(١٧) سنة (٦٤١ هـ): تشرّف ابن طاووس بزيارة أمير المؤمنين عليه السلام وحصوله على مكاشفات عظيمة ولقاؤه برسول الإمام المهدي عليه السلام:
(17 جمادى الآخرة) سنة (641هـ):
تشرّف ابن طاووس بزيارة أمير المؤمنين عليه السلام وحصوله على مكاشفات عظيمة ولقاؤه برسول الإمام المهدي عليه السلام:
قال السيّد الجليل صاحب المقامات الباهرة والكرامات الظاهرة رضي الدين علي بن طاووس رحمه الله في رسالة المواسعة والمضايقة: يقول علي بن موسى بن جعفر بن طاووس: كنت قد توجَّهت أنا وأخي الصالح محمّد بن محمّد بن محمّد القاضي الآوي(1) ضاعف الله سعادته، وشرَّف خاتمته من الحلَّة إلى مشهد مولانا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، في يوم الثلاثاء سابع عشر شهر جُمادى الاُخرى سنة إحدى وأربعين وستمائة، فاختار الله لنا المبيت بالقرية التي تسمّى دورة بن سنجار، وبات أصحابنا ودوابّنا في القرية.
وتوجَّهنا منها أوائل نهار يوم الأربعاء ثامن عشر الشهر المذكور، فوصلنا إلى مشهد مولانا علي صلوات الله وسلامه عليه قبل ظهر يوم الأربعاء المذكور، فزرنا وجاء الليل في ليلة الخميس تاسع عشر جُمادى الاُخرى المذكورة، فوجدت من نفسي إقبالاً على الله، وحضوراً وخيراً كثيراً فشاهدت ما يدلُّ على القبول والعناية والرأفة وبلوغ المأمول والضيافة، فحدَّثني أخي الصالح محمّد بن محمّد الآوي ضاعف الله سعادته أنَّه رأى في تلك الليلة في منامه كأنَّ في يدي لقمة وأنا أقول له: هذه من فم مولانا المهدي عليه السلام وقد أعطيته بعضها.
فلمَّا كان سحر تلك الليلة، كنت على ما تفضَّل الله به من نافلة الليل فلمَّا أصبحنا به من نهار الخميس المذكور، دخلت الحضرة حضرة مولانا علي صلوات الله عليه على عادتي، فورد عليَّ من فضل الله وإقباله والمكاشفة ما كدت أسقط على الأرض، ورجفت أعضائي وأقدامي، وارتعدت رعدة هائلة، على عوائد فضله عندي وعنايته لي، وما أراني من برّه لي ورفدي، وأشرفت على الفناء ومفارقة دار الفناء والانتقال إلى دار البقاء، حتَّى حضر الجمّال محمّد بن كنيلة، وأنا في تلك الحال فسلَّم عليَّ فعجزت عن مشاهدته، وعن النظر إليه، وإلى غيره، وما تحقَّقته بل سألت عنه بعد ذلك، فعرَّفوني به تحقيقاً، وتجدَّدت في تلك الزيارة مكاشفات جليلة، وبشارات جميلة.
وحدَّثني أخي الصالح محمّد بن محمّد بن محمّد الآوي ضاعف الله سعادته، بعدَّة بشارات رواها لي منها أنَّه رأى كأنَّ شخصاً يقصُّ عليه في المنام مناماً، ويقول له: قد رأيت كأنَّ فلاناً _ يعني عنّي _ وكأنَّني _ كنت حاضراً لمَّا كان المنام يقصُّ عليه _ راكب فرساً وأنت _ يعني الأخ الصالح الآوي _ وفارسان آخران قد صعدتم جميعاً إلى السماء، قال: فقلت له: أنت تدري أحد الفارسين من هو؟ فقال صاحب المنام في حال النوم: لا أدري، فقلت: أنت _ يعني عنّي _ ذلك مولانا المهدي صلوات الله وسلامه عليه.
وتوجَّهنا من هناك لزيارة أوّل رجب بالحلَّة، فوصلنا ليلة الجمعة، سابع عشر جُمادى الآخرة بحسب الاستخارة، فعرَّفني حسن بن البقلي يوم الجمعة المذكورة أنَّ شخصاً فيه صلاح يقال له: عبد المحسن، من أهل السواد قد حضر بالحلَّة وذكر أنَّه قد لقيه مولانا المهدي صلوات الله عليه ظاهراً في اليقظة، وقد أرسله إلى عندي برسالة، فنفذت قاصداً وهو محفوظ بن قرا فحضرا ليلة السبت ثامن عشر من جمادى الآخرة المقدَّم ذكرها.
فخلوت بهذا الشيخ عبد المحسن، فعرفته هو رجل صالح، لا يشكُّ النفس في حديثه، ومستغن عنّا، وسألته فذكر أنَّ أصله من حصن بشر وأنَّه انتقل إلى الدولاب الذي بإزاء المحلَّة المعروفة بالمجاهدية، ويعرف الدولاب بابن أبي الحسن، وأنَّه مقيم هناك، وليس له عمل بالدولاب ولا زرع، ولكنَّه تاجر في شراء غليلات وغيرها، وأنَّه كان قد ابتاع غلَّة من ديوان السرائر وجاء ليقبضها، وبات عند المعيدية في المواضع المعروفة بالمحبر.
فلمَّا كان وقت السحر كره استعمال ماء المعيدية، فخرج فقصد النهر، والنهر في جهة المشرق، فما أحسَّ بنفسه إلاَّ وهو في تلّ السلام في طريق مشهد الحسين عليه السلام في جهة المغرب، وكان ذلك ليلة الخميس تاسع عشر شهر جمادى الآخرة من سنة إحدى وأربعين وستمائة التي تقدَّم شرح بعض ما تفضَّل الله عليَّ فيها وفي نهارها في خدمة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.
فجلست اُريق ماءً وإذا فارس عندي ما سمعت له حسّاً ولا وجدت لفرسه حركةً ولا صوتاً، وكان القمر طالعاً، ولكن كان الضباب كثيراً.
فسألته عن الفارس وفرسه، فقال: كان لون فرسه صدء، وعليه ثياب بيض وهو متحنّك بعمامة ومتقلّد بسيف.
فقال الفارس لهذا الشيخ عبد المحسن: (كيف وقت الناس؟)، قال عبد المحسن: فظننت أنَّه يسأل عن ذلك الوقت، قال: فقلت الدنيا عليه ضباب وغبرة، فقال: (ما سألتك عن هذا، أنا سألتك عن حال الناس)، قال: فقلت: الناس طيّبين مرخَّصين آمنين في أوطانهم وعلى أموالهم.
فقال: (تمضي إلى ابن طاووس، وتقول له كذا وكذا)، وذكر لي ما قال صلوات الله عليه، ثمّ قال عنه عليه السلام: (فالوقت قد دنا، فالوقت قد دنا)، قال عبد المحسن فوقع في قلبي وعرفت نفسي أنَّه مولانا صاحب الزمان عليه السلام، فوقعت على وجهي وبقيت كذلك مغشيّاً عليَّ إلى أن طلع الصبح، قلت له: فمن أين عرفت أنَّه قصد ابن طاووس عنّي؟ قال: ما أعرف من بني طاووس إلاَّ أنت، وما في قلبي إلاَّ أنَّه قصد بالرسالة إليك، قلت: أيّ شيء فهمت بقوله عليه السلام: (فالوقت قد دنا، فالوقت قد دنا)؟ هل قصد وفاتي قد دنا أم قد دنا وقت ظهوره صلوات الله وسلامه عليه؟ فقال: بل قد دنا وقت ظهوره صلوات الله عليه.
قال: فتوجَّهت ذلك الوقت إلى مشهد الحسين عليه السلام وعزمت أنَّني ألزم بيتي مدَّة حياتي أعبد الله تعالى، وندمت كيف ما سألته صلوات الله عليه عن أشياء كنت أشتهي أسأله فيها.
قلت له: هل عرَّفت بذلك أحداً؟ قال: نعم، عرَّفت بعض من كان عرف بخروجي من المعيدية، وتوهَّموا أنّي قد ضللت وهلكت بتأخيري عنهم، واشتغالي بالغشية التي وجدتها، ولأنَّهم كانوا يروني طول ذلك النهار يوم الخميس في أثر الغشية التي لقيتها من خوفي منه عليه السلام فوصَّيته أن لا يقول ذلك لأحد أبداً، وعرضت عليه شيئاً، فقال: أنا مستغن عن الناس وبخير كثير.
فقمت أنا وهو فلمَّا قام عنّي نفذت له غطاءً وبات عندنا في المجلس على باب الدار التي هي مسكني الآن بالحلَّة، فقمت وكنت أنا وهو في الروشن في خلوة، فنزلت لأنام فسألت الله زيادة كشف في المنام في تلك الليلة أراه أنا.
فرأيت كأنَّ مولانا الصادق عليه السلام قد جاءني بهدية عظيمة، وهي عندي وكأنَّني ما أعرف قدرها، فاستيقظت وحمدت الله، وصعدت الروشن لصلاة نافلة الليل، وهي ليلة السبت ثامن عشر جمادى الآخرة فأصعد فتح الإبريق إلى عندي فمددت يدي فلزمت عروته لأفرغ على كفّي فأمسك ماسك فم الإبريق وأداره عنّي ومنعني من استعمال الماء في طهارة الصلاة، فقلت: لعلَّ الماء نجس فأراد الله أن يصونني عنه، فإنَّ لله عز وجل عليَّ عوائد كثيرة أحدها مثل هذا وأعرفها.
فناديت إلى فتح، وقلت: من أين ملأت الإبريق؟ فقال: من المصبّة، فقلت: هذا لعلَّه نجس فاقلبه وطهّره واملأه من الشطّ، فمضى وقلبه وأنا أسمع صوت الإبريق وشطفه وملأه من الشطّ، وجاء به فلزمت عروته وشرعت أقلب منه على كفّي فأمسك ماسك فم الإبريق وأداره عنّي ومنعني منه.
فعدت وصبرت، ودعوت بدعوات، وعاودت الإبريق وجرى مثل ذلك، فعرفت أنَّ هذا منع لي من صلاة الليل تلك الليلة، وقلت في خاطري لعلَّ الله يريد أن يجري عليَّ حكماً وابتلاءاً غداً ولا يريد أن أدعو الليلة في السلامة من ذلك، وجلست لا يخطر بقلبي غير ذلك.
فنمت وأنا جالس، وإذا برجل يقول لي _ يعني عبد المحسن الذي جاء بالرسالة _: كان ينبغي أن تمشي بين يديه، فاستيقظت ووقع في خاطري أنَّني قد قصرت في احترامه وإكرامه، فتبت إلى الله جل جلاله، واعتمدت ما يعتمد التائب من مثل ذلك، وشرعت في الطهارة فلم يمسك أبداً (فم) الإبريق وتركت على عادتي فتطهَّرت وصلَّيت ركعتين فطلع الفجر فقضيت نافلة الليل، وفهمت أنَّني ما قمت بحقّ هذه الرسالة.
فنزلت إلى الشيخ عبد المحسن، وتلقَّيته وأكرمته، وأخذت له من خاصَّتي ستّة دنانير، ومن غير خاصَّتي خمسة عشر ديناراً ممَّا كنت أحكم فيه كمالي وخلوت به في الروشن، وعرضت ذلك عليه، واعتذرت إليه، فامتنع من قبول شيء أصلاً، وقال: إنَّ معي نحو مائة دينار وما آخذ شيئاً، أعطه لمن هو فقير، وامتنع غاية الامتناع.
فقلت: إنَّ رسول مثله عليه الصلاة والسلام، يُعطى لأجل الإكرام لمن أرسله لا لأجل فقره وغناه، فامتنع، فقلت له: (مبارك) أمَّا الخمسة عشر، فهي من غير خاصَّتي، فلا اُكرهك على قبولها، وأمَّا هذه الستّة دنانير فهي من خاصَّتي فلا بدَّ أن تقبلها منّي، فكاد أن يؤيسني من قبولها، فألزمته فأخذها، وعاد تركها، فألزمته فأخذها، وتغدَّيت أنا وهو، ومشيت بين يديه كما اُمرت في المنام إلى ظاهر الدار وأوصيته بالكتمان، والحمد لله وصلّى الله على سيّد المرسلين محمّد وآله الطاهرين.
ومن عجيب زيادة بيان هذا الحال: أنّي توجهت في ذلك الأسبوع يوم الاثنين الثالث من جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين وستمائة إلى مشهد الحسين عليه السلام لزيارة أوّل رجب، أنا وأخي الصالح محمّد بن محمّد بن محمّد ضاعف الله سعادته.
فحضر عندي سحر ليلة الثالث أوّل رجب المبارك سنة إحدى وأربعين وستمائة المقرئ محمّد بن سويد في بغداد، وذكر ابتداءاً من نفسه أنّه رأى ليلة السبت ثامن عشر من جمادى الآخرة المتقدّم ذكرها كأنَّني في داري وقد جائني رسول اليك، وقالوا هو من عند الصاحب.
قال محمّد بن سويد: فظنَّ بعض الجماعة أنَّه من عند أستاد الدار قد جاء إليك برسالة.
قال محمَد بن سويد: وأنا عرفت أنَّه من عند صاحب الزمان عليه السلام.
قال: فغسل محمّد بن سويد يديه وطهَّرهما، وقام إلى رسول مولانا المهدي عليه السلام، فوجده قد أحضر معه كتاباً من مولانا المهدي صلوات الله عليه إلى عندي، وعلى الكتاب المذكور ثلاثة ختوم.
قال المقرئ محمّد بن سويد: فتسلَّمت الكتاب من رسول مولانا المهدي عليه السلام بيدي المشطوفة، قال: وسلّمه إليك يعني عنّي.
قال: وكان أخي الصالح محمّد بن محمّد الآوي ضاعف الله سعادته حاضراً فقال: ما هذا؟ فقلت: هو يقول لك.
قال علي بن موسى بن طاووس: فتعجَّبت من أنَّ هذا محمّد بن سويد قد رأى المنام في الليلة التي حضر عندي فيها الرسول المذكور، وما كان عنده خبر من هذه الأمور، والحمد لله(2).
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(1) هو محمّد بن محمّد بن محمّد بن زيد بن الداعي بن زيد بن علي بن الحسين بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن علي بن الحسن الأفطس بن علي بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد بن علي أمير المؤمنين، العالم الإمامي، السيّد رضي الدين الحسيني الأفطسي، الآوي، المجاور بالمشهد المقدس الغروي، قال عنه صاحب رياض العلماء: فاضل، جليل، فقيه، روى عن أبيه بسنده إلى جدّ أبيه الداعي بن زيد جميع مصنّفات الفقهاء...، روى عنه السيّد علي ابن طاوس الحسني الحلّي وكان صديقه وعبَّر عنه في كتبه بأخي، ووصفه بالقاضي، وروى عنه أيضاً سديد الدين يوسف بن المطهَّر والد العلاَّمة الحلّي، ومحمّد بن أحمد بن صالح القُسِّيني، وكان زاهداً، عابداً، صاحب كرامات، توفّي سنة أربع وخمسين وستمائة. (راجع: موسوعة طبقات الفقهاء 7: 249 و250/ الرقم 2592).
(2) جنَّة المأوى: 24 - 30/ الحكاية الثانية.