دراسات / إشكالية حكم الإمام المهدي عجل الله فرجه بشريعة داود
إشكالية حكم الإمام المهدي عجل الله فرجه بشريعة داود(1)
حميد عبد الزهرة
قسم التبليغ في الانترنت
يحاول البعض ان يروج ـ بقصد الانتقاص والتشويه لمذهب أهل البيت عليهم السلام ـ في أن المهدي من آل محمد عليهم السلام إنما هو صورة ونسخة عن الدجال اليهودي، متذرعين لذلك بحجج وادعاءات واهية لا تقوم بظن، فضلاً عن ان تكون حجة يعتمدها البعض في التخاطب العلمي والعقائدي.
ويدعي هؤلاء ان مهدي الشيعة الامامية الاثني عشرية هو نفسه الدجال من خلال قراءة مغلوطة ومبتورة لبعض الروايات المروية في كتب الامامية الاثني عشرية (مع ان الكثير من هذه المضامين قد وردت في روايات مصادر ابناء العامة كهذه الرواية التي رواها ابن عساكر في تاريخ دمشق ج45ص186عن قتادة قال كان يقال إن المهدي ابن أربعين سنة يعمل بأعمال بني اسرائيل).
فيدعي هؤلاء ان الروايات تصرح بان المهدي الشيعي يحكم بحكم نبي اليهود داوود عليه السلام.
ولكي نستوعب هذا المطلب جيداً ونقف مع مفاصل هذا البحث وقفة تفحّص وتحقيق نحاول ان نمحور بحثنا بهذه المحاور التي بمجموعها تكتمل عندنا صورة واضحة عما يعتقده اتباع هذه المدرسة الحقة في هذه المسألة.
المحور الاول: الدين واحد ام متعدد ودور الشرائع في الدين.
المحور الثاني: اعتقاد الشيعة الامامية بعصمة الانبياء والائمة عليهم السلام ومدخلية هذه العقيدة في محل البحث.
المحور الثالث: النسخ في الشرائع وهل شريعة من قبلنا شريعةٌ لنا؟ والبحث هنا مبنائي، أي انه جاء مجاراة لما عليه ابناء العامة كما سيتضح اثناء البحث التفصيلي، اما ما عليه الامامية الاثني عشرية فله مجال آخر ليس محل بحثنا فيه الآن ويمكن لمن يريد التبسيط والتوسعة الاستفادة من بعض تفاسير الامامية كالميزان والبيان والتبيان والامثل وغيرها.
المحور الرابع: روايات واقوال أبناء العامة في هذا الباب.
المحور الخامس: روايات حكم الإمام المهدي بحكم داوود ومحل التشبيه فيها وتفسيرات لها على لسان علماء الامامية.
المحور السادس: اقوال علماء ابناء العامة في حكم القاضي بعلمه.
المحور الاول:
الدين واحد ام متعدد وهل الشريعة التي يجيء بها اصحاب الشرائع تختلف عن المفردات العامة للدين بمعنى هل أن صاحب كل شريعة من الانبياء عندما يأتي بشريعة فهي تحوي مفردات ومسائل تتناقض وتكون بالضد من مفردات ومسائل الشريعة التي جاءت قبله أو بعده, وهل ان شريعة من يأتي بشريعة من الانبياء تتناقض ومبادئ الدين أو لا يمكن لنا ان نتصور تناقضاً وتهافتاً بين شريعة وشريعة اخرى وبين شريعة من الشرائع والدين.
فاذا فرغنا من ان الدين واحد وان جميع الانبياء سواء من جاء منهم بشريعة أو لم يأت منهم بشريعة قد آمنوا بهذا الدين فاننا نقول هل الشرائع تتضاد فيما بينها أو هل ان بعضها يضاد الدين أو لا.
عرض قرآني للمسألة:
قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلامُ).
وقال تعالى: (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).
هذه الآيات القرآنية المباركة تقرر أصلاً مؤصلاً لا يجوز أن ينحاد عنه أحد وهو أن الإسلام هو الدين الالهي الوحيد الذي أمر الله تعالى به عباده أن يتبعوه ويتخذوه ديناً ووصفه تعالى بأنه أحسن الاديان وأنه الدين الذي لا يبتغى غيره ولا يجوز أن ينتحل منتحل ديناً يريد به وجه الله إلا دين الاسلام, وأن أول من آمن بهذا الدين هم الانبياء عليهم السلام.
وأن ما أُنزل عليهم كله من الله سبحانه وتعالى وهو واحد وإن كانت مناهجه وشرائعه مختلفة لاقتضاء المصلحة لذلك, واننا مأمورون من خلال هذه الآيات الكريمات أن لا نفرق بين ما انزل على الأنبياء عليهم السلام وأن لا نفرق بين أحد منهم.
فلا يجوز أن نصف النبي داود عليه السلام بانه نبي اليهود أو أن عيسى عليه السلام بانه نبي النصارى فانهم جميعاً أنبياء الله ويدعون جميعاً إلى الاسلام كما وصفت الآيات القرآنية المتقدمة ذلك ومما جاء من الذكر الحكيم في داوود عليه السلام انه قال تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَْسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً).
وداوود عليه السلام من الانبياء الذين فضلهم الله سبحانه وتعالى على بعض النبيين اذ قال: (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) وقال تعالى: (وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) ثم استخلفه الله سبحانه وتعالى وجعله خليفة وحاكماً بين الناس فقال: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الأَْرْضِ).
فداوود عليه السلام في هذه الآيات الكريمات من الأنبياء الملوك الذين آتاهم الله سبحانه وتعالى الملك والحكمة والنبوة ودفع به فساد الارض وهو عليه السلام من الأنبياء الذين فضلهم الله وآتاه زبورا (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً), وقد نقلنا تصريح القرآن تفضيل داود وتقديمه وجعله من الأنبياء الملوك الذين يسّر لهم الحكم في هذه الدنيا حتى أن حكمه وصف في الايات الكريمات كما جاء على لسانه عليه السلام انه حكم لا ينبغي لأحد بعده، وهذا ما يظهر من تسخير الله تعالى له الجبال والطير والريح والإنس والجن بل والشياطين إذ يقول عز من قائل: (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ).
فهذه المرتبة العظيمة التي رتب الله تعالى بها داوود عليه السلام يجب علينا أن نأخذها بعين الاعتبار عندما نريد أن نتكلم عن شخصية هذا النبي العظيم.
ومما يجدر بنا أن نشير له هنا هو أن قول الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِْسْلامُ) يريد أن يشير إلى محكم من القول وهو أن جميع الانبياء الذين سبقوا النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يبشرون بنبوته ويعدون اقوامهم به وهذا ما تظافرت عليه الروايات فضلاً عن الآيات.
وإنما الذي يريد أن يرشد القرآن الكريم إليه هو أن دين الاسلام وأُصوله ليست خاصة ومختصة بمن يؤمن برسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد بعثته بل يجب الايمان بها والاذعان لها حتى قبل بعثته وهذا ما أشارت له الآية الكريمة في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ).
فجميع الانبياء الذين بعثوا إلى الإمم والشعوب إنما بعثوا باركانٍ للدين قد اتفقت عليها جميع الانبياء ولم يختلف فيها نبي عن آخر بل لم يتأت لهم ذلك (والاختلاف الواقع انما وقع بسبب من نصبوا انفسهم قيمين على الدين بغير حق بعد الأنبياء والأولياء) وهذه الاركان هي التوحيد والاقرار بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبأن شريعته هي الشريعة الحقة الخاتمة وانها هي الشريعة التي يريد الله تعالى من عباده أن يصلوا اليه عن طريقها, وهذا إن دل فانما يدل على أن الاقرار بنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبشريعته ركن وأصل من أصول الدين عند جميع الانبياء.
فيجدر بنا الالتفات إلى هذا الامر وادخاله في ضمن محاسباتنا العلمية والتنبه له وعدم اغفاله وهذا يؤكد ما أشارت إليه جملةٌ كبيرة من الروايات فضلاً عن الآيات التي تلوناها والتي تدل على وحدانية الدين عند الله تعالى ومما اشار اليه الذكر الحكيم في هذا الباب قوله تعالى: (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً), وقوله تعالى: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً والروايات تفوق حد الاحصاء.
فالذي ننتهي إليه من خلال جملة ما تقدم من آياتٍ محكمات ان دين الله تعالى منذ ان بدأ الخليقة وكلف العباد إلى أن يرث الله تعالى الارض ومن عليها هو دين واحد وليس هو إلا دين الإسلام الذي جاء به وبشر به وآمن به جميع من ارسل الله تعالى من انبياء ورسل واولياء وائمة وعباد.
المحور الثاني:
اعتقاد الشيعة الامامية بعصمة الأنبياء والأئمة عليهم السلام ومدخلية هذه العقيدة في محل البحث, فإن مما يتفرع على هذه العقيدة انهم يقولون بعدم جواز ارتكاب الذنوب صغيرة أو كبيرة وعدم جواز فعل المعاصي على الأنبياء والائمة.
أعتقد أن هذا الموضوع قد أُشبع بحثاً وتحقيقاً على مدار الازمان والاجيال فلا نجد حقبةً إلا وقد كتب فيها عن العصمة وحدودها وشروطها وموجباتها.
وهذه الابحاث التي لا نريد تأكيدها فضلاً عن تأسيسها نشير إلى بعض مفاصلها والنكات الرئيسية والمحورية فيها لتكون لنا عوناً في فهم الابحاث التي نريد الخوض فيها.
والأدلة التي تقدم عادة على العصمة بشكل عام تقسم إلى صنفين من الأدلة, الأدلة العقلية سواء ما كان منها على المذاق الفلسفي أو على المذاق الكلامي ونذكر هنا كاشارة إليها إلى عناوين بعض هذه الأدلة:
الدليل الأول: ان النصوص الإلهية قد حتمت وجوب اتباع الرسل والانبياء من الرعية ومن القبيح أن يأمر الحكيم باتباع من يجوز عليه الخطأ.
الدليل الثاني: ان هناك مفروغية من لزوم الامامة الالهية ولا تتأتى إلا بالعصمة عن كل معصية.
والأدلة على لزوم الامامة الالهية كثيرة جداً (وهي تقسم أيضاً بحسب المشارب التي تسقى منها الأدلة إلى أدلة فطرية وأدلة برهانية فلسفية وأدلة برهانية كلامية وأدلة قرآنية وروائية) يمكن لمن يريد أن يقف على التفاصيل أن يراجع الالهيات للشيخ السبحاني الجزء الثالث والإمامة الإلهية للشيخ السند الجزء الاول والثاني والعصمة للسيد كمال الحيدري يجد ما يغنيه اغناءً تاماً ويوقفه على الأدلة التي ساقتها الإمامية الإثني عشرية على عقيدتهم في الإمامة الإلهية.
الدليل الثالث على العصمة: ان تجويز الخطأ على المكلف يستدعي ان يكون هناك من يوقفه عليه ويقوده إلى الصواب ولا يكون ذلك إلا للمعصوم فوجب على الحكيم بما كتب على نفسه من الرحمة ان يعصم من يكون ذا دور قيادي الهي.
وهناك أدلة كثيرة جداً ساقها العلماء لإثبات عصمة الانبياء والاولياء تطلب من محلها.
أما الأدلة النقلية على العصمة فهي كثيرة أيضاً نشير إلى بعضٍ منها:
1 _ قوله تعالى: (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فلو دخل غير الانبياء في المخلصين كان دخول (الأنبياء) أولى ولا معنى لاستخلاصهم دون عصمتهم, والا لما كان هناك محل للاستثناء, وقال تعالى: (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَْيْدِي وَالأَْبْصارِ * إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) وقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا).
2 _ قوله تعالى: (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).
3 _ قوله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ), وفي الآية فرض من الله على البشر بطاعة الانبياء ولا معنى للطاعة المطلقة إلا بالعصمة.
4 _ قوله تعالى: (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ).
5 _ قوله تعالى: (لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).
وغيرها من الأدلة القرآنية الكثيرة التي تدل على عصمة الأنبياء جميعاً صلوات الله وسلامه عليهم.
اما الأدلة النقلية فهي كثيرة ويتعسر استقصاؤها واستيعابها في الأبحاث المسهبة فضلاً عن الأبحاث المجملة.
إذن فعصمة الأنبياء صلوات ربي عليهم أمر مفروغ منه على أقل تقدير على مذهب أهل البيت عليهم السلام مطلقاً, وعلى رأي المذاهب الاخرى في حدود دائرة التبليغ.
أما أدلة عصمة الائمة عليهم السلام فهي كثيرة أيضاً وتنقسم إلى المقاسم التي قسمناها في التقسيمات السابقة والأدلة هناك هي بعينها الأدلة هنا وزيادة فمثلاً من الأدلة التي ذكرت بعصمة الائمة عليهم السلام قوله تعالى: (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) على تفصيل وإسهاب في كتب التفسير وأصول العقائد.
وقوله تعالى: (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) أيضا على تفصيل يطلب من محله لمعرفة انطباق الاية ومصاديقها.
فنستخلص إلى هنا النتيجة التي ذكرناها في عنوان البحث الثاني وهي أن الانبياء والائمة عليهم السلام جميعاً معصومون منزهون عن الذنوب والاخطاء والرجس والدنس صغيره وكبيره.
ومن بين هؤلاء الانبياء الذين عصمهم الله تعالى من الرجس وطهرهم تطهيراً وجعلهم ائمة وهداة وقادةً وخلفاء له في ارضه يحكمون بحكمه ويحيون دينه هو نبي الله داوود عليه السلام.
المحور الثالث: النسخ في الشرائع وهل ان شريعة من قبلنا شريعة لنا.
بما أن البحث هنا جاء لرد دعوى يدعيها جمهور من ابناء العامة يقولون فيها إن مهدي آل محمد عجل الله فرجه عند الشيعة يتسم بسمات اليهود ومن أهم ما يحتجون به ويستندون اليه كما يدعون انه سيحكم بحكم داوود، لذلك يكون بحثنا في هذا المبحث مقتصراً على بيان ما هو القول الفصل عندهم من قولٍ في هذه المسألة.
أما عند الشيعة الامامية الاثني عشرية فلا موجب لطرح هذا البحث بعد اتفاقهم على أن حكم المهدي من آل محمد عجل الله فرجه بحكم داوود إنما جاء للتشبيه بعدم سؤال المهدي عليه السلام للمتخاصمين البينة وهذا ما سيتضح مفصلاً في الابحاث الآتية (المحور الخامس) إن شاء الله تعالى.
عرف النسخ في اللغة بانه الرفع والازالة واما في الشرع ففيه خلاف للوقوف عليه يراجع كتاب اللمعة في أصول الفقه لابي اسحق ص136.
والخلافات عند الاصوليين والفقهاء من ابناء العامة في تحديد شروط النسخ كبيرة جداً نشير إلى بعضٍ منها مما يهمنا في تقنين القاعدة المشار اليها:
1 _ ان يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ وان لا يكون الناسخ ظنياً.
2 _ أن يكون الناسخ خاصاً فلا ينسخ العام الخاص وان يكون الناسخ معلوماً فلا يثبت النسخ على من لم يعلمه.
3 _ أن يكون النسخ قد وقع في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن ثبوت النسخ فرع ثبوت النص والنص في حياته صلى الله عليه وآله وسلم.
4 _ هناك خلاف في كون الناسخ هل هو خبر واحد أم السنة القطعية أم القرآن.
5 _ هناك خلاف في هل أن النسخ رافع أم مبينٌ لانتهاء أمد الحكم على خلاف في ذلك أيضاً.
6 _ هناك خلاف كبيرٌ في حدود النسخ وهل هو في الاصول اصول الدين ام خاص بما يجوز على وجهين كبعض العبادات للوقوف على تفاصيل هذه المسائل يراجع المصادر التالية: المغني لابن قدامة الجزء الاول ص180 وص527 وص700 وعمدة القارئ للعيني الجزء الاول ص30 وص246 والفصول للجصاص الجزء الاول ص150 وص168 وص170 والاحكام لابن حزم الجزء الاول ص170 واللمع لابي اسحق ص159 وص163 وغيرها من المصادر الكثيرة التي تركناها اختصاراً.
ونتيجة هذا البحث التي توصلنا اليها من خلال تتبع كلمات العلماء هي ما ورد في نص سؤالٍ وجه إلى الشيخ صالح بن فوزان الفوزان وهو من احد كبار علماء المملكة العربية السعودية حيث كان نص السؤال هل شريعة من قبلنا تعتبر شريعةً لنا ام لا؟ فكان الجواب: هذه مسألة اصولية الصحيح فيها ان شريعة من قبلنا شريعةٌ لنا ما لم يرد في شرعنا بخلافه فما ذكره الله سبحانه وتعالى في الشرائع السابقة ولم يرد في شرعنا ما ينسخه فانه شرع لنا هذا هو الصحيح في المسألة والله اعلم.
هذه القاعدة النصية الفصلية (عندهم) التي بها يفصل الكلام تصرح وتنصص على ان الدين عند الله تعالى واحد وهو الاسلام وان الشرائع قبل شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي الشريعة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وان ما ثبت في الشرائع التي سبقت شريعته صلى الله عليه وآله وسلم ثابت في هذه الشريعة ما لم يرد فيها ناسخ ويكون هذا الناسخ محكوماً بالثبوت على الخلاف الذي تقدم في حكم الناسخ وكيف يثبت نسخه.
المحور الرابع: روايات أبناء العامة في الباب.
ذكر ابن حجر (ان معنى شرعة ومنهاجاً (أي سبيلاً بيناً واضحاً) وهذا ما ذكره البخاري الجزء الاول ص8 عن ابن عباس (شرعةً ومنهاجا سبيلاً وسنةً)). (2)
وهذا إن دل فإنما يدل على ما بيناه مفصلاً(حسب مصادرهم، وستوافيك اقوالهم) من أن الدين عند جميع الأنبياء هو الإسلام وأن الفارق بين بعض أنبياء الله الذين اختلفت سبلهم في إيصال هذا الدين الواحد إلى أتباعهم والمؤمنين بهم في الأوقات التي بعثوا بها والتي تناسب عصورهم نظير المعجزة التي يجيء بها النبي بإثبات نبوته فإنها وإن اختلفت من موسى إلى عيسى إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكن حقيقتها وهي إثبات حقانية صاحب الدعوة أمر واحد ومتفق عليه بين كل هذه الاشكال والسبل والمعاجز فموسى أراد أن يثبت نبوته بابطال السحر وعيسى أراد أن يثبت نبوته بإحياء الموتى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يثبت نبوته بإعجاز القرآن التعدد في السبيل وإن كان واقعاً إلا أنه لا يكشف عن تعدد أهداف كل نبي ومبادئ رسالته.
فحسب التفسير الذي جاء به البخاري على لسان بن حجر هنا يتضح جلياً ان السبل لتحقيق الدين مختلفة والدين حقيقةً ليس إلا واحد.
وفي عمدة القارئ عن قتادة (شرعةً ومنهاجا) قال: الدين واحد والشريعة مختلفة,(3) وفسر العيني بما نقل من اقوال المنهاج بما فسر به البخاري وشرحه ابن حجر كما يلاحظ المراجع للمصدر الآنف الذكر، وذكر أيضاً في معرض شرح الحديث الذي رواه ابو هريرة قال, قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (انا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة والانبياء اخوةٌ لعلاة امهاتهم شتى ودينهم واحد), قوله ودينهم واحد أي التوحيد دون الفروع للاختلاف فيها قال تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ويقال دينهم أي اصول الدين واصول الطاعات واحدٌ والكيفيات والكميات في الطاعة مختلفةٌ.(4)
فالعيني يبرز هنا ان اصول الطاعات في كل الشرائع واحدةٌ واصول الدين في كل الشرائع واحدةٌ وانما الاختلاف في الكيفيات والكميات.
وحيث انه مما حكم فيه انه من اصول الفروع (الطاعات) حكم القاضي بعلمه.
وبغض النظر عن ذلك فانه يتبين لنا هنا وحسب ما تقدم من بيان (بحسب ما عليه ابناء العامة) إن ما لم يرد في خاتمة الشرائع كيفيةٌ معينة لطاعة أو أصل من الطاعات أو الاصول فقد بين ذلك في الشرائع التي سبقت فإنه يكون للمسلمين شريعةً ومنهاجاً وسبيلاً وطريقاً لتحقيق الطاعة المطلوبة من قبل الله تعالى.
وقال الجصاص: قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الشرعة والشريعة واحد, ومعناها الطريق إلى الماء الذي فيه الحياة, فسمى الأمور التي تعبد الله بها من جهة السمع شريعة وشرعة لإيصالها العاملين بها إلى الحياة الدائمة في النعيم الباقي.
قوله تعالى: (وَمِنْهاجاً) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: سنةً وسبيلاً.
ويقال طريق نهج إذا كان واضحاً.
قال مجاهد: وأراد بقوله (شِرْعَةً) القرآن, لانه لجميع الناس, وقال قتادة وغيره: شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن.
وهذا يحتج به من نفى لزوم شرائع من قبلنا ايانا وإن لم يثبت نسخها لإخباره بأنه جعل لكل نبي من الأنبياء شرعةً ومنهاجاً.
وليس فيه دليل على ما قالوا, لأن ما كان شريعةً لموسى عليه السلام فلم ينسخ إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم, لقد صارت شريعةً للنبي عليه السلام وكان فيما سلف شريعةً لغيره فلا دلالة في الآية على اختلاف أحكام الشرائع وأيضا فلا يختلف أحدٌ في تجويز أن يتعبد الله رسوله بشريعة موافقة لشرائع من كان قبله من الانبياء, فلم ينف قوله: (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) ان تكون شريعة النبي عليه السلام موافقة لكثير من شرائع الانبياء المتقدمين.(5)
وقال ابن تيمية: (وأخبره تعالى أنه جعل لكلٍ من أهل التوارة والانجيل والقرآن شرعةً ومنهاجا وأمره تعالى بالحكم بما انزل الله امراً عاماً لاهل التوراة والانجيل والقرآن ليس لأحد في وقت من الاوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله والذي أنزله الله هو دينٌ واحد اتفقت عليه الكتب والرسل وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة وان تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ فهو شبيه بتنوع حال الكتاب فان المسلمين كانوا أولاً مأمورين بالصلاة لبيت المقدس ثم أمروا أن يصلوا للمسجد الحرام وفي كلا الامرين إنما اتبعوا ما أنزل الله عز وجل).(6)
وقال أيضاً: فجعل القرآن مهيمناً والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيهما (التوراة والإنجيل) مما لم ينسخه الله ويشهد بتصديق ما فيهما مما لم يبدل ولهذا قال (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً).(7)
ومن خلال هذا العرض الروائي والتفسيري واقوال العلماء من ابناء العامة يتضح لنا ما اثبتناه في الأبحاث المتقدمة من أن شريعة من قبلنا شريعةً لنا (هذا ما اثبتته اقوال علمائهم وفتاواهم كفتوى الشيخ صالح بن فوزان الفوزان) ما لم يثبت بدليل قطعي ان هناك ناسخ للاحكام الثابتة للشرائع والسبل المتقدمة على سبيل ومنهاج شريعة خاتم الانبياء صلى الله عليه وآله وسلم ومما يشهد بصحة هذا ما ذكره الباري تعالى في محكم كتابه من آي كريم (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالإِْنْجِيلَ) فان القرآن الكريم يخاطب أهل التوراة وأهل الإنجيل بأنهم ملزمون بإقامة التوارة والإنجيل لأنها بالتالي تؤدي إلى الإيمان والإقرار بما عليه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشريعته.
ومما يشهد لذلك ما قاله ابن تيمية: في معرض تفسيره للآية الكريمة (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالإِْنْجِيلَ) هذا يبين أن هذا أمر لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لأهل الكتاب الذي بعث اليهم أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما انزل اليهم من ربهم فدل ذلك على ان عندهم ما يعلم انه منزل من الله وانهم مأمورون باقامته إذا كان ذلك مما قرره محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينسخه. ومعلوم ان كل ما امر الله به على لسان نبي ولم ينسخه النبي الثاني بل أقره كان الله آمراً به على لسان نبي بعد نبي ولم يكن في بعثة الثاني ما يضاد وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول وقرره النبي الثاني.
ولا يجوز أن يقال إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول إنما المنسوخ قليلٌ بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع).(8)
وبهذا ننتهي إلى ان شريعة من قبلنا شريعةٌ لنا ما لم يرد ناسخ في مسألة وفرع من فروعها ويجب علينا الإيمان الاجمالي بتلك الشرائع السابقة على شريعة الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم.
المحور الخامس: روايات حكم الإمام المهدي بحكم داوود ومحل التشبيه فيها وتفسيرات لها على لسان علماء الإمامية.
ففي بصائر الدرجات حدثنا أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن هشام بن سالم عن عمار الساباطي قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام بما تحكمون إذا حكمتم فقال بحكم الله و حكم داود فإذا ورد علينا شئ ليس عندنا تلقانا به روح القدس .(9)
حدثنا أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن هشام بن سالم عن عمار أو غيره قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام فبما تحكمون إذا حكمتم فقال بحكم الله وحكم داود وحكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإذا ورد علينا ما ليس في كتاب على تلقانا به روح القدس والهمنا الله الهاما.(10)
باب في الأئمة عليهم السلام أنهم إذا ظهر أمرهم حكموا بحكم داود وآل داود ولا يسألون البينة عليهم السلام.
1 - علي بن إبراهيم، نقله عن أبي عبيدة الحذاء قال : كنا زمان أبي جعفر عليه السلام حين قبض نتردد كالغنم لا راعي لها، فلقينا سالم بن أبي حفصة، فقال لي : يا أبا عبيدة من إمامك ؟ فقلت أئمتي آل محمد فقال : هلكت وأهلكت أما سمعت أنا وأنت أبا جعفر عليه السلام يقول : من مات وليس عليه إمام مات ميتة جاهلية ؟ فقلت : بلى لعمري، ولقد كان قبل ذلك بثلاث أو نحوها دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فرزق الله المعرفة، فقلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن سالما قال لي كذا وكذا، قال : فقال : يا أبا عبيدة إنه لا يموت منا ميت حتى يخلف من بعده من يعمل بمثل عمله ويسير بسيرته ويدعو إلى ما دعا إليه، يا أبا عبيدة إنه لم يمنع ما أعطي داود أن أعطي سليمان، ثم قال : يا أبا عبيدة إذا قام قائم آل محمد عليه السلام حكم بحكم داود وسليمان لا يسأل بينة.
2 - محمد بن يحيى نقله عن أبان قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : لا تذهب الدنيا حتى يخرج رجل مني يحكم بحكومة آل داود ولا يسأل بينة، يعطي كل نفس حقها.
3 - محمد نقله عن عمار الساباطي قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: بما تحكمون إذا حكمتم ؟ قال : بحكم الله وحكم داود فإذا ورد علينا الشئ الذي ليس عندنا، تلقانا به روح القدس.
4 - محمد بن أحمد نقله عن جعيد الهمداني، عن علي بن الحسين عليهما السلام، قال : سألته بأي حكم تحكمون ؟ قال : حكم آل داود، فإن أعيانا شئ تلقانا به روح القدس .
5 - أحمد بن مهران نقله عن عمار الساباطي قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما منزلة الأئمة ؟ قال : كمنزلة ذي القرنين وكمنزلة يوشع وكمنزلة آصف صاحب سليمان، قال : فبما تحكمون ؟ قال : بحكم الله وحكم آل داود وحكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ويتلقانا به روح القدس.(11)
الشرح (للحديث الاول):
قوله (ولقد كان قبل ذلك بثلاث أو نحوها) أي وقد كان السماع قبل قبض أبي جعفر عليه السلام أو قبل لقاء سالم بثلاث سنين أو نحوها .
قوله (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام) استئناف كأنه قيل : ما فعلت ؟ فقال : دخلت قوله (حتى يخلف من بعده) خلفه تخليفا جعله خليفة كاستخلفه.
قوله (إنه لم يمنع ما أعطي داود) أن أعطي سليمان كما أن الله سبحانه أعطى داود حكما وأعطى سليمان حكما آخر كما حكما في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم ولم يمنعه إعطاء الأول من إعطاء الثاني مع أن دينهما واحد لوقوع كل على وفق مصلحة، كذلك أعطى الأئمة حكما وأعطى قائمهم حكما آخر وهو أنه يحكم بعلمه ولا يطلب بينة كما حكم به أمير المؤمنين عليه السلام في بعض القضايا وحكم به داود وسليمان عليهما السلام في بعض الأوقات: وقوله (إذا قام قائم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم) يحتمل الكلية والجزئية لأن إذا بحسب العرف يفيد الكلية وبحسب اللغة يفيد الجزئية والأخير أظهر لأن عرف الشرع فيه غير معروف فالأولى بقاؤه على عرف اللغة.
الشرح (للحديث الثالث):
قوله (فإذا ورد علينا الشيء الذي ليس عندنا تلقانا به روح القدس) كما تلقى داود عليه السلام في رجل استعدى على رجل فقال : إن هذا أخذ مالي، فأوحى إليه أن هذا المستعدي قتل أبا هذا وأخذ ماله، فأمر داود بالمستعدي فقتل وأخذ ماله فدفعه إلى المستعدى عليه فعجب الناس . وكما تلقاه في شيخ تعلق بشاب معه عنقود من عنب فقال الشيخ : يا نبي الله إن هذا الشاب دخل بستاني وخربه وأكل منه بغير إذني، فقال داود للشاب : ما تقول ؟ وأقر به، فأوحي إليه أن يا داود إن هذا الشيخ قد اقتحم على أبي هذا الغلام في بستانه فقتله وغصب بستانه وأخذ منه أربعين ألف درهم فدفنها في جانب بستانه فادفع إلى الشاب سيفا ومره أن يضرب عنق الشيخ وادفع إليه البستان ومره أن يحضر موضع كذا ويأخذ ماله.
الشرح (للحديث الخامس):
قوله (قال كمنزلة ذي القرنين) وجه التشبيه إما الوصية أو العلم والقرب والرفعة وليس الغرض منه إلحاق الناقص بالكامل لأنهم عليهم السلام أعلم وأقرب وشأنهم أرفع وأجل بل الغرض منه هو الإلحاق بالمعروفين بالعلم والقرب والرفعة في الصدر الأول، وبالجملة لا يجب أن يكون الوجه في المشبه به أقوى لجواز أن يكون مشهورا مسلم الثبوت له عند المخاطب، وقد مر توضيح ذلك في باب أن الأئمة عليهم السلام بمن يشبهون ممن مضى. قوله (بحكم الله وحكم آل داود وحكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم) لعل المراد بحكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بظاهر الشريعة وبحكم الله أو حكم داود الحكم بباطنها وهو الحكم بالواقع وبما يلقي إليهم روح القدس وفيه دلالة على ما أشرنا إليه من أن القائم قد يحكم بحكم داود لا دائما كما أن داود قد كان يحكم به لا دائما، فليتأمل .انتهى كلام الشارح.
أين محل التشبيه به في هذه الروايات؟
هو عدم سؤال المتخاصمين البينة فان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يحكم بالحكم الظاهري حيث اثر عنه صلى الله عليه وآله وسلم انما احكم بينكم بالايمان والبينات اما داود عليه السلام فكان يحكم في بعض الموارد بالحكم الواقعي لذلك نلاحظ ان الروايات التي شبّهت حكم الامام المهدي عليه السلام بحكم داود ذكرت محل الشبه فقالت ولا يسأل بيّنة أي بمعنى ان الامام عليه السلام يحكم في بعض الاحيان بدون ان يحتاج الى طلب البينة من المتخاصمين، ففي الكافي عن ابي عبد الله عليه السلام في حديث له قال: فإذا بعث الله عز وجل قائمنا اهل البيت حكم فيهما بحكم الله لا يريد عليهما بيّنة).(12)
هذا، ويحدثنا التاريخ ان امير المؤمنين عليه السلام كان يحكم في بعض الاحيان دون التماس البينة او يضيف اليها مجموعة من القرائن التي لا يلتفت اليها عادةً ويحكم بها ثم يعلق عليه السلام بعد ذلك بان ما حكم به لم يحكم به غيره سوى داود عليه السلام هذا من جهة, ومن جهة اخرى إتفقت كلمة أغلب العلماء من الفريقين على أن للقاضي أن يحكم بعلمه كما سياتي قريبا نقل اقوالهم الدالة على ذلك، فاذا كان للقاضي الذي يعلم ظاهر الاحكام, الحكم بعلمه فكيف لمن يكون علمه علم الكتاب ومعنى علم الكتاب ليس القرآن فقط بل يعلم واقع الاحكام الدينية كلها اذن فالمهدي عليه السلام يحكم بحكم داود وآل داود ولا يريد بينة وشاهد ما ذكرناه من الروايات ما رواه قطب الدين الراوندي في حديث اخذنا منه فقال لها عليه السلام: بيني وبينك من يحكم بحكم داود وآل داود ويعرف منطق الطير ولا يحتاج الى شهود..(13)
وفي حديث آخر رواه العاملي عن الصادق عليه السلام قال: (انه يحكم بحكم داود ولا يحتاج الى بينة يلهمه الله فيحكم بعلمه ويخبر كل قوم بما استنبطوه ويعرف وليّه من عدوّه بالتوسم.(14)
نقل العلامة المجلسي في البحار ج52 ص382 قولاً للعلامة الطبرسي في كتاب اعلام الورى تحليلاً لهذا المعنى حيث قال وانه يحكم بحكم داود عليه السلام لا يسأل بينة واشباه ذلك والجواب ان هذه الاخبار غير مقطوع بها وان صحّت فتأويلها انه يحكم بعلمه فيما يعلمه واذا علم الامام أو الحاكم أمراً من الأمور فعليه أن يحكم بعلمه ولا يسأل عنه وليس في هذا نسخ للشريعة.
إذن الإمام عليه السلام يحكم بحكم داود معنى انه لا يسأل بينة هذا اولاً .
وثانياً إن الله تعالى قال (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (15)وقال تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَْسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً)(16) وغيرها مما تقدم من آيات. فبمقتضى الجمع بين هذه الآيات يتضح أن الموحى به أمر واحد نعم هناك فرق في المناهج والشرائع وعليه فحكم الإمام الذي يعلم الكتاب حكم لأحكام الدين الإسلامي ومحل التشبيه واضح جداً.
المحور السادس: أقوال علماء أبناء العامة في حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل والقاضي بعلمه.
ففي كشاف القناع للبهوتي (وله) صلى الله عليه وآله وسلم (أن يقضي) ويفتي (وهو غضبان، وأن يقضي بعلمه ويحكم لنفسه وولده، ويشهد لنفسه وولده، ويقبل شهادة من يشهد له صلى الله عليه وآله وسلم أو لولده . لحديث خزيمة ولأنه معصوم(17) وفي المغني لعبد الله بن قدامه.
بناءً على القاضي هل له أن يقضي بعلمه؟ على روايتين لأن قاضي دمشق أخبره به في عمله ومذهب الشافعي في هذا كقول القاضي ههنا.(18)
وفي بداية المجتهد ونهاية المقتصد:
(إن العلماء أجمعوا على أن القاضي يقضي بعلمه).(19)
وفي الاستذكار والسلف من الصحابة والتابعين مختلفون في قضاء القاضي بعلمه على حسب اختلاف فقهاء الأمصار من ذلك ومما احتج به من قال إن القاضي يقضي بعلمه فيما قضى به علمه مع ما قدمنا ذكره ما رويناه من طريق (غير واحد) عن عروة وعن مجاهد جميعا بمعنى واحد ان رجلا من بني مخزوم استعدى عمر بن الخطاب على أبي سفيان بن حرب انه ظلمه حدا في موضع كذا وكذا فقال عمر اني لاعلم الناس بذلك وربما لعبت انا وأنت فيه ونحن غلمان فإذا قدمت مكة فاتني بابي سفيان فلما قدم مكة اتاه المخزومي بابي سفيان فقال له عمر: يا أبا سفيان (انهض بنا إلى موضع كذا فنهضوا ونظر عمر فقال: يا أبا سفيان) خذ هذا الحجر من هنا فضعه ها هنا فقال والله لا افعل ذلك (فقال عمر والله لتفعلن فقال لا والله لا أفعل فقال) والله لتفعلن فقال لا أفعل فعلاه عمر بالدرة وقال خذه ـ لا أم لك ـ وضعه ها هنا فإنك قديم الظلم فاخذ أبو سفيان الحجر ووضعه حيث قال عمر ثم إن عمر استقبل القبلة وقال اللهم لك الحمد إذ لم تمتني حتى غلبت على أبا سفيان على راية فأذللته لي بالإسلام قال فاستقبل القبلة أبو سفيان وقال اللهم لك الحمد الذي لم تمتني حتى جعلت في قلبي من الاسلام ما ذللت به لعمر ففي هذا الخبر قضاء عمر بعلمه فيما قد علمه قبل ولايته).(20)
وفي مغني المحتاج: ولا يقضي بخلاف علمه يندرج فيه حكمه بخلاف عقيدته، قال البلقيني: وهذا يمكن أن يدعى فيه اتفاق العلماء، لأن الحكم إنما يبرم من حاكم بما يعتقده (والأظهر أنه يقضي بعلمه) ولو علمه قبل ولايته أو في غير محل ولايته . وسواء أكان في الواقعة بينة أم لا، لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان أو شاهد ويمين فبالعلم أولى . وعلى هذا يقضي بعلمه في المال قطعا، وكذا في القصاص وحده القذف في الأظهر.(21)
وفي المجموع على الصحيح أن القاضي يقضى بعلمه.(22)
وفي فتح العزيز (ولو كان القاضي عالما بالحال وقلنا إنه يقضى بعلمه فهو كما لو كانت له بينة).(23)
وهناك الكثير من الاقوال في هذا الباب تركت طلبا للاختصار.
ومن هنا يتبين سقم ما نقل عن الدكتور الغفاري من ذمٍ لشيخ الاسلام وثقته الكليني لعقيدته في هذا الباب حيث شنّع عليه بأن هذا العنصر عنصر يهودي، وخفي عليه ما مُلأت به الصحاح فضلاً عن غيرها من تراثٍ يهودي.
اذ تبيّن لك ان احاديث الكافي وغيره ناظرة الى ان حكمه عليه السلام بحكم داود لمكان التشبيه بعدم الاحتياج الى بيّنة، فكما ان داود كان يحكم ويدير شؤون ملكه بعلمه الذي آتاه الله اياه على حد تعبير الامام الصادق عليه السلام اذ قال (ان داود عليه السلام قال يا رب ارني الحق كما هو عندك حتى اقضي به...) وقد روت مصادر ابناء العامة قبلنا روايات تدبير داود بعلمه شؤون ملكه فقد روى الحاكم في مستدركه تحت الرقم 4135 (... فلم يزل داود يدبر بعلم الله ونوره، قاضياً بحلاله، ناهياً عن حرامه، حتى اذا ما اراد الله ان يقبضه اليه اوحى اليه ان استودع نور الله وحكمته ما ظهر منها وما بطن الى ابنك سليمان ففعل).
اذن فالنتيجة المستخلصة من الابحاث المتقدمة ان الامام عليه السلام انما حكمه بحكم داود من جهة عدم السؤال عن البينة وليس بذلك مما يشان به علينا كما هو بين.
الهوامش:
(1) من البحوث المشاركة في المؤتمر العلمي الأول في الإمام المهدي الذي عقده مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام في مدينة النجف الاشرف في 22/ تموز/ 2007م.
(2) في فتح الباري الجزء الثامن ص203.
(3) للعيني الجزء الاول ص177.
(4) العيني في الجزء 16 ص36.
(5) في احكام القرآن الجزء الثاني ص552.
(6) الجزء الثاني ص56 من دقائق التفسير.
(7) ابن تيمية في الجزء الثاني ص52 في دقائق التفسير.
(8) في الجزء الثاني ص56 في دقائق التفسير.
(9) محمد بن الحسن الصفار/ ص 471.
(10) ن. م ص 472.
(11) الكافي للكليني/ ج1 ص 397 ـ 398.
(12) الكليني: ج3 ص 503 باب منع الزكاة ح 5.
(13) الخرائج والجرائح ج 1 ص 291 باب 6 في معجزات الإمام عليه السلام ح 24.
(14) الصراط المستقيم ج 2 ص 254.
(15) البقرة/ 136.
(16) النساء/ 163.
(17) ج 5 ص 37.
(18) ج 11 ص 478.
(19) ابن رشد الحفيد / ج2 ص 385.
(20) ابن عبد البر/ ج7 ص 94 ـ 95.
(21) محمد بن احمد الشربيني ج4 ص 398.
(22) محي الدين النووي/ ج12 ص 150.
(23) عبد الكريم الرافعي: ج5 ص 503.