زرارة بن أعين (قدس سره)
هو عبد ربه بن اعين بن سنسن بن اسعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان. و (زرارة) لقبه.
وقد ورد في حديث عن الامام الصادق عليه السلام قال فيه لزرارة: يا زرارة، ان اسمك في اسامي اهل الجنة بغير الف. قلت:نعم، جعلت فداك! اسمي: عبد ربه، ولكني لقبت بزرارة.
وكنيته (ابو الحسن)، والظاهر انه يكنى ايضا ابا علي.
وكان ابوه اعين عبدا روميا لرجل من شيبان، علمه القرآن ثم اعتقه. واعين على وزن احمر: هو الواسع العين.
وكان زرارة رجلا تاجرا. وقد ورد في وصفه وشمائله انه كان وسيما، جسيما، ابيض، وكان يخرج الى الجمعةوعلى راسه برنس اسود، وبينعينيه سجادة، وفي يده عصا، فيقوم له الناس سماطين ينظرون اليه لحسن هيئته،فربما رجع عن طريقه. كلمات الاعلام فيه قد يجد الباحث نفسه في غنى عن التعرض لكلمات الاعلام حول شخصية عظيمة كشخصية زرارة بن اعين، سيما مع ملاحظة ما صدر في شانه من تكريم وتبجيل من جهة الائمة عليهم السلام. الا انا سنورد من كلماتهم ما يكون قضاء لحق هذا الفقيه الفذ، متيمنين بذكرها:
قال جميل بن دراج وهو من كبار تلامذته، وكان وجها للطائفة: «واللّه، ما كنا حول زرارة بن اعين الا بمنزلة الصبيان في الكتاب حول المعلم!».
وقال الشيخ الكشي في تسمية الفقهاء من اصحاب ابي جعفر وابي عبد اللّه عليه السلام: «اجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الاولين من اصحاب ابي جعفر وابي عبد اللّه عليه السلام، وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: افقه الاولين ستة: زرارة ومعروف بن خربوذ، وبريد، وابو بصير الاسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي. قالوا: وافقه الستةزرارة».
وبجله الشيخ الاقدم الحسين بن عبيد اللّه الغضائري، فذكر: «انه افقه بني اعين».
واطراه النجاشي بقوله: «شيخ اصحابنا في زمانه ومتقدمهم، وكان قارئا، فقيها، متكلما، شاعرا، اديبا، قد اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، صادقا فيما يرويه».
وعده الشيخ الطوسي في رجال الكاظم عليه السلام، فقال: «زرارة بن اعين الشيباني ثقة، روى عن ابي جعفر وابي عبد اللّه عليه السلام».
ووصفه ابن النديم بانه اكبر رجال الشيعة فقها وحديثا ومعرفة بالكلام والتشيع.
وقال ابن داود: «كان اصدق اهل زمانه، وافضلهم». ووصفه الجاحظ بالرئاسة، فقال: «انه رئيس الشيعة».
وقال الزركلي: «كان متكلما، شاعرا، له علم بالادب، وهو من اهل الكوفة».
وقال صاحب الطرائف: «حاله اوضح من ان يسطر ويرقم في طي السطور. وهو (رضي الله عنه) من اصحاب الاجماع من الستة الاولى، وهم الامجاد، وكانوا افضل من الاخرين، وهو افضل وافقه الستة، فيكون افضل من الكل. شيخ من اصحابنا، مقدم في زمانه، قارئ، متكلم، فقيه، اديب، شاعر، محلى بالدين والفضل والذكاء. وقد ورد فيه روايات كثيرة تدل على علو شانه وسمو درجته».
ووصفه السيد الخوئي (قدس سره) بانه من الاعاظم الاجلاء، ومن اكابر الفقهاء، وعدول الرواة.
اسرته:
ينتمي فقيهنا المترجم الى بيت رفيع في العلم والوجاهة والدين. فال اعين «اكبر بيت في الكوفة، من شيعة اهل البيت:، واعظمهم شانا، واكثرهم رجالا واعيانا، واطولهم مدة وزمانا.
ادرك اوائلهم السجاد والباقر والصادق:،وبقي اواخرهم الى اوائل الغيبة الكبرى. وكان فيهم العلماء والفقهاء والقراء والادباء ورواة الحديث».
وقد افرد شيخ علماء عصره وبقية آل اعين ابو غالب الزراري(ت / 368هـ) رسالة فصل فيها الحديث عن احوال هذه الاسرة وفضائلها ورجالاتها، فقال في مستهلها: «انا اهل بيت اكرمنا اللّه عزوجل بمنه علينا بدينه،واختصنا بصحبة اوليائه وحججه على خلقه من اول ما نشانا الى وقت الفتنة التي امتحنت بها الشيعة. فلقي عمنا حمران سيدنا وسيد العابدين علي بن الحسين عليهما السلام، وكان حمران من اكبر مشايخ الشيعة المفضلين الذين لايشك فيهم، وكان احد حملة القرآن... وآل اعين اكثر اهل بيت في الشيعة، واكثرهم حديثا وفقها، وذلك موجود فيكتب الحديث، ومعروف عند رواته».
وقد رزق والد هذه الاسرة (اعين) ذرية طيبة امتدت اجيالا عديدة تتوارث الفضل والمعالي، فبقوا كما يذكر الزراري اربعين سنة اربعين رجلا لا يموت منهم رجل الا ولد فيهم غلام. ويصف دورهم وموطنهم في الكوفة فيقول: وقد كانت دورهم في الكوفة في خطة بني اسعد بن همام، ولهم مسجد الخطة يصلون فيه، وقد دخله الامام ابو عبد اللّه الصادق عليه السلام، وصلى فيه.
واصل آل اعين غساسنة، الا ان جدهم (سنسن) والد اعين دخل بلاد الروم في اول الاسلام، فولد له اعين في تلك البلاد، ثم انتقل الى الكوفة، فتبناه رجل من بني شيبان ورباه، فاحسن تاديبه، وحفظ القرآن، وعرف الادب، وخرج اديبا بارع. ولكن ورد في تكملة رسالة ابي غالب: «ان اعين كان رجلا من الفرس، فقصد امير المؤمنين عليه السلام ليسلم على يده ويتوالى اليه (بعقد الموالاة)، فاعترضه في طريقه قوم من بني شيبان، فلم يدعوه حتى توالى اليهم».
أولاد اعين:
واما ولده فهم ثمانية: عبد الملك، وحمران، وزرارة، وبكير، وعبد الرحمان. وهؤلاء كبراؤهم معروفون.
وغير المعروفين فيهم هم: قعنب، ومالك، ومليك.
وذكر الحسين بن عبيد اللّه الغضائري ان عددهم عشرة باضافة: عيسى، وضريس، وسميع، وعبد الاعلى،وحذف مالك، لانه مالك بن اعين الجهني.
أولاد زرارة:
عد ابو غالب من اولاده ستة، هم: الحسن، والحسين، وعبيد اللّه، وعبد اللّه، ويحيى، ورومي.
الا ان الغضائري عدهم خمسة بحذف الاخيرين واضافة (محمد). وقد نص ابن داود على (محمد)ايضا .
نعم، ذكر الزراري في رسالته ان لعبد اللّه بن زرارة ابنا اسمه محمد،قال: «وكان كثير الحديث، وروى عنه علي بن الحسن بن فضال حديثا كثيرا».
ونقل الغضائري عن الحافظ ابي العباس بن عقدة في آل اعين انه قال: «كل واحد منهم كان فقيها يصلح ان يكون مفتي بلد، ماخلا عبد الرحمان بن اعين».
وقد كان زرارة افقه اخوته بشهادة المشايخ الثقات، وكان هو واخوه حمران مركز الثقل في الاسرة، حتى انها عرفت واشتهرت ب(آل زرارة)، ولقب بعض شخصياتها ب(الزراري). والظاهر ان مبدا هذه النسبة كان في فترة متاخرة زمنيا، حيث كان في زمن الامام العسكري عليه السلام ومن جهته على وجه التحديد. وفي هذا المجال يقول ابو غالب الزراري في رسالته: «واول من نسب منا الى زرارة جدنا سليمان، نسبه اليه سيدنا ابو الحسن علي بن محمد صاحب العسكر عليه السلام. وكان اذا ذكره في توقيعاته الى غيره قال: الزراري، تورية عنه وسترا، ثم اتسع ذلك وسمينا به».
والظاهر من احوال هذه الاسرة انها كانت ذات شوكة وجهاد الى جانب ما كانت تتمتع به من علم وفضل، فقد وردانه لما قدم الحجاج العراق قال: «لايستقيم لنا الملك ومن آل اعين رجل تحت حجر». فاختفوا وتواروا، ثم اشتد الطلب عليهم.
منزلة زرارة عند الائمة عليهم السلام:
قلائل هم اولئك الذين كانت لهم حظوة الرضا والتاييد لدى الائمة المعصومين:، وقلائل ايضا هم اولئك الذين نالوا منهم:
اعلى درجات الثناء والتكريم.
وقد كان زرارة من اولئك النفر الذين وردت في شانهم وفضلهم اخبار كثيرة بلغت حد الاستفاضة تنبئ عن علو شانه وعظيم قدره. وسنختار منها طائفة، وهي كالتالي:
1- روي عن ابي عبد اللّه عليه السلام انه قال: «رحم اللّه زرارة بن اعين! لولا زرارة ونظراؤه لاندرست احاديث ابي عليه السلام ».
2- وعنه عليه السلام ايضا انه قال: «احب الناس الي احياء وامواتا اربعة: بريدبن معاوية العجلي، وزرارة، ومحمد بنمسلم، والاحول. وهم احب الناس الي احياء وامواتا».
3- وعن جميل بن دراج قال: سمعت ابا عبد اللّه عليه السلام يقول: «بشر المخبتين بالجنة، بريد بن معاوية العجلي، وابا بصير ليث بن البختري المرادي، ومحمد بن مسلم، وزرارة. اربعة نجباء، امناء اللّه على حلاله وحرامه، لولا هؤلاءانقطعت آثار النبوة واندرست».
4- وقال عليه السلام في رسالته لزرارة: «انك واللّه احب الناس الي، واحب اصحاب ابي حيا وميتا».
5- وقال عليه السلام للحسين بن زرارة: «اقرئ اباك السلام، وقل له: انا واللّه احب لك الخير في الدنيا، واحب لك الخير في الاخرة. وانا واللّه عنك راض فما تبالي ما قال الناس بعد هذا».
6- وقال الرضا عليه السلام لاحدهم عندما كلمه في رواية لزرارة: «اترى ان احدا كان اصدع بحق منزرارة؟!».
7- وعن ابي عبد اللّه عليه السلام انه قال: «زرارة وابو بصير ومحمد بن مسلم وبريد من الذين قال اللّه تعالى: (والسابقون السابقون اولئك المقربون) » هؤلاء حفاظ الدين، وامناء ابي عليه السلام على حلال اللّه وحرامه، وهم السابقون الينا في الدنيا، والسابقون الينا في الاخرة».
8- وفي رواية جميل بن دراج عده الامام الصادق عليه السلام ممن ائتمنهم ابوه عليه السلام على حلاله وحرامه وعيبة علمه، قال عليه السلام:«وكذلك اليوم هم عندي، هم مستودع سري، اصحاب ابي عليه السلام حقا، اذا اراد اللّه باهل الارض سوءا صرف بهم عنهم السوء، هم نجوم شيعتي احياء وامواتا، يحيون ذكر ابي عليه السلام، بهم يكشف اللّه كل بدعة، ينفون عن هذا الدين انتحال المبطلين وتاول الغالين. ثم بكى.
فقال جميل بن دراج: فقلت: من هم؟ فقال: من عليهم صلوات اللّه ورحمته احياء وامواتا، بريد العجلي، وزرارة، وابو بصير، ومحمد بنمسلم».
9- وعنه عليه السلام ايضا: «اوتاد الارض واعلام الدين اربعة وعد منهم: زرارة ابن اعين».
وفي رسالته عليه السلام اليه: «...انك واللّه احب الناس الي واحب اصحاب ابي عليه السلام حيا وميتا، فانك افضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر... فرحمة اللّه عليك حيا، ورحمته ورضوانه عليك ميتا!».
10- وايضا عنه عليه السلام في مدح اصحاب ابيه: «ان اصحاب ابي كانوا زينا احياء وامواتا، اعني: زرارة، ومحمد بن مسلم، ومنهم ليث المرادي، وبريد العجلي. هؤلاء القوامون بالقسط، وهؤلاء القوالون بالصدق، وهؤلاء السابقون السابقون، اولئك المقربون». الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة في مدحه وفضله.
وثمة روايات اخر رواها الكشي في رجاله تخالف ما تقدم، وتدل على ذمه والقدح فيه.
وهي على نحو الايجاز يمكن تقسيمها الى ثلاث طوائف: الطائفة الاولى: ما دل على انه كان شاكا في امامة الامام الكاظم عليه السلام، حيث دلت على انه ارسل ولده عبيدا الى المدينة لاستظهار خبر الامام من بعد ابي عبد اللّه، فمات قبل ان يدركه ابنه ويخبره. وستاتي مناقشة ذلك عند الحديث عن وفاته.
الطائفة الثانية: ما ورد فيها قدح زرارة من الامام الصادق عليه السلام، وهي عبارة عن ثلاث وعشرين رواية:
منها: ما روي عنه عليه السلام حيث قال: «لا يموت زرارة الا تائها».
ومنها: قوله عليه السلام ايضا: «ما احدث زرارة من البدع! لعنه اللّه!».
وغيرهما من الاخبار الذامة له.
ويمكن المناقشة فيها:
اولا: بضعف سند كثير منه
ثانيا: ان الصادر من هذه الاخبار من جهة الامام عليه السلام لا يقاوم الروايات المستفيضة التي فيها الصحاح الدالة على فضله والمادحة له. فكيف يكون احب الناس الى الامام حيا وميتا مع انه يستوجب اللعنة منه؟! فلابد من توجيه معقول للروايات الذامة، وهو عبارة عن: ثالثا: ان الروايات الذامة له صادرة عن الامام عليه السلام في مقام الدفاع عنه للتمويه على الظلمة. وشاهد هذا الجمع ما روي عن ابي عبد اللّه عليه السلام في رسالته الى زرارة التي وجهها مع ولديه الحسن والحسين، حيث قال فيها عليهم السلام: «اني انما اعيبك دفاعا مني عنك، فان الناس والعدو يسارعون الى كل من قربناه وحمدنا مكانه لادخال الاذى فيمن نحبه ونقربه، ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منا، ويرون ادخال الاذى عليه وقتله، و يحمدون كل من عبناه نحن، وان نحمد امره، فانما اعيبك لانك رجل اشتهرت بنا ولميلك الينا، وانت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الاثر بمودتك لنا ولميلك الينا، فاحببت ان اعيبك ليحمدوا امرك في الدين بعيب كون قصك، ويكون بذلك منا دافع شرهم عنك. يقول اللّه عزوجل: (اما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فاردتانا عيبها وكان وراءهم ملك ياخذ كل سفينة غصبا)، هذا التنزيل من عند اللّه، صالحة؟! لا واللّه! ما عابها الا لك يتسلم من الملك ولا تعطب على يديه،ولقد كانت صالحة ليس للعيب منها مساغ، والحمد للّه. فافهم المثل، يرحمك اللّه!فانك واللّه احب الناس الي واحب اصحاب ابي عليه السلام حيا وميتا، فانك افضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر، ان من ورائك ملكا ظلوما غصوبا يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد من بحر الهدى لياخذها غصبا، ثم يغصبها واهلها،فرحمة اللّه عليك حيا، ورحمته ورضوانه عليك ميتا!...» الحديث.
الطائفة الثالثة: الروايات الدالة على ان زرارة قد صدر منه ما ينافي ايمانه، وهي عبارة عن جملة روايات، ننقل منها:
1- ما رواه يونس بن عبد الرحمن، عن ابن مسكان قال: سمعت زرارة يقول: رحم اللّه ابا جعفر! واما جعفر فان فيقلبي عليه لفتة.
فقلت له: وما حمل زرارة على هذا؟ قال: حمله على هذا ان ابا عبد اللّه اخرج مخازيه.
2- ما رواه عيسى بن ابي منصور وابي اسامة الشحام ويعقوب الاحمر، قالوا: كنا جلوسا عند ابي عبد اللّه عليه السلام، فدخل عليه زرارة فقال: ان الحكم بن عيينة حدث عن ابيك انه قال: صل المغرب دون المزدلفة. فقال له ابو عبد اللّه عليه السلام: «انا تاملته، ما قال ابي هذا قط، كذب الحكم على ابي».
قال: فخرج زرارة وهو يقول: ما ارى الحكم كذب على ابيه.
وقد ناقش المحققون في اسانيد هذه الاخبار. هذا مضافا الى انها تخالف الروايات الكثيرة الدالة على مدحه،المطمان بصدوره
صلته بالامامين الباقر والصادق عليهما السلام:
ان العلاقة التي ربطت بين زرارة والامامين الصادقين عليهما السلام لم تكن في نوعها من قبيل علاقة الراوي الذي ياخذ الحديث عن الامام ثم ينصرف لشانه، بل هي علاقة التلميذ الملازم لاستاذه الذي لا يكاد ينفك عنه حتى عد من حواريي ابي جعفر عليه السلام، كما وصفه الامام موسى بن جعفر عليهما السلام.
وكانت بداية هذه العلاقة عندما بدا زرارة بمراودة بيت الامام الباقر عليه السلام في المدينة قادما اليها من الكوفة، وهو لايزال في اوائل شبابه. ويحدثنا زرارة عن اول لقاء بينه وبين الامام الباقر عليه السلام فيقول:
«قدمت المدينة وانا شاب امرد، فدخلت سرادقا لابي جعفر عليه السلام بمنى، فرايت قوما جلوسا في الفسطاط وصدر المجلس ليس فيه احد، ورايت رجلا جالسا ناحية يحتجم، فعرفت برايي انه ابوجعفر عليه السلام، فقصدت نحوه، فسلمت عليه، فرد السلام علي، فجلست بين يديه والحجام خلفه، فقال: امن بني اعين انت؟ فقلت: نعم، انا زرارة بن اعين.فقال: انما عرفتك بالشبه، احج حمران؟ قلت: لا، وهو يقرئك السلام. فقال: انه من المؤمنين حقا، لا يرجع ابدا، اذا لقيته فاقرئه مني السلام... فقال زرارة:
فحمدت اللّه تعالى واثنيت عليه فقلت: الحمد للّه، فقال هو: الحمد للّه. ثم قلت:احمده واستعينه، فقال هو: احمده واستعينه. فكنت كلما ذكرت اللّه في كلام ذكره كما اذكره حتى فرغت من كلامي».
واستمرت هذه العلاقة امدا طويلا يتردد فيها زرارة على بيت الامام الباقر عليه السلام للتزود من علومه وحديث اهل البيت:، كما تنبئ عن ذلك كثرة الاحاديث التي يرويها عن الامام عليه السلام مما لا يمكن تحصيله الا مع كثرة الاختلاف اليه.وربما يظهر من بعض النصوص انه كان ينزل في بعض اسفاره في دار الامام، فقد حدث انه تغدى مع ابي جعفر عليه السلام في شعبان خمسة عشر يوم واما علاقته بالامام الصادق عليه السلام فلربما كانت اطول واوثق من علاقته بابيه الباقر عليه السلام، حيث دامت اربعين سنة اوتزيد، فقد روى زرارة انه قال لابي عبد اللّه عليه السلام: «جعلني اللّه فداك! اسالك في الحج منذ اربعين عاما فتفتيني! فقال:يازرارة، بيت حج اليه قبل آدم عليه السلام بالفي عام تريد ان تفنى مسائله في اربعين عاما!».
وتمتد علاقته بالامام الصادق عليه السلام الى عهد ابيه الباقر عليه السلام عندما كان زرارة شابا، فقد روى انه قال: «دخلت على ابي عبد اللّه عليه السلام فقال: يا زرارة، متاهل انت؟ قال: لا، قال: وما يمنعك من ذلك؟ الى قوله عليه السلام: فكيف تصبر وانت شاب؟قال: اشتري الاماء...» الحديث.
وبشكل عام، فان علاقته رضوان اللّه عليه بالامامين الصادقين عليهما السلام قد دامت حتى اواخر حياتهما عليهما السلام وحياته،لانه توفي بعد الصادق عليه السلام بشهر او شهرين في رواية، وفي رواية بسنتين، مما يعني انه قد شب وشاب تحت ظلهما عليهما السلام، فطوبى له وحسن ماب! لقد كان زرارة طوال هذه الفترة مرضي السيرة والسمت عندهم، محمود الطريقة والخصال لديهم، لا يخالفهم فيشيء، ولا يصدر عن غير امرهم، حتى انه لما استنصره زيد بن علي (رضي الله عنه) قائلا: «ما تقول يا فتى في رجل من آل محمد استنصرك؟ فقال له: ان كان مفروض الطاعة نصرته...». مما يدل على التزامه الكامل بطاعة الائمة عليهم السلام. ولطالما عبر الامام الصادق عليه السلام عن حبه له ورضاه عنه، حيث يقول عليه السلام في رسالته اليه: وانا واللّه عنك راض فما تبالي ما قال الناس بعد هذ8))، فانك واللّه احب الناس الي، واحب اصحاب ابي عليه السلام حيا وميتا... فرحمة اللّه عليك حيا، ورحمته ورضوانه عليك ميتا!.
من يروي عنهم:
لا شك في ان قرب زرارة من مصدر النص المتمثل آنذاك بالامامين الصادقين عليهما السلام يفترض في نفسه انه كان يتحمل الرواية عنهم مباشرة في معظم رواياته. مما تضؤل معه موارد الرواية عنهم بالواسطة، وتكون مثل هذه الموارد بطبيعة الحال عندما يتواجد في موطنه بالكوفة بعيدا عن مصدر النص.
واما من روى عنهم فهم عبارة عن:
1- ابو الخطاب.
2- بكير.
3- الحسن البزاز.
4- الحسن بن السري.
5- حمران.
6- حمران بن اعين.
7- سالم بن ابي حفصة.
8- عبد الكريم بن عتبة الهاشمي.
9- عبد اللّه بن عجلان.
10- عبد الملك.
11- عبد الواحد بن المختارالانصاري.
12- عمر بن حنظلة.
13- الفضيل.
14- محمد بنمسلم.
15- اليسع.
الرواة عنه:
واما الرواة عنه فكثيرون، انهتهم بعض المصادر الى مئة
شخص، نذكر منهم:
1- ابو بصير.
2- ابن بكير.
3- ابن اذينة.
4- ابن مسكان.
5- ابان.
6- ابان بن عثمان.
7- هشام بن سالم.
8- جميل بندراج.
9- محمد بن مسلم.
10- صفوان.
11- يونس.
12- علي بن رئاب.
13- رومي (ابنه).
14- حنان بن سدير.
15-آحريز.
وقد كان مجلسه كما يحدثنا ابن مسكان منتجعا لاهل الفضل من الرواة والفقهاء، لتذاكر امر الحلال والحرام، والافادة من محضر زرارة الذي كان تعلو شمائله هيبة الفقاهة، ويرتسم في محياه وقار العلم.
يقول جميل بن دراج واصفا مجلسه: «واللّه، ما كنا حول زرارة بن اعين الا بمنزلة الصبيان في الكتاب حولالمعلم!».
البعد العلمي في شخصية زرارة دابت مدرسة الامامين الصادقين عليهما السلام منذ نشوئها في المدينة على اعداد شخصيات مؤهلة تمتاز بنضجها العلمي،وتتمتع بالقابليات العلمية التي تؤهلها لتمثيل هذه المدرسة في شتى اقطار العالم الاسلامي.
وقد نبغ من تلك المدرسة نفر من اعلامها وروادها في علوم متعددة ومجالات متفاوتة كل حسب اختصاصه واهتمامه، فبرز في التفسير وعلوم القرآن حمران بن اعين، وفي الامامة هشام
بن الحكم، وفي التوحيد هشام بن سالم، وفي الفقه والحديث محمد بن مسلم وبريد العجلي وابان بن تغلب وزرارة بن اعين وغيرهم، وفي العلوم الطبيعية جابر بن حيان.
ويدل على هذا التقسيم ما رواه الكشي في مناظرة الرجل الشامي الذي قصد الامام الصادق عليه السلام للمناظرة فلم يناظره الامام عليه السلام، وانما امر تلامذته واصحابه بذلك، فناظره حمران بن اعين في القرآن، وابان بن تغلب في العربية، وزرارة في الفقه، وهشام بن الحكم في الامامة، ومؤمن الطاق في الكلام، وهشام بن سالم في التوحيد،والطيار في الاستطاعة. وقد كانت المناظرة باشراف الامام عليه السلام في انتخاب الافراد لكل علم اراد الشامي المناظرة فيه.
ولعل انصراف كل من هؤلاء الى علم خاص واهتمامه به اكثر من غيره كان باشارة وتوجيه منه عليه السلام، كما يفهم ذلك من بعض النصوص.
وفقيهنا المترجم قد برز وعرف في الفقه، كما لاحظنا في خبر مناظرته، كما انه برز ايضا في الحديث والكلام والادب.
وسنتحدث فيما سياتي عن كل واحد من هذه الابعاد ان شاء اللّه تعالى.
اولا: البعد الفقهي
ان تفوق زرارة في البعد الفقهي من بين كبار صحابة الائمة عليهم السلام كان امرا ظاهرا للعيان، نظرا لطول المدة التي اخذ فيها عن الائمة المعصومين عليهم السلام في مسائل الفقه ورواية الحديث، حتى عد افقه الستة الذين انقادت لهم العصابة بالفقه كما وصفه الكشي، بل هو افقه اصحابهم عليهم السلام على الاطلاق، لان هؤلاء الستة هم افقه الجميع،وهو افقههم. وقد اشاد الامام الصادق عليه السلام بفقاهته في مواضع عديدة:
1- قوله عليه السلام فيه انه: «من اعلام الدين» ، وانه «من حفاظ الدين وامنائه على الحلال والحرام»، وانه «من ذوي الاستنباط».
2- نيابته عن الامام الصادق عليه السلام في مناظرته الفقهية للرجل الشامي، مما يدلل على اعتماد الامام عليه وتضلعه في الفقه.
3- شهادة الامام الصادق عليه السلام له بالفقاهة والفضل فيما رواه الكافي في حديث مظاهرته من امته حيث قال عليه السلام له: «هكذا يفعل الرجل الفقيه».
كما ان لزرارة نفسه من العبارات ما يدل على رسوخ قدمه وتقدمه في الفقه، يقول (رحمه اللّه) في حديث له في باب الارث: «وكنت رجلا عالما بالفرائض والوصايا، بصيرا بها، حاسبا لها».
واما العوامل التي ساهمت في نضجه واجتهاده فهي عبارة عن عدة امور، نشير اليها فيما يلي:
الاول: طول صحبته وتتلمذه على الامامين الصادقين عليه السلام، حيث دامت اكثر من اربعة عقود، استمد فيها منهم انواع المسائل الفقهية وقضايا الحلال والحرام في مختلف ابواب الفقه من العبادات والمعاملات، مما زوده بثروة فقهية غزيرة وواسعة.
واما مسائله وقضاياه مع الائمة عليهم السلام فهي كثيرة ايضا، حاول من خلالها استيعاب اكبر عدد ممكن من الابواب،مركزا على البعض منها لاهميتها وتشعب مسائلها، كمسائل باب الحج التي سال فيها الامام الصادق عليهم السلام اربعين عاما، وكذا باب الارث والفرائض.
وثمة خصوصيات ونقاط تستدعي التوقف في بعض اسئلته واستفتاءاته من الائمة عليهم السلام نشير اليها:
أ - انه لم يكن يكتف بالجواب مجردا عن الدليل والتعليل، بل كان يسال عن وجهه اذا خفي عليه، فقد روى علي بن رئاب، عن زرارة، عن ابي جعفر عليه السلام قال: «لا ينبغي نكاح اهل الكتاب.
قلت: جعلت فداك! واين تحريمه؟ قال:قوله: (ولا تمسكوا ، . بعصم الكوافر)»
وربما نجد روح التتبع والبحث لديه يحمله الى ان يفرض للمسالة فروضا عديدة لتلقي الجواب فيها، ثم يبدافي تمحيص تلك الاجوبة والموازنة بينها، فلربما تراءى له التنافي والتعارض فيها، فيعود الى السؤال والبحث كرة اخرى، ورائده في ذلك التفقه في الدين، والتعمق في احكامه.
ففي خبره عن ابي جعفر عليه السلام، قال: «سالته عن نصرانية كانت تحت نصراني فطلقها:
1- هل عليها عدة مثل عدة المسلمة؟ فقال: لا، لان اهل الكتاب مماليك للامام...
2- ما عدتها ان اراد المسلم ان يتزوجها؟ قال: عدتها عدة الامة، حيضتان او خمسة واربعون يوما قبل ان تسلم.
3- فان اسلمت بعدما طلقها؟ قال: عدتها عدة المسلمة.
4- فان مات عنها وهي نصرانية وهو نصراني، فاراد رجل من المسلمين ان يتزوجها؟ قال: لا يتزوجها المسلم حتى تعتد من النصراني اربعة اشهر وعشرا، عدة المسلمة المتوفى عنها زوجها.
5- كيف جعلت عدتها اذا طلقت عدة الامة، وجعلت عدتها اذا مات عنها زوجها عدة الحرة المسلمة، وانت تذكرانهم مماليك للامام؟! قال: ليس عدتها في الطلاق كعدتها اذا توفي عنها زوجها، ان الامة والحرة كلتيهما اذا مات عنهما زوجهما آسواء في العدة، الا ان الحرة تحد والامة لاتحد».
ب - يجد المتتبع لمسائله انه قد يسال عن اشياء لم يسبقه احد في السؤال عنها، مما يعكس شدة تطلبه للعلم وسعة افقه، ففي حديث له قال: «قلت لابي عبد اللّه عليه السلام: جعلت فداك! الشحمة التي تخرج مثلها من الداء ايشحمة هي؟ قال: هي شحمة البقر. وما سالني عنها يا زرارة احد قبلك!».
الثاني: رعاية الائمة عليهم السلام له:
ان زرارة بن اعين بما كان يتمتع به من قابليات عقلية وروحية كبيرة كان ومنذ البدء محلا لاهتمام ورعاية الامام الباقر وولده الصادق عليه السلام، فقد حرصا على اعداده وانشائه فقيها عارفا، ومحدثا ضليعا ومما زاد في عنايتهم واهتمامهم به هو تسليمه وانقياده لهم، وانقطاعه عمن سواهم، فكان لا ياخذ علمه الا من معينهم، ولا يقفو غير اثرهم، ولا يحط الا بفنائهم، فصار بذلك اهلا للانتساب الى مدرستهم وتحمل رسالتهم. ولربما استشعر مترجمنا تلك العناية وتجلت له وهو يتلمذ على يدي الصادقين عليهما السلام، فكان يعبر عن تلك الحالة فيقول: «اسمع واللّه بالحرف من جعفر بن محمد عليهما السلام من الفتيا، فازداد به ايمانا».
وقد تجسدت تلك العناية وتبلور ذلك الاهتمام بشخصية زرارة في عدة قضايا، نشير اليها:
1- انهم عليهم السلام كانوا يولون لمسائله عناية ملحوظة، ويجيبون عن جميع ما يسال بلا استثناء، الا ما ندر، وذلك اما لضرورة او تقية او حرج عليه او عليهم، وحتى في مثل هذه الحالات فانهم عليهم السلام كانوا يبعثون اليه بالجواببعد رجوعه الى الكوفة، مما يعكس فرط عنايتهم به.
قال زرارة: «سالت ابا عبد اللّه عليه السلام عن وقت صلاة الظهر في القيظ فلم يجبني، فلما ان كان بعد ذلك قال لعمر بن سعيد بن هلال: ان زرارة سالني عن وقت الظهر في القيظ فلم اخبره، فحرجت من ذلك، فاقرئه مني السلام،وقل له: اذا كان ظلك مثلك فصل الظهر، واذا كان ظلك مثليك فصل العصر».
وفي رواية اخرى انه ساله عليه السلام عن الابراد بالصلاة في الصيف فلم يجبه، وخرج، فدخل عليه ابو بصير، فقال له عليه السلام: «ان زرارة سالني عن شيء فلم اجبه، وقد ضقت من ذلك، فاذهب انت رسولي اليه، فقل...» الحديث.
2- كانوا عليهم السلام يطلعونه على بعض كتبهم الخاصة التي يتداولونها بينهم وتعد من كتب الامامة، كصحيفة الفرائض التي هي من املاء رسول اللّه صلى الله عليه واله وسلم وخط علي عليه السلام بيده ، وثوقا به، لامانته ومحله عندهم،وحرصا على تفقيهه وتعليمه.
3- اطلاعه على بعض الاحكام الخاصة به وببعض الشيعة، ففي حديث ابن بكير السابق عندما ساله عن وقت الظهر في الصيف ولم يجبه علق ابو بصير في ذيل الحديث فقال: «وكان زرارة هكذا يصلي في الصيف، ولم اسمع احدا من اصحابنا يفعل ذلك غيره وغير ابن بكير».
وفيه دلالة صريحة على ان الامام الصادق عليهم السلام لم يكن يرغب في اجابة زرارة عن سؤاله بحضور غيره، ولعله يشير الى اختصاص العلم بمثل هذا الحكم ببعض خواص الامام عليه السلام، كما يعضده كلام ابي بصير في ذيل الحديث.
4- انهم عليهم السلام كانوا يبتدئونه بالتعليم والسؤال اذا سكت، سيما في المسائل الهامة التي يكثر فيها البحث وتتطلب دقة واحاطة بموضوعها، كمسائل باب الارث، فعن زرارة قال: «قال لي (ابو عبد اللّه عليه السلام): يا زرارة، ماتقول في رجل مات وترك اخويه من امه وابويه؟ قال: قلت: السدس لامه، وما بقي فللاب. فقال: من اين هذا؟قلت: سمعت اللّه عزوجل يقول في كتابه العزيز: (فان كان له اخوة فلامه السدس...)...» الحديث.
وقد نلاحظ في بعض النصوص ان الامام عليه السلام يبتدره فيطرح عليه مسالة ما في مناسبة خاصة ويجري الحديث فيها، فيغتنم زرارة فرصة السؤال عن خصوصياتها وما يتعلق بها من فروع، ففي حديث له قال:«مات ابن لابي جعفر عليه السلام، فاخبر بموته، فامر به فغسل وكفن ومشى معه وصلى عليه، وطرحت خمرة فقام عليها، ثم قام على قبره حتى فرغ منه، ثم انصرف وانصرفت معه، حتى اني لامشي معه، فقال: اما انه لم يكن يصلى على مثل هذا وكان ابن ثلاث سنين كان علي عليه السلام يامر به فيدفن ولا يصلي عليه، ولكن الناس صنعوا شيئا فنحن نصنع مثله».
وهنا عندما يلاحظ زرارة مبادرة الامام عليه السلام بالحديث وفتحه باب البحث، يطرح عليه سؤالين: الاول فيما يتعلق بوقت وجوب الصلاة على الصبي، فاجابه عليه السلام قائلا: «اذا عقل الصلاة وكان ابن ست سنين».والثاني عن حكم الولدان، فقال عليه السلام: «سئل رسول اللّه صلى الله عليه واله وسلم عنهم فقال: اللّه اعلم بما كانوا عاملين».
5- انه كان له مدخل ووقت خاص يدخل فيه على الامام الباقر عليه السلام ليختلي بالسؤال منه، خشية ان يجيبه تقيةممن يحضر في المجلس. وقد كان وقت دخوله عليه بعد الظهر.
وفاته:
توفي زرارة وهو في سن السبعين من عمره. وكانت وفاته بعد الامام الصادق عليه السلام بشهرين تقريبا،اي في سنة (148هـ) ، وذهب النجاشي والشيخ الى ان وفاته كانت سنة مئة وخمسين ، اي بعد وفاة الامام الصادق عليه السلام بسنتين. وايا كان، فان من الحوادث الهامة التي سبقت وفاته هي وفاة الامام الصادق عليه السلام وما اعقبها من اضطراب وحيرة لدى الوسط الشيعي في امر تعيين الامام من بعده، حيث انه عليه السلام اجمل وصيته وجعل الامامة في لاثة اشخاص هم: ولده موسى عليه السلام، وابنه الاكبر عبد اللّه الافطح، والمنصور. وفي نقل اخر انه اوصى الى خمسة باضافة محمد بن سليمان وحميدة. وقد انعكس هذا الاضطراب والانقسام على ميع الشيعة، وكان زرارة يوم ذاك في الكوفة، وقد الم به المرض منذ وفاة الامام الصادق عليه السلام والى اخر يوم من حياته، حيث توفي بمرضه ذاك. الا انه ومن اجل استطلاع حقيقة الامر استدعى ولده عبيدا وبعثه الى المدينة، فلما حضرته الوفاة ولم يصله خبر من عبيد اخذ المصحف فاعلاه فوق راسه وقال: «ان الامام بعد جعفر بن محمد عليهما السلام من اسمه بين الدفتين في جملة القران منصوص عليه، من الذين اوجب اللّه طاعتهم على خلقه، انا مؤمن به».
وقد وردت بهذا المضمون اخبار كثيرة ربما يفهم من بعضها الشك في امامة الامام الكاظم عليهم السلام كخبر ابي منصور الواسطي قال: سمعت ابا الحسن عليهم السلام يقول: ان زرارة شك في امامتي، فاستوهبته من ربي تعالى او انه مات وهو لا يعلم بامام زمانه، او انه قال بامامة عبد اللّه الافطح اولا ثم رجع عن ذلك بعد انقدم المدينة ووجه اليه اسئلة واختبره فلم يجده اهلا فقفل الى الكوفة، فساله اصحابه عن الامام، فاشار الى المصحف وقال لهم: «هذا امامي لا امام لي غيره» كما زعم ذلك من العامة ابو محمد بن حزم صاحب الجمهرة، واستنتج ابن حجر من كلامه هذا بعد نقله عنه ان زرارة قد رجع عن التشيع.
والجواب عن ذلك كله: ان ما ذكر غير قادح فيه، لانه كان يعتقد على وجه الاجمال بوجود الامام المنصوب واقعا، ولم يكن متوقفا او منكرا للامام من بعد الصادق عليه السلام. على ان الصحيح انه كان يعرف الامام من بعده، الا ان التقية كانت تمنعه وتصده عن ذلك، فارسل ولد هل يستعلم انه هل ترفع له التقية ويظهر امره ام لا؟ وقد ورد بهذا خبر صحيح عن ابراهيم بن محمد الهمداني (رضي اللّه عنه) قال: «قلت للرضا عليه السلام: اخبرني عن زرارة هل كان يعرف حق ابيك عليه السلام ؟ فقال: نعم. فقلت له: فلم بعث ابنه عبيدا، ليتعرف الخبر الى من اوصى الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام ؟ فقال عليه السلام: ان زرارة كان يعرف امر ابي عليه السلام ونص ابيه عليه السلام، وانما بعث ابنه ليتعرف من ابي هل يجوز له ان يرفع التقية في اظهار امره ونص ابيه عليه، وانه لما ابطا عنه طولب باظهار قوله في ابي عليه السلام، فلم يحب ان يقدم على ذلك دون امره، فرفع المصحف وقال: امامي من اثبت هذا المصحف امامته من ولد جعفر بن محمد». وذكر الشيخ الصدوق ان الخبر الذي احتجت به الزيدية ليس فيه ان زرارة لم يعرف امامة موسى بن جعفر عليهما السلام، وانما فيه: انه بعث ابنه عبيدا يسال. وهذا هو الاليق والاشبه بفضل زرارة وعلمه. كيف؟! وفي الاخبار ما يفيد انه لم يشك في امامة ال محمد عليهم السلام حتى الامام المنتظر، ارواحنا له الفداء، فقد روى زرارة في امامته وغيبته وانتظار امره روايات، وسال ابا عبد اللّه عليه السلام عن وظيفته ان ادرك ايامه. هذا مضافا الى اشعاره وابياته السابقة. وقد سئل الامام الكاظم عليه السلام عن زرارة وما فعل في قضية ارسال ابنه الى المدينة، فاجاب عليه السلام: «واللّه، كان زرارة مهاجرا الى اللّه تعالى!»، وفي نص اخر قال عليه السلام: «اني لارجو ان يكون زرارة ممن قال اللّه تعالى: (ومن يخرج من بيته مهاجرا الى اللّه ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع اجره على اللّه) ». فلا وجه حينئذ لما زعمه صاحب الجمهرة ووافقه عليه ابن حجر من قوله بامامة الافطح، حيث لم يذكر دليله على ذلك، ولا شاهد له من الاخبار الكثيرة التي دلت على بقائه في الكوفة، وانه لم يخرج منها منتظر اخبر ولده عبد اللّه. نعم، ورد في خبر واحد رواه الشيخ المفيد (رحمه اللّه) في الارشاد انه كان بعد وفاة الصادق عليه السلام في المدينة،فدخل هو وبعض الشيعة على موسى بن جعفر عليهما السلام وعرفوا انه الامام، في قضية لا مجال لذكرها هنا. الا ان هذا الخبر انفرد به الشيخ المفيد وحده، وهو لا يقاوم الاخبار الكثيرة جدا في بقائه في الكوفة، على انه قد نقل الكشي الخبر المذكور وليس فيه ذكر لزرارة. وليس هذا هو بيت القصيد في هذه المزعمة، انما المهم الذي عنياه هو ما جاء في ذيل كلامهما من اثبات انه مات وليس عليه امام الا المصحف، وانه رجع عن التشيع. وقد عرفت بطلان مقدمات هذه النتيجة، على انه قد ورد في اخبار كثيرة مدح زرارة حتى بعد موته، وانه احب الناس اليهم عليهم السلام حيا وميتا، وترحمهم عليه، وغير ذلك، مما لا يتفق ومزعمة رجوعه عن التشيع. واما وفاته، فقد ذكرنا انه توفي بعد الامام الصادق عليه السلام بما يقرب الشهرين، وهو الصحيح، اذ لا يعقل بقاؤه سنتين كما هو القول الاخر في وفاته غير عالم ولو ظاهرا بامامة الكاظم عليه السلام وعدم رجوع ولده اليه من المدينة، على انه لم يحدث عنه عليه السلام، وان كان الشيخ الطوسي قد عده في اصحابه ، ولعل المراد انه ادرك ايامه.