(٢١٧) الزهراء أسوة المهدي (عليهما السلام)... كيف؟
الزهراء أسوة المهدي (عليهما السلام)... كيف؟
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
إن أي مبدأ يحمل الهموم الكبيرة للبشرية، ويراد له أن يطبق ويجسد ليكون سلوكاً في الحياة وممارسة من قبل الناس، لابد أن يكون مسبوقاً بتمهيد فكري وثورة معرفية، وهذه سنة إلهية وبشرية، ومعرفة تلك المبادئ التي تنهض بالفكر البشري وتصبح فيما بعد سلوكاً يجسد من قبل المؤمنين بها، لابد أن تنطلق مقرونة بالذات التي تفنى من أجل ذلك المبدأ ليكون فناؤها المحرك والأسوة للآخرين على طول خط المسيرة للنداء بإحياء هذا المبدأ والتضحية من اجله.
إن الفرق بين المبدأ المجرد وبين المبدأ المقرون بالواقع وبالذات والشخص يقرب من الفرق بين الخيال والواقع، فمهما كان المبدأ المجرد حاملاً لثقافة وتطلع يبقى حبيس الذهن والوجدان، ما لم تنهض به الذوات التي تنقله من حالة التجرد والمثالية إلى حالة الواقع والسلوك.
وأهم مبدأ تنشد البشرية تحقيقه، وتعيشه في مخيلتها على طول خط الزمن هو مبدأ العدل وتجسيد القسط والسير على الحق، وهذا المبدأ الإلهي والحلم البشري تجسد في فترات من الزمن إلى حد ما، والحتمية قاضية بأنه سيتجسد ويكون الواقع الذي يعاش في يوم ما، وهذه الأبدية وحتمية كونية لا محيص عنها.
ولكي يسير هذا المبدأ ويستمر في اختراق الزمن لابد له من تمهيد.
ولكي يمهد له لابد أن يكون الممهد له بالمكانة التي تؤهله، وأن يحمل في ذاته ما لا يحمله الغير، وأن يجسد في نفسه ما لا يجسده الغير ليكون أسوة لمن سيُتحقق المبدأ الكبير على يديه.
وهذا ما حصل في قضية زهراء المهدي (عليهما السلام).
فقد دلت الآثار على إن أكبر مبدأ نشدته وتنشده البشرية وستعيشه هو ذاك المبدأ الذي سيتحقق على يد خاتم الأوصياء (عجّل الله فرجه).
وقد دلت الآثار على أن أسوة هذا المخلص وقدوته في تحقيق هذا المبدأ هي الزهراء فاطمة (عليها السلام).
فما هو السر وراء اتخاذ الزهراء (عليها السلام) من الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) أسوة وقدوة في تحقيق هذا المبدأ؟
وما أجمل العبارة التي نقلت عن قيّم هذا المبدأ إذ يقول (عجّل الله فرجه): (وفي ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي أسوة حسنة)، إذ جمع في هذه الكلمة القصيرة المبدأ والمحرك والمنتهى.
فلكي يُحق الحق الذي نزل به الأمينُ - دستوراً للبشرية - على خاتم الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم) أتخذ الإمام المهديُ (عجّل الله فرجه) هذا الدستور منهاجاً لا يحاد عنه، واتخذ الزهراءَ (عليها السلام) قدوة له في السير على هذا المنهج حتى يصل إلى المنتهى في تحقيق غاية السماء وأنشودة الأرض؟
فما هو السر وراء اتخاذ القائم (عجّل الله فرجه) بالمبدأ الحق فاطمة (عليها السلام) أسوة له؟
وهل يمكن استشراف ذلك من البعد المادي لفاطمة الزهراء (عليها السلام)، ومن خلال حركتها المحددة بزمن لم يتجاوز الثمانية عشر ربيعاً؟
أم إن السر الكامن وراء ذلك شيء آخر؟
الذي نراه أن السر الذي استودع عند الزهراء (عليها السلام) وجعلت به مرآة وكاشفاً لقياس غضب الرب ورضاه، كما نص على ذلك المصدر الأول الذي يعتمد عليه من يخالف الزهراء (عليها السلام) وأضحت به حجة على الحجج وأسوة لخاتمهم.
هو تلك الحركة التي انحصرت بالفترة الزمنية بين شهادة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهادتها، حيث أن الزهراء (عليها السلام) تعلم أن المسلمين بأجمعهم يعلمون، وأن العالم كله سيعلم إنها المقياس والبوصلة التي وضعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقياس الولاءات ولحفظ الرسول والرسالة بها، بل وأن الآثار التاريخية دلتنا على إن هذه الحالة قد عاشها المسلمون بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لما انتهكوا حرمتها (عليها السلام) وتبين لهم أنهم انتهكوا بهذا الانتهاك حرمة الإسلام بعد أن رجعوا إلى أنفسهم قليلاً فأرادوا تصحيح المسار دون التنازل عما أقدموا عليه واقترفوه بحقها، إلا إنها (عليها السلام) أبت إلا أن يكون التصحيح والعودة إلى المسار إلا بإرجاع الحق إلى نصابه.
فكانت الزهراء (عليها السلام) بهذه الخطوة حافظةً للإسلام وواضعةً الأمور في نصابها، دون أن يبرز منها في هذا الجانب أدنى مجاملة أو مداهنة على حساب الحق وتحقيق أهداف السماء، وبغض النظر عن الزمن الذي ستحقق فيه تلك الأهداف.
فكانت (عليها السلام) بحق بهذه الحركة التي قامت بها أسوة للحجج الأسوة للخلق، إذ لولا هذه الحركة لما أمكن لعمود الحق أن يبرز نوره ولما أمكن لطريق الاستقامة أن يُرى له سالكاً.
هذا هو السر وراء اتخاذ الحجج الزهراءَ (عليها السلام) حجةً.
وهو السر وراء جعل الزهراء (عليها السلام) مقياساً لرضا الله وغضبه.
وهو السر وراء حفظ الدين وتجسيد المبادئ إلى يومنا هذا.
وهذا الأمر ليس بخاف على أحد، ودلائله التاريخية موضحة عند المخالف قبل الموالف.
لذلك يعتبر التأكيد عليه وترسيخه وإحياؤه والمداومة على الحضور في المحافل التي بها تخلد ذكراه من أهم الشعائر والأسس التي لا ينبغي تخطيها، ولا ينبغي تركها، ولا ينبغي التساهل بها، ولا ينبغي القفز عليها مهادنة وكسباً لبعض النفوس والمصالح وتطييباً لبعض الخواطر كما يفعل بعض من يتموج بين أمواج الحداثة والوحدة (أي بين من يقول بالحداثة ولا يؤمن بالموروث التاريخي المتراكم، وبين من يريد التقريب مع الآخر على حساب المبادئ).