البحوث والمقالات

(٢٠٢) ادّعاء النبوة والمهدوية.. الظاهرة والتاريخ

ادّعاء النبوة والمهدوية.. الظاهرة والتاريخ

فهد عامر الأحمدي

مقابل كل نبي ورسول يُوحى إليه يوجد آلاف الكذابين والدجالين وأدعياء النبوة.. وهذه المقارنة لوحدها تثبت الشعبية التاريخية لهذه الظاهرة، كون عدد الُرسل الذين بعثهم الله كبيراً في الأصل ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا﴾ ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾.
ولكن؛ رغم كثرة المدعين والدجالين، فان قليلاً منهم من انعطف بالتاريخ أو حقق امتداداً حضارياً أو جغرافياً مهماً.. وهذه الفئة القليلة -كما أفترض- هي المعنية بحديث المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا تقوم الساعة حتى ينبعث دجالون كذابون قريباً من الثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)).
والعجيب أن هذه الظاهرة عرفت في جزيرة العرب حتى قبل ظهور خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففي كتاب مروج الذهب يسرد المسعودي قائمة بمدعين ظهروا قبل بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، مثل:
_خالد بن سنان العبسي، وأمية بن الصلت، وقس بن ساعدة الأيادي، وبحيرا الراهب، وعمرو بن نفيل.. (وغيرهم كثير).
وحتى خلال حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه - ثم بعد وفاته مباشرة - ظهر أدعياء نبوة في العديد من القبائل العربية.. فهناك مثلا مسيلمة الكذاب الذي بعث للنبي كتاباً يقترح فيه (مناصفة الأرض) بين قريش واليمامة.. والأسود العنسي الذي جاهر بدعوته في اليمن قبل وفاة النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).. وطليحة بن خويلد الذي ظهر في بني أسد.. وسجاح بنت الحارث التميمي شاعرة بني تغلب الفاتنة.
وفي العهد الأموي والعباسي تفاقم الأمر -وتحول لطابع سياسي- لدرجة سئم الخلفاء من كثرة أولئك المدعين، فأمروا عمالهم ورجال الشرطة لديهم بقتلهم (بلا محاكمة) ( وقليل منهم الذي نجا).
وبدل أن تخف الظاهرة في العصر الحديث تفاقمت وانتشرت بشكل خطير - خصوصا تحت دعوى المهدي المنتظر..
ففي نهاية القرن الثالث عشر الهجري ظهر في السودان (محمد بن عبد الله) الذي كان له تأثير كبير على أتباعه، على الاحتلال البريطاني في ذلك الوقت.. وفي نفس الوقت تقريبا ظهر في المغرب من يدعي أنه الـ(مهدي) المنتظر ويحمل أيضا اسم (محمد بن عبد الله) وازدهرت دعواه لتسع سنوات..
وعند نهاية القرن الرابع عشر الهجري اقتحمت مجموعة مسلحة بيت الله الحرام وسفكت دماء الحجاج والمصلين فيه تحت دعوى (المهدي المنتظر).. وفي عقد الثمانينات ادعى (محمود محمد طه) رئيس الحزب الجمهوري بالسودان أنه نبي مرسل، وأن رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (لم تعد صالحة لهذا الزمان وقد حكمت عليه المحكمة الشرعية بالخرطوم عام 1986بأنه مرتد مارق من الدين!)
..ومن الملاحظات الغريبة أن ادعاءات النبوة تكثر -هذه الأيام- في بلدان معينة وتكاد تختفي تماما في بلدان أخرى، ففي باكستان مثلا يكاد يظهر مدعي نبوة جديد كل شهر تقريباً.. وفي العراق ظهر أكثر من (23) مدعياً بين حربي الخليج الأولى والثانية فقط.. وفي لبنان ظهرت بين الدروز 6 حالات في المناطق التي تحتلها إسرائيل فقط.. في مصر والسودان والجزائر تفاجئنا الصحف بين الحين والآخر بالقبض على مدعي نبوة جديد، أو مهدي منتظر، بل حتى في أمريكا نفسها ظهر بين الجالية الإسلامية أربعة أشخاص منذ عام 2000 ادّعوا النبوة وتمتعوا بحماية قانون حفظ الحريات الدينية.
..ولأن ادعاء النبوة ظاهرة تاريخية متواصلة -عرفت في كافة المجتمعات والديانات- فلا أتوقع تراجعها أو توقفها مستقبلا؛ فهي ليست فقط جزءاً من الحراك الديني بل و(حالة إنسانية) يقف خلفها الطمع السياسي والتسيد الاجتماعي وكسب الولاء المطلق.. ناهيك عن اضطراب العقل، وانفصام الشخصية، وإيحاء الشيطان زخرف القول غرورا.
وقد لاحظت من خلال تفحص التاريخ الإنساني... في العصور الزمنية التي سبقت نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانت الادعاءات الباطلة تتركز على ادعاءات الإلوهية نفسها والعظمة المطلقة من أمثال ادعاء فرعون، والملك (ذو نواس الذي أحرق أصحاب الأخدود)..
أما من بعد نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فان الادعاءات الباطلة أصبحت تتركز على ادعاء النبوة والقدوم برسالة من الله... وهنا تبرز أهمية التأكيدات التي وردت كثيراً في القرآن والسنة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو آخر الأنبياء والمرسلين ولا نبي بعده.. حقيقة لولا هذه التأكيدات والتوضيحات لضل كثير من الناس لأنه لا يصعب إدراك زيف ادعاءات أي شخص يدعي الإلوهية.. ولكن إثبات زيف مدعي النبوة قد يكون أكثر صعوبة و تضليلاً للكثير من الناس... فالحمد لله الذي وضّح ذلك بحيث لا تصبح المسالة هي هل هذا المدعي للنبوة صادق أم كاذب بل أن أي مدع للنبوة بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو كاذب أفّاك، مهما ساق من حجج أو مبررات.
إن أغلب هؤلاء المدعين يطلب المادة والوجاهة مثل مسيلمة حين طلب مناصفة الأراضي وكأنه يحسب الدعوة عقارات وبيع وشراء.
إن ادعاء النبوة نوع من التخلف والجنون والأمراض النفسية، وإن من يدعي أنه المهدي المنتظر متيقن من بطلان دعواه لعدة أسباب.
لكنه وبسبب من حوله -كما أتصور- يقتنع أنه المهدي كما حصل أيام جهيمان أقنعوا القحطاني أنه المهدي وكل فترة يجيئه شخص ويقول له: أنا حلمت أنك المهدي فاقتنع بذلك... وهكذا كانت حادثته عام 1400هــ.
وفي كتب التراث العديد من قصص أدعياء النبوة الظرفاء..وأغلب الظن أن هؤلاء بهم لوثة في العقل قادتهم إلى هذا الادعاء السخيف..
والخطر ليس من هؤلاء.. بل ممن لا يزعم ولا يدعى لكنه يحرّم ويحلّل، ويفتي ويقنن، ويقبّح ويحسّن... بمزاجه وهواه فحسب، فرداً كان أم نظاماً أم حضارة.
وفي عصرنا الحديث، فقد ظهر ميرزا أحمد القادياني بالهند وادعى النبوة وأنه المسيح المنتظر وأن عيسى ليس بحي في السماء.
ولا يزال خروجهم واحداً بعد الآخر حتى يظهر آخرهم: الأعور الدجال، كما جاء في حديث سمرة بن جندب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في خطبته يوم كسفت الشمس على عهده (صلى الله عليه وآله وسلم): (وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا آخرهم الأعور الكذاب).

البحوث والمقالات : ٢٠١٣/٠٦/٠٤ : ٤.١ K : ٠
: فهد عامر الأحمدي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.