(١٦٠) السر في احتجابه وخفائه
السر في احتجابه وخفائه
السيد عدنان البحراني
إن عدم الظهور لا يلازم عدم الوجود، فهو أفضل من الظهور إذا كان الثاني موجباً للمهانة وعدم التقدير، فإن نبي الله يوسف بن يعقوب (عليه السلام) قد اختار السجن وفضله على الانطلاق في رحاب مصر عندما وجد الانطلاق يوجب افتتان الناس بحسنه وجماله مع كونه نبياً والناس في حاجة له كل حين.
وقال أحد الشعراء لما ادخل السجن:
قالت حبست فقلت ليس بضائري
حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يألف غيله
كبراً وأوباش السباع تردد
والشمس لولا أنها محجوبة
عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والحبس ما لم تغشه لدنيئة
شنعاء نعم المنزل المتودد
بيت يجدد للكريم كرامة
ويزار فيه ولا يزور ويحفد
وربما كان عدم خروجه لعدم توفر من يناصره فليس كل من ادعى أنه من شيعته ومواليه يصدق له في تشيعه وولائه.
ذكر في (مدينة المعاجز) عن ابن شهر أشوب بسنده عن داود الرقي قال:
كنت عند سيدي الصادق (عليه السلام) إذ دخل عليه سهل بن حسن الخراساني فسلم عليه ثم جلس فقال يا ابن رسول الله لكم الرأفة والرحمة وأنتم أهل بيت الإمامة ما الذي يمنعك أن يكون لك حق المقاومة في حقك الذي قعدت عنه وأنت تجد من شيعتك مائة ألف يضربون بين يديك بالسيف؟ قال: اجلس يا خراساني رعى الله حقك ثم قال يا حنفية سجّري التنور فسجّرته حتى صار جمراً وأبيض علوة فقال يا خراساني قم فاجلس في التنور قال: يا سيدي لا تعذبني بالنار اقلني أقالك الله قال: قد أقلتك.
فبينما نحن كذلك إذ أقبل هارون المكي ونعله في سبابته فسلم على الإمام (عليه السلام) فقال له (عليه السلام): الق النعل من يديك واجلس في التنور قال: حباً وكرامة وألقى النعل ونزل في التنور وأقبل الإمام يحدث الخراساني عما في خراسان كأنه شاهدها ثم قال (عليه السلام) : قم يا خراساني وأنظر ما في التنور... قال داود فقمت إليه فرأيته متربعا فناداه الإمام (عليه السلام) قم يا هارون فاخرج عافاك الله فخرج إلينا وسلم علينا.
فقال الإمام (عليه السلام) يا سهل كم تجد في خراسان مثل هذا؟ قال: والله ولا واحداً فقال (عليه السلام): أما إنّا لا نخرج في زمان لا نجد خمسة معاضدين لنا نحن أعلم بالوقت.
وجاء في البحار عن بريد العجلي قال: قيل لأبي جعفر (عليه السلام) أن أصحابنا بالكوفة جماعة كثيرة فلو أمرتهم لأطاعوك واتبعوك قال: يجيء أحدهم إلى كيس أخيه فيأخذ منه حاجته؟ قال: لا قال: فهم بدمائهم أبخل ثم قال: إن الناس في هدنة نناكحهم ونوارثهم ونقيم عليهم الحدود ونؤدي أماناتهم حتى إذا قام القائم (عليه السلام) جاءت المزاملة ويأتي الرجل إلى كيس أخيه فيأخذ حاجته لا يمنعها.
فمعظم من يدعي الولاء والإخلاص لسيدنا القائم (عجّل الله فرجه) في هذه العصور هم مثل سهل بن الحسن المذكور الذي طلب من الإمام الصادق (عليه السلام) أن يخرج ثائراً على العباسيين ليكون مصيره مصير النفس الزكية وأمثاله من العلويين الذين أغراهم الناس بالثورة فلما ثاروا خذلوهم وأكثرهم كانوا عليهم.
فقد ذكروا: أن أحد الأشخاص يلقب (فرج الله) ولم يكن ذلك اسمه فاسمه الحاج محمد وإنما غلب عليه لقب (فرج الله) لأنه كان يلهج دائما: (يا فرج الله) في كل قيام وقعود وحركة وسكون فصار علماً عليه.
فبينما كان ذات ليلة في داره منفرداً عن أهله ينظر في بعض الكتب وإذا بالباب تطرق طرقاً خفياً ففزع وظن أنه أحد اللصوص وتصام مكانه لم يسمع فأعيد طرق الباب فلم يجد بداً من الإجابة قال من هذا؟ قال: صديق قال: وأي صديق هذا الوقت!! قال: أنا صديق مسالم فلا تخف ولا تجزع وليس عليك مني بأس قال: أدخل فدخل رجل أعزل جميل الخلق له رائحة طيبة عليه ثياب بيض فأمن وأطمأن وأمره بالجلوس.
ثم قال: هل من حاجة؟ قال: نعم أنا رسول إليك من الإمام صاحب الأمر (عليه السلام) فانك تلهج دائماً (يا فرج الله) فما قصدك بهذا؟ قال: إن ذلك آية على ما أحمل له من الحب والإخلاص والنصح والولاء قال: وما بلغ من حبك وولائك له؟ قال: إني أفديه بأموالي وأولادي وروحي قال: إنه أعفاك من ذلك كله وإنما يطلب منك أمرا يسيراً عليك وهو أنه لا يرضى لأحد من شيعته أن يتقلب في معصية الله ومحارمه وسخطه فإن هذه الأموال والممتلكات التي بيدك هي في الواقع ليست لك وإنما ورثتها من آبائك وإن المال المغصوب إذا تداولته الأيدي لا يتحول عن حرمته المتداولين وكونه ملكاً لمالكه الأول فلا يخرج عن ملكيته إلا برضاه وإذنه ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه قال: فهي الآن لمن؟ قال: إنها تعود لفلان بن فلان الفقير الأعمى الساكن في موضع كذا من القرية فإن شئت أن تكون لك حلالاً فامض وأطلعه على الأمر واسأله أن يبيحك بها أما بالإعفاء أو معاوضة أو مقاسمة، قال: فكن أنت رسول إليه ليقاسمني على الثلث منها قال: إنما بعثني الإمام اليك وهذا شيء يخصك أنت فإن أنت فعلت حلت أموالك وطابت فعالك وطهر نسلك وعقبك وإلا فإن صاحب الأمر منك براء ولا يبيحك أن تهتف باسمه وتدعي القربى إليه.
فصرخ فرج الله (السارق السارق) فغاب ذلك الرجل وانتبه أهل البيت والجيران فأتوا إلى فرج الله قالوا: ما شأنك؟ قال: رأيت في المنام كأن سارقاً دخل البيت فصحت، ثم منع الناس من تسميته (فرج الله) وأخبرهم بما كان قالوا: ومن هذا الأعمى الذي نسب أموالك إليه؟ قال: لا أعلمكم باسمه فتدلوه وتعلموه قالوا: والله انا نعلمه إنه فلان بن فلان وسموه كما سماه الرجل الطارق قالوا: وإن هذا الرجل لصادق فيما أخبرك به عن الإمام وربما كان هو الإمام (عليه السلام).