البحوث والمقالات

(١٣٣) العولمة المستقبلية في أُفق الدولة الإسلامية

العولمة المستقبلية في أُفق الدولة الإسلامية

السيد حسن بحر العلوم

عندما تطرح ظاهرة العولمة للنقاش يتشبع النقاش بالطابع الاقتصادي، ومدى تأثير تلك الظاهرة على اقتصاديات وثقافات العالم. وغالباً ما يكون هناك اتجاهان متضادان، ففي الوقت الذي تبرز فيه أصوات تؤيد بقوة ظاهرة العولمة مؤكدة على انعكاساتها الإيجابية على الاقتصاد والتكنولوجيا وجميع مناحي الحياة، نجد أن عدداً من المفكرين لا يتردد في معارضة تلك الظاهرة مُبدياً تخوفه على المصالح القومية بسبب الانخراط في متاهات العولمة.
وحينما أحسّ المفكر الإسلامي بوجود هذه الحالة قام بدراستها من جميع أبعادها، وقد انقسم المفكرون والمثقفون الإسلاميون حول العولمة بين مؤيد مشجع، ومعارض رافض، ومتوجس حذر، ولكل منهم مبرراته وقناعته، فالمحذرون من خطرها يرون أنها تحقق هيمنة طرف على طرف آخر، هيمنة الطرف الذي يملك وينتج الوسائل المعلوماتية، ويبث الأفكار والقيم والمعارف والثقافة من منظوره الخاص، ويترتب على ذلك تقسيم العالم إلى قسمين: قسم منتج وهو المرسل الإيجابي المتحكم، وقسم مستهلك سلبي مفتون بسهولة الحصول على المعلومات والمعرفة والكم الهائل من مفردات المتعة.
ومن المثقفين والمفكرين من رأى في العولمة تلاقحاً بين ثقافات الشعوب، ومحاولة إيجاد حد أدنى للالتقاء الحضاري بين المجموع البشري لتدعيم عالمية الثقافة الإسلامية وتشجيع مفاهيم حقوق الإنسان والسلام. وهؤلاء هم التنويريون والمحدثون وبعض الطوائف الإسلامية التي تبني آراءها على أدلة عقلية متينة، فوقفوا موقف الداعم لها والإيجابي. عندما تطرح العولمة نفسها على أنها تسعى إلى تحقيق المجتمع الإنساني الواحد الذي تذوب فيه الفوارق اللغوية والقومية والاقتصادية وغيرها، فهل نذهب نحن الإسلاميون إلى البحث عن حقيقة هذا المعنى في الإسلام وتاريخه وسياسته ونبحث في الكتاب الكريم عن نصوص تشير إلى هذه الحقيقة الخاصة؟
وعند دراسة آيات الكتاب العزيز نجد أن هناك فئتين من الآيات المباركة يمكن أن نفهم منها استبطان حقيقة العولمة - وإن لم تشر إليها بهذا المصطلح -:
الفئة الأولى: هي الآيات التي تشير إلى عولمة الماضي، وهي كثيرة منها:
قوله تعالى: ﴿وَما كانَ النَّاسُ إِلّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
ما نستفيده من الآية الكريمة أن الأصول البشرية الأولى، والتي عاشت المرحلة الوسطى من التاريخ وما بعدها حتى المرحلة المعاصرة كانت تشكل أُمة واحدة. وكانت تعيش حالة يمكن إطلاق مصطلح الأُمة عليها. والأُمة بحسب الدراسات الخاصة التي تناولت المصطلح ضمن دراسة المجاميع البشرية كالعائلة، والطائفة، والقبيلة، والأُمة، والشعب لها خصائص متعددة تستحق إطلاق هذا المصطلح عليها عندما تحتوي على تلك الخصائص، ومنها: اتِّصافها بوحدة خاصة تميزها عن الأُمم الأخرى كالأُمة العربية، والأُمة الفارسية، والأُمة التركية، فهناك وحدة خاصة تميز كل مجموعة من الناس عن المجموعات المعاصرة لها، وتستوجب هذه الخصائص إطلاق اسم الأُمة عليها، ومن أهمها اشتراكها في ثقافة واحدة، ولسان واحد، ودين واحد، وقيادة سياسية واحدة.
فإذا كانت البشرية تنتمي في ماضيها الغابر المتوغل في القدم إلى أُمة واحدة، فتكون البدايات الأولى للبشرية الموجودة على سطح الكرة الأرضية عولمة أو حالة قريبة من العولمة. نعم نحن لا نعلم شيئاً عن المنظومة الاتصالاتية أو الاقتصادية في تلك المرحلة، لكن لا شك أن الأُمة الواحدة تعيش حالة اقتصادية واحدة تتوحد فيها أدوات الاتصالات، فهي عولمة في البداية.
الفئة الثانية: وتشير إلى العولمة المستقبلية وهي مجموعة من الآيات المباركة نشير إلى آيتين منها:
1 - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ﴾.
الآية الشريفة تتعرض إلى حالة كونية تسيطر على العالم مستقبلاً.
في تلك المرحلة يتحقق الحلم الكبير للبشرية، والهدف الأسمى لجميع الأديان السماوية. وهي الحالة التي تصبح الغلبة فيها للنخبة الصالحة. لأن الأديان السماوية إنما جاءت لتعميم الصلاح على الأرض واقتلاع جذور الفساد. فإذا تمكنت تلك النخبة من تحقيق الهدف الكبير أصبحت الأرض للصالحين (الفئة النخبة) تلك النخبة والمختارة والتي تواجدت فيها جميع الخصائص والامتيازات الكمالية للبشرية فتعيش السعادة المادية والروحية معاً. وستسود هذه الفئة يوماً ما على الأرض وستملأ البسيطة، وتكون هي البذرة الأولى التي يتكون منها المجتمع البشري. فيعم الصلاح في القاعدة، وفي القيادة، وفي المدينة، وفي البيت، وفي الشارع، وفي السوق، وفي العالم الكبير. وعند ذلك يشكل الصالحون أُمة تعتمد على الصلاح وتبتني على المواصفات الصالحة. فلا تكون خصائصها الدم والعرق والانتماءات القبلية والقطرية، وإنما تكون خصيصتها الواضحة اتصافها بالصفات الكمالية والصلاح. وهذا هو جوهر (العولمة).
وهي (عولمة في الثقافة) حيث المعلومة الصالحة تكون في متناول يد الجميع وهذه (عولمة في المعلومة). ويتمكن كل إنسان صالح من الاتصال بإنسان صالح آخر هي (عولمة في الاتصالات). ويحكم عليها حالة اقتصادية متناسبة مع الأهداف المادية السليمة للفئة الصالحة، وهي (العولمة في المال).
فخصائص العولمة موجودة في الحالة المستقبلية التي بشرت بها كل الكتب السماوية، وقد أشار إليها القرآن الكريم.

البحوث والمقالات : ٢٠١٣/٠٦/٠٣ : ٣.٥ K : ٠
: السيد حسن بحر العلوم
التعليقات:
لا توجد تعليقات.