(٢٢٤) ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فوق الشبهات (٢)
ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فوق الشبهات (2)
الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
هل اختلاف التفاصيل يوجب سقوط الأصل؟
دفعاً لتخرصات البعض وادعاءاته الموهومة، من أن الاختلاف في تفاصيل قضية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يوجب إنكارها حيث أنه قد وقع خلاف في اسمه (عجّل الله فرجه) وتاريخ مولده واسم أمه وغيبته وغيرها، فتمسك البعض من أصحاب النفوس المريضة بشبهة مفادها: أن هذه الاختلافات تعني وهمية هذا المعتقد وبطلانه، وأن ليس له من الواقع نصيبٌ، حيث قال الدهلوي في (التحفة الإثنى عشرية) (اختلفت الأمامية في وقت غيبته وفي عمره ومنهم من اعتقد بموته ورجعته، وقال ابن تيمية في (منهاج السنة): (اختلف في اسم الجارية التي قالوا إنها ولدته فقال قائلهم أن اسمها نرجس وقيل اسمها صقيل أو صيقل وقيل حكيمة وقيل غير ذلك، وقال غيرهم (إن هذه الحقيقة وهمية وسراب لا واقع له) لذلك ترى القوم اختلفوا في اسم أمه وفي تاريخ ولادته وفي عمره عند وفاة أبيه وفي طريقة حمل أمه به واختلفوا في لونه وفي طريقة نموه إلى غير ذلك.
والذي يظهر من مجموع ما يثار من شبهات حول ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بهذه الطريقة - أعني بها إثارة الاختلافات في الاسم وتأريخ الميلاد واسم الأم وطريقة الحمل وغيرها- يراد به الانتقال من هذا الاختلاف إلى بطلان الولادة، وأنه لا يوجد شخص اسمه محمد بن الحسن العسكري خارجاً، إذ الاختلافات تنفي وجوده.
ونحن نقرر هذا الإشكال بجملة واحدة وإن لم يبرز على ألسنة المشككين بهذا الشكل وهو (أن الاختلاف في التفاصيل يوجب بطلان الأصل وسقوطه) فكل أصل يقع اختلاف في تفاصيله يكون باطلاً.
ونحن في مقام الإجابة عن هذه الشبهة نقول:
أولاً: إننا لا نلتزم بهذه القاعدة وانه لا يوجد لها ذكرٌ في مصادرنا الاعتقادية، فالاختلافات في التفاصيل أو الاختلافات في التواريخ والجزئيات لا تعني بالضرورة بطلان ذلك الأصل الذي تتفرع عليه هذه الجزئيات والتفصيلات فكم من قاعدة أو أصل نؤمن بثبوته رغم كثرة الاختلافات في تفاصيله، بل قد لا نبالغ إذا قلنا أنه لا يوجد أصل واحد لم يقع في تفاصيله اختلاف، كأصل التوحيد فإنه أصل ثابت لا شك فيه، لكن في تفاصيل إثباته وتفرعاته توجد اختلافات كثيرة، وكذلك النبوة والإمامة والمعاد والإيمان بالقرآن والجنة والنار بل في فروع الدين كالصلاة والصيام والحج وغير ذلك فإن هذه الأمور ثبوتها يشكل وضوحاً لا يشوبه شك أو ترديد، بينما إذا دخلت إلى عمقها وجدت العشرات إن لم يكن أكثر، من الأقوال في كيفية الثبوت وحالات الثبوت والأقسام والانقسامات والأخذ والرد والقيل والقال، ولم يلتزم أحد من العلماء ببطلان هذه الأصول لوجود تلك الاختلافات.
إذن نحن نقول إن هذه القاعدة ليس لها أساس عندنا ولا نلتزم بها حتى يلزمنا الخصم بها ويحملنا النتائج المتفرعة عليها.
ثانياً: إذا انتهينا إلى أن هذه القاعدة غير ملزمة لنا وأننا لا نقول بها فهل يا ترى أن القوم يقولون بها أو سيضطرون للقول بها لأجل أن يثبتوا عدم ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) حقيقة أنني لم أطلع من خلال متابعاتي المحدودة على من يقول بذلك، ولكن الذي دعاني للقول هو أن هناك أكثر من حوار وقع بيني وبين بعض المحاورين من المذاهب الأخرى كانوا يصرون فيه على هذه القاعدة ويستشهدون لها بموارد متعددة، وهنا نقول إذا كان ولا بد من القول: فأنتم أول من يُلزَم بالقاعدة ونتائجها فهذه مذاهبكم الأربعة تدل على الاختلاف، بل هي قبل هذا التحديد تتجاوز العشرات، من قبيل مذهب سفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والحسن البصري، والأوزاعي، وابن جرير الطبري، وداود بن علي الظاهري، والليث بن سعد، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، والشعبي، وغيرها من المذاهب الأخرى، بل ومذهب ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب الذي تفرع عليه المذهب الوهابي إن لم نقل الدين كما تنص على ذلك عبارة واضحة موجودة في كتاب (الدرر السنية في الأجوبة النجدية) حيث يوجد في الجزء الأول من هذا الكتاب صفحة (314) كتاب العقائد هذا القول (الحمد لله رب العالمين نشهد ونحن علماء مكة الواضعون خطوطنا وأختامنا في هذا الرقيم أن هذا الدين الذي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ودعا إليه إمام المسلمين سعود بن عبد العزيز من توحيد الله ونفي الشرك أنه هو الحق الذي لا شك فيه ولا ريب وإنما وقع في مكة والمدينة ومصر والشام وغيرها من البلاد إلى الآن من أنواع الشرك المذكورة في هذا الكتاب أنه الكفر المبيح للدم والمال والموجب للخلود في النار ومن لم يدخل في هذا الدين ويعمل به ويوالي أهله ويعادي أعداءه فهو عندنا كافر بالله واليوم الآخر وواجب على أمام المسلمين جهاده وقتاله حتى يتوب إلى الله مما هو عليه ويعمل بهذا الدين)
فهذا النص الذي يصرح بأن ما عليه محمد بن عبد الوهاب وأتباعه هو دين جديدٌ وأن ما كان عليه المسلمون سابقاً كفر مبيح للدم، ألا يعني أن هذا اختلاف كبير يوجب سقوط الدين لمن يلتزم بهذه القاعدة ويتّخذ منها حجة في إسقاط ما يعتقده غيره، أولا تكون هذه القاعدة أول ما تسقط دين من يعتقد بها ويريد ان يلزم غيره بنتائجها؟
والموارد التي يمكن أن نذكرها والتي وقع فيها الاختلاف بين المذاهب الإسلامية في الأصول فضلاً عن الفروع لا تقف عند حد الإحصاء لكثرتها ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر لنستخلص نتيجة واحدة مفادها أن من يريد أن يلزم غيره بقاعدة أن الاختلاف في التفاصيل يوجب الاختلاف في الأصل لا بد أن يلتزم هو بها أول، وبعد ذلك يتحدث عن عقائد غيره، وأنه لو التزم بها فلا شك أنه يخرج عن الدين ولا يبقى له شيء من العقيدة، إذ هو يرى أن كل أمر يقع اختلاف في تفاصيله يكون أصله باطلاً ولا واقع له وإن أكثر ما وقع فيه الاختلاف هو الأصول عند من يريدون الزامنا بهذه القاعدة.
ومن بين الموارد الكثيرة التي وقع فيه الاختلاف بحث التوحيد والأسماء والصفات بل وان نفس القرآن قد وقع فيه اختلاف، فعقيدة المسلمين بالقرآن أنه كتاب الله المنزل من السماء وهذا مما لا شك فيه وفي ثبوته، لكنه قد وقع اختلاف كبير جداً في حقيقة القرآن فهل يا ترى يكون القرآن والعياذ بالله أمراً من نسج الوهم والخيال ولا واقع له أم أن القول يختلف هنا؟
وأذكر هنا الاختلافات التي وقعت بين المسلمين وفي القرآن فقط ومن كتاب واحد فقط لنر عظم المأساة وكبرها على من يلتزم بهذه القاعدة.
يقول علي بن إسماعيل الأشعري، المعروف بأبي الحسن الأشعري والمتوفي سنة 324هـ، وهو مؤسس مذهب الأشاعرة في الأصول، في كتابه المشهور (مقالات الإسلاميين):
القول في القرآن، قال محمد بن شجاع ومن وافقه أن القرآن كلام الله وأنه محدث، وقال زهير الأثري أن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق، وقال زرقان عن معمر لا خالق ولا مخلوق، وقال ثمامة بن أشرس النمري إن كان الله ابتدأه فهو مخلوق وإن كان فعل الطبيعة فهو خالق ولا مخلوق، وقال عبد الله بن كلاب إن كلام الله صفة له قائمة به وأنه قديم بكلامه وأن كلامه قائم به كما أن العلم والقدرة قائمتان به، وقال ابن الماجشون إن نصف القرآن مخلوق ونصفه غير مخلوق، وحكي عن محمد بن شجاع أن فرقة قالت أن القرآن هو الخالق، وأن فرقة قالت هو بعضه، وقالت فرقة هو أزلي قائم بالله.
واختلفوا في كلام الله سبحانه هل يسمع أم لا يسمع فقال قائلون: ليس يسمع كلام الله إلا بمعناه، وإنما نسمعه متلواً أي نسمع تلاوته، وقال قائل لا نسمع كلام الله بأسماعنا وإنما نسمع في الحقيقة الشيء المتكلم، وقال قائلون المسموع هو الكلام في الحقيقة إذا كان متلو، وقال قائلون لا مسموع إلا الصوت وكلام الله يسمع لأنه صوت.
واختلف القائلون بأن القرآن مخلوق، ما هو وكيف يوجد، فقال قائلون هو جسم من الأجسام ومحال أن يكون عرض، وقال قائلون أن كلام الخلق عرض وهو فعل الله وقراءتي هي حركتي وهي غير القرآن، وقال ابن الراوندي إنه سمع أهل هذه المقالة يزعمون أنه كلام في الجو وأن القارئ يزيل مانعه بقراءته، وحكى زرقان عن بعضهم أنه كان يقول إن القرآن جسم وهو فعل الله وقال قائلون منهم ابن الراوندي القرآن معنا من المعاني خلقه الله ليس بجسم ولا عرض، وقال جعفر بن مبشر واختلف الذين زعموا أن كلام الله سبحانه جسم، وذكر الأشعري طوائف كثيرة وأقوالاً في من يذهب إلى هذا القول ثم ذكر أقوال من قال إن القرآن ليس بجسم ولا عرض، وأقوال من قال بأنه عرض إلى أن يقول واختلفوا في الكلام هل يبقى أم لا، وذكر أقوالاً كثيرة في ذلك، ثم بقي يعدد أقوالاً وأقوالاً واختلافات واختلافات قد لا نبالغ إذا قلنا إنها تناهز المئة أو الأكثر.
وليس الأشعري الوحيد ممن ذكر اختلافات الإسلاميين في حقيقة القرآن بل ان ابن حزم ذكر ذلك في (الفصل في الملل)، وذكرها كذلك عبد القاهر البغدادي في (الفرق بين الفرق) والشهرستاني في (الملل والنحل) والرازي في (التفسير الكبير) وغيرهم كثيرون.
فهذا نقل للاختلافات بين المسلمين في حقيقة واحدة يجمع الجميع على أنها موجودة وهم يقدسونها ويحترمونها ويعظمونها أشد تعظيم ويجعلونها المصدر الأول في التشريع ولا يسمحون بالتجاوز عليها أو الاستهانة بها أو الاستخفاف منها رغم كثرة الأقوال والاختلافات في تفاصيلها والتي ذكرنا بعضاً منها.
فهل يا ترى تبقى القاعدة المذكورة أم أنها أعدت لأجل الشيعة فقط، ولأجل الانتقاص من عقائدهم، فإذا ما وصل الكلام في هذه القاعدة إلى الحديث عما يعتقده القوم قالوا هذه قاعدة باطلة لا يجوز القول بها لأنها تهدم الدين وتنسف القرآن.