البحوث والمقالات

(٢٢٨) ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فوق الشبهات (٦)

ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فوق الشبهات (6)

الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي

لقد شاءت الأقدار أنْ نعيش في زمان ينبغي أنْ تكون من أبرز سماته وخصوصياته وضوح الحق وعدم التباسه، بتوفّر الأدوات التي تبحث عن الحقيقة وكثرتها، وانتشار مصادر الحقّ، وسهولة الوصول إليها، فلا يسع الإنسان الباحث عن الحق سوى الوقت اليسير ليقف ناظراً إلى الحقيقة التي سطّرتها الأقلام وهي تتحدّث عن تاريخ لم نره، وشاء الكثير من الناس أنْ يلتبس ولا يصل إلينا إلا مشوّهاً مشوّشاً.
فبمطالعات يسيرة ووقت محدود بالقياس إلى ما نبذله من كثير وقت ومزيد جهد وعناء وجهد في ترتيب معاشنا اليومي يمكن للإنسان أنْ يقف على صخرة صلبة تثبت به في أمواج متلاطمة من الشبهات صنعها الإعلام المزيّف والصحافة المأجورة، والتأريخ المدفوع الثمن.
ومن بين ابرز القضايا التي حاول كتّاب التأريخ تجفيف منابعها وتشويه ما بقي نبعه يتدفق منها، أو تغيير مسار هذا النبع على اقل تقدير، قضية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وحقّانية مولده، وانّه رجل عربي هاشمي ولد في زمان معين ومن أب وأم تحدث عنهما التأريخ وأثبت وجودهما، وانحنى الجميع من المؤرخين إجلالاً وإكباراً للغصن الطاهر من الشجرة الطيبة التي أولدته (عجّل الله فرجه) -الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)-.
إنّ هذه الحقيقة التي يحاول الجيش الإعلامي الوهابي المزيّف أنْ يشوّهها بعد أنْ عجز عن محوها من سجلاّت التأريخ ومعاجم ولادات الأعيان، فانبرت أقلام حقودة مدادها سموم قاتلة لتلقي علينا بشبهة هالكة متهالكة، ألقاها أسلافهم المقبورون وسار عليها أحفاد الفكر القبوري الرجعي الضيق، إذ يقولون إنّه يكفي لوهميّة وخرافة ما يدّعيه الشيعة في ولادة المهدي أنهم سطّروا أربعة أقوال في ولادته قد ذكرتها كتبهم، حيث أورد (بحار الأنوار) في الجزء 51 صفحة2 أنّها في سنة 255هـ، فيما سجّل في ص14 من نفس الجزء أنّها 256هـ، وما لبث أنْ عاد وسجّل في ص16 من الجزء نفسه أنّها 254هـ، ولم يمكث طويلاً حتى قال إنّها 257هـ في الجزء53 ص6 من بحاره.
فكيف تؤمنون أيّها الشيعة بولادة شخص ولد أربع مرات في سنوات متفاوتة؟
إنّ هذه الشبهة التي يتداولها أقزام الوهابية في المنتديات سطّرتها كتب أعلام لهم كالدهلوي في (تحفة الاثني عشر) وغيره من المؤلفين.
وللإجابة عن هذه الشبهة نتحدث في ضمن نقاط:
النقطة الأولى: إنّ ضبط التأريخ للحوادث في السنين المتقدّمة لم يكن بالشكل الذي عليه الآن، ومع ذلك نجد أنّ هناك اختلافات كثيرة في ولادات شخصيات عاشت أخيراً وتركت آثارها وصماتها على الفكر البشري فالخلاف ليس قديماً فقط، فإن ضبط ولادة الأشخاص بشكل عام، ليس منضبطاً بشكل دقيق، هذا بشكل عام أمّا إذا لوحظت القضية بالنسبة لولادة شخص يترقّبه الظلمة قبل غيرهم ويعلمون جيداً أنّ انحسار وجودهم مرهون بولادته، كيف ترى سيكون تهيُّؤهم للانقضاض عليه ومحوه في أول لحظات بزوغه، فلابدّ للعاقل فضلاً عن الحكيم المدبر أنْ يرعى هذه الحالة بتدابير تحفظ الأمرين معاً، أمر ولادته الحتمي، وأمر حفظه من الظلمة وقتلهم له، وهذا ما جرى عليه أهل البيت (عليهم السلام) في شأن ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فهم أكّدوا بما لا يدع للشك مجالاً وبألسنة مختلفة من الروايات أنّ ولادة الثاني عشر من الحتميات، وانّه وعد وعد الله به عباده، وأنّ الله لا يخلف الميعاد، وفي نفس الوقت أحاطوا هذه، الولادة بحالة من التّخفّي والكتمان الذي من شأنه أنْ يضيّع على المتربصين بالإمام حقيقة الوقت الدقيق لتلك الولادة، فكان من ضمن التدابير أنْ يختفي حمله وأنْ لا يعلم حتى أمّه بساعة ولادته، فكيف بك بغيرها، فلابدّ أنْ ينشأ اختلاف في تاريخ مولده بسبب هذه الحالة من التكتم الحفظي لهذا الرجل الإلهي.
فالقضية طبيعية بالنسبة لهذا المولود، كما هي طبيعية ولا يتحسس منها أي مسلم، فضلاً عن متديّن، بالنسبة لموسى بن عمران (عليه السلام)، فرغم التشدّد والتقصّي والتّتبع الذي قام به فرعون إلاّ أنْ موسى (عليه السلام) ولد وفي السّنة التي يكون القتل على المواليد الذكور، ومع ذلك ولد وعاش وترعرع وكبر في بيت عدوه، انّه التدبير الإلهي، فكما لا نأنف، ونتقبل هذا التدبير في شأن نبي بني إسرائيل، فلم لا نتقبّله في شأن المهدي الموعود؟
النقطة الثانية: إذا كانت الأمور تقاس بهذه الموازين وهذه القواعد التي لم نسمع بها إلاّ من قبل هذا الدين الجديد (الوهابي) فلابدّ أنْ نلحظ قضية في غاية الأهمية مفادها أنّ الذي يؤمن بأنّ الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) خرافة لأنّه قد تعدّدت سنوات ولادته، فلابدّ أنْ يؤمن بأنّ كل شخص اختلف في سنة ولادته وتعددت تواريخ ميلاده هو خرافة أيضاً، وهنا أضرب نماذج ثلاثة لابد لأتباع هذه القاعدة أنْ يعتقدوا بخرافيتها إذا كانوا يؤمنون بقاعدتهم، ويلتزمون بها، أمّا نحن الذين لا نؤمن بها ولا نلتزم بها ففي راحة بال من آثارها:
النموذج الأوّل: إنّ ولادات الأئمة (عليهم السلام) قد وقع فيها اختلاف في أيام أو شهور أو سني الولادة، فضلاً عن الوفيات، مع ذلك لم ينكر هؤلاء الوهابيون أحداً من أشراف أهل البيت (عليهم السلام)، فلم ينكرون ولادة الحسن، أو الجواد، أو الرضا، أو الهادي، أو العسكري (عليهم السلام) جميعاً، لأنّ هناك اختلافات في تواريخ ولادتهم أو وفياتهم، فهل القضية اختصاصية بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه) وإنّها قاعدة أسّست فقط لأجل الانتقاص من هذه العقيدة؟
النموذج الثاني: لقد وقع اختلاف كبير في ولادة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنا سأعتمد على كتاب واحد لأنّ الوهابية يقدّسونه، واترك عشرات المصادر التي تنقل هذا الاختلاف، ففي (البداية والنهاية) لابن كثير في ج2 ص32 ينقل مجموعة من الأقوال في ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهاها إلى الأربعة.
إنّه ولد (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأول من ربيع الأول.
إنّه ولد (صلى الله عليه وآله وسلم) في 12 ربيع الأول.
إنّه ولد (صلى الله عليه وآله وسلم) في 12 شهر رمضان.
إنّه ولد (صلى الله عليه وآله وسلم) في 20 من نيسان.
ولا أدري لماذا جاء الشهر الرومي مع الأشهر العربية!!. فهل مع هذا الاختلاف الرباعي في الولادة يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى حد زعمهم -والعياذ بالله- خرافة ووهم؟
النموذج الثالث: إذا كنّا نعتقد أنّ الولادة أمر قد يخفى على الناس ولا يهتمون به كثيراً، وهي عادة عرفية، لأنّهم يجهلون حقائق الأشخاص وما سيكونون عليه في المستقبل، فيهملون متابعة ولادتهم، فإنّ هذا الأمر لابدّ أنْ لا يسري في وفيات الأشخاص العظام خصوصاً النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ وقوع الاختلاف في تأريخ وفاته دليل كبير على إهمال المسلمين لأهمّ شخصية عندهم، هذا إذا لم نقل إنّ الاختلاف في تسجيل تأريخ وفاته يدل على خرافيته ووهميته -والعياذ بالله- على حد زعم القاعدة الوهابية.
وهنا أذكر للقارئ الكريم ومن كتاب واحد فقط، لا لأنّني لم أجد اختلافات كثيرة في كتب أُخرى، وإنّما أريد أنْ أبيّن عظم المسألة، ففي كتاب واحد ومهم بالنسبة إلى الوهابية وهو (البداية والنهاية) لابن كثير نجد أنّه سطّر أربعة أقوال في تأريخ وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل يا ترى يكون الاختلاف في وفاته موجباً للقول بوهميّته -والعياذ بالله-.
أنظر أخي الكريم، إنّ ابن كثير في الجزء الخامس ص278 من كتابه يعنون فصلاً كاملاً تحت عنوان (فصل في ذكر الوقت الذي توفّي فيه (صلى الله عليه [وآله] وسلم)) والأقوال هي:
حين زاغت الشمس لهلال ربيع الأول، ينقله عن عروة بن الزبير.
2 ربيع الأول، ينقله عن الاوزاعي.
10 ربيع الأول، ينقله عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس.
12 ربيع الأول، ينقله عن الواقدي.
والعجيب إنّهم جعلوا يوم وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) بيوم ولادته، فيما ذهب الشيعة الإمامية إلى أنّ يوم ولادته هو 17 ربيع الأول، وانّ يوم وفاته هو 28 صفر ، فهل يا ترى سيؤمنون بهذه القاعدة بعد هذا الاختلاف في أهم شخصية يؤمنون بها أو لا.

البحوث والمقالات : ٢٠١٣/٠٦/٠٤ : ٣.٩ K : ٠
: الشيخ حميد عبد الجليل الوائلي
التعليقات:
لا توجد تعليقات.