دراسات / النور المتألق ومعنى الأمر الذي ينزل عليه
النور المتألق ومعنى الأمر الذي ينزل عليه
سماحة السيد كمال الحيدري/ استاذ في الحوزة العلمية- قم المقدسة
الحديث عن الامام الحجة عليه السلام حديث عن حجة إلهي يعيش معنا، ويطلع على كل شيء يرتبط بنا في كل يوم وليلة، والروايات على هذا كثيرة، ولكن سوف لن يكون حديثنا في هذا الاتجاه، اتجاه شهادة الأعمال وغيرها من قبله عليه السلام فإن له مقاماً آخر.
ويقع الحديث في بيان بعض مقامات الإمام عليه السلام الذي نعتقد بوجوده وحياته، وبعبارة نريد الإجابة عن التساؤل الذي يدور في بعض الأذهان عن سبب الاهتمام بالإمام الحجة عليه السلام من حيث ميلاده ذلك الاهتمام الخاص، وإن كنا بطبيعة الحال نهتم بجميع مواليد الأئمة عليهم السلام لاسيما سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
فهل أن القضية تتعلق بالجانب العاطفي المحض؟! أو أن في القضية سراً آخر وخصوصية معينة؟
بحيث تستحق قضية حياة الإمام الحجة وميلاده عليه السلام هذا الاهتمام الأكيد.
تمهيد:
حديث الكوكب الدّرّيّ
نبدأ حديثنا هذا بقراءة رواية مباركة رواها الامام جعفر الصادق عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:((لمّا أُسري بي الى السماء أوحى إلي ربي فقال: يا محمد إني اطلعت الى الأرض إطلاعة فاخترتك منها فجعلتك نبياً وشققت لك اسماً من أسمائي فأنا المحمود وأنت محمد، ثم أطلعت الثانية فاخترت منها علياً وجعلته وصيَّك وخليفتك وزوج ابنتك وأبا ذريتك وشققت له اسما من أسمائي فأنا العلي الأعلى وهو علي، وجعلت فاطمة والحسن والحسين من نوركما، ثم عرضت ولايتهم على الملائكة فمن قبلها كان عندي من المقربين، يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي ثم أتاني جاحداً لولايتهم ما أسكنته جنتي ولا أظللته تحت عرشي.
يا محمد أتحب أن تراهم؟ قلت: نعم يارب، فقال عزوجل: ارفع رأسك، فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجة بن الحسن القائم في وسطهم كأنه كوكب دُرّي.
قلت: يا رب من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الأئمة وهذا القائم الذي يحلل حلالي ويحرم حرامي وبه أنتقم من أعدائي، وهو راحةٌ لأوليائي.
وهو الذي يشفي قلوب شيعتك من الظالمين والجاحدين والكافرين فيخرج اللات والعزى طريين فيحرقهما فلفتنة الناس يومئذ بهما أشد من فتنة العجل والسامري.
هذا والاشارة أنتم أعلم بها فإنهم فتنوا الناس وأضلوهم عن طريق الصواب وهذه المسألة مرتبطة بأبحاث الظهور.
دعاء مبارك:
وقد ورد هذا الدعاء الذي هو بمثابة زيارة للإمام القائم عليه السلام في ليلة النصف من شعبان المعظم وهو:((اللهم بحق ليلتنا ومولودها وحجتك وموعودها التي قرنت الى فضلها فضلاً فتمت كلمتك صدقاً وعدلاً لا مبدِّل لكلماتك ولا معقِّب لآياتك نورك المتألق وضياؤك المشرق والعلم النور في طخياء الديجور الغائب المستور جل مولده وكرم مَحْتده والملائكة شُهَّدُهُ والله ناصره ومؤيده إذا آن ميعاده والملائكة أمداده، سيف الله الذي لا ينبو ونوره الذي لا يخبو وذو الحلم الذي لا يصبو، مدار الدهر ونواميس العصر وولاة الأمر والمنزل عليهم ما يتنزل في ليلة القدر وأصحاب الحشر والنشر وتراجمة وحيه وولاة أمره ونهيه...)). ونريد الوقوف على بعض المقاطع والأبعاد في الدعاء الشريف، ثم ندخل في البحث القرآني وهذه الأبعاد هي:
أولاً: نورك المتألق، ونوره الذي لا يخبو.
ثانياً: مدار الدهر.
ثالثاً: ولاة الأمر والمنزَّل عليهم ما يتنزّل في ليلة القدر.
رابعاً: ولاة أمره ونهيه.
البعد الأول:(النور المتألق)
وفيما يتعلق بوصف الإمام الحجة عليه السلام بالنور المتألق في مقطعين أو أكثر في الدعاء المبارك، فقد قال الله تقدس وتبارك:((يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ))(1).
وتشبهها الآية الثامنة من سورة الصف.
فيتضح المراد بنوره تعالى في الآية المباركة؛ إذ أن الوعاء جاء فيه عن الامام عليه السلام: ونورك الذي لا يخبو. والتعبير القرآني كالعادة جدُّ دقيق، فلماذا يريدون أن يطفئوا نور الله تعالى أليس هم قد جيَّشوا الجيوش والإمكانات وسخّروا أموالهم واقتصادهم وكل ما يمكنهم لإطفاء نور الله تعالى، فما معنى التعبير بإرادة إطفاء النور بالأفواه؟ يجيب عنه المفسرون أنه كان تحقيراً وتصغيراً لهم فكل أعمالهم قبال النور الإلهي من قبيل ما ينفخه الانسان من هواء، فهذه إرادة الله تعالى التي لو جمعت كل إمكانات العالم قبالها لما كانت إلاّ هباءً منبثاً.
هذا بالنسبة للمورد الأول في كتاب الله تعالى، والمورد الآخر ما في آية النور المباركة:((اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ)) فالسماوات والأرض قد أشرقت بنور الله.
أما ما هو نور الله؟ يجيبنا الدعاء: نوره الذي لا يخبو، نورك المتألق، وضياؤك المشرق، العَلَم النور.
لأن هذا النور كان سبباً من الله تعالى لإشراق السماوات والأرض. وتوجد كلمة أخرى نطالعها في الآية هي((كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ)) والتي هي زجاجة النور، وقد قرأنا في رواية الإسراء أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى الحجة عليه السلام كأنه كوكب درّي.
إذن فالآيات المباركة تشير إلى بعض أبعاد مقاماته عليه السلام.
ونكتفي بهذا لضيق المجال.
البعد الثاني:(مدار الدهر)
وجاء في الدعاء المبارك أيضاً أنه(مدار الدهر) ولنقف عنده قليلاً، المدار هو محل دوران الأشياء؛ أي أن الدهر يدور حوله عليه السلام.
لكن ما معنى أن الدهر يدور عليه؟ هنا أيضاً أحاول أن أرجع الى القرآن الكريم مرة أخرى.
نحن نعلم أن القرآن يشير إلى حقيقة أن كل شيء بدأ من الله تعالى وكل شيء يرجع إليه وصريح الآيات يثبت هذه الحقيقة(إنا لله وإنا إليه راجعون) ولهذا تجد علماءنا قد عرّفوا الموت إنه رجوع إلى الله وانقطاع إليه عمّن سواه.
فهو يرجع إلى موطنه الاصلي، فلذا بعضهم يفسر(حبّ الوطن من الايمان) بهذا المعنى لا الوطن المادي، فالانسان جاء من الله واليه يريد الرجوع فليس الوطن هو التراب والحدود في الحديث، نعم هو أحد معانيه ولا يتنافى ذلك وجوب الدفاع عن الوطن الاسلامي.
وهكذا توجد آيات كثيرة في القرآن الكريم تشير إلى أن كل شيء منه تعالى وإليه رجوعه، لذا قال الله تعالى في سورة الحديد(هو الأول والآخر) وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام:(ليس لصفته حدٌ محدود) فليس هو تعالى محدوداً بحدّ حتى نبدأ بنقطة وننتهي بنقطة كما في هذا الكتاب تقول هذا أوله وهذا آخره!
بل إن من معاني(الأول والآخر) أن كل شيء يبدأ منه وكل شيء ينتهي إليه، بمعنى أن الآخر مرجعه إلى الأول، وأن الأول يبدأ من حيث ينتهي الآخر.
لذا تقرأ في الآية المباركة:(يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثمَ يعرُج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدُّون)(2).
فالقرآن يشير إلى هذه الحقيقة: أن كل شيء يبدأ منه وإليه ينتهي تعالى، لذا تجد كلمة قيمة للعرفاء وهي إن الغايات هي إلى البدايات.
فغاية الإنسان الرجوع إلى ما بدأ منه وقد بدأ من الله فغايتك الرجوع إليه تعالى(وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون) (3)، فالقرآن يشير إلى هذه الحقيقة الواضحة المهمة(يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربَّك كدحاً فملاقيه) الانشقاق.
فهذا هو الصعود إلى الله تعالى.
لكننا نتساءل عن هذا الصعود والنزول المعنوي بأي نحو هو؟
ويمكن أن نتصور حالتين:
الأولى: إن النزول من الله تعالى يكون بنحو الخط المستقيم والصعود كذلك.
لكن هل هذان الخطان يلتقيان؟ كلا وهو واضح في علم الهندسة فلا يستطاع القول إن البداية هي النهاية.
الثانية: أن نفترض أن النزول من الله تعالى على شبه قوس والصعود إليه شبه قوس آخر، فمباشرة النقطة التي بدأت منها الدائرة تنتهي إلى ما بدأت منه فالنهاية هي البداية.
فإذا أردنا أن نُمثّل لعالمنا الذي خلقه الله فنستطيع أن نقول قوس النزول وقوس العروج والصعود، وهما معاً يشكلان دائرة، هذا ولكل دائرة قطب مركز، فما هو قطب هذا العالم؟
كأن الدعاء يريد أن الدهر بل العالم كله يدور أمره على الحجة عليه السلام(لولا الإمام لساخت الأرض بأهلها)
بمعنى: لساخ العالم كله ولولا الحجة لما بقي على صلاحه ولتلاشى العالم كله، فهو قطب العالم كله، لذا يعبر على اللسان بما هو شائع عن الإمام الحجة عليه السلام انه قطب عالم الامكان، وهو إشارة إلى أنه مركزهم، وما أروع الشاهد في الرواية التي بدأنا الحديث بها والحجة في وسطهم كأنه كوكب دري.
فمن الطبيعي أن تجد ذلك الاهتمام الكبير في الاحاديث الشريفة عن الإمام الحجة عليه السلام، بل ما من نبي إلا وبشَّر بالحجة عليه السلام، ولعلنا ذكرنا هذا المطلب في بعض الأمكنة، وقد بينا إننا عندما نراجع سير الأنبياء عليهم السلام نجدهم يؤكدون على ثلاثة محاور:
المحور الأول: النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم.
المحور الثاني: الإمام الحسين عليه السلام.
المحور الثالث: ظهور الإمام المهدي عليه السلام.
وهذه من المحاور الأصلية في الإسلام: النبوة ومحور الإمام الحسين عليه السلام ومحور ظهور العدالة الكبرى والامام القائم، وأرجو أن نوفق للإشارة إلى هذه المطالب في المحل المناسب إن شاء الله.
فهذه الحقيقة الثانية والبعد الثاني هو أن المهدي عليه السلام مدار الدهر.
البعد الثالث: (ولاة الأمر)
قوله عليه السلام: وولاة الأمر والمنزل عليهم ما يتنزل في ليلة القدر.
وهنا أيضاً نرجع إلى القرآن على القاعدة في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه.
فلذا تجد أننا في أي مقطع من الدعاء نعرضه على الكتاب العزيز، قال الله تعالى شأنه(تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربَِّهم من كل أمرٍ سلامٌ هي حتى مطلع الفجر) القدر.
فالدعاء قد جاء فيه(والمنزَّل عليهم ما يتنزل في ليلة القدر) أما ما هو المنزَّل؟
الجواب:
إنه تنزُّل الملائكة مع الروح.
وهؤلاء الذين يتصورون أن الملائكة عليهم السلام لا يتنزلون إلا على الانبياء عليهم السلام فليقرئوا الآيات والروايات ليعرفوا هل أن النزول مختص بالانبياء أو لا؟!
هذا وتوجد قاعدة في علم الاصول: إنه إذا كان هناك جمع وصار فيه ألف لام التعريف فإنه يدل على العموم الإستغراقي. فمرة تقول علماء فهو جمع وأقله ثلاثة.
وتارة تقول العلماء وأنت بهذا لا تستثني أحداً منهم فلو قيل لك(أكرم العلماء) فإن مدلوله هو وجوب إكرام كل عالم.
والآية حينما تقول(تنزَّل الملائكة) فلا يبقى ملك إلا وينزل لعموم اللفظ.
فالآية تقول إن كل الملائكة ينزلون على الحجة عليه السلام في ليلة القدر المباركة.
طبعاً وإثبات شيء لا ينفي ما عداه فلا يعني ذلك عدم نزول الملائكة في ليالٍ أخرى.
ونريد الوقوف قليلاً عند الملائكة، فمن هم الملائكة؟ ونشير إلى بعض أقسام الملائكة، فمنها ما هو مذكور في سورة التكوير(انه لقول رسول كريم) فالوصف الأول هو كونه رسولاً والوصف الثاني كونه كريماً(ذي قوة عند ذي العرش مكين) فهو مكين قوي عند ذي العرش وهو الله سبحانه رب العرش العظيم، وله مكانة عالية عنده تعالى، كما أنه مطاع فهو من سادة الملائكة عليهم السلام ورؤسائهم كما أنه مطاع في السموات، وحبذا لو يرجع إلى روايات المعراج.
فقد كان مصاحباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يأمر الملائكة، فيأمر ملك الموت ويقول له إفعل كذا مثلاً، يأمر خازن جهنم _نعوذ بالله منها_ فيفعل، فهم جميعاً مأمورون بأمره،(مطاع ثم أمين) ووصفه بالامانة من الله تبارك وتعالى يدل على عظيم أمانته.
ثم إن جبرئيل عليه السلام يبين مقامه في ليلة المعراج بقوله: إن بين الله وبين خلقه تسعين أو(سبعين) ألف حجاب وأقرب الخلق إلى الله أنا وإسرافيل.
وجملة من محققينا يرى أن مقام إسرافيل عليه السلام أرفع من مقام جبرئيل أما لماذا؟ فله مقام آخر.
وهذه الحجب تجاوزها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعاً حتى وصل إلى الحجب الأربعة، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما عرج برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنتهى به جبرئيل إلى مكان فخلى عنه، فقال له: يا جبرئيل، تخليني على هذه الحال؟ فقال: أمضِ فوالله لقد وصلت مكاناً ما وطأه بشر وما مشى فيه بشر.
فهذا مقام أمين الوحي ونكتفي بما في قوله تعالى(نزل به الروح على قلبك لتكون من المنذرين)(4).
هذا وكانت سورة القدر قد ذكر فيها قوله تعالى:(تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم) وهذا بالنسبة إلى الملائكة، وقد عرفت أن منهم جبرئيل عليه السلام، وأما الروح فما ذكر في القرآن إلا وأُفرد عن الملائكة تشريفاً لمقامه وليس هذه الظاهرة فقط بل لها مثال آخر وهو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أينما ذكر لا يجمعه القرآن مع المؤمنين.
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له مقامه الخاص ومكانه الرفيع فقوله تعالى:(فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) لكل المؤمنين المقاتلين ثم أفرد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذكر من بينهم فقال(وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ولُيبلي المؤمنين منه بلاءً حسناً) الانفال/17، وهكذا ما في قوله تعالى(آمن الرسول بما أُنزل إليه من رِّبه والمؤمنون) البقرة/285، فهذا هو الادب الربوبي مع أنه يتكلم عن عبده الذي قال فيه(سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام) الاسراء/1، وعلى كلٍّ فالروح كلما ذكر في كتاب الله كان ذكره مفرداً كما في قوله تعالى:(تعرُج الملائكة والروح إليه في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون) المعارج/2،(يوم يقوم الروح والملائكة صفا) النبأ/38،(تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر) القدر، وقوله تقدس علاه(ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده) النحل/3، أي إن الروح ينزل مع الملائكة، فالروح غير الملائكة وأما في الاحاديث عن أهل البيت عليهم السلام فالأمر واضح.
قد أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟ فقال له عليه السلام: جبرئيل عليه السلام من الملائكة، والروح غير جبرئيل، فكرر ذلك على الرجل، فقال له: لقد قلت عظيماً من القول، ما أحدٌ يزعم أن الروح غير جبرئيل! فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: انك ضال تروي عن أهل الضلال، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون، يُنزِّل الملائكة بالروح والروح غير الملائكة عليهم السلام.
وفي حديث آخر: (خلق من خلق لله عزوجل أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخبره ويسدّده وهو مع الائمة من بعده. انتهى.
وفي صحيحة أخرى تقول: (لم يكن مع احدٍ ممن مضى غير محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو مع الائمة يسددهم وليس كل ما طلب وجد). فالملائكة تتنزل لتأخذ الأوامر وليس لإعطاء الأوامر، وليس فقط في ليلة القدر، بل في غير ذلك من الأوقات، فيأخذوا الأوامر في الصباح ثم يرجعوا إليه ليقولوا له ما فعلوا طول النهار.
إذ الموجود في بعض الأذهان أنهم قد يأتون ليعطوا الأوامر، كلا فهو قطب عالم الإمكان وهو مدار الدهر، ولا معنى لأن يكون مدار الدهر آخذاً، بل إنما هو المعطي والذي يدار حوله.
هذه هي الحقيقة الثالثة والبعد الثالث في الدعاء المبارك.
البعد الرابع: ولاة الأمر
وقد تكررت مرتَين في الدعاء؛((ولاة الأمر والمنزّل عليهم ما يتنزّل في ليلة القدر))، والأخرى((تراجمة وحيه وولاة أمره ونهيه)).
فمن الواضح أن معناهنّ ليس واحداً، وإلا كان تكراراً بلا موجب، ثم في الأولى(ولاة الأمر) دون إضافة شيء آخر، وفي الثانية(ولاة الأمر والنهي) فالثانية غير الأولى.
من هنا لابد أن نقف قليلاً على معنى الأمر؛ فما هو معناه؟ أما الولاية فقد اتضح معناها وهو التصرف في الأمور وإدارة الشؤون.
ولكن ينبغي الوقوف على معنى الأمر، ولطالما أنت تقول أو تسمع كلمة(صاحب الأمر) فما هو الأمر الذي هو صاحبه؟
وبطبيعة الحال حين نقف عليه ندرك معنى ما يقال أنه صاحب الأمر، وفي هذا المجال يوجد بحث واسع ونحن نحاول اختصاره، فتارة يطلق الأمر ويراد به:
1_ الشأن السياسي: ولعل هذا هو المنصرف إلى الأذهان أن صاحب الأمر هو المسؤول والقائد السياسي.
ولذا حينما تقرأ قوله تعالى:((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ)).
ينصرف الذهن مباشرة إلى القادة السياسيين سواء كانوا هم الأئمة عليهم السلام أو هم عليهم السلام مع نوابهم الفقهاء؛ وإن كان الحق أن الآية مرتبطة بالأئمة عليهم السلام ولا تشمل غيرهم.
فهل هذا المعنى ثابتٌ لأهل البيت عليهم السلام ؟ نعم هو من الواضحات في القرآن الكريم وحديث الغدير وغيره، فقد قال تعالى وتقدّس:((النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ))، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كنت مولاه فهذا علي مولاه.
وقال الله تعالى:((وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)).
وما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو لعلي عليه السلام((من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه)).
إذن فمن واضحات القرآن والروايات أن الزعامة السياسية والولاية السياسية لأهل البيت عليهم السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
2_ الأمر التشريعي: وهو الذي قاله الدعاء((ولاة أمره ونهيه))؛ أي هو المتصرف في الأمر والنهي؛ أما ما هو معناه؟
قد ينصرف إلى بعض الأذهان أنه التبليغ فقط عن الله تبارك وتعالى سواء في شخص الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تعالى وفي الأئمة عليهم السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم!!
ولكن القرآن والروايات لا تقبل هذا المعنى، فإن لهم عليهم السلام شأناً آخر إضافة إلى قضية التبليغ لحكم الله تعالى.
ولنرجع إلى الروايات _فإنها أوضح في هذا المجال لعامة الأذهان_ وهذه الروايات بالعشرات وأكتفي بواحدة أو اثنتين، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دية العين ودية النفس ودية الأنف، وحرم النبيذ وكل مسكر. فقال رجل وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ -أي من غير وحي-
قال: نعم، ليعلم من يطيع الرسول ممن يعصيه. انتهى.
فلكي يعلم الله _علماً فعلياً في الخارج_ من يطع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ممن يعصيه، وإلا إذا كان كل ما يقوله صلى الله عليه وآله وسلم هو تبليغ عن الله فقط لم يتضح في الخارج والظاهر من يطيع ويسلم له من غيره.
فلهذا فوّض الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم دائرة من التشريع، وقال له أنت شرّع فيها لأرى طاعتهم، وهذه تنصب في تلك الروايات التي تقول إن الله عزوجل أدب نبيّه فأحسن تأديبه فلما أكمل له الأدب قال((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) ثم فوّض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده فقال عزوجل((ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)).
الرواية الأخرى المرتبطة بأهل البيت عليهم السلام عن أبي جعفر عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفرداً في وحدانيته ثم خلق محمداً وعلياً وفاطمة فمكثوا ألف دهر ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها، وفوّض أمورها إليهم فهم يحلون ما يشاؤون، ويحرمون ما يشاؤون ولن يشاءوا الا أن يشاء الله رب العالمين. انتهى.
وهذه النقطة يجب أن تفهم جيداً، وهو أن اعتقادنا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام بالإضافة إلى كونهم يبلغون حكم الله تعالى، ولكن هناك دائرة فُوِّض أمر التشريع فيها إليهم عليهم السلام ولا نقبل هذه الحقيقة لغيرهم حتى لو كان ذلك القائل: كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما.
فلا نقبل التشريع لغيرهم، ولعل ما جاء في الدعاء المبارك((ولاة أمره ونهيه)) يشير إلى هذا المعنى من الولاية التشريعية.
وفي هذا المضمون تلك الأخبار أنه لو ظهر الإمام القائم بالحق عليه السلام فأعطى أحدكم مائة وأعطى الآخر عشرة فلا تعترضوا، لأنه يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، ولا يشاؤون الا ما يشاء رب العالمين.
فهو تعالى وتقدس جعل قلوبهم أوعية إرادته، وهذه الجملة من الجمل العجيبة، ومعنى الوعاء هو الظرف، فالإرادة الإلهية التي هي((إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)). هذه الإرادة من أي مجرى وظرف تمر ما دامت قد نزلت في عالم الخلق ومرتبة الفعل؟! إنها تمر من قلوب هؤلاء الطاهرين عليهم السلام وهذا معنى ما يقوله بعض علمائنا((واسطة الفيض)) وتعني أنه إذا أراد الله شيئاً فهو يصل من طريق هؤلاء وما يصعد شيء إلا من طريق هؤلاء((بكم فتح الله وبكم يختم)).
3_ الأمر التكويني: وفي هذا المجال نطرح سؤالاً عن ماهية الأمر؟
يقول أمير المؤمنين عليه السلام عندما سُئل هذا السؤال،ما هو الأمر الذي أنتم ولاته؟ قال عليه السلام: الذي به تنزّل الملائكة((التي يفرق فيها كل أمر حكيم)) من خلق أو رزق أو أجل وعمل وحياة وموت وعلم غيب السماوات والأرض والمعجزات التي لا ينبغي إلا لله وأصفيائه والسفرة بينه وبين خلقه.
فالإمام عليه السلام لم يفسر الأمر بالأمر السياسي أو بالشأن التشريعي بل فسره بالأمر المرتبط بنظام التدبير وبنظام الكون والوجود فمن هنا نفهم معنى(مدار الدهر) لأنه أساساً جعل قلوبهم عليهم السلام(أوعية لإرادته) فإذا أراد أن يصل شيء إلى المحيط فهو إنما يمر من النقطة المركزية وهي قلوبهم الطاهرة المطهرة عليهم السلام.
الزكية عليهم السلام. هذا هو المعنى الثالث للأمر والذي قال عنه الآية((تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ)).
4_ الأمر: بمعنى(كن فيكون): ما هو معنى الأمر؟ قالت الآيات في بيان صفة الإمام في القرآن، وهو يشير لذلك في موضعين:
الأول:((وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا)).
فالإمام المهدي يهدي بأمر الله المدلول بقوله تعالى(أمرنا).
والموضع الآخر في قوله توالت نعماؤه:((وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ)).
والآن لو سألنا القرآنَ عن قوله:((أمرنا)) ما هو؟
أجابك عنه في آخر سورة قلب القرآن يس، علماً أن هذه الآية وما قبلها قلب سورة يس.
قال تعالى:((إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)).
فماذا يوجد مع الأئمة؟
إنه ليس الأمر التشريعي وليس الأمر التدبيري ولا السياسي إنه أمر(كن فيكون) وهذا هو المعنى الرابع للأمر، ولعله والله العالم عندما نسميه(صاحب الأمر)؛ فمرآنا هو هذا لأنه مصاحب له ولا يفارقه.
هذا ويوجد بحث لغوي لا أريد الخوض فيه، في قوله تعالى سلطانه:((يَهْدُونَ بِأَمْرِنا)).
هذه الباء ما موقعها هنا؟ بالحقيقة إنها باء المصاحبة أي هم يهدون يصاحبهم أمرنا، ومنه يتضح لماذا نسميه صاحب الأمر وأتصور أن هذا يكفي في هذا المجال بالنسبة للمعنى الرابع.
وهكذا ننتهي إلى هذه النقطة من خلال أربعة مقاطع في الدعاء المبارك فالحديث عندما يقول:((وولاة الأمر المنزل عليهم ما يتنزل في ليلة القدر)) فهي غير ولاة أمره ونهيه التي هي البعد التشريعي وهذا المقدار القليل الذي بيناه بواسطة هذا الدعاء المبارك، أما بالرجوع إلى غير ذلك من الأدعية والزيارات والروايات ففيها الكثير، ولكن انظر الى هذه الجملة الواردة عنهم عليهم السلام في الزيارة المنسوبة له عليه السلام((السلام عليك سلام من عرفك بما عرَّفك به الله ونعتك ببعض نعوتك التي أنت أهلها وفوقها)). فالقضية ما يتصورها القائل كما قد ورد عنهم عليهم السلام((اجعلوا لنا ربا نؤوب إليه وقولوا ما شئتم ولن تبلغوا)) وكان المقرر أن يكون كل هذا الذي تقدم كفصل أول يعقبه فصل آخر، ولكننا نرجئ الحديث عنه الى مقام آخر إنشاء الله تعالى ونسأله التوفيق والحمد لله رب العالمين.
الهوامش: