البحوث والمقالات

(١٨٤) علم الإمام اللدني وإشكالية تغيَر الشريعة

علم الإمام اللدني وإشكالية تغيَر الشريعة

الشيخ علي الدهنين

يطرح اليوم في الفضائيات نظرية تقول بأنّ كل شيء في هذا العالم متغيّر، وأنّ العالم في تطور يوما بعد يوم، فشريعة موسى (عليه السلام) نسخت الشرائع التي كانت قبله، وشريعة عيسى (عليه السلام) نسخت شريعة موسى (عليه السلام) وكان بينهما ما يقارب ألف وستمائة سنة، وشريعة نبين (صلّى الله عليه وآله وسلم) نسخت شريعة عيسى (عليه السلام) وكان بينهما ما يقارب خمسمائة سنة، هنا يأتي سؤال حاصله أنه إذا كانت الفترة بين موسى (عليه السلام) وعيسى (عليه السلام) وجيزة، وهكذا الفترة بين عيسى ونبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) وجيزة أيضاً اقتضت أنْ يغير الله تعالى الشريعة ويأتي بشريعة جديدة، فكيف نبقى على شريعة الإسلام أكثر من ألف سنة، ومن يدري لعل الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لا يظهر إلاّ بعد آلاف السنين، فالغيب لا يعلمه إلا الله وهل بإمكان الشريعة الإسلامية أن تلبي جميع حاجات الإنسان؟ حتى الإنسان الذي يأتي بعد آلاف السنين؟
فاليوم هناك من يسعى لبث هذه الشبهة في أوساط المجتمع، ويحاول أن يفصل الدين عن الحياة، بل يحاول التشكيك في الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ويقول: نحن لسنا بحاجة إلى الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) إلا في زمن ظهوره، وأما الآن فلسنا بحاجة اليه، وكذلك لسنا بحاجة إلى الصلاة والحج وغيرها من العبادات، فالإنسان اليوم أصبح فكره ناضجاً وباستطاعته أن يحل مشاكله بفكره وعقله، فلسنا بحاجة إلى شريعة سماوية تعين التكليف علينا.
ونقول في الجواب عن هذه الشبهة: إنّ الله تعالى قد ضرب في القرآن الكريم مثلاً وهو قصة موسى والخضر (عليهما السلام)، فموسى كان لديه علم الشريعة الظاهرة، وهي لا تقتضي خرق السفينة، ولا قتل الغلام، ولا بناء الحائط، فإذا كان الله تعالى يقتصر على الشريعة الظاهرية لما قتل الغلام وبسببه كان الناس يحرمون من سبعين نبي، لكن أوجد الله تعالى الخضر (عليه السلام) ليعمل في الخفاء بواسطة علمه اللدني ما فيه المصلحة للبشرية يقول تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ (الكهف:65)، يقول العلماء: إن المراد من (عبادنا) أن هناك مجموعة من العباد زودناهم بالعلم اللدني، وبواسطته يعملون في الخفاء ويحدثون تغييرات مهمة تكون في صالح المجتمع الإنساني.
نحن الشيعة نعتقد بأن الله تعالى زود إمامنا المهدي (عجّل الله فرجه) بل جميع الأئمة بالعلم كله، قال تعالى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِيْ ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِيْ كِتَابٍ مُبِيْنٍ﴾ (الأنعام:59)، فكل شيء أودعه الله تعالى في كتاب مبين، فما هو المراد من الكتاب المبين الذي أودع الله تعالى فيه كل شيء؟ إنّ المراد هو الإمام (عجّل الله فرجه)، فقد ورد عن الحسين بن خالد، قال: سألت أبا الحسين (عليه السلام) عن قول الله: ﴿كِتَابٍ مُبِيْنٍ﴾، قال (عليه السلام): في إمام مبين.
نقول في جواب شبهات العلمانيين: إنّ الله تبارك وتعالى خالق الكون، وهو تعالى صاحب الكمالات اللامتناهية والعلم اللامتناهي، إذن فهو يعلم بحاجات البشرية في جميع الأوقات والأزمان، وقد زود الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بهذا العلم، وهذا هو معنى ما ورد في زيارة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه): السلام عليك يا خليفة الله وخليفة آبائه المهديين، السلام عليك يا وصي الأوصياء الماضين، السلام عليك يا حافظ أسرار رب العالمين، السلام عليك يا بقية الله من الصفوة المنتجبين، السلام عليك يا ابن الأنوار الزاهرة، السلام عليك يا معدن العلوم النبوية، السلام عليك يا باب الله الذي لا يؤتي الا منه، السلام عليك يا سبيل الله الذي من سلك غيره هلك، السلام عليك يا ناظر شجرة طوبى وسدرة المنتهى، السلام عليك يا نور الله الذي لا يطفئ... .
ومن جملة أسرار رب العالمين هو ما يحتاج إليه الإنسان في جميع الأزمان. إذن لسنا بحاجة إلى أن نرفع اليد عن الدين والشريعة، لأنها تلبي كل طلبات الإنسان وتحتوي على كل ما يحتاج إليه.
أنواع الأحكام في الشريعة:
وفي تكملة الجواب على الشبهة السابقة نقول: هناك في الشريعة نوعان من الأحكام: ثابتة ومؤقتة، فالأحكام الثابتة هي الأحكام التي لا تتغير إلى يوم القيامة، كالصلاة الواجبة إلى يوم القيامة، والحج، فهو واجب إلى يوم القيامة، وأما الأحكام المتغيرة فهي التي تتغير بحسب الظروف، مثلاً قد منع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) الناس من حبس فضل الماء، هذا حكم مؤقت خاص بظروفه أما اليوم فيجوز على الإنسان أنْ يحبس فضل الماء حتى لو مات زرع جيرانه بناء على رأي بعض الأعلام وإن كان خلاف المشهور.
هنا يأتي سؤال يقول: من هو ذلك الشخص الذي يشخّص أن هذا الحكم داخل في الأحكام الدائمة أو في الأحكام المؤقتة؟، ومشكلتنا اليوم هي أنّ كل شخص يدّعي بأنه قادر على تشخيص الأحكام، كأن يأتي طبيب أو مهندس أو مثقف يقول: أنا عندي قدرة على تشخيص أن هذا الحكم من القسم المؤقت وهذا من القسم الدائم، يأتي ويقول: نحن اليوم بحاجة إلى أنْ نطور المنبر، بحاجة إلى أنْ نطور آلية معينه نوصل بها رسالة الحسين (عليه السلام) ولسنا بحاجة إلى البكاء.
وأقول رداً على هؤلاء: نحن نقبل أنّ هناك أحكاماً ثابتة وأخرى متغيرة، وقد جاء بها النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم)، ولكن لا نقبل أنْ يأتينا أيّ شخص ويشخّص لنا أنّ أي حكم من الثابت وأي حكم من المتغير، فلا نقبل أن يأتي شخص غير متخصص ويقول البكاء على الحسين (عليه السلام) من القسم المؤقت، بل ولا نقبل منه أن يقول بأنّ البكاء من القسم الدائم، لأنّ هذا الشخص ليس من أهل الخبرة، فمثلاً الطبيب أو المهندس نقبل رأيه في مجال تخصصه فقط، إذن علينا أنْ لا ندخل في مجال غير مجال تخصصن، فلو دخل الخطيب في مجال الطب وقال بأني قرأت الكتب الطبية وأظن أن فلاناً مريض علاجه كذ، لعاب الناس عليه وقالوا له بأن هذا ليس من تخصصك، وهكذا الفتوى فلا يجوز لأحد أن يفتي برأيه، نعم بمكانه أن ينقل رأي المجتهد وأما أن يفتي برأيه فلا يجوز له، فينبغي علينا اذا رأينا شخصاً يتحدث في غير اختصاصه أنْ لا نقبل منه ذلك.
عوداً على بدء:
ونرجع إلى صلب الموضوع ونقول بأن الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) قد زوده الله تعالى بالعلم اللدني، والعلم اللدني يلبي كل حاجات البشر، أذن لا نقص في الشريعة وعليه نرفض قضية التعدد أو عدم الحاجة إلى الدين والشريعة، أو عدم الحاجة إلى البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام).
إنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) قد زوده الله تعالى بالعلم اللدني ما لم يزوّد به عيسى وموسى وغيرهما من الأنبياء (عليهم السلام)، منها ما ورد عن أنّ المهدي (عجّل الله فرجه) - فيقال: صل الصبح، فإذا كبر ودخل في الصلاة نزل عيسى بن مريم (عليه السلام) - فيضع يده بين كتفيه ويقول: صل فإنّها أقيمت لك الصلاة، فيصلي عيسى وراءه، فعيسى (عليه السلام) مع عظمته يصلي خلف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وهذا دليل على أفضلية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) على نبي الله عيسى (عليه السلام).
وهكذا نبي الله موسى (عليه السلام) فقد ورد عن سالم الأشل، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) يقول: نظر موسى بن عمران في السفر الأول إلى ما يعطى قائم آل محمد من التمكين والفضل، فقال موسى (عليه السلام): ربّ اجعلني قائم آل محمد، فقيل له: إنّ ذاك من ذرية أحمد، ثم نظر في السفر الثاني فوجد فيه مثل ذلك، فقال مثله، فقيل له مثله. فنبي الله موسى (عليه السلام) يتمنى مقام الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وهذا أيضاً دليل على أفضلية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) على نبي الله موسى (عليه السلام) وهكذا.

البحوث والمقالات : ٢٠١٣/٠٦/٠٣ : ٤.٠ K : ٠
: الشيخ علي الدهنين
التعليقات:
لا توجد تعليقات.