المسار:
العربية » مجلة الانتظار » العدد: ١١ / شوال / ١٤٢٨ هـ
العدد: 11 / شوال / 1428 هـ

دراسات / المذهب الحق في مواجهة الانحراف

المذهب الحق في مواجهة الانحراف

سماحة السيد أحمد الاشكوري

باحث وأستاذ في الحوزة العلمية

المذهب الشيعي بمدرسته الفكرية المتطورة المتكاملة، لم يصل إلينا جزافاً ومجاناً، فدفع السموم واستئصال الخبيث واجتثاث الخرافة ليس بالأمر اليسير، فاستقامته لا بدّ لها من سبب، لاسيّما مع كثرة المخالف من السلطات الجائرة وأرباب المذاهب الفاسدة وجهالة المعاند وطلبة الملك وعشاق السلطان، فبأدنى تصفح للتاريخ نرى الهجمات وجهت إلى صدر الشريعة الحقة، إلاّ أن حماة المذهب تصدوا لهذه التوجهات الشرسة ومن خلفهم القواعد الجماهيرية الشيعية الحاضرة بماضيها، والفاعلة بحاضرها حيث كان لها الدور المشرف في تحريك العجلة بالاسناد والاصغاء والتبصر فعرفت الحق وأهله فاستحقت ثناء العترة الطاهرة عليهم السلام (رحم الله شيعتنا).

وفي بشارة المصطفى للطبري عن الصادق عليه السلام: (حقوق شيعتنا علينا أوجب من حقوقنا عليهم) قيل له: كيف ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: (لأنهم يصابرون فينا).

واليوم يعيش شارعنا ضبابية البابية والدعاوى الباطلة وموقف (أفكارنا)* على طول الخط من ولادة الغيبة هو: اتفاق العلماء على تكذيب مدعي النيابة الخاصة وذلك للتوقيع الصادر من الوكيل الأخير في عصر الغيبة الصغرى حيث ورد: (بسم الله الرحمن الرحيم يا عليّ بن محمّد السمري أعظم الله أجر اخوانك فيك فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك فقد وقعت الغيبة التامة فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً وسيأتي شيعتي من يدعي المشاهدة ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).

ومما يؤكد على انقطاع النيابة الخاصة في الغيبة الثانية (الكبرى) أن هذه المسألة الخطيرة والحساسة المؤثرة في تغيير المسارعامة البلوى ومحل للرصد والمحاسبة الدقيقة، فلو كان امكان النيابة الخاصة مفتوحاً لإنعكس إلينا على مستوى الأثر والفتوى، لاسيّما مع طول الفترة بل المنعكس من المسارات الفقهية النفي التام لفتح باب النيابة، وتعامل السلف معها معاملة الانسداد الكامل والتصدي لها بروح شفافة وكلام واضح لا غموض فيه ولا غبار عليه، ففي الوقت الذي سجل الرواة حتّى المطالب الجزئية كيف أسقطوا هذا الأمر فيما لو كان ممكناً، فلا يبقى تردد في الحكم بعدم النيابة لذي مسكة بعد الفحص والتتبع التام في أمر تعم به البلوى لجميع الأنام وعدم الظفر بشيء يدل على المرام لهو خير شاهد على بدعة المدعي لذلك.

وكيفما كان فالنيابة الخاصة لا تثبت إلاّ بواحدة من هذه الطرق:

1 _ نصّ الإمام عليه السلام.

2 _ نصّ النائب الخاص.

3 _ ظهور المعجزة على من يدعي النيابة الخاصة.

وللمعجزة شرائط مذكورة في محلها، فلا يصح التعويل على السذج من الناس الذين يعتمدون على أبسط الأساليب للاعتراف بثبوت المعجزة. حيث يرجعون إلى الظنون والمنامات والأوهام والخرافات وما يشبه ممارسة الطقوس الهندوسية ونحوها، بل لا بدّ من التشديد والتدقيق والتمحيص في هذه الطرق، وإلاّ لادعى ذلك المقام كثير من عبدة الدنيا، لاسيّما بعدما كان مدعي الوكالة الخاصة كذّاباً مردوداً باجماع المذهب والنص، بل يعد ذلك من ضروريات الإمامية حتّى إن الذين حدثونا بولادة الإمام عليه السلام وكثير من الخصوصيات في عقيدة الإمام المنتظر عليه السلام. هم الذين نفوا حصول النيابة الخاصة في الغيبة الكبرى، فالتشكيك بوثاقتهم يعني التشكيك بأصل فكرة المنقذ الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً.

وإليك نص شيخ الطائفة وزعيمها: قال الشيخ قدس سره في كتاب الغيبة:

(ممن ادعى النيابةأوّلهم المعروف بالشريعي وروي أنه كان من أصحاب الهادي ثمّ العسكري وهو أوّل من ادعى مقاماً لم يجعله الله فيه وكذب على الله وعلى حججه عليهم السلام ونسب إليهم ما لا يليق بهم وهم منه براء، فلعنته الشيعة وتبرأت منه، وخرج التوقيع بلعنه والبراءة منه، ثمّ ظهر منه القول بالكفر والإلحاد.

ومنهم محمّد بن نصير النميري وإليه تنسب النصيرية ادعى بعد الشريعي مقام أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري وفضحه الله بما ظهر فيه من الإلحاد والجهل...).

ومما يوضح ذلك أيضاً، ما روي في كمال الدين مسنداً إلى محمّد بن عثمان العمري (السفير الثاني):

قال سمعته يقول: (والله إن صاحب هذا الأمر يحضر المواسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم ولايعرفونه) ومدعي النيابة يدعي أنه يعرفه ويلتقي معه.

بل يظهر من قول النعماني في الأثر: (إن لصاحب هذا الأمر غيبتين أحدهما تطول حتّى يقول بعضهم مات وبعضهم يقول قتل وبعضهم يقول ذهب، فلا يبقى على أمره من أصحابه إلاّ نفر يسير لا يطلع على موضعه أحد من ولي ولا غيره) فالخبر يدل على أن أولياءه لا يطلعون على موضعه، نقلاً عن غيرهم نعم ربما يظهر أن هناك نفر يخدمونه، ولكن هؤلاء لا يحدثون الناس بالنيابة، لأنه أساساً هي مسدودةً عنهم أيضاً.

ولما كان أصحاب النفوس الدنية يستغلون الناس الطيبين لاضلالهم عن الصواب والحق كما حدثنا القرآن عن ذلك في ضمن فتنة السامري كان لا بدّ من التفكير في إيجاد مناعة عامة وحصانة علمية لدى الجميع، وقد حدثت الروايات عن ذلك، حيث قالت في رواية النعماني بسند صحيح عال عن عبد الله بن سنان قال: دخلت أنا وأبي على أبي عبد الله عليه السلام فقال: (كيف أنتم إذا صرتم في حال لا ترون فيها إمام هدى... إلى أن قال أبي: هذا والله البلاء فكيف نصنع جعلت فداك حينئذٍ؟ قال عليه السلام: إذا كان ذلك ولم تدركه فتمسكوا بما في أيديكم حتّى يصح لكم الأمر). قال الصدوق قدس سره: والمراد بما في أيديهم هو ما أمروا به من الأصول والفروع والسنن ومتابعة العلماء العاملين وحفظة أخبار الأئمّة الطاهرين، وأيضاً عن زرارة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم) قلت له: ما يصنع الناس في ذلك الزمان؟ قال: (يتمسكون بالأمر الذي هم عليه حتّى يتبين لهم) فالنهج الذي رسمه أهل العصمة كملجأ من هذه الفتنة هو: ثبوت النيابة العامة بنصوص النبي والأئمّة عليهم السلام والاجماع والسيرة المتصلة العظيمة وديدن العقلاء أيضاً، فقد ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم ارحم خلفائي... ثلاثاً) فقيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسُنّتي).

وعليه لا بدّ أيضاً من التنبيه على لزوم إعمال الفطنة في تشخيص هؤلاء المدعين للنيابة العامة ومواصفاتهم فلا مجال للتسامح والتهاون، أيضاً وهذا ما ذكره أساطين العلم في رسائلهم العملية.

ثمّ أننا لا نعني استحالة الرؤية والتشرف بالمشاهدة وذلك لمخافة الاستغلال أو الإساءة أو الاختراق فلا نتساهل بالتصديق، فإذا كان المدعي معروفاً بالوثاقة والصلاح ولا يقصد جر نفع ذاتي من دعوى المشاهدة ولا يريد أن يرتب عليها أدنى أثر سوى الحقيقة فضلاً عن كونه أن يُعرف بين أقرانه بالدقة والحيطة وقد عُرف في مرتبة سابقة مقامه العلمي أو الاجتماعي ففي هذا الحال تقبل دعواه وإلاّ فلا، هذا فضلاً عن أن مشاهدته تكون حجة عليه فقط وليس على غيره من الناس. وأن مداها لا يؤسس قضايا خطيرة مصيرية بل المستفاد من مجموع الأدلة الشرعية أن العترة الطاهرة لم يؤسسوا منهجاً آخر غير السبيل المتعارف الذي يتعامل عليه عامة الفضلاء في معرفة العلوم وتنظيم حياتهم ومعاشهم لاسيما إذا كان السبيل الآخر بديلاً غريباً وغير مألوف عند أتباعهم وبحاجة إلى مزيد بيان وتأكيد فلابد حينئذ ان تترا الخطابات وان يمضى الطريق الشاذ، فالغيبة ظاهرة ايجابية معقولة ومقبولة وليست بسلبية وهمجية وغير منظبطة.

رحيق الختام ومسكه: إن لم نضع موازين واضحة تفوّت الفرصة على الانتهازيين ودعاواهم للزم الهرج والمرج ولعمّتْ الفوضى ولضاع الحق وانطمست معالم الدين وألقيت معايير التمييز.

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي).

*   *   *

 


الهوامش


* وهي سلسلة فكرية بأقلام علماء من الحوزة العلمية تصدر عن مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي، صدرت منها ستة لحد الآن تحت عنوان (أفكارنا).

العدد: ١١ / شوال / ١٤٢٨ هـ : ٢٠١٣/٠٩/٢٥ : ٦.٣ K : ٠
: السيد أحمد الاشكوري
التعليقات:
لا توجد تعليقات.

مقال مختار:
لتحميل أعداد المجلة (pdf):