(١٨٠) إذا خرج المهدي عليه السلام هل سيهدم الكعبة؟
إذا خرج المهدي (عجّل الله فرجه) هل سيهدم الكعبة؟
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
تضطرنا في بعض الأحيان أفكار سطحية تنبع من جهل مركب بالحقائق إلى الحديث في أمور ينبغي ألا يكون فيها حديث، ومن بين هذه الأفكار الحديث الذي تتداوله بعض الفضائيات ذات النفس التشكيكي، والتي لا تنفك عن إيجاد الفوارق.
حيث تجتاح هذه الأيام الأمة الإسلامية هذه الموجة التخريبية من خلال الضخ المالي الكبير الذي يتمتع به أصحاب هذه الفضائيات إذ تتفاجأ وأنت تتابع ما يمكن أن تلتمس فيه النفع لتصم سمعك عبارة تشم من ورائها ريحاً خبيثة تهدف إلى الهدم بدل البناء.
لقد فاجأتني عبارة سمعتها من بعض تجار الفضائيات، ولا أقول علماؤها (بأن المهدي (عجّل الله فرجه) سيهدم الكعبة)، وهذه العبارة على قصرها فإنها تحمل من المعاني والدلالات الكثير والكبير، فأحببت أن أقف عندها متفحصاً حقيقة الحال ونتاج الأدلة.
وينبغي قبل كل شيء أن نلتفت إلى قضية في غاية الأهمية وهي قضية القداسة وكيف تُكتسب، وما هو الميزان في اكتسابه، فهل المقدس والذي لا يمكن تخطيه ولابد من الانحناء أمامه تقديسا هو ما يأمر به الله سبحانه وتعالى، أو ما ينسبه لنفسه أم هو شيء غير ذلك؟
إذ لابد أن نعرف المقدس وكيف ينش، ومن أين يكتسب قداسته، وإلا فالكثير من الأشياء في عالمنا اليوم تكتسب أنواعاً من القداسات بنظر البعض وهي ليست مقدسة بل وليس لها أية قيمة بنظر آخرين.
وحيث أن الحديث عن مسألة إسلامية، أو بالأحرى الحديث عن حدث يصدر من شخصية إسلامية تجاه مكان إسلامي له في نفوس المسلمين من القداسة والاحترام ما لا يخفى. والحالة هذه فلابد أن يكون الفيصل في تحديد القداسات هو الشريعة الإسلامية، لا غير.
لا يختلف أي من المسلمين على قداسة الكعبة وشرافته، ليس ذلك إلا بانتسابها إلى الله سبحانه وتعالى وجعلها رمزاً تسكن إليه نفوس المؤمنين كما تسكن نفوسهم وتستقر عندما يأوون إلى بيوتهم.
فيا ترى هل المقدس في الكعبة هي الأحجار التي نشاهدها اليوم أو أن المقدس فيها هو هذه المساحة المحددة فقط، أو أن المقدس هو رمز معين في نقطة جغرافية محددة بحد خاضع للزيادة والنقصان وبأحجار يخضعها الزمن قهراً للتجديد والتبديل، فما هو المقدس في الكعبة، هل هي أحجارها؟ أم مساحتها؟ أم رمزيتها ومكانتها؟
لا يمكن أن يقول قائل أن المقدس في الكعبة هو تلك الأحجار التي جاءت، أما في زمن بنائها على عهد إبراهيم (عليه السلام)، أو حين جاء الإسلام وجعل الكعبة قبلة!
لأننا لا نشك في أن الكعبة وبسبب ظروف وأزمان قد تعرضت لتغيير وتبديل فلا نجزم حينئذ أن الأحجار التي بنى بها إبراهيم (عليه السلام) الكعبة هي نفسها الموجودة في زماننا الآن، بل ولا نجزم أن نفس الأحجار التي لامسها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) هي نفسها التي نشاهدها اليوم، إذ إن الكعبة قد خضعت للتبديل والتعمير والتطوير والإزالة وعلى هذا الأساس، فلا يمكن القول أن المقدس في الكعبة هو الأحجار بما هي هي وإن كنا لا ننفي نوعاً من القداسة لها ما دامت قائمة بالبيت بل حتى بعد انفصالها وذلك لجهة الانتساب.
فإذا لم تكن الأحجار هي المقدسة بذاته، فهل المقدس هو المساحة الجغرافية بما هي هي؟ أو أن المساحة الجغرافية بالإضافة إلى تلك الحالة الرمزية.
والظاهر أيضاً من الأدلة الشرعية أن المساحة وان كانت مقدسة إلا أن الانتساب يوسع من قداستها فيضيف إليها أشياء لم تكن مقدسة وبالانتساب تكتسب قداستها مع اختلاف مراتب القداسة، فنحن على يقين أن الكعبة قبل 1000 سنة لم تكن بهذه السعة وأن الأماكن الخارجة عن التوسعة لم تكن آنذاك مقدسة ولكن وبعد التوسعة اكتسبت قداسته، وهذا أمر واضح.
إذن المقدس في الكعبة هو تلك البقعة الجغرافية المعينة والمحددة والتي استلمنا حدودها يداً بيد مضافاً إلى تلك الحالة الرمزية التي تعيش في قلوب المسلمين والتي لا يمكن القفز عليها أو تجاوزها وأحجارها وإن تبدلت.
وعلى هذا الأساس وعلى ما فهمنا من حقيقة المقدس ومنشأ اكتسابه للقداسة نبحث ما يثار من قضية هدم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) للكعبة المشرفة وضمن المحاور التالية:
المحور الأول: ونطل من خلاله إطلالة سريعة على الكعبة المشرفة وما جرى عليها منذ بنائها إلى زمانن، من خلال ذكر حالات تهدم الكعبة وبناءها وزيادتها ونقصانها.
فهذا الذهبي في تاريخ الإسلام يذكر في حوادث سنة 65 هجرية أن الكعبة تعرضت للهدم في زمن بن الزبير وأن بن الزبير هدمها وأعاد بناءها على قواعد إبراهيم الخليل (عليه السلام)، ويذكر أيضاً أن قريشاً قد قصرت في بناء الكعبة عن أساس إبراهيم (عليه السلام) لما أعادوا بناءها مما حدا بابن الزبير أن يرجعها إلى مكانه، ولكن لما ولي الحجاج على مكة هدمها مرة ثالثة وأعاد البناء إلى ما كان عليه على عهد قريش، ويذكر الذهبي أن الحجاج أخذ الحجر الزائد عند تقصيره في البناء وتصغيره للكعبة ودكه في أرض البيت ورفع الباب.
فهذا النص التاريخي يشير إلى أن الكعبة تعرضت إلى الهدم والبناء ثلاث مرات والى الزيادة والنقصان في المساحة، كذلك تشير نصوص تاريخية أخرى إلى أن الكعبة تعرضت إلى الأمر نفسه أكثر من ذلك ومن يرغب بالوقوف على تفاصيل المسألة فليراجع كتب التاريخ.
هذا النص التاريخي يرشدنا إلى جملة من الأمور التي أشرنا لها في المقدمة وهي أن قداسة الكعبة ليست بالحجر ولا بالرقعة الجغرافية بمعزل عن المكانة الروحية لها فها هو نص الذهبي يشير إلى أن الأحجار للكعبة قد تبدلت ثلاث مرات وزيد فيها وانقص منها وغيرت ملامحها وحدودها وأن بعض الأحجار دكت بالأرض، فمع قداستها تراهم أحدثوا ما أحدثوا فيها.
إذا فقداسة الكعبة بالأمور مجتمعة -المكانة في النفوس، والموقع الجغرافي والمساحة والأحجار-.
المحور الثاني: وفيه نقف وقفة تأمل في حديث صحيح السند لا يمكن التشكيك في ثبوته بناء على مباني أبناء العامة، حيث يرويه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة بأنها قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم (عليه السلام) فان قريشاً حين بنت البيت استقصرت.
وفي رواية البخاري أن أبا إسحاق يروي عن الأسود انه قال: قال لي ابن الزبير كانت عائشة تسر إليك كثيرا فما حدثتك في الكعبة قلت: قالت لي قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر الحديث وزاد فيه ففعله ابن الزبير.
وفي مجموع النووي شرح مفصل لهذه الرواية وعدد المساحة التي زيدت وتفاصيل أخرى يمكن الرجوع إليها لمن يرغب بالازدياد.
وتأملنا في هذا الحديث في أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اتقى من قريش مع إنه نبي ولم يفعل الواقعة لحداثة القوم بالإسلام وخشية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم، فان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لولا تلك الخشية من القوم لنقض الكعبة وبناها على أساس إبراهيم (عليه السلام).
إذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يريد أن يفعل ولو أتيحت له الفرصة لفعل ولكنه منعه من هدم الكعبة مانع وهو حداثة القوم بالإسلام.
ونستفيد من الحديث أن ابن الزبير قد فعل ذلك فهدم الكعبة وبناها على أساس إبراهيم (عليه السلام) فجاء من بعده وهو الحجاج فهدمها مرة أخرى وأرجعها إلى أساس قريش كما أشرنا إليه سابقاً.
فلو كانت القداسة للأحجار، وأن الهدم يستلزم هذا التهويل والتكفير فالأولى بمن يقود هذه الحملة التشرذمية أن يصِف ما يَصِفُ به الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لابن الزبير بل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
المحور الثالث: المهدي (عجّل الله فرجه) خليفة الله ويتلقى أوامره من الله (عزَّ وجل) والاعتراض عليه اعتراض على الله، ونحن لا نعلمه تكليفه ولسنا أولى به من حفظ الشريعة بل هو الذي يأتي ليعيد الإسلام جديداً ويصلحه وينشر الحق ويطمس الظلم والجور فلا نتوقع منه ظلماً أو تجاوزاً أو استخفافاً أو استهانة بمقدس من مقدساتنا كما إننا لا نتوقع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتعدى على المقدسات وأن ينتهك الحرمات،كذلك لا نتوقع من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) ذلك وليس لأن لنا بالمهدي (عجّل الله فرجه) علاقة شخصية أو حباً عن عاطفة، بل لأنه خليفة الله، وهذا المدلول الذي ينصُّ على إن المهدي (عجّل الله فرجه) خليفة الله ليس مدلولا مستقى من روايات أتباع مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وإنما هو مدلول روائي روته أمهات كتب أبناء العامة كمسند أحمد ومستدرك الحاكم والجامع الصغير للسيوطي وغيرهم.
إذن فهو (عجّل الله فرجه) خليفة الله ويتلقى تعليماته من الله سبحانه وتعالى وإلا لو كان غير ذلك لما كان جديراً لأن يكون خليفة لله وما سيصدر منه من أفعال لا نحاكمه عليها لأنه إنما جاء ليصحح أفعالن، فاتهام المهدي (عجّل الله فرجه) بغض النظر عن كونه من أية طائفة هو أو بأي لون يتلون أنه سيهدم الكعبة تجاوز على مقدس من المقدسات باسم حماية المقدسات وهذه حرفة احترفها اليهود قرونا خلت فهل يا ترى أن من يتهم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بهذا الاتهام هو من خلف أولئك.
المحور الرابع: وهو وقفة مع الروايات التي تروي هدم المسجد الحرام على يد المهدي (عجّل الله فرجه) من طرق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ومتن الرواية يقول أن القائم يهدم المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه روي هذا المتن في بحار الأنوار وفي الغيبة للطوسي وفي الإرشاد للمفيد وفي غيرهما من المصادر والظاهر أن أسانيد هذا الحديث لا تقوم بحجة ولكننا ننظر إلى المتن بغض النظر عن سنده، عن أبي عبد الله (عليه السلام): ((القائم يهدم المسجد الحرام حتى يرده إلى أساسه .....)) وبناء على صحة صدوره ونقول إن هذا الحديث يصرح بأن هدم المسجد الحرام إنما هو لهدف رده إلى أساسه وليس هذا الهدم للظلم والعدوان أو للانتقاص وعدم الاعتراف بقداسة الكعبة المشرفة والمسجد الحرام، فإذا كان ثمة أشكال على ما ترويه مصادرنا من هدم الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) للكعبة أو المسجد الحرام ورده إلى أساسه فالإشكال أوقع وأولى بغيرنا لأنهم يروون هذه الرواية بأصح الأسانيد وأوضح المتون، ويروون أنها قد وقعت من قبل ابن الزبير، وإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن يفعلها ولكن منعه من ذلك مانع، بينما الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) إلى الآن لم يظهر ولا نعرف فعله، فهل إنه فعلاً سيفعل هذا الأمر أو لا يفعله، فإذا كان سيفعل ذلك فعلاً فسوف نسأله في زمانه لماذا يا بن رسول الله، يا خليفة الله فعلت هذا الفعل، وسيبين لنا الوجه والحكمة من ذلك وأما إذا لم يفعله فالمسألة منتفية من الأساس، هذا فضلا عن أن الرواية تصرح بأن فعل المهدي (عجّل الله فرجه) هذا لأجل إرجاع المسجد إلى أساسه الإبراهيمي.
هذا إذا قلنا أن الهدم يقع على الكعبة المشرفة ولكن الظاهر من الحديث الذي نقلنا نصه قبل قليل أن الهدم يقع على المسجد الحرام وليس على الكعبة والفرق بينهما كبير جداً كما لا يخفى، فالمسجد الحرام قد تعرض للهدم عند توسعته أكثر من مرة كما هو واضح ومشاهد لنا، فهل يمكن لنا أن نتهم من يهدم المسجد بقصد توسعته للطائفين والمعتمرين أنه خارج عن الدين والملة؟
والحديث الذي يتهموننا على أساسه يعلل الهدم للمسجد الحرام بأنه يحصل لأجل أن يرده الإمام إلى أساسه. وهذا الهدم مبرر شرعاً وقانوناً كما نبرر الآن لمن يوسع في المسجد تبعاً للمصالح التي تقتضيها التوسعة.
ويمكن أن نقول أن الرواية تشير إلى معنى أعمق من الهدم للجدران والأحجار، فحيث أن قريشاً التي هي عنوان الشرك وطمس الحقيقة الإلهية فقد قامت بتصغير البيت وتحويله عن أساس إبراهيم (عليه السلام) الذي هو أساس التوحيد، فانه يحتمل أن يكون معنى الهدم في الرواية هو هدم الشرك القريشي وإرجاع التوحيد الإبراهيمي.
ومن خلال ما تقدم وعلى وفقه نخلص إلى النتائج التالية:
1. إن المقدس في الكعبة ليس هو الأحجار ولا المساحة، بل هما الانتساب إلى الله سبحانه وتعالى.
2. إن غيرنا من أبناء العامة قد رووا روايات صحاحاً أن ابن الزبير هدم الكعبة وكذلك قريشاً والحجاج، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عزم على الهدم وأراده ولكن منع منه مانع.
3. إن سبب الهدم المهدوي إن صح فهو إنما لإرجاع البيت الحرام إلى أساسه الإبراهيمي.
4. إنه يحتمل إن هناك معنى آخر يراد بالهدم وهو هدم الشرك القريشي وإرجاعه إلى التوحيد الإبراهيمي.
5. إن الهدم المهدوي محتمل الوقوع لأن الواقع لم يثبته إلى الآن وإن تحدثت عنه الرواية فهو حديث ظني محتمل الوقوع بينما الهدم الأموي اليزيدي السفياني قد وقع فعلاً، فهلا وصفنا من قام به بالكفر والزندقة والخروج عن الدين والملّة.
6. نحتمل بل نقطع أن هذه الفرية هي أشبه بفرية السرداب وإنما جيء بها للتغطية على فعال بني أمية فقط.