الشيخ علي بن بابويه القمي (الصدوق الأول)
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين لا سيما اشرفهم نبي الهدى وامام المتقين، وآله اعلام التقى والعروة الوثقى ومنارة المخبتين، واصحابه الاوفياء المخلصين، ومن اتبعهم باحسان الى يوم الدين. وبعد..
ان المدرسة الفقهية التي اغنت الفكر الفقهي الاسلامي بعطائها الثر، لا ريب انها مدرسة اهل البيت: التي يعبر عنها في البحوث المتخصصة بتاريخ التشريع عادة بمدرسة النص، وهي المدرسة التي تزعمها امير المؤمنين علي بن ابي طالب صلوات الله تعالى عليه، ومن بعده الائمة من اولاده الاطهار: ابتداء بابي محمد الحسن بن علي السبط (ت/50هـ)عليهما السلام وانتهاء بابي محمد الحسن بن علي الزكي (ت/260هـ)عليهما السلام، اذ حلت بوفاته الغيبة الصغرى للامام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف و تقلص فيها عصر النص الى ان انتهى بانتهائها سنة (329هـ )، ولقد كانت هذه المدرسة - وبحكم كون قادتها من اهل بيت الوحي ومهبط التنزيل - الامتداد الطبيعي الوحيد المعقول لفكر النبوة و منهج الرسالة، اذ لا يراد من خاتميتها غير بقائها كما هي وخلودها فكرا وعقيدة; ولهذا كان نبذ الراي والتمسك بنصوصها من ابرز مميزات مدرسة اهل البيت: ومن تتبع تاريخ النشاط الفقهي لهذه المدرسة نجد اتساع رقعتها من المدينة المنورة الى العراق (الكوفة وبغداد وسامراء) الى خراسان، حيث يتواجد قادتها، ولكثرة اتباعها في عهودهم ولصعوبة الاتصال بهم في كل وقت، ظهرت مدرسة فقهية اخرى اخذت مقومات وجودها، واستمدت شرعيتها من امضاء مدرسة النص نفسها فكانت تبعا لها في المنهج، تلك هي مدرسة الفقهاء الرواة التي قادها الفقهاء الرواة من امثال: زرارة بن اعين (ت/150هـ)، وابان بن تغلب (ت/150هـ)، ومحمد بن مسلم (ت/150هـ)، ويونس بن عبدالرحمن (ت/ 208هـ)، والفضل بن شاذان (ت/260هـ) واضرابهم رضي الله تعالى عنهم.
واهم ما امتازت به هذه المدرسة، هي الممارسات الفقهية في تطبيق نصوص مدرسة النص على مواردها دون ملاحظة التفريعات الفقهية.
ولما اوشك عصر النص على الانتهاء بحلول الغيبة الصغرى سنة (260هـ)، كان التراث الفقهي الشيعي موزعاً بين احاديث اهل البيت: - وهي الاعم الاغلب - التي جمعت في كتب كثيرة اشهرها واكثرها اعتمادا الاصول الاربعمائة، وبين فتاوى الفقهاء الرواة، ومن هنا برز دور المحدثين العظام; اذ اصبحت مهمة الفقه الجسيمة ملقاة على عاتق العظماء والنابغين منهم.
فالمحدثون الكبار اذن هم اول من تصدى لزعامة الفقه الشيعي في عصر الغيبة الصغرى. وقد تحدثنا في الحلقة السابقة عن ابرزهم في الري وبغداد وهو ثقة الاسلام الكليني رضي الله تعالى عنه، فحق لنا ان نتحدث عن شيخ الفقهاء والمحدثين في مدينة قم المقدسة في عصر الغيبة، ذلك هو الشيخ الاجل علي بن بابويه القمي رضي الله تعالى عنه .
عصره:
ان العصر الذي عاشه شيخنا علي بن بابويه، هو العصر العباسي الثاني بكامله تقريبا; اذ بدا بعهد المتوكل العباسي سنة (232هـ)، وانتهى بدخول البويهيين الى العراق سنة (334هـ) .
فكان عصره من الناحية السياسية يتسم بتغلب العنصر التركي الذي اطلقت يده في سياسة الدولة، والتلاعب بمقدرات الامة، فدخلت - على اثر انحلال الاوضاع السياسية - عناصر اجنبية كثيرة في المجتمع المسلم كالتركية والرومية والبربرية ونحوها، وكان لكل منها لغته واخلاقه وعاداته مما ادى ذلك الى نشوء الفرق وتعددها، وشيوع المقالات المنحرفة واختلافها.
وعلى النقيض من ذلك نجد تطور حركة الفقه الاسلامي عموما في ذلك العصر; اذ نشات طبقة من فقهاء المذاهب الاسلامية في ذلك العصر. فقد برز اسحاق بن حماد (ت/275هـ) وولده اسماعيل (ت/282هـ) وعمر بن محمد (ت/331هـ) في الفقه المالكي، ومحمد بن شجاع الثلجي (ت/256 او 257هـ)، والطحاوي (ت/322هـ) في الفقه الحنفي.
والمزني (ت/264هـ)، ومحمد بن عبدالله الصيرفي (ت/330هـ)، واحمد بن ابراهيم بن يوسف بن احمد الكاتب - وهو من تلاميذ الكليني - ولد سنة (281هـ) في الفقه الشافعي، وابن الحربي (ت/285هـ) وعبدالله بن احمد بن حنبل (ت/290هـ) في الفقه الحنبلي، زيادة على ظهور فقهاء من المذاهب والفرق الاخرى، كالطبري (ت/310هـ) الذي كان شافعيا ًواستقل بمذهب خاص به، وهكذا الحال بالنسبة الى المذهب الزيدي الذي انتشرت آراؤه في ذلك العصر بفضل الدولة العلوية في طبرستان التي امتد نفوذها الى الري والمدن المجاورة خلال السنوات (250 -253هـ) الى ان انقرضت (سنة 316هـ).
وفي هذا العصر بالذات الف اصحاب الصحاح الستة - عند اهل السنة - كتبهم وهي: صحيح البخاري (ت/256هـ)، وصحيح مسلم (ت/261هـ)، وسنن ابن ماجة (ت 273هـ)، وسنن ابي داود (ت/275ه )، وجامع الترمذي (ت/279هـ)، ومجتبى النسائي (ت/303هـ).
اما عن تطور الفقه والحديث الشيعيين في ذلك العصر، فمن الصعب جدا استيفاء الحديث عنه في هذه العجالة; لانهما فيه خلاصة لقرنين ونصف من الزمان لم تتوقف فيها عجلة التدوين، ويكفي ان بلغت مدونات الشيعة في تلك الفترة - واغلبها في الفقه والحديث - اكثر من ستة آلاف وستمائة كتاب على ما ضبطها الشيخ الحر العاملي رحمه الله تعالى.
اذن، عصر الشيخ علي بن بابويه هو عصر النهضة الفكرية بكل ابعادها، وقد شملت جميع بلاد الاسلام خصوصا المراكز العلمية فيها كبغداد والكوفة و الري وقم ومصر والشام ومكة والمدينة.
بيئته:
لا شك ان للبيئة بموقعها العلمي ومركزها الثقافي آثارا مهمة في تحديد معالم التوجه الفكري للنابغين فيها، والبيئة التي استوطنها الشيخ علي بن بابويه رضي الله تعالى عنه قد تمتعت بما لم يتمتع بمثلها الا القليل من حواضر العلم والدين في البلاد الاسلامية، فهو قد عاش في مدينة قم المقدسة، تلك المدينة التي كانت من قلاع التشيع المنيعة منذ نشوئها والى يومنا هذا.
ويظهر ان مدينة قم التي استوطنها الصدوق الاول رضي الله تعالى عنه كانت في اوان عصر الغيبة وعهد نيابة النواب الاربعة رضي الله تعالى عنهم حافلة بعلماء الشيعة وفقهائهم ومحدثيهم، ومركزا فقهيا كبيرا من مراكز البحث الفقهي بحيث استقطبت الفقهاء والمحدثين من بلاد التشيع العريضة.
ويدل عليه ما رواه الشيخ الطوسي قدس سره عن ابن الغضائري عن محمد بن احمد بن داود القمي، قال: حدثنا سلامة بن محمد، قال: «انفذ الشيخ الحسين بن روح 2 كتاب التاديب الى قم، وكتب الى جماعة الفقهاء بها، وقال لهم: انظروا في هذا الكتاب وانظروا فيه شي ء يخالفكم؟ فكتبوا اليه: انه كله صحيح، وما فيه شي ء يخالف الا قوله في الصاع في الفطرة نصف صاع من طعام، والطعام عندنا - مثل الشعير - من كل واحد صاع ».
ولا يخفى ما في هذه الرواية من دلالة صريحة على كون قم من مراكز الفقه الشيعي المهمة في عصر الصدوق الاول، وانها كانت منتجع الفقهاء الفحول بحيث يراجعهم من مثل الشيخ العظيم الحسين بن روح (ت/326هـ) سفير الامام الخاص عليه السلام، ويطلب منهم مراجعة كتاب التاديب.
ومما يدل على نشاط الحركة الفقهية في بيئة الصدوق الاول نشاطا واسعا كثرة جوابات ابي القاسم الحسين بن روح رضي الله تعالى عنه التي يبعثها من بغداد الى فقهاء قم على اثر استفساراتهم ورسائلهم، هذا في الوقت الذي كانت فيه قم تعج بآلاف المحدثين من حملة فقه اهل البيت:، فقد ذكر العلامة المجلسي الاول في شرحه على كتاب من لا يحضره الفقيه - بالفارسية - ما ترجمته: «ان في زمان علي بن الحسين بن بابويه المتوفى سنة (329 هـ) كان في (قم) من المحدثين مائتي الف رجل ».
ومن هنا تعرف مكانة من يشار له بالبنان في هذا الوسط الفقهي الحديثي المزدحم بآلاف العلماء، و ينتزع الخلود كالصدوق الاول.
اسمه، وكنيته، ولقبه:
هو الفقيه الجليل الشيخ علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، ابو الحسن القمي باتفاق كتب الرجال والتراجم.
ويعرف بكتب الفقه ب(علي بن بابويه ) ويلقب ب(الصدوق الاول) ويلقب ابنه ابو جعفر محمد بن علي بن بابويه صاحب كتاب من لا يحضره الفقيه ب(الصدوق الثاني)، او (الصدوق) مطلقا، واذا اطلق (ابن بابويه ) فالمراد به الابن الشيخ الصدوق، ويطلق ايضاعلى علي بن بابويه وعلى ابنه الآخر الحسين بن علي بن موسى ابن بابويه، ولو ثني بقولهم: (ابنا بابويه ) فالمراد به الصدوقان.
ولادته، وتقدير مدة عمره:
الظاهر ان ولادة الشيخ علي بن بابويه كانت في مدينة قم المشرفة; اذ نشأ في هذه المدينة وتتلمذ على شيوخها وروى عنه اعلامها ونسب اليها، ففيها اسرته ومقره ومقامه ومتجره وقبره ;.
اما تاريخ ولادته بالضبط فلا سبيل الى تعيينه، ولكن - بالبناء على صحة رسالة الامام العسكري (ت/260هـ)عليه السلام اليه، كما ستاتي في جمل الثناء عليه - يمكن القول، بانه لم يتجاوز النصف الثاني من القرن الثالث الهجري الا وقد كان عمره فوق سن تحمل الرواية.
وحيث سينتهي بنا البحث الى ان سنة وفاته هي سنة (329هـ) فسيكون عمره الشريف بحدود قرن من الزمان، وزيادة على مخالفة هذا التقدير لسيرة الرجاليين في التنصيص على المعمرين في تراجمهم، فانه لو تم لكانت رواية الشيخ علي بن بابويه القمي عن اعلام الطبقة الخامسة - مثل ابراهيم بن هاشم القمي، والحسين بن الحسن بن ابان القمي، والفضل بن شاذان النيسابوري، ومحمد بن عبدالجبار القمي، وغيرهم من اجلاء هذه الطبقة لا سيما الاشعريين - بلا واسطة; لكونه معهم في زمان واحد ومكان واحد.
غير انا نجد رواياته الكثيرة جدا عنهم كانت جميعها بالواسطة، وواسطته هم مشايخه من الطبقة الرابعة، واغلبهم من مشايخ ثقة الاسلام الكليني الذى انتهى بنا التحقيق - في الحلقة السابقة - الى ان ولادته كانت في اواخر سني حياة الامام الزكي الحسن بن علي العسكري عليهما السلام.
وهذا هو من اقوى الاشكالات الموجهة الى الرسالة المتلقاة بالقبول.
أسرته:
اسرة (آل بابويه) معروفة في التراجم، خرجت العديد من رجالات العلم والدين، وانجبت العشرات من فحول الفقهاء والمحدثين، وهي من الاسر العريقة والبيوتات الفاضلة، قال عنها المؤرخ الشهير ابن ابي طي: «بيت العلم والجلالة ».
اما عن سلسلة آباء الشيخ علي بن بابويه، فيعرف منها جده الادنى موسى بن بابويه ; اذ كان من الثقات الرواة، فقد اعقب ولدين فاضلين وهما الحسين، ومحمد. اما محمد فقد اعقب الحسن وبنتا من ام ولد هي زوجة الصدوق الاول، والحسن اعقب الحسين ابا عبدالله القمي.
اما الحسين بن موسى، فقد كان عقبه في علي ابي الحسن شيخنا المعظم ابن بابويه وبنت هي ام الحسين ابي عبدالله، زوجة ابن عمها الحسن بن محمد بن موسى.
اما شيخنا علي فان ولده من ديلمية; اذ لم يرزقه الله تعالى ولدا من زوجته بنت عمه التي كانت امها ام ولد، وكان عقبه - من الديلمية - في ثلاثة:
الاول: هو الشيخ الصدوق محمد بن علي من اجل فقهاء عصره على الاطلاق.
والثاني: الحسن بن علي، وكان خيرا فاضلا زاهدا عابدا.
والثالث: الحسين، يكنى ابا عبدالله، وهو من اجلاء المشايخ وثقاتهم الذي اعقب ثقة الدين الشيخ حسن، ومن هذا الشيخ كان البيت والولد; اذ خلف الشيخ حسن ثقة الدين خمسة ذكور، وهم: ابو المعالي، وابو المفاخر هبة الله، وعبدالله، ولم يعقبوا، والحسين، ومحمد.
اما الحسين فولده شمس الاسلام يكنى ابا محمد الحسن المعروف بحسنكا، وقد خلف حسنكا ولدين: موفق الدين ابا القاسم عبيدالله، وابا زكريا الحسن، اما الاول فهو والد الشيخ منتجب الدين ابي الحسن علي صاحب كتاب الاربعين، والفهرست المعروف ب (فهرست منتجب الدين) وغيرهما، واما الثاني فقد اعقب ابا الحسين جعفر.
واما محمد فقد خلف اربعة ذكور هم: سعد وقد اعقب بابويه، والثلاثة الاخر هم: نجم الدين ابو الحسن علي، وابو ابراهيم اسماعيل، وابو طالب اسحاق.
وقد كان معظم رجالات هذه الاسرة الفاضلة من حملة الحديث الشريف، قال المجلسي الاول: «وكان الحسين بن علي بن بابويه ثقة وخلف ولدان كثيرة كلهم من اصحاب الحديث ».
ويدل عليه ان رواية ابناء آل بابويه عن آبائهم قد اتخذت مثالا - بكتب الدراية - على رواية الابناء عن ستة من الآباء، كما هو الحال في رواية الشيخ الجليل ابي علي الحسن منتجب الدين، عن ابيه الشيخ عبيدالله ابي القاسم موفق الدين، عن ابيه الشيخ حسن ابي محمد المعروف بحسنكا شمس الاسلام، عن ابيه الحسين، عن ابيه الشيخ حسن ثقة الدين، عن ابيه الشيخ الحسين ابي عبدالله القمي، عن ابيه الشيخ علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي.
هذا، ومن مراجعة تراجم افراد هذه الاسرة في كتب الرجال، لا سيما في فهرست الشيخ منتجب الدين - اذ ترجم لبعضهم -، يعلم ما قدمته هذه الاسرة الفاضلة من خدمات جليلة للاسلام والمسلمين.
شخصيته، ومؤهلاته:
للصدوق الاول قدس سره شخصية علمية واجتماعية بارزة، واضحة المعالم وذات ابعاد خصبة، وجوانب متعددة، وسوف نتعرض لاهمها دون الخوض في تفاصيلها، وذلك فيما يخص البعد العقائدي والعلمي المتميز بضخامة مروياته كما ونوعا، وسعيه المتواصل في توسيع دائرة معارفه بتعدد رحلاته العلمية واسفاره، وكثرة مشايخه، واعداده لجيل من الفقهاء والمحدثين، ثم مؤلفاته التي سننطلق منها لبيان منهجه الفقهي، ثم نختتم الحديث عن شخصيته ومؤهلاته بشهادة اعلام الطرفين: الشيعة واهل السنة على علو مقامه، واطلاقهم جمل الثناء عليه، مع مراعاة الاختصار، وعلى النحو الآتي:
اولا - البعد العقائدي:
ويتمثل هذا البعد في مجال حرصه الشديد على معالجة القضايا العقائدية من وجهة النظر الاسلامية الصائبة بهدي من فكر اهل البيت:، فكان رحمه الله تعالى داعية الى الحق، غيورا على الدين، حريصا على تنبيه الغافلين وردع المنحرفين والمغالين بقلبه ولسانه ويده، وذلك اصدق الايمان، كما سيتضح من الامور التالية:
1 - ما كتبه حول الغيبة: كان الشيخ علي بن بابويه قدس سره - بحكم معاصرته لغيبة الامام المهدي عليه السلام، ومسؤوليته العظمى في نشر الفهم الاسلامي الصحيح لعقيدة المهدي الموعود المبشر بظهوره في آخر الزمان - حريصا على سد منافذ التشكيك في مسالة الغيبة التي يحاول فتحها الغاغة من الناس بلا علم ولا معرفة كما هو شانهم في كل عصر وجيل، وذلك بتصديه لتاليف كتاب (الامامة والتبصرة من الحيرة)، وقد بداه بمقدمة رائعة تعد آية من آيات الابداع والجمال، في متانة لغتها وسلاسة جملها، وعذوبة منطقها، وجمال اسلوبها، واتزان عرضها، وقوة حججها، وسلامة ادلتها.
ولعله اول من استهل كتابا من هذا النوع بمقدمة ضافية حاول من خلالها ان يبين سر الغيبة ووقوعها المحتم على طبق ما نطقت به الاخبار الصحيحة قبل وقوعها، وربطها بعقيدة الامامة ككل، وهو الحق الذي لا مرية فيه .
2 - مناظرته في الامامة: حرص الصدوق الاول - رضي الله تعالى عنه - على ملاقاة العلماء من غير الشيعة الامامية خصوصا من عرف بتعصبه وعناده في مسالة امامة امير المؤمنين عليه السلام، فكان يدعوهم الى البحث والمناظرة.
وقد حصل له ذلك مع محمد بن مقاتل الرازي، فناظره شيخنا في امامة امير المؤمنين عليه السلام، واثبت له الحق حتى انجاب الظلام عن عينيه، وعاد الى رشده فهداه الله تعالى بفضله، وقيل انه صار بعد المناظرة شيعيا.
ولا يخفى ان اصول المناظرة تحتاج الى ثقافة واسعة، ومعرفة تامة بحجج الخصم وادلته، وما يقابلها على ضوء الاصول والقواعد المقررة عنده، وهذا يعني ان الصدوق الاول كان على ثقافة واسعة فيما يرتبط بفهم عقائد الآخرين من غير الشيعة الامامية، والرد عليها وتفنيدها بما هو متسالم على صحته عندهم، والا فليس بتلك السهولة ان ينبذ ابن مقاتل الرازي عقيدته ويتحول الى شيعي في مناظرة واحدة، لو لم يكن نده قد اتى عليه من كل جانب.
3 - اهانته للحلاج: روى الشيخ الطوسي قدس سره في كتاب الغيبة رواية مسندة تكشف عن تصدي الصدوق الاول وبكل حزم وقوة لمغامرة الحسين بن منصور الصوفي المعروف بالحلاج الذي كان قد اظهر المذاهب الرديئة، وكان من امره ان قدم الى مدينة قم في زمان الشيخ علي بن بابويه القمي رضي الله تعالى عنه وكاتب اقرباء الشيخ واستدعاهم لتاييده ونصرته، كما كاتب الشيخ علي بن بابويه نفسه لاجل هذا الغرض، زاعما انه رسول من الامام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف!
وكيف ان الشيخ علي بن بابويه قد اهانه امام الناس، وواجه الموقف بكل صلابة وحزم; اذ كذب الحلاج على رؤوس الاشهاد ولعنه، وامر غلمانه باهانته وضربه وطرده، حتى انه هرب من قم كلها ولم يعد اليها البتة، نظرا لما وجده من صلابة شيخها وفقيهها ازاء كل من ينتحل كذبا تلك المقامات السامية.
المكانة الاجتماعية والنفس الابية في اهانة الحلاج: في رواية اهانة الحلاج - التي ذكرنا ملخصها - ما يكشف عن ركيزتين لهما ابلغ الاثر في مقومات شخصية الصدوق الاول قدس سره، وهما:
1 - مكانته الاجتماعية: ذلك لان قطع مادة الفساد في مدينة مثل قم وتكذيب مروجها واهانته وطرده من المدينة، لا يتم الا لمن كانت له مكانة اجتماعية مرموقة وكلمة مسموعة، هذا اولا، وثانيا: ان محاولة الحلاج نفسه تكشف وبوضوح عن مكانة الشيخ في المجتمع القمي; لان مكاتبته للشيخ نفسه تعني ان محاولة الحلاج كانت مدروسة سلفا، وذلك باستدراج مراكز القوة في المجتمع، بحيث حسب انه لو تم له ذلك لكانت قم باسرها رهن اشارته، وطوع بنانه ; لمحل الصدوق الاول في نفوس القميين علما وادباوفقها وحديثا.
2 - النفس الابية: وهذا ما يتضح من لسان الرواية المتقدمة، اذ اشارت الى وقوع اهانة الحلاج وضربه وطرده والبراءة منه ولعنه، في وقت انشغال الشيخ علي بن بابويه بمهمة الاشراف
على ادارة تجارته التي يقوم بها غلمانه .
وهذا يعني ان لعلي بن بابويه رضوان الله عليه نفسا عزيزة ابية; اذ لم يعقه مركزه الديني الرفيع، ولا الاجتماعي المرموق من ان يتخذ مكسبا حلالا طيبا لنفسه ومن يعيله، لكي يصون به وجهه، كما هو شان ذوي النفوس العزيزة التي تلتذ بعرق الجبين وتانف من ان تنال لقمتها براح ملساء على حساب الآخرين، وتلك هي عيشة الاحرار.
ثانيا: البعد العلمي:
ومن مؤهلات شيخنا الصدوق الاول لتسنم زعامة الفقه والحديث الشيعيين في ازهى مراكز العلم الشيعية (قم) هي الابعاد العلمية في شخصيته، والتي يمكن الاشارة السريعة اليها على النحو التالي:
1 - ضخامة مروياته في كتب الحديث: ان من تصفح كتب الشيخ الصدوق يجد مرويات ابيه الصدوق الاول بكثرة مطردة لا تضاهيها مرويات شيخ آخر من مشايخ الصدوق مطلقا، واذا
علمنا ان الشيخ الصدوق هو من اكثر محدثي الشيعة - الذين وصلت الينا كتبهم - رواية على الاطلاق، وان ما يرويه فيها عن ابيه فقط قد يقرب من مجموع ما رواه عن غيره، اتضح لنا
مدى الاهتمام البالغ الذي كان يبديه الصدوق الاول في الحفاظ على تراث اهل البيت: بما فيه من احاديث العقائد والاحكام والسنن والآداب، والحق ان الصدوق الابن الذي يعد مفخرة من مفاخر المسلمين هو تربية ذلك الرجل العظيم وخريج مدرسته الفقهية والحديثية.
2 - رحلاته العلمية واسفاره: حاول الشيخ علي بن بابويه توسيع دائرة معارفه الاسلامية خصوصا ما يتصل منها بالفقه ورواية الحديث، وذلك عبر رحلاته العلمية الواسعة واسفاره المتعددة التي التقى خلالها باقطاب التشيع في ذلك العصر لاسيما وكلاء الامام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) القاطنين في بغداد.
فقد صرح النجاشي بانه: «كان قدم العراق واجتمع مع ابي القاسم الحسين بن روح; وساله مسائل ثم كاتبه بعد ذلك على يد علي بن جعفر بن الاسود يساله ان يوصل رقعة الى الصاحب عليه السلام ويساله فيها الولد».
ومن كتاب الغيبة للشيخ يعلم بان تاريخ قدوم الصدوق الاول الى بغداد اول مرة واجتماعه مع ابي القاسم كان في اوائل سفارة الحسين بن روح عقيب وفاة ابي جعفر محمد بن عثمان العمري; اذ صرح بوقوع تلك المسائلة بعد موت ابي جعفر محمد بن عثمان العمري 2، وقد كانت وفاته فيما رواه الشيخ سنة (304 او 305هـ)، ولما كانت تلك المسائلة عقيب الاجتماع كما في النجاشي فيمكن تقدير دخوله الى بغداد اول مرة بحدود سنة (306هـ) .
وهذا التقدير هو المناسب لميلاد الصدوق بعد ذلك بسنة تقريبا - بفضل دعاء الامام الحجة عليه السلام - ويؤيده بلوغه سن التحمل في الرواية في حياة ابيه (ت/329هـ).
وقد قدم الصدوق الاول ثانية الى بغداد سنة (323هـ) وهي السنة التي استاذن فيها لزيارة بيت الله عز وجل، وفيها سمع منه التلعكبري وله منه اجازة بجميع ما يرويه - كما سنحقق ذلك في بحث وفاته لاهميته البالغة هناك - وليس سنة (326هـ)، كما في تنقيح المقال، وعنه - ظاهرا - في هامش الفهرست; اذ وقع الاشتباه في نقل ترجمته من رجال الشيخ، وذلك بضم ما في ترجمة علي بن حاتم القزويني اليها، لتماثل العبارات بين الترجمتين بنحو سطر تقريبا، مع تجاور الترجمتين، وقد نبه على ذلك العلامة التستري - رحمه الله تعالى - في قاموس الرجال.
وفي سنة (328هـ) قدم الى بغداد وفيها اجاز الكلوذاني - شيخ النجاشي - برواية جميع كتبه .
وقد يقال: بانه سافر الى بغداد للمرة الرابعة في سنة (329هـ)، لقول الشيخ في ترجمته: «روى عنه التلعكبري قال: سمعت منه في السنة التي تهافتت فيها الكواكب، دخل بغداد فيها»
بتقدير ان سنة التهافت تلك هي سنة (329هـ) كما صرح بذلك النجاشي، وسياتي - ان شاء الله تعالى - تحقيق هذا الامر في وفاته، وسيتضح هناك بانه لم يثبت.
ويستخلص من زياراته المتكررة الى بغداد، اتصاله الوثيق بفقهاء واعلام التشيع هناك لا سيما نواب الامام الحجة - عجل الله تعالى فرجه الشريف - وسفرائه البررة كابي القاسم الحسين بن روح (ت/326هـ)، وابي الحسن علي بن محمد السمري (ت/329هـ) على المشهور.
وثمة فوائد جمة في هذا الاتصال، لعل ايسرها اطلاعه على كتب الفقه التي صنفها ابو جعفر محمد بن علي العمري رضي الله تعالى عنه سماعاً من ابي محمد الحسن عليه السلام، ومن الصاحب عليه السلام، ومن ابيه عثمان بن سعيد عن ابي محمد، وعن ابيه علي بن محمد8، تلك الكتب الجليلة التي وصلت الى الحسين بن روح عند الوصية اليه وكانت في يده، ولا يبعد وصولها من بعده الى السمري - رضي الله تعالى عنه - كما صرح بهذه الكتب شيخ الطائفة قدس سره.
وليس بمستبعد اتصاله برجالات العلم والدين من اهل الكوفة، ويؤيد ذلك تحديثه عن مشايخ الكوفيين كما سنبينه في مشايخه، زيادة على ضرورة زيارته لصاحب المرقد المطهر، الساقي من حوض الكوثر امير المؤمنين علي عليه السلام.
هذا، ولم تنحصر اسفاره ورحلاته الى العراق فحسب، بل سافر الى البيت المعمور لنذر عليه سنة (323هـ)، لكنه صد في الطريق من قبل القرامطة، فرجع الى بغداد سالما، كما سنشير اليه في بحث وفاته، ولا يبعد حجه قبل ذلك، ولقرب الري من قم وهي من المراكز العلمية المهمة فقد زارها ايضا وحدث عن مشايخها، ولعله سافر الى غيرها; اذ وجدنا بين شيوخه من نسب الى همدان، وتفليس، والدينور، ونيسابور، وقرمسين، ولا يبعد رحيله الى تلك المراكز العلمية في ذلك العصر لغرض اللقاء مع مشايخ الفقه والحديث فيها، ويحتمل اللقاء بهم في مدينة قم نفسها بصفتها مركز استقطاب العلماء والمفكرين والفقهاء والمحدثين في عصره، كما لا يبعد ايضا التقاؤه بعلماء ما وراء النهر وخراسان في زياراته لمشهد الامام الرضا عليه السلام.
3 - مشايخه: ان معرفة مشايخ الصدوق الاول متوقفة – في الغالب - على مراجعة كتب ولده الصدوق ، ولاجل هذا الغرض راجعنا جميع ما تيسر لدينا من كتب الصدوق بالاضافة الى
مراجعة كتاب الامامة والتبصرة للشيخ علي بن بابويه وغيرها من المصادر والمراجع الاخرى، فوقفنا على عدد من المشايخ سنذكرهم على ترتيب حروف المعجم، مع الاخذ بعين الاعتبار
الاشارة الى روايته عن كل شيخ في الكتاب الواحد مرة واحدة سواء كثرت الرواية عنه في ذلك الكتاب او قلت، وهكذا في كتب ولده الاخرى، اما ما لم نذكره من كتب الصدوق ازاء اسم كل شيخ من مشايخ ابيه فهذا يعني عدم العثور فيها على رواية للصدوق، عن ابيه، عنه .
هذا، مع التنبيه على ما صحف او حرف من الاسماء في الاسانيد، مع الاشارة الى من لم يكن من مشايخه قدس سره ولكن وجد هكذا في السند لسقط او نحوه، وهم:
1 - ابراهيم بن عمروس الهمداني، روى الشيخ علي بن بابويه عنه في كتابه الامامة والتبصرة: 161/13 ب 2، وامالي الصدوق: 17/7 م 2.!
2 - احمد بن ادريس (ابو علي الاشعري القمي): الامامة والتبصرة: 161/13 ب 2، وامالي الصدوق: 24/1 م 5، والتوحيد: 68/22 ب 2، وثواب الاعمال: 23/1، والخصال 1: 5/13 باب الواحد، وصفات الشيعة: 1: 9/1، وعيون الاخبار 1: 26/10 ب 4، وفضائل الاشهر الثلاثة: 43/19، وفضائل الشيعة: 69/28، وكمال الدين 1: 36، ومشيخة الفقيه 4: 16، ومصادقة الاخوان: 150/1، ومعاني الاخبار: 2/1.
3 - احمد بن سعد بن عبدالله: عيون الاخبار 2: 22/48 ب 30.
4 - احمد بن علي التفليسي:الامالي: 249/6 م 50، وعيون الاخبار 2: 51/197 ب 31.
5 - احمد بن محمد ابو علي المطهر: ذكره الشيخ عبدالرحيم الرباني الشيرازي في مقدمة تحقيق معاني الاخبار: 79/4 نقلا عن مستدرك الوسائل 3: 780.
6 - ادريس (كذا مطلقا): علل الشرائع 2: 397/3، ولم اعرفه، والظاهر انه احمد بن ادريس فسقط من السند (احمد بن) سهوا.
7 - حبيب بن حسين التغلبي: الامالي: 120/3 م 29.
8 - حبيب بن الحسين الكوفي: علل الشرائع 1: 524/1، والظاهر كونه المتقدم.
9 - الحسن بن احمد الاسكيف القمي، حدثه بالري: الخصال 2: 582/7 ابواب السبعين وما فوقه .
10 - الحسن بن احمد المالكي: الامامة والتبصرة: 198/52 ب 11، والامالي: 250/9 م 50، وعيون الاخبار: 1: 303/63 ب 28 - وفيه الحسين والصواب ما ذكرناه - وكمال الدين: 1: 202/6 ب 21، ومعاني الاخبار: 263/1.
11 - الحسن بن علي بن الحسين الدينوري العلوي، رجال النجاشي: 176/464 في ترجمة زكار بن الحسن الدينوري، وفهرست الشيخ: 75/304 في ترجمة زكار بن يحيى الواسطي، وفيه (الحسن بن علي بن الحسن الدينوري العلوي).
12 - الحسن بن علي القاقولي: ثواب الاعمال: 209/11.
13 - الحسن بن محمد بن عبدالله بن عيسى: عيون الاخبار 1: 20/1 ب 4.
14 - الحسين بن سعيد الاهوازي: نقله السيد الجلالي في مقدمة تحقيق الامامة والتبصرة: 44 عن روضات الجنات 5: 354، وهو موضع تامل لبعد الطبقة.
15 - الحسين بن محمد بن عامر: الامالي 387/1 م 73، وعلل الشرائع 1: 289/1، ومشيخة الفقيه 4: 16، ومعاني الاخبار: 294/1.
16 - الحسين بن موسى: الامالي: 532/6 م 95، ويبعد كونه اباه، والا لقيده بلفظ (ابي) كما هو المتعارف من سيرة رواية الابناء عن الآباء.
17 - حمزة بن القاسم: الامامة والتبصرة: 181/37 ب 5.
18 - سعد بن عبدالله الاشعري القمي (من اهم مشايخه على الاطلاق): الامامة والتبصرة: 153/1 ب 1 والامالي: 16/4 م 2، والتوحيد: 18/1 ب 1، وثواب الاعمال: 15/1، والخصال 1: 2/2 باب الواحد، وصفات الشيعة: 83/6، وعلل الشرائع 1: 3/1، وعيون الاخبار 1: 17/4 ب 2، وفضائل الاشهر الثلاثة: 20/7، وفضائل الشيعة: 63/19، وكمال الدين 1: 18 في مقدمة المصنف، ومشيخة الفقيه 4: 6، ومصادقة الاخوان: 132/1، ومعاني الاخبار: 1/1.
19 - عبدالله بن جعفر الحميري: الامامة والتبصرة: 162/14 ب 2، والامالي: 33/2 م 8، والتوحيد: 347/6 ب 56، وثواب الاعمال 1: 11/5، وعيون الاخبار 1: 41/2 ب 5، وفضائل الاشهر الثلاثة: 61/44، وكمال الدين 1: 72، ومشيخة الفقيه 4: 6، ومعاني الاخبار: 117/1.
20 - عبدالله بن الحسن المؤدب: الامالي: 21/1 م 4، وثواب الاعمال: 22/1، والخصال 1: 170/224 باب الثلاثة، وعلل الشرائع 1: 282/2، ومشيخة الفقيه 4: 26 وفيه (الحسين) مكان (الحسن) والصواب ما ذكرناه، ومعاني الاخبار: 113/1.
21 - علي بن ابراهيم بن هاشم القمي: الامامة والتبصرة: 209/60 ب 15، والامالي: 52/3 م 12، والتوحيد: 104/2 ب 7، وثواب الاعمال: 30/1، والخصال 1: 4/9 باب الواحد، وصفات الشيعة: 81/2، وعلل الشرائع 1: 52/3، وعيون الاخبار 1: 13/1 ب 1، وفضائل الاشهر الثلاثة: 119/118، وكمال الدين 1: 170/26 ب 11، ومشيخة الفقيه 4: 7، ومصادقة الاخوان: 135/2، ومعاني الاخبار: 1/2.
22 - علي بن الحسين بن سعدك الهمداني: فهرست الشيخ: 72/293 في ترجمة زياد بن المنذر.
23 - علي بن الحسين بن علي الكوفي: التوحيد: 21/12 ب 1، وثواب الاعمال: 211/1، ومشيخة الفقيه 4: 40.
24 - علي بن الحسين السعد آبادي: الامالي: 262/4 م 52، وثواب الاعمال: 69/3، والخصال 1: 16/59 باب الواحد، وصفات الشيعة: 90/22، وعلل الشرائع 1: 44/1، ومشيخة الفقيه 4: 27.
25 - علي بن سليمان الزراري: علل الشرائع 2: 345/2، ومشيخة الفقيه 4: 58 وصحف فيه (الزراري) الى (الرازي).
26 - علي بن محمد بن قتيبة: الامالي: 90/2 م 22، والتوحيد: 76/22 ب 2، وكمال الدين قدس سره: 240/62 ب 22.
27 - علي بن موسى الكميذاني: الامالي: 59/2 م 15، والخصال: 1: 6/18 باب الواحد، وعلل الشرائع 1: 283/1، وعيون الاخبار 1: 258/14 ب 26، وفضائل الاشهر الثلاثة: 76/59، ومشيخة
الفقيه 4: 31، ومعاني الاخبار: 137/1.
28 - الفتح بن محمد بن علي بن ابراهيم النهاوندي: نقله الرباني في مقدمة تحقيق معاني الاخبار: 81/26 عن عيون الاخبار: 160 ولم اجده في العيون، والموضع المشار اليه فيه (القاسم) الآتي برقم (30) ويحتمل ان يكون نفسه القاسم، او اخاه .
29 - فرات بن ابراهيم الكوفي: نقله السيد الجلالي في مقدمة تحقيق الامامة والتبصرة من الحيرة: 44، عن ريحانة الادب 5: 104.
30 - القاسم بن محمد بن علي بن ابراهيم النهاوندي: علل الشرائع 2: 578/4، وعيون الاخبار 1: 289/27 ب 28، وهو الموضع الذي ذكر فيه اسم (الفتح) مكان (القاسم) في نسخة الرباني كما مر برقم (28).
31 - محمد بن ابي عبدالله (الظاهر انه البرقي): علل الشرائع 1: 30/3.
32 - محمد بن ابي القاسم ماجيلويه: الامالي: 16/1 م 6، ثواب الاعمال: 131/1، وعلل الشرائع 1: 191/1، وفضائل الاشهر الثلاثة: 43/20، وكمال الدين 1: 289/2 ب 26، ومعاني الاخبار:144/1.
33 - محمد بن احمد بن خالد (ولم اعرفه ): ثواب الاعمال: 220/1.
34 - محمد بن احمد بن علي بن اسد ابو الحسن الاسدي: الخصال 1: 28/99 باب الواحد.
35 - محمد بن احمد بن علي بن الصلت: الامالي: 69/7 م 17، وثواب الاعمال: 16/2 وفيه صحف لفظ (بن) بين احمد وعلي الى (عن) سهوا والصحيح ما ذكرناه، الخصال 1: 3/4 باب الواحد، صفات الشيعة: 85/3، ومشيخة الفقيه 4: 112، ومصادقة الاخوان: 181/1، ومعاني الاخبار: 297/3.
36 - محمد بن احمد بن هشام: ثواب الاعمال: 47/3، ورجال الشيخ: 492/4، باب من لم يرو عن الائمة .
37 - محمد بن احمد بن يحيى، عده في جامع المقال: 117 من مشايخ علي بن بابويه، وهو بعيد.
38 - محمد بن ادريس: معاني الاخبار: 182/1، والظاهر انه محرف احمد بن ادريس.
39 - محمد بن اسحاق بن خزيمة النيسابوري: علل الشرائع 2: 363/6.
40 - محمد بن الحسن الصفار: ثواب الاعمال: 128/1، وكمال الدين 2: 348/40 ب 33.
41 - محمد بن علي بن ابي عمران الهمداني: نقله الرباني في مقدمة تحقيق معاني الاخبار: 81/34 عن عقاب الاعمال: 21.
42 - محمد بن علي الشلمغاني: فهرست الشيخ: 146/616 في ترجمة الشلمغاني نفسه .
43 - محمد بن علي بن الصلت: الخصال 1: 159/206 باب الثلاثة، ولعله المتقدم برقم (36)، او يكون هذا عمه .
44 - محمد بن معقل القرميسيني: الامالي: 93/4 م 22، والخصال 1: 53/68 باب الاثنين، وعلل الشرائع، وعيون الاخبار 1: 228/6 ب 22.
45 - محمد بن موسى: الامامة والتبصرة: 222/74 ب 19. 46 - محمد بن يحيى العطار: الامامة والتبصرة: 157/2 ب 2، والامالي: 44/1 م 1، والتوحيد: 82/1 ب 3، وثواب الاعمال: 35/1، والخصال 1: 3/3 باب الواحد، وعلل الشرائع 1: 18/2، وعيون الاخبار 1: 23/9 ب 4، وفضائل الاشهر الثلاثة: 71/51، وكمال الدين 1: 69، ومشيخة الفقيه 4: 5، ومصادقة الاخوان: 131/1، ومعاني الاخبار: 5/1.
47 - محسن بن احمد: كما في الاستبصار 1: 486/1884 قال: «فاما ما رواه علي بن الحسين بن بابويه، عن محسن بن احمد، عن ابان بن تغلب بن عثمان ... الخ »، وهو بعيد، والظاهر انه علي بن الحسن كما في معجم رجال الحديث 14: 194.
48 - ابوخلف العجلي: رجال الشيخ: 438/1 من لم يرو عن الائمة:،باب الكنى. هذا، وقد وجدت في بعض الاسانيد، روايته عن علي بن الحكم، وفي بعض روايته عن ابراهيم بن هاشم، عن ابيه، عن ابن ابي عمير، ولم اعتن بمورديهما لظهور السقط في سند الاولى او الارسال، مع اشتباه الناسخ في الثانية والصحيح علي بن ابراهيم عن ابيه عن ابن ابي عمير، بقرينة سائر الروايات.
4 - تلاميذه والرواة عنه: ومن علائم شخصيته العلمية، انه تخرج على يديه، وروى عنه مجموعة من اعلام الشيعة ذكر الشيخ الرباني عشرة منهم، واوصلهم السيد الجلالي الى اربعة عشر شخصاً.
وسنقتصر على ذكر اشهرهم، مع مناقشة عد الكليني رحمه الله تعالى منهم، وهم:
1 - ولده الشيخ الصدوق (ت/381ه )قدس سره، الذي بقت شهرته الآفاق واطراه المؤالف والمخالف، واعجب من حفظه وفقهه حتى مشايخه، نسال الله تعالى ان يوفقنا لان نعطيه في سلسلة (من فقهائنا) بعض حقه .
2 - الفقيه احمد بن علي بن داود القمي.
3 - الفقيه المشهور جعفر بن محمد بن قولويه رضي الله تعالى عنه، صاحب كتاب كامل الزيارات.
4 - الفقيه محمد بن علي بن عبدك الجرجاني.
5 - قطب الاجازات العلمية في رواية الحديث الشيخ هارون بن موسى التلعكبري- رحمه الله تعالى - قال عنه شيخ الطائفة «جليل القدر، عظيم المنزلة،واسع الرواية، عديم النظير، روى جميع الاصول والمصنفات، مات سنة خمس وثمانين وثلثمائة ». مناقشة رواية ثقة الاسلام عن الصدوق الاول:
صرح في روضات الجنات - بعد ان ذكر بعض مشايخ الصدوق الاول - برواية ثقة الاسلام الكليني عنه في مورد واحد فقط، فقال: «ولكن لا رواية له عن الكليني، ولا له رواية عنه الا في حديث واحد من ابواب اصول الكافي » وقال السيد البروجردي في تجريد اسانيد الكافي في المقدمة الرابعة في بيان من روى عنه المصنف (اي: الكليني) ما نصه: «الاول: ابن بابويه، روى عنه في الكتاب [اي: الكافي] حديثا واحدا، والظاهر ان المراد به علي بن الحسين بن موسى بن بابويه ابو الحسن القم ي (ت/329هـ) ».
اقول: ان لفظة «ابن بابويه » وردت في اصول الكافي فعلا في كتاب الحجة باب مولد الامام علي بن الحسين عليهما السلام، ولكن لا يعلم الى الآن هل هي من خط صاحب الكافي؟ او الحقت فيما بعد - لغاية - من قبل النساخ؟ هذا اولا، وثانيا: هل هي «ابن بابويه »؟ ام مصحفة عن «ابن بانويه » وبانويه لقب لسلامة ام الامام زين العابدين عليه السلام كما هو صريح احاديث الباب من الكافي، وثالثا: هل ان لفظة «ابن بابويه » متصلة بمتن الحديث الثالث من احاديث الباب؟ او انها بداية لاسناد الحديث الرابع؟ و للاجابة على هذه الاسئلة ذهب علماؤنا مذاهب شتى، ولعل اجودها ما سنذكره ونشيد صرحه بعد ذكر الحديثين الثالث والرابع من الباب المذكور لكي يتحدد موقع لفظة (ابن بابويه ) بالضبط، وهما كما في نسخ الكافي:
«3 - علي بن ابراهيم بن هاشم، عن ابيه، عن محمد بن عيسى، عن حفص بن البختري، عمن ذكره عن ابي جعفرعليه السلام قال: لما مات ابي علي بن الحسين عليه السلام جاءت ناقة له من الرعي حتى ضربت بجرانها على القبر، وتمرغت عليه، فامرت بها فردت الى مرعاها، وان ابي عليه السلام كان يحج عليها ويعتمر ولم يقرعها قرعة قط.
ابن بابويه .
4 - الحسين بن محمد بن عامر، عن احمد بن اسحاق بن سعد، عن سعدان بن مسلم...».
وقد وردت لفظة «ابن بابويه » في الوافي ومرآة العقول بعد جملة: «ولم يقرعها قرعة قط » مباشرة، وليست في بداية سطر جديد، مع الفصل بينهما بنقطة.
ولما كان وقوع مثل هذه اللفظة في نهاية حديث غير معهود في الكافي لذا اختلفوا في توجيهها، ولعل افضل ما قيل ما حاصله: ان هذه اللفظة وردت للتنبيه من قبل النساخ الاوائل على ان الحديث الرابع انما هو في نسخة الشيخ الصدوق محمد بن علي من الكافي دون سائر النسخ نظير ما وقع في بعض المواضع من الكافي: (في نسخة الصفواني)و(وفي رواية النعماني: كذا). اقول: ويؤيد هذا الوجه عشرة وجوه وهي:
1 - ان (ابن بابويه ) ينصرف الى الابن في الغالب وقد يطلق نادرا على الاب.
2 - ورود اللفظ في آخر الحديث الثالث، لا في سند الحديث الرابع، كما في المطبوع من الكافي وسائر نسخه الاخرى التي رآها المحقق الداماد.
3 - سند الحديث الرابع ابتدا بشيخ الكليني الحسين بن محمد بن عامر.
4 - الكليني لم يرو في الكافي اصولا وفروعا وروضة بالواسطة عن شيخه الحسين بن محمد بن عامر، علما ان رواياته عنه في فروع الكافي فقط بلغت اربعمائة وعشرة موارد.
5 - ليس المعهود من طريقة الكليني الرواية عن اي من مشايخه بالواسطة.
6 - المشهور بين العلماء ان الكليني لم يرو عن علي بن بابويه، ولا علي بن بابويه عنه لعدم اتفاق اللقاء بينهما.
7 - لا يعلم ان احدا - منذ زمن الكليني الى اليوم - قد نقل حديث الكافي بصورة: «محمد بن يعقوب، عن ابن بابويه، عن الحسين بن محمد بن عامر» كما هو داب الكثيرين منهم.
8 - لا يبعد ان تكون للصدوق نسخة من الكافي تختلف عن نسخة الصفواني والنعماني بما يرتبط بهذا الحديث، خصوصا وانه صرح في اول الفقيه باعتماده على كتب مشهورة عليها المعول واليها المرجع، وقد كان الكافي من جملتها كما يبدو من ذكر طريقه الى ثقة الاسلام، واما عن اصول الكافي فقد اختصره الشيخ الصدوق بيده، وتوجد من مختصره نسخة خطية في مكتبة امير المؤمنين العامة في النجف الاشرف بعنوان منتخب اصول الكافي وبرقم (1635/6 ج 1) كما في فهرست مخطوطاتها الخطي الموجود في المكتبة نفسها.
9 - شرع الكليني رحمه الله بتصنيف الاصول قبل الفروع والروضة من الكافي كما هو صريح ديباجة الكافي التي اشار فيها الى ضرورة الابتداء بكتاب العلم.
وهذا يعني ان الاصول قد تم تاليفه بوقت مبكر من عمر العشرين سنة التي امضاها الكليني في تصنيف الكافي، فان قدر هناك ثمة لقاء بينهما، فليكن في بغداد، وان قلنا بان الكافي لم يتم تاليفاً عند اول لقاء بينهما في بغداد، فلا اقل من اتمام تاليف الاصول منه وقتئذ، خصوصا وانه شرع في التاليف حدود سنة (290هـ) لروايته فيه عن الصفار المتوفى فيها.
10 - لو كان سند الحديث الرابع مبتدا بـ(ابن بابويه) للزم ان يكون بعده لفظ (عن)، كما هو المشهور من طريقة الكليني في سوق الاسناد، والحال ليس كذلك.
ويمكن ان يضاف الى هذه الوجوه وجها آخر، وهو ان الشيخ الكليني انما يروي الحديث الواحد او الحديثين عمن لم تكن له شهرة في كتب الرجال، بل يروي المئات عن المشهورين كما لاحظناه في مشايخه، وهذا الوجه الاخير وان كان لا يقاس عليه الا ان طريقة الكليني; - ظاهرا - هي هذه، فلو قدر اللقاء بينهما لاكثر ثقة الاسلام من الرواية عنه على فرض تقدم سنه لانه من الاجلاء، والا فلا يخلو الامر من احد احتمالين: اما عدم اللقاء كما هو المشهور بين العلماء، وفي النفس منه شي ء لان الكليني حدث عن المشايخ القميين مع قرب كلين من قم، وهذا يحتمل اللقاء بينهما، والافاستبعاده عنهما ببغداد مستبعد.
واما انه كان ينظر اليه انه من القرناء، ومن يطلب السند العالي - كثقة الاسلام - لا يروي عن القرين.
مؤلفاته:
للصدوق الاول قدس سره مؤلفات عدة، اكثرها في الفقه كما يتضح من فهرستها عند النجاشي والطوسي وابن شهرآشوب 4، وهي:
1 - كتاب التوحيد، لم يذكره ابن شهرآشوب في معالم العلماء.
2 - كتاب الوضوء.
3 - كتاب الصلاة.
4 - كتاب الجنائز.
5 - كتاب الامامة والتبصرة من الحيرة، ذكره الشيخ في الفهرست بعنوان: كتاب الامامة والبصيرة من الحيرة.
6 - كتاب الاملاء (نوادر)، جعل النوادر مستقلا عن الاملاء في الفهرست والمعالم.
7 - كتاب المنطق، وفي الفهرست والمعالم (النطق)
8 - كتاب الاخوان، وفي الفهرست: كتاب الاخوان والالف، وهذا الكتاب عند بعض المحققين هو كتاب مصادقة الاخوان، المشهور النسبة الى الشيخ الصدوق ابي جعفر.
9 - كتاب النساء والولدان.
10 - كتاب الشرائع، وهو الرسالة الى ابنه عند النجاشي، وفي الفهرست والمعالم جعلت الرسالة غير الشرائع.
11 - كتاب التفسير.
12 - كتاب النكاح.
13 - كتاب مناسك الحج.
14 - كتاب قرب الاسناد.
15 - كتاب التسليم، وفي الفهرست: كتاب التسليم والتمييز، وجعله في المعالم كتابين: التسليم، التمييز.
16 - كتاب الطب.
17 - كتاب المواريث.
18 - كتاب المعراج، لم يذكر في الفهرست والمعالم.
كما نسب له كتاب الحج، مع عبارة: (لم يتمه) في الفهرست والمعالم، ولم يذكره النجاشي، وقد اتضح ان النجاشي لم يذكر له الا ثمانية عشر كتابا، بينما ذكر له الشيخ عشرين كتابا، وكذلك ابن شهرآشوب.
والذي يؤسف على كتبه ضياع معظمها; اذ لم يبق منها الا النزر اليسير، وما وصل منها الى قريب من زماننا هو اليوم في عداد الكتب المفقودة من تراثنا!
ولما لم يكن بايدينا شي ء من كتبه الفقهية غير المنقول عنها في كتب الفقهاء، لا سيما كتب ولده الشيخ الصدوق الذي اكثر في النقل من رسالة والده - الفقهية - اليه ; لذا سيكون الحديث عن تلك الرسالة واهميتها والمنهج الفقهي فيها وما يتصل بها من امور اخرى، وعلى نحو الاختصار.
رسالة علي بن بابويه:
ان رسالة علي بن بابويه او الشرائع - كما في قول النجاشي - هي رسالة فقهية كتبها الصدوق الاول الى ولده ابي جعفر محمد بن علي الصدوق وهو في عنفوان شبابه ظاهرا، اذ لم يكن عمر الصدوق حين وفاة والده قد تجاوز الثانية والعشرين على ابعد التقادير، لما تقدم من ان لقاء الاب مع الحسين بن روح رضي الله تعالى عنه كان بحدود سنة (306 هـ) وهو لم يرزق ولدا بعد، فلو فرض ان الصدوق ولد بعد ذلك بسنة واحدة لكان عمره يوم وفاة ابيه هو ما ذكرناه.
اما متى كتبت هذه الرسالة بالضبط؟ هل في اواخر حياة الاب ام بعد ولادة الصدوق مباشرة خشية من مفاجاة الموت - كما فعل الزراري في رسالته -؟ وفي اي مكان كتبت في قم او غيرها؟ واين كان الابن حين ذاك في قم او خارجها؟ ومن حملها اليه، وهل هي وصية الاب الى الابن ثم اشتهرت فيما بعد باسم الرسالة؟ الحق، ان الاجابة على جميع هذه الاسئلة بنحو القطع غير ممكن; لافتقارنا الى النصوص التي يطمان اليها.
ولكن من مراجعة اسفار الشيخ الصدوق يعلم انه لم يخرج من قم قبل وفاة والده، وانما بدات اسفاره ورحلاته بعد ذلك بمدة، وقد استقصينا اسفاره ورحلاته من خلال تصريحاته بها في ثنايا اسانيد كتبه فلم نجد ما يشير الى مغادرته قم في حياة والده.
وعليه، يمكن احتمال عكس ما احتمله بعض الاعلام - من انها كتبت في قم والولد خارجا - وذلك بالنظر الى لقاءات الوالد المتكررة مع وكلاء الامام الحجة عليه السلام في بغداد، فلعله كتبها في بغداد في السنة التي استاذن فيها لزيارة البيت الحرام وهي سنة (323هـ) والتي استجازه فيها التلعكبري فخرج عدم الاذن اولا للخوف عليه من القرامطة، ثم بعد السؤال ثانية خرج الاذن مع النصح ان يكون في آخر القافلة.
وهذا يشعر انه كان في بغداد طيلة تلك الفترة، اذ من البعيد جدا ان يستاذن في الحج من قم ثم يرده المنع من بغداد ثم يسال ثانية من قم فيرد الاذن من بغداد ايضا ثم يتاهب للسفر، كل ذلك قبيل موسم واحد مع البعد الشاسع بين قم وبغداد الذي قد لا يطوى في ذلك الحين باقل من شهر او شهرين.
فلعل الشيخ كتبها اذ ذاك وهو في بغداد كوصية لولده، خوفا من ان يدركه الموت في الطريق الى الحج او الاياب منه، وارسلها بيد العائدين الى قم من بغداد، فكانت وصية ورسالة.
اما ما يدل على كونها رسالة، فقد وصفت هكذا في كتب الرجال كما تقدم، ونقل عنها الصدوق بعنوان (رسالة) كما سياتي.
واما ما يدل على كونها وصية، فان الشيخ آقا بزرك ذكر وصول نسخة منها الى زمان السيد حسن الصدر، ونقل في الذريعة اولها، وفيها ما يشير الى كونها وصية رحمه الله اذ جاء فيها قوله: «...واوصيك بما اوصى به ابراهيم بنيه، ويعقوب: يا بني ان الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن الا وانتم مسلمون. (الى قوله بعد وصايا كثيرة): اخصك يا بني على اقتناء دين الله عزوجل...الخ ».
كما ان السيد ابن طاووس ذكر في وصيته لولده محمد المطبوعة بعنوان (كشف المحجة لثمرة المهجة) ما يدل على كونها وصية، فقال: «ووجدت جماعة ممن تاخر زمانهم عن لقائه قد اوصوا بوصايا الى اولادهم دلوهم على مرادهم، منهم: محمد بن احمد الصفواني، ومنهم علي بن الحسين بن بابويه... ».
هذا، زيادة على نقل الصدوق عنها في كتبه تارة بعنوان: (رسالة ابي) واخرى بعنوان (وصية ابي) كما سياتي، ولم ينص احد - في حدود ما اطلعت عليه - بان للصدوق وصية ورسالة من ابيه.
ولعل من المهم هنا ان نذكر بان الكتاب المعروف منذ زمن المجلسي (رحمه الله تعالى) الى اليوم باسم «الفقه الرضوي » ذهب بعضهم الى كونه هو الرسالة بعينها، وقد افردت لهذه المسالة رسائل خاصة، وطال النزاع فيها، وفي كتاب خاتمة المستدرك بحث مفصل عن هذا الموضوع، ناقش فيه جميع حجج القائلين بان الفقه الرضوي هو رسالة علي بن بابويه، والذي يعتقده المحدث النوري: ان املاء بعض الفقه الرضوي هو من الامام الرضا عليه السلام، والباقي لاحمد بن محمد بن عيسى الاشعري، وهو داخل في نوادره.
اهمية الرسالة فقهيا:
تظهر اهمية رسالة علي بن بابويه الى ولده الصدوق من خلال اهتمام الشيخ الصدوق بها من الناحية الفقهية اهتماماً بالغا، فقد انزلها منزلة النص في كتبه الفقهية، لا سيما في كتابه من لا يحضره الفقيه الذي صرح في مقدمته قائلا: «ولم اقصد فيه قصد المصنفين في ايراد جميع ما رووه، بل قصدت الى ايراد ما افتي به واحكم بصحته، واعتقد فيه انه حجة فيما بيني وبين ربي تقدس ذكره وتعالت قدرته، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعول واليها المرجع...».
وقد وجدت الشيخ الصدوق في بعض الاحيان يعنون ابوابا في الفقيه ولا يذكر فيها غير اقتباساته من الرسالة، وقد يفتي احيانا على طبق ما في الرسالة من دون التصريح بالاقتباس منها كما سنفص له في موارد الاقتباس من الرسالة: فيما يلي تفصيل موارد الاقتباس من الرسالة في كتب الصدوق، اك ملين ان يتصدى لجمعها وتحقيقها بالاستفادة من كتب الفقه الاخرى التي اشتملت على نصوص كثيرة من الرسالة، خشية من ضياع نسختها الواصلة الى زمان السيد حسن الصدر فيما بيناه سابقا، وهي:
1 - الفقيه 1: 35 ب 13، و1: 46 - 47 ب 19، و1: 49 بعد الحديث 195 ب 19، و1: 50 بعد الحديث 195 ب 20، و1: 81 بعد الحديث 358 ب 38، و1: 102 بعد الحديث 474 ب 25، و1: 106 بعد الحديث 494 ب 25، و1: 170 بعد الحديث 801 ب 39، و1: 174 بعد الحديث 827 ب 40، و1: 177 بعد الحديث 839 ب 40، و1: 181 بعد الحديث 857 ب 42، و1: 261 بعد الحديث 1118 ب 56، و1: 261 بعد الحديث 1191 ب 56، و1: 267 بعد الحديث 1223 ب 57، و1: 314 ب 75 وليس في الباب غير الاقتباس من الرسالة، و1: 354 ب 83 تحت عنوان: (صلاة اخرى للحاجة)، و1: 356 بعد الحديث 1558 ب 84، و2: 10 بعد الحديث 27 ب 5، و2: 62 بعد الحديث 269 ب 29، و2:118 بعد الحديث 511 ب 59، و2: 304 ب 209 وليس في الباب غير الاقتباس من الرسالة، و3: 39 ب 28 وليس في الباب غير الاقتباس من الرسالة، و3: 333 بعد الحديث 1613 ب 162، و3: 334 ب 165.
2 - المقنع ص 43 في ابواب الطهارة، وص 112 باب الجماعة وفضلها، وص 151 باب صلاة الاستخارة، وص 273 باب الحج، وص 361 باب المكاسب والتجارات، قال: «اوصاني والدي علي بن الحسين بن موسى بن بابويه رحمه الله فقال في وصيته: اتق الله يا بني... الخ ».
وهذا هو المورد الاول الذي عبر فيه عن الرسالة بانها وصية، فلاحظ، وص 363 الباب السابق، قال: «وقال والدي رحمه الله في وصيته الى...»، وص 375 باب الدين وفيه ما في الباب السابق، وص 400 باب القضاء والاحكام، وص 401 باب القضاء والاحكام، وص 403 الباب السابق، وص 453 ابواب الحدود وفيه: «قال والدي رحمه الله في وصيته الى..»، وص 502 باب المواريث، وص 506 باب المواريث، وص 541 باب النوادر.
3 - الهداية: ص 24 باب غسل الميت، وص 46 باب رقم 92.
4 - علل الشرائع 1: 307/1 ب 256، و2: 437/2 ب 175.
5 - ثواب الاعمال: 42 بعد الحديث 7 في ثواب تقليم الاظافر.
6 - الخصال 1: 333/32 باب الستة تحت عنوان: (من السنة التوجه في ست صلوات)، و2: 521 بعد الحديث 10 ابواب العشرين وما فوقه تحت عنوان: (صلاة الجماعة افضل من صلاة الفرد بخمس وعشرين درجة).
هذا آخر ما وقفت عليه في كتب الصدوق من النقل المباشر عن الرسالة مع تصريحه بذلك، اما الموارد التي نقلها من الرسالة ولم يصرح بالنقل منها، فقد تكون كثيرة، واستقصاؤها يتطلب وقتا طويلا، واليك بعضها: جاء في الهداية ص 21 قوله: «ولا باس بتبعيض الغسل، تغسل يديك...». وهذا الكلام نسبه الصدوق في الفقيه الباب 38 الى رسالة ابيه، وكذلك قوله في الهداية ص 21: «الجنب اذا عرق ثوبه...» فقد نسبه في المقنع في ابواب الطهارة الى رسالة ابيه، وفي الهداية ايضا ص 34 باب 55 من ابواب الصلاة فقد نقله بالكامل عن الرسالة كما صرح به في باب الصلاة على الميت في الفقيه، وفي الهداية ص 12 في وصف دين الامامية (ملحق بآخر كتاب الهداية) فان ما ذكره في وقت اخراج الفطرة، فقد نسبه في الفقيه الباب 209 الى رسالة ابيه.
ومن هنا تظهر اهمية الرسالة فقهيا عند ولده الصدوق، قال المجلسي الاول رحمه الله: «ان الصدوق يعتبر رسالة ابيه بمنزلة النص; لانه لم ينقل من غير النصوص، ولا يعمل بغيرها، ولهذا وزع هذه الرسالة في الكتاب [اي: كتاب الفقيه] ونقل منها في كل باب سطرا بالرغم من وجود الاخبار المؤيده ».
وقال العلامة التستري: «وكثيرا ما يعقد الفقيه الباب وينقل فيه كلام ابيه بعوض الاخبار، وقد استند الى كلامه في الرسالة الشيخ في موضوع التكبيرات الافتتاحية.
وقد صرح الشهيد الاول قدس سره باعتماد الاصحاب على رسالة علي بن بابويه القمي، فقال: «كان الاصحاب يتمسكون بما يجدونه في شرائع الشيخ ابي الحسن بن بابويه رحمه الله عند اعواز النصوص لحسن ظنهم به، وان فتواه كروايته ».
وقال الشيخ المجلسي: «وعلماؤنا يعدون فتاواه من جملة الاخبار».
ويؤكد هذا ما قاله الشيخ الطوسي قدس سره في موردين: قال في احدهما: «قال الشيخ رحمه الله [يعني الشيخ المفيد قدس سره]: ولا يجوز لاحد ان يصلي وعليه قباء مشدود الا ان يكون في الحرب فلا يتمكن من ان يحله فيجوز ذلك للاضطرار» ثم عقب عليه بقوله: «ذكر ذلك علي بن الحسين بن بابويه وسمعناها من الشيوخ مذاكرة، ولم اعرف به خبرا مسندا».
وقال في الآخر: «ثم قال : [يعني الشيخ المفيد قدس سره] ويستحب التوجه بسبع تكبيرات في سبع صلوات ... والمراة تتضمم في صلاتها».
ثم عقب عليه بقوله: «ذكر ذلك علي بن الحسين بن بابويه في رسالته ولم اجد به خبرا مسندا».
وهذا يعني ان الافتاء بالموردين مع عدم العثور على حديث مسند دال على انزال الشيخ الطوسي قدس سره لفتاوى علي بن بابويه منزلة الاخبار، اذ لا يجوز التقليد على الفقهاء.
واعتبار فتاواه بمنزلة الاخبار لم يكن جزافا وانما عن استقراء وشهادة، اما عن الاستقراء فلا يضره تخلف فتوى او فتويين، اذ يحتمل غياب الدليل في ذلك، واما عن الشهادة فلتصريح علي بن بابويه في مقدمة رسالته بهذا، قال فيها مخاطبا ولده الصدوق: «... فخذها عني راغبا، وتمسك بها راشدا وعها حافظا فقد اديتها اليك عن ائمة الهدى مؤثرا ما يجب استعماله وحاذفا من الاسناد ما يثقل حمله...». وبناء عليه، فلا يرد على الشيخ ما اورده العلامة (رضي الله تعالى عنهما) اذ قال: «وقوله: لم اجد به حديثا مسندا ينافي الفتوى به اذ لا دليل عقلي عليه ».
كما تظهر اهمية الرسالة من الناحية الفقهية من خلال ما اورده المحقق الحلي في كتابه المعتبر، فقد قال في الفصل الرابع منه: «لما كان فقهاؤنا (رضوان الله عليهم) في الكثرة الى حد يتعسر ضبط عددهم، ويتعذر حصر اقوالهم; لاتساعها وانتشارها، وكثرة ما صنفوه...» ثم عد جماعة من اهل الفتيا ممن اختار النقل من كتبهم، وعد الشيخ علي بن بابويه من جملتهم.
كما وجدنا الشيخ ابن ادريس الحلي يكثر من بيان موافقة فتاوى كبار الفقهاء - كعلي بن بابويه - لما يفتي به في السرائر مخالفاً لفتاوى غيره من الفقهاء ومن ذلك ما اورده في السرائر، فقد قال ما نصه: «فاما اذا ماتت فيها عقرب او وزغة فلا ينجس، ولا يجب ان ينزح منها شي ء بغير خلاف من محصل، ولا يلتفت الى ما يوجد في سواد الكتب » ثم اعتذر عمن افتى بخلاف ذلك بانه انما اورده على جهة الرواية بحيث لا يشذ من الاخبار شي ء دون تحقيق العمل عليه الى ان قال: «وابن بابويه في رسالته يذهب الى ما اخترناه من انه لا ينزح من موت العقرب في البئر شي ء».
واعتذار ابن ادريس في هذا الكلام - كما مر - يفيد الى حد ما بان علي بن بابويه كان في نظر ابن ادريس محققا فيما يفتي به من الاخبار مميزا بين صحيحهاً وضعيفهاً على الاقل فيما يرتبط بالاخبار الواردة في نجاسة البئر وتطهيرها.
على ان ما افتى به ابن بابويه انما هو على طبق ما ورد في الصحيح عن ابن مسكان عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: «وكل شي ء سقط في البئر ليس له دم مثل العقارب والخنافس واشباه ذلك فلا باس ».
كما قال ابن ادريس في موضع آخر: «وما اخترناه مذهب الشيخ الصدوق، وعلي بن بابويه في رسالته ».
ومن راجع مختلف الشيعة، ومنتهى المطلب يجد الكثير من نصوص الرسالة الموافقة لفتاوى العلامة الحلي (قدست نفسه الزكية) مع مناقشته احيانا ادلتها الفقهية كما سياتي في محله.
مميزات الرسالة ومنهجها:
حاول الشيخ علي بن بابويه(رحمه الله تعالى) ان يجمع مسائل الفقه ويختصرها ويهذبها وينظمها برسالة موجزة الى ولده الصدوق.
فالبحث الفقهي في الرسالة لم يتجاوز - في الغالب – حدود الفروع الفقهية المقتبسة من احاديث الاحكام الواردة عن ائمة الهدى:، هذا الى جانب استعانته بشعر العرب على توضيح بعض المفردات اللغوية الواردة في النصوص، مع الاحتجاج بعموم القراك ن الكريم وبعض الاصول العملية، و الاجتهاد في تقرير دلالة الالفاظ على نوعية الحكم، كما سنبين لكل بمثال.
والمهم في ذلك انه لم يفرع في الرسالة تفريعات فقهية كثيرة، بمعنى انها لم تستوعب جميع مسائل الفقه، بل اقتصرت على تطبيق النصوص المختارة على مواردها، وكدليل عليه حكم غسل الوجه واليدين في الوضوء للمرة الثانية، فاكثر العلماء على استحبابه بينما لم يذكره علي بن بابويه كما في مختلف الشيعة.
ومن مميزات الرسالة المهمة ابتكار الصدوق الاول لطرح الاسانيد فيها لئلا يثقل حملها كما مر في نص كلامه قدس سره، وهو اول من ابتكر تلك الطريقة في رسالته.
قال المحدث النوري: «وفي مجموعة الشهيد: ذكر الشيخ ابو علي ابن شيخنا الطوسي ان اول من ابتكر طرح الاسانيد وجمع بين النظائر واتى الخبر مع قرينة علي بن بابويه في رسالته الى ابنه، قال: ورايت جميع من تاخر عنه يحمد طريقته فيها ويعول عليه في مسائل لايجد النص عليها لثقته وامامته وموضعه من العلم والدين ».
الاحتجاج بعموم القرآن:
أفتى علي بن بابويه رحمه الله فيما اذا وجد المصلي على ثوبه بقعة من الدم من غير الدماء الثلاثة، ومن غير دم نجس العين او القروح او الجروح اللازمة وكان قدرها بقدر الدرهم البغلي بوجوب الازالة محتجا بعموم قوله تعالى: (وثيابك فطهر) وما قل عن الدرهم البغلي، فلا تجب الازالة، فهو قد ترك فيما نقص عن الدرهم للمشقة وعدم الانفكاك منه فيبقى ما زاد على عموم الامر بازالته، وقد وافقه على ذلك ابنه الصدوق وابن البراج وابن ادريس، وهو الذي اختاره سلار.
الاجتهاد في تقرير دلالة الالفاظ على نوعية الحكم:
في الصحيح عن زرارة عن ابي جعفرعليه السلام انه قال: «اذا كانت المراة طامثا فلا تحل لها الصلاة، وعليها ان تتوضأ وضوء الصلاة عند وقت كل صلاة، ثم تقعد في موضع طاهر فتذكر
الله عز وجل وتسبحه وتهلله وتحمده بمقدار صلاتها، ثم تفرغ لحاجتها».
وقد اعتمد علي بن بابويه في رسالته على هذا الخبر فقال عن الحائض: «ويجب عليها عند حضور كل صلاة ان تتوضأ وضوء الصلاة وتجلس مستقبلة القبلة وتذكر الله بمقدار صلاتها كل يوم ». وقد صرح العلامة بانه احتج بلفظة (وعليها ان تتوضا) الواردة في الخبر، بانها دالة على الوجوب.
وقد منعه العلامة; لان المندوب يصدق عليه انه على الانسان، او تقول: الحكم عليه سواء كان بواجب او ندب، وقال بالاستحباب وهو المشهور.
العمل بمطلقات الاخبار:
في الصحيح عن محمد بن مسلم قال: «سالت ابا عبدالله عليه السلام عن التيمم فضرب كفيه الارض ثم مسح بهما وجهه، ثم ضرب شماله الارض فسمح بها مرفقه الى اطراف الاصابع واحدة على ظهرها وواحدة على بطنها، ثم ضرب بيمينه الارض ثم صنع بشماله كما صنع بيمينه...».
وقد افتى علي بن بابويه في عدد الضربات في التيمم على طبق هذا الخبر، بينما المشهور هو الاكتفاء بالضربة الواحدة للوجه واليدين معا، والفقهاء لم يعملوا بهذا الخبر لكونه مطلقاً بينما الاحاديث الدالة على راي المشهور مفصلة، فحملوا الخبر عليها جمعا بين الادلة.
استشهاده بالشعر العربي مع ضبطه لبعض المفردات:
قال في السرائر في عدم جواز التقصير في الصلاة للمكاري والاشتقان - وهو الامين الذي يبعثه السلطان على حفاظ البيادر -: «وقال ابن بابويه في رسالته: والمكاري والكري [واحد]، فالكري هو المكاري، فاللفظ مختلف وان كان المعنى واحدا، قال عذافر الكندي:
لو شاء ربي لم اكن كريا***ولم اسق بشعفر المطيا
الشعفر: بالشين المعجمة، والعين غير المعجمة، والفاء والراء غير المعجمة، اسم امراة من العرب.
بصرية تزوجت بصريا***يطعمها المالح والطريا
تخاله اذا مشى خصيا***من طول ما قد حالف الكرسيا
والكري: من الاضداد، قد ذكره ابو بكر الانباري في كتاب الاضداد، يكون بمعنى المكاري، ويكون بمعنى المكتري.
وقال ابن بابويه ايضا في رسالته: ولا يجوز التقصير للاشتقان، بالشين المعجمة، والتاء المنقطة من فوقها نقطتين، والقاف والنون، هكذا سمعنا على من لقيناه وسمعنا عليه من الرواة ولم يبينوا لنا ما معناه ».
ثم نقل ابن ادريس - بعد ذلك - معنى الاشتقان عن كتاب الحيوان للجاحظ، فدل نقله على كون ما تقدم كله من كلام علي بن بابويه في رسالته، ولعله اول من تعرض من فقهاء عصر الغيبة الصغرى لضبط المفردات اللغوية على النحو المذكور.
الاحتجاج بالاصول العملية:
قال العلامة قدس سره في المختلف - في صلاة العيدين -: «قال علي بن بابويه اذا صليت بغير خطبة صليت اربع ركعات بتسليمة ... الى ان قال - احتج ابن بابويه باصالة براءة الذمة من التسليم وتكبيرة الافتتاح، وقد عد هذه الفتوى في جامع المقاصد من الفتاوى التي لم ينقل لها دليل.
وقفة مع بعض فتاوى الصدوق الاول:
افتاؤه بوقت افطار الصائم:
قال علي بن بابويه في رسالته: «يحل لك الافطار اذا بدت لك ثلاثة انجم، وهي تطلع مع غروب الشمس ».
قال الشيخ الصدوق بعد ان اورد هذا من الرسالة: وهي رواية ابان عن زرارة عن ابي جعفرعليه السلام.
اقول: هذه الرواية رواها الشيخ في التهذيب بسند صحيح عن ابان، عن زرارة قال: «سالت ابا جعفرعليه السلام عن وقت افطار الصائم؟ قال: حين يبدو ثلاثة انجم...».
الا ان الشيخ عقب عليها بقوله: «ما تضمنه هذا الخبر من ظهور ثلاثة انجم لا يعتبر به، والمراعى ما قدمناه من سقوط القرص، وعلامته زوال الحمرة من ناحية المشرق، وهذا كان يعتبره اصحاب ابي الخطاب لعنهم الله » وقد اجاب العلامة عن خبر زرارة هذا فقال: «لعله اشار بذلك الى حالة الاشتباه لوجود الغيم او غيره ».
افتاؤه بحد الوجه في التيمم:
المشهور عند فقهائنا مسح الوجه في التيمم بالنص والاجماع، واختلفوا في تقديره فاكثر علمائنا على ان حد الوجه هنا من قصاص الشعر الى طرف الانف، بينما قال علي بن بابويه بالاستيعاب كالغسل في الوضوء ونقل السيد المرتضى في الناصريات الاجماع على الاول، وقد وردت روايات تدل على ما قاله علي بن بابويه، واكثرها ضعيفة الاسناد، اعرض عنها الاصحاب كما صرح بذلك المحقق الكركي كما ان القول بالاستيعاب، اي مسح جميع الوجه في التيمم هو مذهب اهل السنة.
ونظير هذه الفتوى قوله في التيمم ايضا بوجوب استيعاب مسح اليدين الى المرفقين كالغسل، مع ان فتوى اكثر فقهائنا في ان القدر الذي يمسح من اليدين هو من الرسغ الى اطراف الاصابع.
فتاوى نادرة:
قال في قاموس الرجال: «وله فتاوى شاذة في الفقه، ومنها في احكام السهو في الصلاة والشك في ركعاتها، كما لا يخفى على من راجع المختلف، ومن اشذ فتاويه قوله في نصابي الذهب بانهما اربعين اربعين، فانه وان ورد بما قاله خبر، الا ان الحلي قال انه على خلاف اجماع المسلمين ».
ويقصد بالحلي صاحب السرائر، فقد قال في باب المقاديرالتي تجب فيها الزكاة وكمية ما تجب: «وقال بعض اصحابنا وهو ابن بابويه في رسالته: انه لا يجب في الذهب الزكاة حتى يبلغ اربعين مثقالا. وهذا خلاف اجماع المسلمين».
ومن ذلك ايضا ما حكاه ابن ادريس الحلي عنه ايضا قال: «والخمر نجس بلا خلاف، ولا تجوز الصلاة في ثوب ولا بدن اصابه منها قليل ولا كثير الا بعد ازالتها مع العلم بها، وقد ذهب بعض اصحابنا في كتاب له وهو ابن بابويه الى ان الصلاة تجوز في ثوب اصابه الخمر قال: لان الله حرم شربها ولم يحرم الصلاة في ثوب اصابته، معتمدا على خبر روي.
هذا وقد اكد ابن ادريس على ان هذه الفتيا الصادرة عن ابن بابويه مخالفة لاجماع المسلمين.
ومن فتاواه المخالفة لما عليه المذهب، ما حكاه في جامع المقاصد في الاحكام المعنوية من ذهاب الشيخ علي بن بابويه الى ان السهم هو السدس، بينما السهم عند اكثر الفقهاء هو الثمن، قال: وهذا عليه المذهب.
اقول: ان هذه الوقفة مع فتاوى الشيخ علي بن بابويه لا بد منها رحمه الله لكي لا تفسر اك يات الثناء عليه في هذا البحث بغير واقعها، فتحمل على المبالغة، وتوسم بعدم الدقة والموضوعية، مؤكدين على اجماع الشيعة برمتهم على انه لا يوجد في قاموسهم كتاب - غير كتاب الله عز وجل - قد استوفى التكامل، كما ادعى غيرهم، ما دامت تلك الكتب صادرة عن عقل غير معصوم. وهذا لا يضر بالعظماء اذا ما لوحظ التركيز على الجانب العلمي الذي تبينت من خلاله سبل الابتكار في طرح المادة العلمية بعد عصر النص مباشرة بما يكشف عن اصالتها وحيويتها الى اليوم.
جمل الثناء عليه:
للشيخ علي بن بابويه قدس سره الشريف منزلة عالية في نفوس سائر مترجميه كما تنبى جملهم في الثناء عليه، اذ كان - كما يبدو من ذكره العطر - من المراجع العظام في الفقه والحديث في مدينته قم المشرفة بلا منازع.
والذي يدل على سمو مكانته، ورفيع مقامه ما اشتهر بين علماء الشيعة منذ قرون متعاقبة من تزكية امام معصوم له، كما يتضح هذا من رسالة سيدنا الامام الحسن العسكري عليه السلام اليه، واليك نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والجنة للموحدين، والنار للملحدين، ولا عدوان الا على الظالمين، ولا اله الا الله احسن الخالقين، والصلاة على خير خلقه محمد وعترته الطاهرين..
اما بعد:
اوصيك يا شيخي ومعتمدي ابا الحسن علي بن الحسين القمي، وفقك الله لمرضاته وجعل من صلبك اولادا صالحين برحمته، بتقوى الله، واقام الصلاة، وايتاء الزكاة، فانه لا تقبل الصلاة من مانع الزكاة، واوصيك بمغفرة الذنب، وكظم الغيظ، وصلة الرحم، ومواساة الاخوان والسعي في حوائجهم في العسر واليسر، والعلم عند الجهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الامور، والتعهد للقراك ن، و حسن الخلق، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله عز وجل: (لا خير فى كثير من نجواهم الا من امر بصدقه ا ومعروف او اصلاح بين الناس)، واجتناب الفواحش كلها، وعليك بصلاة الليل فان النبي صلى الله عليه واله وسلم اوصى علياً عليه السلام فقال: «يا علي عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل »، ومن استخف بصلاة الليل فليس منا.
فاعمل بوصيتي، وامر جميع شيعتي حتى يعملوا بها، وعليك بالصبر وانتظار الفرج، فان النبي صلى الله عليه واله قال: «افضل اعمال امتي انتظار الفرج »، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي صلى الله عليه واله وسلم حيث قال: «انه يملا الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا».
فاصبر يا شيخي، وامر جميع شيعتي بالصبر، فان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وحسبنا الله ونعم المعين ونعم المولى ونعم النصير».
قال في روضات الجنات بعد ان اورد الرسالة: «وقال بعض الاعاظم - بعد ذكره لذلك -: وهذه الرسالة اذا صحت دلت على عظم شان علي المذكور، والله اعلم ».
اقول: لو لم يكن علي بن بابويه رضي الله تعالى عنه اهلا للرسالة بنظر اعلام الشيعة لرفضوها رفضا قاطعا، ولكنهم وجدوه اهلا لها فتلقوها بالقبول، وما تقدم في اوائل البحث لا يعني التشكيك في صحة صدورها، بل يعني اثارة ما يمكن ان يوجه لها من نقد لتحظى بمزيد من البحث والتحقيق لاهميتها.
وعلى اية حال فان موقف علماء الشيعة من هذا الرجل العظيم يتسم بكل اجلال وتعظيم كما سيتضح من:
الثناء عليه ببعض كتب الشيعة:
قال النجاشي (ت/450هـ): «علي بن الحسين بن بابويه القمي، ابو الحسن، شيخ القميين في عصره، ومتقدمهم، وفقيههم، وثقتهم ».
وقال شيخ الطائفة (ت/460هـ): «علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي رضي الله عنه، كان فقيها جليلا ثقة، وله كتب كثيرة »، وقال ايضا: «ثقة، له تصانيف ذكرناها في الفهرست ».
وقال الشيخ حسن ابو علي ابن شيخ الطائفة الملقب بالمفيد الثاني (ت/515هـ) معللا قبول من تاخر عنه لرسالته الفقهية: «... لثقته، وامامته، وموضعه من العلم والدين ».
وقال الشيخ ابن ادريس الحلي (ت/598هـ) في حكم بيع الواحد بالاثنين مع اختلاف الجنس: «...بل جلة اصحابنا المتقدمين، ورؤساء مشايخنا المصنفين الماضين رحمهم الله لم يتعرضوا لذلك، بل افتوا وصنفوا...» ثم ذكر جملة من كبار العلماء وعد علي بن بابويه في طليعتهم.
ونظير هذا الوصف ما ذكره المحقق الحلي (ت/676هـ) في كتاب المعتبر، وقد تقدم، وقال ابن داود الحلي (ت/707هـ): «.. . الفقيه الجليل المعظم، الثقة، الورع، المصنف ».
واورده العلامة الحلي (ت/727هـ) في القسم الاول من رجاله المعد للثقات المعتمد عليهم ونقل قول النجاشي المتقدم - في ترجمته.
ووصفه الشهيد الاول (ت/786هـ) في اجازته للخازن ب : (الامام).
وقال المجلسي (ت/1111هـ) في الفصل الاول في بيان مصادر البحار: «وكتاب الامامة والتبصرة من الحيرة للشيخ الاجل ابي الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه والد الصدوق طيب الله تربتهما».
وقال في الفصل الثاني في توثيق تلك المصادر: «وكتاب الامامة مؤلفه من اعاظم المحدثين والفقهاء، وعلماؤنا يعدون فتاواه من جملة الاخبار».
وقال الافندي (من علماء القرن الثاني عشر الهجري): «العالم الكامل الجليل المحدث المعروف بعلي بن بابويه، والد شيخنا الصدوق محمد، وقد يعرف بابي الحسن مطلقا» وقال السيد الاعرجي (ت/1227هـ): «من مشايخ الطائفة وثقاتها وعظمائها».
وقال السيد الخوانساري (ت/1313هـ): «الشيخ الفقيه، الثقة الوجيه، المعتمد عليه، ابو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، والد شيخنا الصدوق القمي، واستاذه الذي تلمذ لديه، وصاحب الرسالة المعروفة، ينقل عنها في كتاب من لا يحضره الفقيه، كان من اجلاء فقهاء الاصحاب، والادلاء على صراط ال محمد الانجاب الاطياب، غيورا في امر الدين، مدمر اساس الملحدين، معظما من مشايخ الشيعة، مفخما من اركان الشريعة، صاحب كرامات ومقامات، ومساعي وانتظامات، وحسب النهاية على دلالة فضله وغاية جلالته، التوقيع الذي خرج اليه من حضرة مولانا الامام العسكري عليه السلام، بنقل صاحب الاحتجاج وغيره...».
وقال خاتمة المحدثين الشيخ النوري (ت/1320هـ): «الشيخ الاقدم، والطود الاشم ابو الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، العالم، الفقيه، المحدث، الجليل، صاحب المقامات الباهرة، و الدرجات العالية التي تنبى عنها مكاتبة الامام العسكري عليه السلام وتوقيعه الشريف اليه...».
وقال السيد حسن الصدر (ت/1354هـ): في بيانه لائمة علم التفسير والتاويل: «ومنهم: علي بن بابويه والد الشيخ الصدوق كان شيخ الشيعة بقم يكنى ابا الحسن، علي بن الحسين بن موسى ابن بابويه .. وانه ممن كاتبه مولانا ابو محمد العسكري، وله كرامات وحكايات مذكورة في المطولات، صنف الكتب، منها: كتاب التفسير...».
وقال الشيخ عباس القمي (ت/1359هـ): «كان شيخ القميين في عصره وفقيههم وثقتهم، وكفى في فضله ما في التوقيع المنقول عن الامام العسكري عليه السلام: اوصيك يا شيخي ومعتمدي وفقيهي يا ابا الحسن .. الى آخره ».
الثناء عليه في كتب السنة:
لم يترجم للشيخ علي بن بابويه الا القلائل من علماء اهل السنة، بل وحتى الخطيب البغدادي الذي حاول في تاريخه ذكر علماء بغداد ومن قدم اليها لم يذكر - من فرط تعصبه - شيخنا علي بن بابويه على الرغم من قدومه الى بغداد اكثر من مرة، بل لم يذكر ثقة الاسلام الكليني الذي مات ودفن في بغداد!
والمهم هنا، هو ان جميع من ذكره منهم فقد اطراه.
قال الذهبي (ت/748هـ) في ترجمة ولده الصدوق: «ابن بابويه، راس الامامية ابو جعفر محمد بن العلامة علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي...».
فهو جدير بلقب (العلامة) عند الذهبي، وهذا اعتراف صريح منه بعلمه وفقهه، مع ان هذا اللقب لم تطلقه الشيعة عليه، فلاحظ.
وقال ابن النديم (ت/385هـ): «ابن بابويه: واسمه علي بن الحسين بن موسى القمي، من فقهاء الشيعة وثقاتهم، قرات بخط ابنه ابي جعفر محمد بن علي على ظهر جزء: قد اجزت لفلان ابن فلان كتب ابي علي بن الحسين وهي مئتا كتاب وكتبي وهي ثمانية عشر كتابا».
كما ترجم له البغدادي الباباني (ت/1339هـ) في هدية العارفين فقال: «ابن بابويه: علي بن الحسن [كذا] بن موسى بن بابويه ابو الحسن القمي من علماء الشيعة، توفى سنة 329 هـ تسع وعشرين وثلاثمائة.
له من التصانيف: املاء النوادر، تبصرة الحيرة...». ثم عدد بقية كتبه.
كما ترجم له خير الدين الزركلي الوهابي (ت/1976م)، فقال: «ابن بابويه: علي بن الحسين بن موسى بن بابويه، ابو الحسن القمي، شيخ الاماميين بقم في عصره، مولده ووفاته فيها، له كتب في التوحيد والامامة والتفسير ورسالة في الشرائع، وغير ذلك ».
وفاته ومكان وفاته:
قال النجاشي: «ومات علي بن الحسين سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، وهي السنة التي تناثرت فيها النجوم، وقال جماعة من اصحابنا: سمعنا اصحابنا يقولون: كنا عند ابي الحسن علي بن محمد السمري رحمه الله فقال: رحم الله علي بن الحسين بن بابويه، فقيل له: هو حي! فقال: انه مات في يومنا هذا.
فكتب اليوم، فجاء الخبر بانه مات فيه ».
وقد روى هذا الخبر الشيخ في كتاب الغيبة بسنده عن ابي عبدالله احمد بن ابراهيم بن مخلد قال: «حضرت بغداد عند المشايخ رحمه الله فقال الشيخ ابو الحسن علي بن محمد السمري قدس سره ابتداء منه: رحم الله علي بن الحسين بن بابويه القمي ».
قال: فكتب المشايخ تاريخ ذلك اليوم فورد الخبر انه توفي في ذلك اليوم.
ومضى ابوالحسن السمري رضى الله عنه بعد ذلك في النصف من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة » وقد اخرجه من طريق آخر ايضا. كما اخرج خبرا عن ابي نصر هبة الله بن محمد الكاتب ذكر فيه ان السمري(رضي الله تعالى عنه) مات سنة 329هـ .
والحاصل من كل هذا: ان سنة وفاة علي بن بابويه والسمري قدس سرهما هي سنة 329ه وهي توافق عدد (يرحمه الله) كما ياتي:
10+200+8+40+5+1+30+30+5=329 هـ
ي+ر+ح+م+ه +ا+ل+ل+ه = يرحمه الله
ولكن قد يشكل على هذا - وهو الموافق لقول النجاشي – على الرغم من كونه هو المتفق عليه بين سائر علماء الشيعة تقريبا، بان خبر الشيخ في كتاب الغيبة الذي اخرجه عن احمد بن ابراهيم بن مخلد قد اخرجه الصدوق في كمال الدين عنه ايضا وبلا اختلاف يذكر سوى ما ورد في آخره اذ قال: «ومضى ابو الحسن السمري رحمه الله في النصف من شعبان سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ».
والصدوق رواه عن احمد بن ابراهيم بواسطة واحدة، والشيخ بواسطتين، والصدوق معاصر لسنة الوفاة والشيخ قريب منها، ولا يحصل التصحيف بين (ثمان) و(تسع) وتحريف احدهما - سهوا - الى الآخر بعيد، وموافقة قول النجاشي للشيخ لا يلغي اهمية قول الصدوق لتقدمه عليها، وعلى هذا سيكون تاريخ وفاة الشيخ علي بن بابويه ليس هو ما اخبر به النجاشي على الرغم من شهرته، هذا اولا. وثانيا: ان سنة تناثر النجوم لم تذكر في وقائع سنة 329هـ في كتب التاريخ التي ركزت على بيان حوادث ووقائع التاريخ بحسب السنين - بل السنة القريبة من هذا التاريخ التي وقع فيها التناثر - الذي تكرر وقوعه في عدة قرون كما في كتب التاريخ - هي سنة 323هـ وهي السنة نفسها التي خرج فيها ابو طاهر القرمطي على الحاج العراقيين، فقد ذكر ابن الجوزي في المنتظم في حوادث سنة (323هـ) خروج الحاج وتعرضهم الى ابي طاهر بن ابي سعيد الجنابي القرمطي وانه اكثر فيهم القتل والنهب ورجع من سلم منهم الى بغداد، قال: «وبطل الحج في هذه السنة » وقد حدد تاريخ هجوم ابي طاهر على الحاج بالضبط، وذلك في سحر يوم الاربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، ثم قال: «وفي هذه الليلة بعينها انقضت النجوم ببغداد من اول الليل الى آخره، وبالكوفة ايضا، انقضاضا مسرفا لم يعهد مثله ولا ما يقاربه ».
وقال ابن الاثير في الكامل في حوادث سنة 323هـ ايضا: «في هذه السنة خرج الناس الى الحج فلما بلغوا القادسية [قرب الكوفة ومن مسالحها] اعترضهم ابو طاهر القرمطي ثاني عشر ذي القعدة فلم يعرفوه فقاتله اصحاب الخليفة واعانهم الحجاج ثم التجاوا الى القادسية، فخرج جماعة من العلويين بالكوفة الى ابي طاهر فسالوه ان يكف عن الحجاج، فكف عنهم، وشرط عليهم ان يرجعوا الى بغداد، فرجعوا ولم يحج بهذه السنة من العراق احد [الى ان قال] وفيها في ليلة الثاني عشر من ذي القعدة وهي الليلة التي اوقع القرمطي بالحجاج، انقضت الكواكب من اول الليل الى آخره انقضاضا دائما مسرفا جدا لم يعهد مثله ».
اقول: ومن هنا تتضح عدة امور مهمة، وهي:
الاول: ان ما ذكره الشيخ في رجاله - ونقلناه عنه فيما تقدم - في ترجمة علي بن بابويه بقوله: «روى عنه التلعكبري قال: سمعت منه في السنة التي تهافتت فيها الكواكب، دخل بغداد فيها»، انما هي سنة (323هـ) وليس سنة (326هـ) كما اشرنا اليه في رحلاته العلمية واسفاره.
الثاني: ان قول السيد حسن الصدر رحمه الله: «مات علي بن بابويه سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة »، يؤكد ما مرفي الامر الاول، وان لم يوافقه احد على هذا التحديد، فهو (رحمه الله) قد علق بذهنه قول النجاشي في اقتران سنة وفاة الشيخ علي بن بابويه بتناثر النجوم ولم يراجع بوقتها ظاهرا، وكان يعلم سنة التناثر فجعلها تاريخا للوفاة.
الثالث: ان هذه السنة (323هـ) هي السنة نفسها التي استاذن فيها الشيخ علي بن بابويه لغرض الحج وورد المنع اولاثم السماح ثانيا مع الامر بان يكون في آخر القافلة خوفا من قتل القرامطة وقد تحقق ذلك فعلا فعاد سالما الى بغداد ولم يكن من حملة ضحايا القرامطة.
الرابع: ان ما ذكره الشيخ الطريحي في مجمع البحرين عن الشيخ البهائي يرحمهما الله تعالى من دخول القرامطة الى مكة سنة 310هـ، واخذهم الحجر الاسود وانه بقي عندهم عشرين سنة، وانهم قتلوا خلقا كثيرا وكان ممن قتلوه علي بن بابويه، وكان يطوف بالبيت فما قطع طوافه فضربوه بالسيف فوقع الى الارض وانشد:
ترى المحبين صرعى في ديارهم***كفتية الكهف لايدرون كم لبثوا
فهو غير صحيح; لان ذلك وقع في سنة 317هـ باتفاق جميع من ارخ للقرامطة وليس في سنة 310هـ، على ان وقعة القرامطة سنة 317هـ كانت من افتك الوقائع; اذ ابيد بها الحاج اثناء الطواف وعروا الكعبة المشرفة من كسوتها وقلعوا بابها وطرحوا القتلى في بئر زمزم، كما هو شان القرامطة في طول تاريخهم القذر.
واما ابن بابويه الذي قتل في هذه الحادثة المؤلمة فهو سمي شيخنا علي بن بابويه، وهو: «علي بن بابويه الصوفي العامي المعروف بالتصوف احد من انكر عليه ابن الجوزي المتوفى سنة 597هـ في كتاب تلبيس ابليس ».
هذا، زيادة على ان معظم اسفار شيخنا المعظم ورحلاته المنصوص عليها كانت بعد سنوات عدة من تاريخ فتك القرامطة بالحاج سنة 317هـ كما تقدم. اما مكان وفاته رضي الله تعالى عنه فهو في قم المشرفة بالاتفاق، ولا زال قبره الى الآن فيها وقد زرته مرارا كان آخرها اثناء كتابة هذا البحث، واليك تحديد موقعه.
موقع قبره الزكي:
يقع قبره الزكي وسط مدينة قم المقدسة على مسافة قريبة من الروضة الشريفة لفاطمة سلام الله عليها بنت الامام موسى الكاظم عليه السلام، وبالضبط يقع في المثلث الحاصل من تقاطع شارعي انقلاب وشارع اية الله السيد المرعشي النجفي قدس سره، وفي كل منهما قبل التقاطع مباشرة زقاق يؤدي اليه، والقبر واقع وسط حجرة مربعة مزينة الجدران وتعلوها قبة عالية مطلة على ساحة متصلة بالحجرة وقد كتبت على باب القبر الشريف سورة «والشمس وضحاها» كاملة بخط الثلث الجميل، رحم الله شيخنا علي بن بابويه القمي وشكر له سعيه في اعلاء كلمة الحق وحشره مع محمد واله صلى الله عليهم وسلم.
والحمد لله رب العالمين