مجاله، فمسألة وقوع الغيبة والنصوص عليها يدركها عقلنا ونتلمسها علميا وحسيا، ولكن تفسير أحكام هذه الحالة تحتاج إلى معرفة من الله، ولم نجد لها تفسيرا من الله صريحا، فلهذا تبقى جميع التفسيرات للحكمة والمصلحة والسبب هي تفسيرات ذوقية واجتهادات شخصية خاضعة لميزان الخطأ والصواب، ولهذا لا يمكن تشكيل أي إشكالية بناءً على التفسيرات الظنية لسبب هذه الظاهرة أو لشكلها.
ولهذا فإن السؤال لا يتوجه على الله بقول القائلين : ما فائدة أن يرسل الله ملائكته الكرام بالتكاليف السنوية لشخص غائب ومختف عن البشر في حين أن التكاليف موجهة للبشر.
أن بعض من يقول بالتصويب يرى إن لله أحكاما في الواقع، ولكن الإنسان غير مكلف بها، ويعتمد هذه النظرية ليؤسس مذهبا عجيبا في قلب الشريعة من كونها صادرة من الله، إلى كون الله تابعا للمشرع الأرضي، ولم يسأل القائل بهذا القول نفسه: ما فائدة الحكم بدون تكليف؟
مع إن السؤال هنا وجيه... بينما السؤال عن الغيبة غير وجيه، وذلك لأن في النظرية الثانية للتصويب القائلة بوجود حكم بدون تكليف فيها مشكلة التفريق بين الحكم والتكليف مع أنهما لا يفترقان، لأن الحكم هو أساس التكليف والتكليف هو تابع قهري للحكم.
وهذا لا يحتاج إلى توقف على تعليم ونزول أمر إلهي به. لأن توقف التكليف وتكوين تكليف إلهي بموجب حكم حاكم ارضي يعمل بظنه يعني عملية خروج عن نفس المسيرة الإسلامية وعن تفسير الإسلام كدين سماوي صرف، ولأن العقل لا يرى علاقة بين الإنسان وبين الحكم حينما لا يكون تكليفا، فلو تكونت ملايين الأحكام في الكون فما دامت غير متعلقة بتكليف الإنسان.
فما علاقتها به؟ ولماذا تكون جوهر شريعته؟
بينما نزول تكاليف على بشر معيّن مع وجود مانع بين البشر وبين تبليغ الأمر. لا يعني أن الأمر لم يصل. أو أنه لا فائدة فيه. وذلك لعدم توّحد العلة وعدم انحصارها في نزول أحكام الله إلى الأرض بالنشر، وإلا لكان يجب إبلاغ كل إنسان عن الله مباشرة لتحل هذه المشكلة. وهذا لم ولن يحدث لأنه غير لازم عقلا.
ولو أردنا أن نوضح الفكرة بشكل مبسط فينبغي أن يكون الله قد قصّر –حاشاه جل وعلا- بإرساله الرسل في مناطق محدودة من الأرض، وفي زمن محدود، بحيث لم يبلّغ بصورة واضحة لجميع البشر، فيكون إرسال الرسالات غير كاف في الحجة على البشر، وتكون الديانات مجرد عملية ناقصة، لا تكون حجة كافية على الإنسان الشامل في جميع بقاع الأرض. بالتالي فتكون كل رسالات الله غير مفيدة لعقاب الله وجزائه ويكون التزامه بالبيان ناقصا حسب هذا الفهم السطحي، وهذا الإشكال هو وليد طبيعي لإشكال عدم جدوى النزول والتبليغ لرجل غائب. ولا يعلم حجم المجتمع الذي يتواصل معه ولا كيفية التواصل معهم. فلا يصح استعمال عدم الاطلاع دليل على العدم، فكون مساحة الصلة بالإمام الغائب غير معروفة، لا يعني أنها منفية، لعدم المعرفة، وهذا استخدام سيء لأساس سيئ، وهو استعمالهم عدم العلم دليل على انعدام الموضوع، والذي لا يمكن أن يقول به صاحب منهج عقلي ومنطقي للتفكير.
ونكرر ترتيب الأفكار:
لنأتي الآن ونتسائل داخل أنفسنا عن الأسس التي يجب أن نسلكها في قضية الغيبة معرفيا لنحل إشكالاتها علميا ونفسيا.
ويجب بحث إمكان الغيبة بكل صورها فإذا ثبت عدم الإمكان بطل الكلام بها وإذا ثبت الإمكان انتقل إلى المرحلة الثانية.
ويجب أن تكون الغيبة مبشر بها كتهيئة عقلية للبشر وأن تكون مدعاة.
ويجب أن تكون الغيبة مقرونة بالشواهد والأدلة التي يطمئن الإنسان بوقوع الإخبار والتبشير على نفس الشخص المدعاة غيبته.
فإذا وصلنا لهذه المرحلة لم يحسن بنا إلا التسليم بوقوع الغيبة، وأنها ليست لعباً أو دعوى باطلة، وإنما هي ظاهرة كونية نادرة لها علاقة بالدين وبالكون، يجب دراستها والتمحيص في معطياتها.
هذا ما يفرضه العقل مما يسوقه من ترتيب يفرض على الحس وعلى غير الحس الإذعان به.
(للبحث صلة)
الهوامش:
ــــــــــــــــــــ
(1) إن نظرية امكانية تشكل الجن باشكال مادية كثيفة لم تثبت في عالم المادة علميا بشكل قطعي، ولكن ما ثبت هو وجود اثر لهم تم رصده علمياً وقد يكون الأثر على شكل شبح صوري، وقد يكون على شكل طاقات أو صور تحت الحمراء وما شابه ذلك، وكل البحوث في هذا الباب غير قاطعة النتيجة، وفيها اخذ ورد، وهي موطن اهتمام من قبل العلماء من أجل الوصول الى نتائج جازمة في الموضوع، ولكن الحسيين والجهلة يستنكرون اشد الانكار على من يطالبهم بالدليل على الاتصال الجسدي بالجن الذي يدعونه، كما يدعون التزاوج بهم وغير ذلك، وعلى كل حال نحن لا نريد ان ننكر مثل هذه الظواهر بل هي حقيقة في بعض مفاصلها العلمية، ولكننا نستنكر العقلية التي تنظر بعين عوراء، فالاتصال بالجن من قبل العصاة القذريين دينيا واخلاقيا ممكن!!!، بينما اتصال الأولياء بالملائكة أو غير ذلك يعتبر من المستحيلات عندهم!!! هذا هو افراز العقل الحسي المذهبي النفعي المتعصب.
(2) الكاشف الصغير ص 89 سعيد عبد اللطيف فودة.
(3) تهذيب شرح السنوسية ص30.
(4) تهذيب شرح السنوسية ص 63.
(5) تهذيب شرح السنوسية ص54.
(6) تهذيب شرح السنوسية ص62.
(7) لقد أعلن زعماء العالم الغربي المتقدم في دافوس سنة 2005 ميلادية بأن اخطر ما يواجه الحضارة الغربية والديمقراطية هو العولمة ويجب التصدي لها بقوة كبيرة جدا.