(٣٢) الحداثة... والحداثة المهدوية
الحداثة... والحداثة المهدوية
أسد حيدر
يذهب الكثير من المثقفين والكتاب والمؤلفين في الوقت الحاضر إلى أن العصر الذي نعيش فيه هو عصر الحداثة، ويأتي كلام هؤلاء على خلفية التطور والتقدم الكبير الذي شهدته البشرية في العصور المتأخرة، مما أدّى إلى قفزة نوعية في جميع مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها.
وهؤلاء يذهبون إلى أنّ للحداثة جنبتين أو شقين:
الجنبة الأولى: وهو رأي الكثير من العامة، من أن ما نشهده من تطور تقني وتقدم حضاري في جميع المجالات العلمية كاكتشاف الفضاء وصناعة الطائرات والسيارات وأجهزة الاتصال الحديثة والبناء الحديث وسبل العيش المرفه، كل هذا يمثل الحداثة، فالعالم اليوم يختلف جذرياً عن عالم الأمس، وكذلك سوف يختلف عن عالم الغد، فهذا هو معنى الحداثة عندهم، لذلك قلنا هو إطلاق عامّي (سطحي).
والتغيير الذي حصل واضح للعيان لا ينكره أحدٌ، فالماضي كان يسير بشكل بطيء جداً، فحركة التنقل والسفر من مدينة إلى أخرى كانت تتطلب الكثير من الوقت، وحركة الناس في عملهم كانت تختلف باختلاف الأعمال التي كانوا يقومون بها، في حين أن الناس اليوم يعيشون عصر السرعة في جميع جوانب حياتهم اليومية وهم في سباق دائم مع الزمن والتاريخ، وكل يوم يمر يحسب له ألف حساب.
أمّا الجنبة الأخرى: وهي التي يركز عليها الكتاب والمؤلفون ويخصونها بالذكر، وهي تمثل مدار البحث في قضية الحداثة وعصر الحداثة، وهي الحداثة في الأفكار، إذ يقول هؤلاء أن الإنسان المعاصر يختلف في تفكيره وفي سلوكه وتعامله مع الطبيعة والكون عن تعامل الإنسان معها في العصور الماضية. فالإنسان كان يتعامل مع (الأسطورة ) في الماضي، أمّا اليوم فهو يتعامل مع الواقع، وهذا التعامل خرج من الغفلة إلى العقل، فالإنسان أصبح ينظر إلى الحياة من منطلق عقلي وأصبح يفكر بما يدور حوله ويشعر به ويحاول أن يسيطر عليه لا أن يسير وفق ما تريده القوى الغيبية التي تدير الكون.
وهنا فهذا التغير في كيفية التفكير لدى الإنسان أوجد إنساناً جديداً في تفكيره، وهذا الإنسان الجديد هو نتاج الحداثة، فالحداثة في الأفكار وما نتج عنها من حداثة في المستوى المادي للبشرية أنتج في النهاية إنساناً حداثوياً، يختلف عمّن مضى.
بمعنى آخر أن الحداثة جعلت من الإنسان يفكر في كيفية السيطرة على الكون وعلى الطبيعة المحيطة به، ويتمرد على القوى الغيبية التي تسيطر على الكون ويرفض الانقياد لها أو الانصياع لأوامرها، أمّا في الماضي فكان الإنسان يساير الكون ويعيش فيه بدون محاولة للسيطرة، بل إنّه يكيف نفسه معه من خلال ما تأتي به القوى الغيبية، ويترك شؤون الإدارة والتدبير لهذه القوى.
وهنا نسأل سؤالاً لابد منه: وهو هل يستطيع الإنسان أن يسيطر على الكون وأن يسيره وفق ما يريد كما يدعي هؤلاء، وأن يكون بمعزل وبمنأى عن القوى الغيبية وإدارتها للحياة؟
وهل يستطيع الإنسان أن يتمرد على خالقه؟
وهل يستطيع الإنسان من خلال عقله فقط من أن ينشئ حياة سعيدة مسالمة من دون إرادة الغيب وتدخله؟
إن الحداثة إذا أُريد بها التجديد في الحياة المادية وما يشهده العالم من تطور، فإن هذا الأمر يعد من الأمور الجيدة، إذ إنّ الإنسان يحاول منذ قرون عديدة السير نحو التكامل والوصول إلى الكمال بجوانبه كافة، أمّا إذا أُريد بها التنكر والتمرد على السلطة الغيبية، ومحاولة التشبث بالعقل فقط لإدارة الكون، فإن هذا الأمر مرفوض، إذ إنه لا يمكن للإنسان أن يقوم بعقله فقط من إدارة الكون بمعزل عن التدخل الغيبي، ومصير هذا التفكير غير المستقيم الفشل حتماً.
فالربط بين القديم والجديد أمر لابد منه، وعملية الاعتراف بالقوى الغيبية أمر لابد منه، فلا يستطيع الإنسان أن ينسلخ عن أصله ويتنكر لأصل وجوده وسبب نشأته، كما أن التطور والتقدم أمر لابد منه وهو حق مشروع للبشرية جمعاء.
وإذا صح أن نقول بـ(الحداثة المهدوية)، فإننا نستطيع أن نشير إلى أنها تختلف اختلافاً عظيماً عن الحداثة الغربية، فالحداثة المهدوية إذا صح أن تكون لها جنبتان مادية ومعنوية، فإن الجنبة المادية لها لا يمكن تصورها بالعقل الإنساني إذ لا يمكن أن نقارن بين ما يملكه الإنسان الآن من علوم وتقدم تكنلوجي، والذي يمثل حرفين فقط من العلم، وبهذين الحرفين وصل الإنسان إلى اكتشاف القمر والصعود إلى الفضاء واكتشاف المجرات البعيدة والكشف عن أصغر الفايروسات ومعالجة الأمراض واستخدام أجهزة التنقل السريعة والاتصالات المتطورة وغيرها، نقول إن كل هذا سوف لا يمكن أن يكون في قبال ما ستصل إليه الحداثة المهدوية في جنبتها المادية، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) سيضيف خمسة وعشرين حرفاً إلى حروف العلم الاثنين السابقين، فيصبح لدى الإنسان سبعة وعشرون حرفاً، فانظر إلى ما سيصل إليه العلم في عصر الإمام (أرواحنا له الفدى)، أعتقد أننا لن نستطيع أن نتصور ما يمكن أن يصل إليه العلم في تلك الفترة!
أمّا الجنبة المعنوية للحداثة المهدوية، فإنها سوف تؤدي إلى تكامل عقول البشرية ونضجها ببركة دعاء الإمام (عجّل الله فرجه)، فجاء في الروايات أنه يضع يده الشريفة على عقول العباد فتتكامل به أحلامهم، وقد أشار بعض الكُتّاب والمفسرين إلى أن تكامل العقول هو ترك المعاصي والذنوب، وهنا نصل إلى قمة التكامل المادي والمعنوي وقمة الحداثة وهي حداثة متأصلة في عمق التاريخ البشري وليست شيئاً طارئاً نتيجة بعض العلوم والتكنلوجيا الحديثة.