لقاء النور / خادم المدرسة
خادم المدرسة
اختيار: رقية محمد باقر
نقل هذه القصة المرجع الورع آية الله العظمى الشيخ وحيد الخراساني (دام ظله) أحد مراجع قم الحاليين الذي حكاها يوم 21/ شعبان/ 1404هـ لطلبته في محضر درسه في حوزة قم المقدسة وقال إنه سمعها قبل أربعين سنة من المرحوم السيد غلام رضا الكسائي من دون واسطة، وقد كان رجلاً في درجة عالية من الصدق والتقوى والعدالة، وأضاف الشيخ أن السيد الكسائي لما نقل له هذه القصة قال: لقد مرت أربعون سنة على الحادثة ولم أجد للخادم أثراً.
لما كنت طالباً في مدرسة دينية بمدينة تبريز، كان خادم المدرسة رجلاً مؤدّباً متواضعاً ومن أهل التقوى والصلاح، يعمل بوظائفه الفردية والاجتماعية بصدق وإخلاص، وكان ذا روحية عجيبة، قليل الكلام كثير السعي شديد الكتمان، وهو وإن كانت مسؤوليته تنظيف المدرسة لكنه يعين الطلبة في تنظيف حجرهم دون أن ينتظر منهم مكافأة وثمناً، بل وأحياناً كان يغسل ثيابهم أيضاً وإذا رأى أحدهم يريد الذهاب لشراء حاجة تقدّم إليه وتوسّل منه أن يسمح له بهذه الخدمة، وبلغ به الأمر أن كان يملأ إبريق الماء من حوض المدرسة ويحمله إلى بيت الخلاء لئلاّ يتعنّى الطلبة ذلك، وهذه كلها لم تكن من وظائفه المخصّصة له كخادم للمــدرسة، ولكنّه كان يقوم بذلــك يقول المرحوم السيد غلام رضا الكسائي وهو من العلماء الزهّاد المخلصين صهر العلامة الشيخ عبد الحسين الأميني صاحب (كتاب الغدير) أعلى الله مقامهما:(1)
بصفاء النفس وإخلاص النية فيزرع بذلك حبّه في قلوب الطلبة ويعلّمهم التواضع العلمي.منتصف ذات ليلة خرجتُ من حجرتي لإسباغ الضوء، فرأيت شيئاً عجباً! رأيت نوراً روحانياً في حجرة الخادم. ولم تكن الكهرباء قد عرفت بعد، حيّرني الأمر بشدّة، وتقدّمت خطوات نحو الحجرة لاكتشف حقيقة ما أرى، فلمّا قربتُ سمعتُ كلاماً يتردد بين الخادم ورجل آخر.
من جهة لم أكن أودّ الدخول عليه، ومن جهة قَوِيَ حبُّ الاستطلاع في قلبي، إذ كان ذلك النور يبهتني و يجذبني.
فدنوتُ خطوات أخرى حتى وصلت خلف الباب، فصرت أسمع الخادم يتكلم بصوت خافت، ولكن الطرف الثاني لم أُشخّص كلامه.
وقفت في حيرتي أستمع صوتهما دون أن أفهم ما يقولانه، وفجأة انقطع الصوت وذهب النور العجيب، فلم أصبر طويلاً، طرقتُ الباب فوراً!
قال الخادم: مَن؟
قلت: أنا (فلان) افتح الباب.
فتح الباب، فسلّمتُ عليه وسألته هل تسمح لي بالدخول؟
قال: تفضّل.
دخلت الحجرة وجلست، ولكن لم أر أحداً غيره، ولم أجد هناك شيئاً غير مألوف.
سألني: هل من أمر؟
قلت: لا، ولكن هل كنتَ تتكلّم مع شخص؟ قل لي الحقيقة ماذا كان يحدث هنا؟ أخبرني وإلا سوف أُنبّه الطلبة الآن ليأتوا هنا ويمطروك بأسئلتهم عن واقع الحال!
قال: أحكي لك ما جرى هذه الليلة، بشرط أن لا تحكيه لأحد.
قلت: قبلتُ الشرط.
قال: أنا موجود إلى يوم الجمعة، عاهدني أن لا تظهر سرّي إلى ظهر يوم الجمعة. وكانت تلك الليلة ليلة الأربعاء، فعاهدته أن لا أفشي سرّه إلى يوم الجمعة كما حدّده لي. فقال: الحقيقة هي أنّ سيدي ومولاي الإمام الحجة عليه السلام كان هنا، وكنت بين يديه نتبادل الحديث.
فزاد عجبي وسألته: حول ماذا كان يحدّثك الإمام؟
قال: هناك ثلاث فئات ترتبط بالإمام الحجة عليه السلام في عصر الغيبة، كحواريّين ذوي درجات. كلّ فئة أقل عدداً من الأخرى، الفئة الأقل عدداً هي من الدرجة الأولى في القرب والاعتماد، وهكذا الطبقة الثانية والثالثة.
هذه الفئات الثلاثة من حيث الناحية المعنوية والباطنية على شكل حلقات متداخلة، وعندما يموت واحد من هؤلاء يختار مكانه الإمام عليه السلام واحداً من الطبقة التي تليها ويحلّ مكانه واحد من الطبقة الأخرى ترفيعاً لمقام كل من أصلح نفسه من الطبقات الشيعية العامة، تبعاً لمستوى التقوى والفضائل الأخلاقية والحالة الروحية التي اكتسبها الفرد وهيّأ نفسه بها من قبل.
فأنا في يوم الجمعة، حيث يموت شخص من الطبقة الثالثة، جاءني الإمام (روحي فداه) واختارني لأداء المهام في مكانه.
وهنا انتهى كلام الخادم ولم يقل شيئاً وأنا غدوتُ مندهشاً، خرجتُ من الحجرة بدهشتي وكانت حالتي عجيبة، مشاهدتي لذلك النور وسماعي لهذه القصة قد أحدثا في وجودي طوفاناً لا أستطيع وصفه، لم أستقرّ نفسياً، صرتُ أقول لنفسي: إنّ رجلاً كنّا ننظر إليه بعين عادية وأنّه خادم لا قيمة له، هو صاحب مقام ومنزلة وسعادة، يزوره الإمام الحجة عليه السلام بنفسه، ويدعوه إلى درجة خواصّه!
يا لها من عظمة خفيّة وكمال معنوي شامخ!
لقد أحدثت هذه القضية تموّجات في باطني، فلم أتمكّن من النوم تلك الليلة ولا حتّى القيام بالعبادة.
وحيث أصبحتُ بدأت أراقب الخادم، رأيته خرج من حجرته كعادته اليومية وبرزانة ووقار معهود، فأخذ يعمل دون أن يُرى على ظاهره ما يدعو إلى استغراب، أمّا أنا فقد كنتُ قلقاً في تفكيري ومضطرباً في نفسيتي.
ومرّ يوم الخميس أيضاً كيوم الأربعاء بالطريقة نفسها، ولم أجعله يفلت من عيني، فقد كان يكنس المدرسة وينظّف ويشتري للطلبة ما يحتاجونه. حتّى أنني لما أردت أن أملئ الإبريق ماءاً أسرع نحوي وطلب أن يقوم بذلك بدلاً عني، فما سمحتُ له، وقلت له لن أسمح لنفسي التجاسر على مقامك بعد هذا، أنت سيدي وأنا خادمك، ولو لا أني عاهدتك أن لا أفشي سرّك لأعلنتُ للطلبة عن مقامك الرفيع.
وعند سَحَرَ الجمعة، بدأ (الخادم) يعمل، وكانت حالتي عجيبة، لأن ساعة موعده اقتربت وازددت مراقبة له واشتدّ في قلبي حبُّ الاستطلاع لحاله، فقد حضر اليوم الموعود، ماذا سوف يحدث يا تُرى؟!
رأيته خرج من حجرته مع طلوع الشمس، فبدأ بعمله اليومي في المدرسة، ثمّ أخذ يغسل ثيابه وينشرها في الشمس وغسل حذاءه أيضاً ووضعه جانباً.
وعند الزوال جمع ثيابه وأخذ حذاءه، ثمّ ربط ظهره بإزار واغتسل في حوض المدرسة.
وكان الجوّ حاراً، والطلبة في عطلة، أكثرهم خرجوا من أوّل الصباح إلى زيارة أقاربهم، والقليل منهم في الحجر أو ساحة المدرسة مشغولون بأمورهم. وكنت أحسب الدقائق باضطراب نفسي شديد، عيني لم تنحرف عن مشاهدة الخادم، إنها اللحظات الأخيرة من سفرة مدهشة للغاية، فقد جعلتُ نظراتي حادّة تلاحقه بدقّة، أريد أن أكتشف ماذا سيحدث ساعة موعده مع الإمام الحجة عليه السلام ، كيف ينتقل من عندنا ليلتحق بالصفوة المقرّبين للإمام الحجة عليه السلام؟
رأيته خرج من الحوض، ووقف في الشمس حتّى نشف جسمه، ثمّ لبس ثيابه وحذاءه وأخذ ينتظر كالمسافر المشتاق! وعند أذان الظهر، ومع الكلمة الأولى للأذان (الله أكبر) فجأة غاب من عيني، فقمت كالمدهوش أبحث عنه ولكن لم أجد له أثراً!
شخص كان بين أيدينا قبل لحظات، كان جالساً عند الحوض، وكان من أوّل الصباح إلى أول الزوال تحت نظري الفاحص، كيف غاب هكذا يا إلهي؟!
جئت مسرعاً عند حوض المدرسة، وأخذت أُنادي، فخرج بعض الطلبة ليروا ما القضية، فجاؤوا وسألوني ما المشكلة؟ هل اعتراك جنون؟
قلت: أكثر من الجنون أيّها الأخوة. سألوني مستغربين: ماذا تقول؟ قلت: أين اختفى الخادم؟ قالوا: أي خادم؟! قلت: خادم مدرستنا الرجل الذي كان يتفانى في خدمتنا.
نظروا حولهم وفتّشوا ثمّ قالوا: غير موجود فلعلّه ذاهب إلى السوق أو إلى صلاة الجماعة. قلت: أبداً، إنه الآن التحق بالإمام الحجة عليه السلام فقد أصبح من أصحابه المقرّبين من هذه الساعة.
سألوني: ما القصة؟
فشرحتُها لهم من بدئها في ليلة الأربعاء حتى اختفائه قبل ساعة. فشاركوني في الدهشة، وكان الحقّ كذلك، دهشة تحاكي دهشة، وهكذا لم ير أحد منّا بعد ذلك أثراً للخادم ولا تكراراً لرؤيته.
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــ
(1) كرامات الإمام المهدي عليه السلام / فارس فقيه ص 125ـ129/ دار المحجة البيضاء/ ط1/ 2003.