(١٩٨) المنتظر (عجّل الله فرجه) بين ستراتيجية الأهداف المهدوية والتحرك المرحلي
المنتظر (عجّل الله فرجه) بين ستراتيجية الأهداف المهدوية والتحرك المرحلي
لطيف عبد النبي يونس
الفكر المهدوي يتمتع بنظام رسالي شامل ومتكامل يضمن حل كل مشاكل الإنسان والبشرية، ويمتلك رؤية كونية تفسر نظام الوجود وفق نظرة فلسفية أكدت وتؤكد تكاملها في إيجاد الحلول والأجوبة لكل أسئلة البشرية المطروحة في الواقع، والتي تعطي من خلال تلك الردود الرؤية العقلية المبنية على التوازن المطلوب والمنشود من قبل البشر وبما يتناسب مع عامل العقل والفطرة السليمة، ويحقق الأمل والمستقبل الحقيقي الذي تأمله البشرية.
وكل إنسان نزيه في تفكيره وبحثه يجد الحلول الحقيقية في الإسلام المهدوي وبما يجانب الأساطير والانحرافات العقلية، وبما يلائم العقل السليم والذوق الوجداني الرفيع.
ولكن هناك إشارة مهمة وهي بنفس ذلك المقدار حيث تكمن أبعاد أخرى وهي: العمق الموضوعي، والتدرج التاريخي، والسمو الروحي، وهذه الأبعاد تحتاج إلى ما يناسبها من نضج وسمو عقلي حتى تستوعب تلك النظرية الراقية في كل أبعاده، ولكن للأسف فان البشرية وبسبب الانحراف العقلي والفساد الروحي تأخرت كثيراً وكثيراً في فهم الفكر المهدوي ولذلك أخرت آثاره ونتائجه إلى مراحل متأخرة، وإلا لكانت البشرية قد تنعمت بتلك الأبعاد الروحية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية منذ زمن متقدم!!
وهنا لابد أن نعلم أن النظم تنقسم إلى قسمين وهما: النظام الرسالي وغير الرسالي.
ونقصد بالنظام الرسالي هو ذلك النظام أو الفكر الذي يمتلك رؤية كونية يفسر من خلالها الوجود.
ومن لم يمتلك تلك الرؤية الكونية الفلسفية فليس بمقدوره أن يجيب على كل التساؤلات ويتعداها إلى عدم إمكانيته صياغة نظام شامل ومتكامل ليقود الحياة.
وعلى هذا الأساس فان الفكر المهدوي الإسلامي يصنف ضمن النظم الرسالية التي استطاعت أنتعطي إجابات صريحة وواضحة لكل الأسئلة المتعلقة بالوجود أو إدارة المجتمع.
أما النظم غير الرسالية فإنها تلك النظم التي مارست التطبيق على الواقع من دون امتلاكها أية رؤية كونية تفسر الوجود وإنما تقتصر على أفكار تعمل بها في المجتمع وإدارته وهي غالباً ما تكون خليط من أفكار مستقاة من هنا ومن هناك.
وذلك مثل الفكر الماركسي باعتباره يمتلك رؤية فلسفية وكونية تفسر الوجود، وهي الرؤية المادية الديالكتيكية، والتي من خلالها فسر قوانين المجتمع وأعطى نظاماً لإدارته ولكن بسبب قصوره الذاتي الذي ينبع من كونه نظاماً وضعياً غير قادر على استيعاب كل أبعاد الوجود أو الحياة، فبالتالي سقط هذا الحكم وأصبح مركوناً على رف التاريخ.
والفكر الإسلامي المهدوي وبما يملك من وراثة إلهية، وبعد تاريخي، وإرث كبير وأصيل، وآمال مستقبلية فانه يستمد قوته وفعاليته من خلال رؤيته الكونية الشاملة والمتكاملة وهي على بعدين، التوحيد والعدل، وعلى هذا فان أهدافه العليا إنما تنبع من رؤيته الكونية، فالتوحيد الذي يمثل البعد النظري المتعلق بالمبد، وعلى أساس التوحيد يفهم المبد، وإن أي خرق لهذا الهدف على أي سبيل يأتي بأمور خطيرة توقع عملية التطبيق في مأزق.
وبما إن الفكر الرسالي يستمد أفكاره الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من خلال تلك الرؤية الكونية والتي من خلالها يدير بها المجتمع، فان منشأ هذه الإدارة إنما يأتي من خلال جوهر الترابط الذاتي بين الاقانيم الثلاث (المبدأ، الإنسان، الحياة) وعليه فإن الشق الثاني من الهدف الستراتيجي هو العدل الذي يحقق هذه الإدارة، تلك الإدارة المتصفة بكل مقومات النجاح المستمر والمذهل وذلك لكونها تناسب العقل والفطرة.
ولننتبه إلى تلك الرابطة والعلاقة السببية بين العدل والتوحيد في عالم التكوين، فـبالعدل قامت السموات والأرض، ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾.
فالرابط بين العدل والتوحيد في إدارة المجتمع الأرضي يتمثل بالبعد التشريعي الشامل، فبدون التوحيد والعدل من المستحيل أن تتحقق سعادة المجتمع الأرضي، وبعبارة توضيحية إن عدم تحقيق التوحيد الحقيقي المتمثل بالخوف والرجاء، وعلى رأسها وتاجها توحيد الأحرار (الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً بجنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك) سوف لن يسمح للعدل بالقيام، فالمجتمع التوحيدي إنما يقوم على ثلاثة أقسام:
1- قمة الهرم المتمثل بذلك الإنسان الكامل الذي يوحد الله تعالى بتوحيد الأحرار (المتحرر من قيدي الخوف والرجاء على ضوء الحديث آنفا) والمتمثل بالمعصوم (عليه السلام).
2- والقائد الأوحد للمجتمع التوحيدي.
3- وقاعدتي الهرم المتمثلين بتوحيد الله تعالى على أساس الخوف والرجاء أو الطمع، ومن هذه المقدمة ينشأ العدل نتيجة حتمية لا تتخلف ولا تختلف.
ومن خلال تحقيق هذين الهدفين الستراتيجيين تتحقق كل متعلقاتها الجزئية.
ولو تمعنا في حركة الفكر المهدوي (ونقصد بالفكر المهدوي الفكر المبني على أساس تحقيق الأهداف العليا) فإننا نجده قد تعرض لظروف موضوعية من قبل الإنسان المنحرف (الفكر المنحرف) وبالتالي وجد نفسه يخوض صراعاً آخر غير ما أسس له، فهو أول ما بدأ كان مشروعاً وبرنامجاً بذر التوحيد ورعاه بروح الإسلام لكي يثمر عن مجتمع توحيدي مستمر في عطائه ولإقامة خلافة الله في الأرض وتحقيق المجتمع التوحيدي الأرضي، ومن ثم ينطلق مع المجتمعات التوحيدية في الوجود، ولذلك يعبد الله تعالى ويعرف في عالم الوجود الجبري والاختياري، ولكي يعزف الوجود لحن التوحيد الخالص وتتحقق غاية البارئ التي لا نعرفها إلا بعد أن تتحقق المهدوية في الأرض وتشمل الكون.
ولكن الانحراف الأرضي جعل هناك صراعاً آخر، ولعله حتمي، وهذا ما رأته الملائكة في بدأ الخلق ومن هنا نشأ الاستفهام... ومن هنا نشأت ظروف موضوعية حولت القضية من ممارسة التطبيق المباشر للأهداف العليا إلى مرحلة الرد على الانحراف بكل أبعاده الفكرية والتطبيقية وعاش الفكر المهدوي صراعاً طويلاً ومرير، وهذا الأمر لم يغير من الأهداف العليا التي هي ذات وهوية الفكر المهدوي، بل على العكس فان أصحاب كل الأطروحات التي طبقت على الأرض ساهمت في إبراز الأهداف العليا للإسلام المهدوي من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وذلك بفضل المعصوم (عليه السلام)، فالتكتيك كان بأيدهم وهم يغيرونه بما يخدم الفكر المهدوي على مر الزمن...
ومن هنا نقول إن الظروف الموضوعية مارست ضغطاً على الفكر المهدوي وجعلته يغير خططه المرحلية، وهنا تبرز مسالة رد الفعل في الإسلام عموما والفكر المهدوي خصوصاً.
وهكذا قام المعصوم (عليه السلام) وعلى طول الفترات التاريخية بالتحرك المرحلي من أجل إعادة الظروف الموضوعية إلى سياقها الطبيعي المناسب لعملية التطبيق للأهداف العليا.