المسار:
العربية » التقويم المهدوي » رجب المرجّب
رجب المرجّب

(١٣) وصول توقيع الإمام عليه السلام لوكيله القاسم بن العلاء

(13 رجب المرجَّب)

وصول توقيع الإمام عليه السلام لوكيله القاسم بن العلاء يخبره بوفاته بعد أربعين يوماً من وصول التوقيع، وفي القصَّة عبر ومواعظ كثيرة:
روى الطوسي رحمه الله عن محمّد بن محمّد بن النعمان والحسين بن عبيد الله، عن محمّد بن أحمد الصفواني رحمه الله، قال: رأيت القاسم بن العلاء(1) وقد عمَّر مائة سنة وسبع عشرة سنة، منها ثمانون سنة صحيح العينين، لقي مولانا أبا الحسن وأبا محمّد العسكريين عليهما السلام. وحجب بعد الثمانين، ورُدَّت عليه عيناه قبل وفاته بسبعة أيّام. وذلك أنّي كنت مقيماً عنده بمدينة الران من أرض آذربايجان، وكان لا تنقطع توقيعات مولانا صاحب الزمان عليه السلام على يد أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري وبعده على [يد] أبي القاسم [الحسين] بن روح قدَّس الله روحهما، فانقطعت عنه المكاتبة نحواً من شهرين، فقلق رحمه الله لذلك.
فبينا نحن عنده نأكل إذ دخل البوّاب مستبشراً، فقال له: فيج العراق، لا يسمّى بغيره، فاستبشر القاسم وحوَّل وجهه إلى القبلة فسجد، ودخل كهل قصير يرى أثر الفيوج عليه، وعليه جُبَّة مصرية، وفي رجله نعل محاملي، وعلى كتفه مخلاة، فقام القاسم فعانقه ووضع المخلاة عن عنقه، ودعا بطشت وماء فغسل يده وأجلسه إلى جانبه، فأكلنا وغسلنا أيدينا، فقام الرجل فأخرج كتاباً أفضل من النصف(2) المدرج، فناوله القاسم، فأخذه وقبَّله ودفعه إلى كاتب له يقال له: ابن أبي سَلَمة، فأخذه أبو عبد الله ففضَّه وقرأه حتَّى أحسَّ القاسم بنكاية. فقال: يا أبا عبد الله خير؟ فقال: خير، فقال: ويحك خرج فيَّ شيء؟ فقال أبو عبد الله: ما تكره فلا، قال القاسم: فما هو؟ قال: نعي الشيخ إلى نفسه بعد ورود هذا الكتاب بأربعين يوماً، وقد حمل إليه سبعة أثواب، فقال القاسم: في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك، فضحك رحمه الله فقال: ما اُؤمّل بعد هذا العمر.
فقال الرجل الوارد: فأخرج من مخلاته ثلاثة أزر وحبرة يمانية حمراء وعمامة وثوبين ومنديلاً فأخذه القاسم، وكان عنده قميص خلعه عليه مولانا الرضا أبو الحسن عليه السلام، وكان له صديق يقال له: عبد الرحمن بن محمّد البدري(3)، وكان شديد النصب، وكان بينه وبين القاسم نضَّر الله وجهه مودَّة في أمور الدنيا شديدة، وكان القاسم يودّه، و(قد) كان عبد الرحمن وافى إلى الدار لإصلاح بين أبي جعفر بن حمدون الهمداني وبين ختنه ابن القاسم.
فقال القاسم لشيخين من مشايخنا المقيمين معه أحدهما يقال له: أبو حامد عمران بن المفلس، والآخر أبو علي بن جحدر: أن اقرئا هذا الكتاب عبد الرحمن بن محمّد فإنّي اُحبّ هدايته وأرجو [أن] يهديه الله بقراءة هذا الكتاب، فقالا له: الله الله الله، فإنَّ هذا الكتاب لا يحتمل ما فيه خلق من الشيعة فكيف عبد الرحمن بن محمّد؟ فقال: أنا أعلم أنّي مفش لسرّ لا يجوز لي إعلانه، لكن من محبَّتي لعبد الرحمن بن محمّد وشهوتي أن يهديه الله عز وجل لهذا الأمر هو ذا، اقرأه الكتاب.
فلمَّا مرَّ [في] ذلك اليوم _ وكان يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من رجب _ دخل عبد الرحمن بن محمّد وسلَّم عليه، فأخرج القاسم الكتاب فقال له: اقرأ هذا الكتاب وانظر لنفسك، فقرأ عبد الرحمن الكتاب فلمَّا بلغ إلى موضع النعي رمى الكتاب عن يده وقال للقاسم: يا با محمّد اتَّق الله فإنَّك رجل فاضل في دينك، متمكّن من عقلك، والله عز وجل يقول: (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان: 34]، وقال: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً)، فضحك القاسم وقال له: أتمّ الآية: (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) [الجنّ: 26 و27]، ومولاي عليه السلام هو الرضا من الرسول، وقال: قد علمت أنَّك تقول هذا، ولكن أرّخ اليوم، فإن أنا عشت بعد هذا اليوم المؤرَّخ في هذا الكتاب فاعلم أنّي لست على شيء، وإن أنا متُّ فانظر لنفسك، فورَّخ عبد الرحمن اليوم وافترقوا.
وحمَّ القاسم يوم السابع من ورود الكتاب، واشتدَّت به في ذلك اليوم العلَّة، واستند في فراشه إلى الحائط، وكان ابنه الحسن بن القاسم مدمناً على شرب الخمر، وكان متزوّجاً إلى أبي عبد الله بن حمدون الهمداني، وكان جالساً ورداؤه مستور على وجهه في ناحية من الدار، وأبو حامد في ناحية، وأبو علي بن جحدر وأنا وجماعة من أهل البلد نبكي، إذ اتّكى القاسم على يديه إلى خلف وجعل يقول: يا محمّد، يا علي، يا حسن، يا حسين، يا موالي كونوا شفعائي إلى الله عز وجل، وقالها الثانية، وقالها الثالثة. فلمَّا بلغ في الثالثة: يا موسى، يا علي، تفرقعت أجفان عينيه كما يفرقع الصبيان شقائق النعمان، وانتفخت حدقته، وجعل يمسح بكمّه عينيه، وخرج من عينيه شبيه بماء اللحم مدَّ طرفه إلى ابنه، فقال: يا حسن إليَّ، يا با حامد [إليَّ]، يا با علي (إليَّ)، فاجتمعنا حوله ونظرنا إلى الحدقتين صحيحتين، فقال له أبو حامد: تراني؟ وجعل يده على كلّ واحد منّا، وشاع الخبر في الناس والعامّة، و(انتابه) الناس من العوامّ ينظرون إليه.
وركب القاضي إليه وهو أبو السائب عتبة بن عبيد الله المسعودي وهو قاضي القضاة ببغداد(4)، فدخل عليه فقال له: يا با محمّد ما هذا الذي بيدي؟ وأراه خاتماً فصّه فيروزج، فقرَّبه منه فقال: عليه ثلاثة أسطر فتناوله القاسم رحمه الله فلم يمكنه قراءته، وخرج الناس متعجّبين يتحدَّثون بخبره، والتفت القاسم إلى ابنه الحسن فقال له: إنَّ الله منزّلك منزلة ومرتّبك مرتبة فاقبلها بشكر، فقال له الحسن: يا أبه قد قبلتها، قال القاسم: على ماذا؟ قال: على ما تأمرني به يا أبه، قال: على أن ترجع عمَّا أنت عليه من شرب الخمر، قال الحسن: يا أبه وحقّ من أنت في ذكره لأرجعنَّ عن شرب الخمر، ومع الخمر أشياء لا تعرفها، فرفع القاسم يده إلى السماء وقال: اللّهمّ ألهم الحسن طاعتك، وجنّبه معصيتك ثلاث مرّات، ثمّ دعا بدرج فكتب وصيَّته بيده رحمه الله وكانت الضياع التي في يده لمولانا وقف وقفه (أبوه). وكان فيما أوصى الحسن أن قال: يا بني، إن اُهّلت لهذا الأمر _ يعني الوكالة لمولانا _ فيكون قوتك من نصف ضيعتي المعروفة بفرجيذه، وسائرها ملك لمولاي، وإن لم تُؤهَّل له فاطلب خيرك من حيث يتقبَّل الله، وقبل الحسن وصيَّته على ذلك.
فلمَّا كان في يوم الأربعين وقد طلع الفجر مات القاسم رحمه الله، فوافاه عبد الرحمن يعدو في الأسواق حافياً حاسراً وهو يصيح: وا سيّداه، فاستعظم الناس ذلك منه وجعل الناس يقولون: ما الذي تفعل بنفسك؟ فقال: اسكتوا فقد رأيت ما لم تروه، وتشيَّع ورجع عمَّا كان عليه، ووقف الكثير من ضياعه.
وتولّى أبو علي بن جحدر غسل القاسم وأبو حامد يصبُّ عليه الماء، وكُفّن في ثمانية أثواب على بدنه قميص مولاه أبي الحسن وما يليه السبعة الأثواب التي جاءته من العراق. فلمَّا كان بعد مدَّة يسيرة ورد كتاب تعزية على الحسن من مولانا عليه السلام في آخره دعاء: (ألهمك الله طاعته وجنَّبك معصيته)، وهو الدعاء الذي كان دعا به أبوه، وكان آخره: (قد جعلنا أباك إماماً لك وفعاله لك مثالاً)(5).

 

 

 

 

 

 

الهوامش:

ــــــــــــــــــــــ

(1) هو القاسم بن العلاء الهمداني من أهالي مدينة أذربيجان، لم يرد تاريخ حياته في المصادر إلاَّ أنَّه يستفاد من الروايات أنَّه عاصر الإمام الرضا عليه السلام وكان حيّاً إلى أيّام سفارة السفير الثالث حسين بن روح. عدَّه الصدوق رحمه الله من جملة وكلاء الإمام المهدي عليه السلام وقال: (ومن أهل آذربيجان: القاسم بن العلاء). (كمال الدين: 442/ باب 43/ ح 16).
(2) قال المجلسي رحمه الله: قوله: (أفضل من النصف): يصف كبره، أي كان أكبر من نصف ورق مدرج، أي مطوي. (بحار الأنوار 51: 316/ ذيل الحديث 37).
(3) هو عبد الرحمن بن محمّد السنيزي، قال النمازي في مستدرك علم الرجال (ج 4/ ص 419/ الرقم 7773): لم يذكروه، كان شديد النصب، فحسنت عاقبته ببركة توقيع وليّ العصر عليه السلام.
(4) هو عتبة بن عبيد الله بن موسى الهمذاني الشافعي أبو السائب، تولّى القضاء في مراغة وأذربيجان وهمذان، ثمّ قدم بغداد فكان أوّل شافعي ولي قضاء بغداد، عاش ستّاً وثمانين سنة، وتوفّي في ربيع الآخر سنة خمسين أو إحدى وخمسين وثلاثمائة. (راجع: سير أعلام النبلاء 16: 47/ الرقم 32؛ تاريخ بغداد 12: 316 - 318/ الرقم 6765).
(5) الغيبة للطوسي: 310 - 315/ ح 263؛ الثاقب في المناقب: 590 - 593/ ح (536/2)؛ منتخب الأنوار المضيئة: 239 - 244.

رجب المرجّب : ٢٠١٦/٠٣/٠٨ : ٥.٩ K : ٠ : اليوم: ١٣، الشهر: ٧
التعليقات:
لا توجد تعليقات.