دراسات / من سمع واعيتنا ولم ينصرنا أكبه الله على منخره في النار
من سمع واعيتنا ولم ينصرنا أكبه الله على منخره في النار
سماحة السيد احمد الاشكوري/ استاذ في الحوزة العلمية- النجف الاشرف
الشعائر الحسينية ظاهرة متمة لأهداف نهضة سيد الشهداء عليه السلام، والرثاء والعاطفة أسرار البقاء، والمأتم أمانة لتبين نهجه، لكن نرى أن هذا النسك المقدس بمختلف صنوفه يتجه نحو سلوكيات متغايرة فلا بد من النظر إليها وتحديدها تحديداً شرعياً وتصحيح مساراتها إن كان فيها ما يوجب التصحيح:-
السلوكية الأولى:
الخجولة الناشئة من عدم الثقة بالمعتقد والسعي لتمييعها والزهد بها وبمصدرها السماوي فتصغّر من مقام الحسين عليه السلام فتجعل له مثيلاً في كل عصر، مع أنه تعرج من قبره الملائكة الى السماء، أو تقلل من فاجعة يوم عاشوراء فتجعل له نظيراً في كل زمان مع أنه ورد عن الامام الحسن المجتبى عليه السلام:(لا يوم كيومك يا أبا عبد الله).
وتماشيها مع السلوكيات المادية تحت نداء الاصلاح والتحديث والعصرنة فمنعوا البكاء عليه، والإمام الرضا عليه السلام قال:(إن البكاء عليه يحط الذنوب العظام)، وتوقفوا في اللطم بل قالوا إنه تخلف، والإمام الرضا عليه السلام لم يعترض على دعبل حينما أنشد بحضرته((إذن للطمتِ الخد فاطم عنده)) بل بارك له ذلك وأهدى له جبته.
وناقشوا في زيارة الأربعين وتحفظوا من اللعن وقالوا كذا وكذا، وكلامهم بمعزل عن الروايات الواصلة من العترة الطاهرة وأهل العلم.
السلوكية الثانية:
المجاملة والمحاباة طلباً في تحصيل الوحدة فرفضوا زيارة عاشوراء، ودعوا الى فكرة التولي دون التبري، وسعوا الى تصحيح مواقف بعض جناة الطف بدعوى أن هذا لايناسب شيمة العرب ولا ينقضي عجبنا كيف نسوا قطع الرأس الشريف وذبح الطفل الرضيع وضرب الهاشميات بالسياط، وأعجب من ذلك قولهم: لا حاجة الى كشف عورة التاريخ لأنه يستلزم لعن بعضنا بعضا.
السلوكية الثالثة:
النفعية بالمعنى الواسع من مكسب سياسي واجتماعي ومالي فتعيش تخندقاً مستمراً وتضطرب في مكاسبها فتنشد الحسين عندما يريده السلطان ورؤساء الأموال و تتسلق بنهضة الحسين وتضفي شرعيتها ومشروعيتها من الملحمة الحسينية المقدسة عندما تدعوها الحاجة الى ذلك ويغيب عنها الحسين عليه السلام عندما لا يكون هناك مكسب.
السلوكية الرابعة:
العشوائية غير المنضبطة والفوضوية في السلوك فلا ترعى الحرمة الشرعية ولا تتحرك في مسار الشرع، فطردها أقوى من جذبها وتنفيرها أوضح من احتضانها فهي أقرب سلوكاً إلى النفاق كالمتطفلين على المأتم الحسيني الذين يسعون ولو بدون قصد الى سلب جمال القضية الحسينية ورونقها وسماتها ومقاصدها فلا يحفظ للحسين عليه السلام من حرمة وقداسة.
السلوكية الخامسة:
الغنوصية الباطنية ذات المسحة الشركية فتنتخب خطاباً مقرفاً ذا سلوك إفراطي موهم بياناً وعملاً.
السلوكية الحقة:
السلوكية العلمية الفقهية المسيّجة بالفقه ذات المقاس العلمي الممحص المتوارث من العترة الطاهرة(قولاً وفعلاً وتقريراً) الواصل من رافد علمائنا.
فالشعيرة مفردة من موسوعة فقهية ومنظومة فكرية عقائدية طبعها الخلود والفطرة، وسمتها الأصالة والتراث وجمالها مصاغ بيد الامناء والحصون والحجج لا إلتقاط ولا تسطح.
وتمتاز هذه المدرسة بعدة سلوكيات:
1. سلوك الاعتراف بأن نهضة أبي الأحرار سماوية مقدسة لا تقاس بها غيرها ولا يمسها العقل الناقص، فقد ورد عن الباقر عليه السلام:(يا أبان، إن دين الله لا يقاس بالعقول، الشريعة إذا قيست مُحقت) وإنما ترفدها السماء، وهي ذات معطيات دنيوية أي معرفية واجتماعية وسياسية وتكوينية، بل وأخروية واسعة(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا).
2. سلوك طرح الثورة الشريفة بين بُعد الخوف والرجاء والتوازن بينهما، فلا يكتفى بروايات سعة الأجر والثواب بل تطعم بجنبها روايات التخويف وسوء العاقبة وخسران الآخرة كما ابتلي به معسكر قابيل ويزيد، وعدم الاندراج في أمة رضيت بقتلها للسبط الشهيد.
3. سلوك الدعوة الحقة الى الحسين عليه السلام فإن أنصار الحسين عليه السلام هم الذين يدعون الى قيم مسيرته كالفناء في ذات الله وطلب العزة والإباء من الظالمين ونصرة المظلوم وبذل كل شيء على منحر العقيدة، وشيعته هم الذين يتقربون إلى الله بحبهم للحسين عليه السلام، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(أحبَّ الله من أحبَّ حسيناً) ويتمظهر الحب على مستوى السلوك القلبي(نَفَسُ المهمومِ لظلمنا تسبيح وهمّه لنا عبادة) والسلوك العملي.
4. سلوك التأكيد على الخلوص وعدم مشاطرة غير الحسين في وعاء القلب و التيقن بأن التجارة معه لن تبور والاصرار على مواصلة درب الشهيد، فقد ورد في الزيارة له عليه السلام:
السلام عليك سلام:
أ- العارف بحرمتك.
ب- المخلص في ولايتك.
جـ- المتقرب الى الله بمحبتك.
د- البريء من أعدائك.
5. سلوك جعل قضية الامام الحسين عليه السلام قضية مركزية نهجاً وفكراً وشمولاً وأهدافاً، وقد دلّت الروايات على أولوية الواقعة المأساوية، بل الرجوع الى سيرة الإمام المهدي عليه السلام المنقولة بحسب الروايات لخير شاهد على ذلك فهو الذي يرفع شعار ثورته المباركة بـ(يا لثارات الحسين عليه السلام) وقد ورد عن الإمام الباقر عليه السلام:(والقائم منّا إذا قام طلب بثأر الحسين عليه السلام) ومروره عليه السلام على أرض كربلاء وكشف بعض أحزانها.
وما ورد في الأثر:(وأن يوفقني للطلب بثاركم مع الامام المنتظر الهادي) لهو شاهد على وحدة الهدف والارتباط الوثيق بين النهضتين وأنّ البنية الاُسّيّة للنهضة المهدوية هي النهضة الحسينية، وكذا العكس فإن الثورة المهدوية تثأر للمدرسة الحسينية وغاياتها، وكذا من الشواهد ما ورد في زيارة الناحية الواردة على لسان الامام المهدي عليه السلام فقد رسم لنا الامام عليه السلام نموذجاً لكيفية التعامل مع عاشوراء.
فقد ورد(فلأندبنّك صباحاً ومساءً _ أي الاستمرار في الندب وذكر المصاب وإحياؤه_ ولأبكين عليك بدل الدموع دماً _أي المبالغة في كيفية تلاوة المصاب والممارسة للشعيرة الحسينية_ حتى أموت بلوعة المصاب وغصّة الاكتئاب)، لهو أدب الطف الجوارحي وهو السلوك العملي.
فأفكارُنا:
1. السلوك والتنظير في جعل قضية الامام الحسين عليه السلام تخرج من حالتها الفردية التعبدية التبركية خاصة الى معنى أوسع وصيرورتها قضية اجتماعية عامة، ومدرسة جهادية متحركة تضجع الظالمين، وتربوية يقتبس من إشراقتها جميع البشر وتنتفع من عذب مائها الانسانية وجعلها ميزاناً، وهذا معنى قوله عليه السلام:(إن جدي الحسين عِبرة وعَبرة).
2. عدم فسح المجال لللّصوص من سرقتها أو تحريفها أو تفسيرها بما يصبّ للصالح الذاتي.
3. تشذيب الدخيل على الشعيرة ومنع تصديعها، والسعي في إعطاء هدفية للشعائر وإضفاء المنهجية المستقرة والمستحكمة على أن يكون كل هذا بيد المتخصص من العلماء الذين عاشوا الميدان والدليل بسعته ودقته.
4. إظهارها بين فصول متكاملة في حركة امتدادية لحركة الأنبياء وفصلها الأخير ونسك الختام دولة القائم من آل محمد عليه السلام وإن من أهم موجبات تعجيل الفرج إحياء المراسم الدينية والمذهبية والحسينية، فقد ورد:(أما إني أحب تلك المجالس) وإن من أفضل مظان الدعاء لتعجيل الظهور على صعيد القول والعمل هو التوسل في الأماكن الشريفة المنسوبة الى الإمام الحسين عليه السلام من قبته المعطاء ومأتمه السخي وموكبه الكريم.
5. إن من سبل ضمان البقاء على نهج الامام المهدي عليه السلام التعايش والتعارف مع نهضة سيد الشهداء عليه السلام، بل الحضور الصادق واللائق في المحافل الحسينية يهيئ الأمان الدنيوي والأخروي وتحصيل المكاسب الجمة كالظفر بالرجعة التي نطقت بها الشريعة وعدّتها من أكبر المفاخر ولا ينالها إلاّ ذو حظ عظيم.