البحوث والمقالات

(٢٣٤) التكتم على ميلاد الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه)

التكتم على ميلاد الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه)

الدكتور محمد حسين علي الصغير

هناك شبه إجماع وثائقي على أن ولادة الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه): فجر يوم الجمعة، الخامس عشر من شعبان المعظم، سنة خمس وخمسين ومائتين من الهجرة المباركة.
وهو الإمام أبو القاسم، محمد المهدي بن الإمام الحسن العسكري ابن الإمام علي الهادي بن الإمام محمد الجواد بن الإمام علي الرضا بن الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام علي زين العابدين بن سيد الشهداء الإمام الحسين بن الإمام أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين علي بن أبي طالب (عليهم السلام).
وكان زواج أبيه الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) قد جرى بسرية تامة إلا عند القلائل، ثم خفاء أمر أمه به، ثم التكتم على اسم الأم بالذات حذر قبض السلطة عليه، أو ممارسة الضغط عليها للإخبار عن ولده، فهي (نرجس) في أشهر الروايات، وهي (صقيل) في سواه، وهي (سوسن) في غيره، وهي (ريحانة) عند آخرين، وهي (خمط) عند بعض المحدثين.
وجاء الاختلاف في الاسم مقصوداً إليه فيما يبدو، لئلا يكتشف أمر والدته على التعيين من بين إماء الإمام الحسن العسكري (عليه السلام).
يضاف إلى هذا التكتم على ولادة الإمام (عجّل الله فرجه) داخلي، إذ لم تحضرها إلا عمة الإمام الحسن العسكري السيدة حكيمة بنت الإمام محمد الجواد (عليهم السلام) التي طلب منها الإمام العسكري (عليه السلام) أن تكون في الصورة حضوراً في دار الإمام لقرب موعد ميلاد ولي الله، لتتولى من شؤون والدته ما تتولاه النساء من النساء حين الولادة، فحدثت الولادة عند الفجر، فأخذت السيدة حكيمة الوليد الجديد بعد أن لفته في ثوب، وحملته إلى أبي محمد العسكري (عليه السلام).
فتناوله الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وأخرج لسانه فمسح على عينيه ففتحهم، ثم أدخله في فيه، فحنكه، وأذن الإمام العسكري (عليه السلام) في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، وعق عنه بكبشين.
ثم أمر الإمام العسكري (عليه السلام) بتوزيع الخبز الكثير الوافي على الفقراء والطعام على المساكين والأولياء بما تداولته المصادر كثرة ووفرة.
وكان التكتم على نبأ الميلاد الميمون جارياً إلا عن الصفوة وعلية الأصحاب والأقارب حفاظاً عليه من السلطان، وحرصاً على سلامته من الظالمين، وذلك لصعوبة ذلك الزمان، وشدة طلب السلطان، واجتهاد طواغيت العصر في البحث عنه.
وذلك لعلم السلطة اليقيني أن هذا الوليد هو المنتظر لإقامة دولة العدل الإلهي، وذلك ما يقلقهم ويفزعهم، وقد تلقوا ذلك عن مصادرهم من آبائهم، وأنه هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
لذلك كان تعقب أجهزة الدولة العباسية لجواري الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) جارياً على أشده عند وفاته، وقبضها على بعضهن، وإيداعها المعتقل لشبهة الحمل، تغطية منها على ولادة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
وكان لخفاء تواجد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) العلني، ولاختفائه عن الأنظار، والتعمية على مكانه وحله وترحاله، إلا من قبل الصفوة المختارة من النواب والوكلاء والأمناء على دين الله، مثار اضطراب وارتباك للسلطة والنظام العباسي.
يقول الأستاذ الشيخ محمد حسن آل ياسين (طاب ثراه):
(وطبيعي أن تثير هذه السرية المتعددة الجوانب كثيراً من الشكوك في نفوس الأبعدين عن دائرة الارتباط الوثيق والعلاقة المباشرة بشؤون الإمامة والأئمة، وهم الذين لم يعلموا بنبأ ولادته كي يقروا بوجوده، وكانت للسلطة يد طولى في تلك الحرب النفسية المستغلة لكتمان أمر هذا الوليد لنفي ميلاده وتكذيب خبره، وإن بقيت تبحث عنه هنا وهناك حقبة من الزمن حتى أيست من استطاعتها العثور عليه والإمساك به).
وكانت السلطة متناقضة في تحركها الإعلامي ضد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فبينا هي تكذب خبر ميلاده وتنكر وجوده، وإذا بها تكبس دار أبيه للتفتيش عنه، وبينا هي تتبنى حملة التشكيك به، وإذا بها تبحث عنه بشتى المسالك، وبينا هي تدعم كل الأصوات المعلنة تكذيب أمره جملة وتفصيل، وإذا بها تعتقد اعتقاداً جازماً بوجوده وميلاده وحياته، وتتعبقه تحت كل حجر ومدر إطفاء لنار حقده، وإرضا لعوامل سخطه، ومداراة لهواجس تخوفه، وإشباعاً لرغبة القضاء على ذكر أهل البيت عليهم السلام.
ومما عمدت إليه السلطة أن أيدت -إلى حين_ دعوى جعفر الكذاب خلافة أخيه الحسن العسكري (عليه السلام) في الإمامة، وافتراءه بادعاء الولاية الإلهية، إلا أن الإمامية رفضوا هذه الدعوى وسخروا منه، لمعرفتهم الحقيقة بمداخلات جعفر هذا في اللهو والعبث ومجانبة خط الأئمة (عليهم السلام) ولم يحظ من العلم بطائل، وليس له ما يؤهله للقيادة إطلاق، ومع إدراك هذه الحقيقة المرة لدى مركز الخلافة العباسية إلا أن السلطان أيده عسى أن يسبب ذلك شيئاً من الحيرة والارتباك لدى أولياء الأئمة، ولكن أتباع الأئمة (عليهم السلام) من الثقات والأمناء على دين الله قد أماطوا اللثام عن جهل جعفر الكذاب، وعدم إحاطته بشيء من العلم اللدني الذي يتمتع به الأئمة المعصومون (عليهم السلام)، وقد كشف جعفر عن عدم اضطلاعه بأي شيء مما ينبغي أن يعلمه الإمام، ورد على أسئلة أولياء أهل البيت (عليهم السلام) بأن ذلك من علم الغيب الذي لا يهتدي إليه، وكان ذلك منه مغالطة صريحة، إذ أن الأخبار بجزء من المغيبات ليس علماً للغيب بالمعنى الأخص، ولكنه علم من ذي علم، مما علمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فأفاض به أمير المؤمنين على أبنائه المعصومين (عليهم السلام) بالرواية أو بالأثر المحفوظ خلفاً عن سلف.
وقد صح في كتب الحديث إخبار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما سيجري، واضطلاعه بعلم ذلك حتى قيام الساعة.
ومع ظهور الدلائل لجعفر الكذاب على صدق ابن أخيه الحجة المنتظر (عجّل الله فرجه)، ومع علمه بأنه صاحب الأمر بين أهل البيت (عليهم السلام) بعد وفاة أبيه (عليه السلام)، إلا أنه ظل سادراً في غيه، مصراً على عناده، رغبة في الدنيا والجاه وحب الرئاسة، وابتعاداً عن الدين ودساتيره.
والطريف في الأمر أن يرى جعفر نفسه الإمام المهدي في ثلاث وقائع:
الأولى: حينما أراد الصلاة على أخيه الإمام العسكري (عليه السلام)، فجبذ (جذب) الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) برداء جعفر، وقال:
(تأخر يا عم، فأنا أحق بالصلاة على أبي) فتأخر جعفر وقد أربد وجهه، وصلى الإمام المنتظر (عجّل الله فرجه) على أبيه.
الثانية: حينما نازع في ميراث أخيه الإمام العسكري (عليه السلام)، فظهر له الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من موضع لم يعلم به، وقال لجعفر:
(يا جعفر مالك تتعرض في حقوقي؟) ثم غاب عنه.
الثالثة: لدى وفاة والدة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وقد أوصت أن تدفن في الدار، فنازعهم جعفر في ذلك، وقال: هي داري!! لا تدفن فيه، فظهر له الإمام المهدي (عجّل الله فرجه): يا جعفر... أدارك هي؟ ثم غاب عنه.

البحوث والمقالات : ٢٠١٣/٠٦/٠٤ : ٣.٨ K : ٠
: الدكتور محمد حسين علي الصغير
التعليقات:
لا توجد تعليقات.