البحوث والمقالات

(٢٥٥) إعلان النظام العباسي حالة الطوارئ

إعلان النظام العباسي حالة الطوارئ

الدكتور محمد حسين علي الصغير

لدى وفاة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) شهيداً عام (٢٥٥هـ) كان الأُفق ملتهباً في طلب ولده الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله فرجه)، فقد جد النظام العباسي بكل قواه وأساليبه من أجل القبض على الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، والتعرف على أمره في الأقل، وقد باءت كل جهودهم المضنية بالفشل، ولم يفلحوا إطلاقاً بمسعاهم الحثيث هذا، وعادوا بخفي حنين.
أمّا الأساليب التي اتَّخذوها ظلماً وعدواناً، فلا تختلف عن أساليب قوم فرعون في البحث عن موسى (عليه السلام)، فقد وكَّل السلطان على الفور بدار الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عند موته، ووكَّل بجواريه من يتفقَّد حملهن لكي يظفروا بولده وبقيته على حدِّ تعبير الوزير الأربلي.
وقد هجم أعوان الخلافة العباسية بكل ثقلهم على دار الإمام (عليه السلام)، وروَّعوا من فيها من النساء، وفيهن عقائل بيت الوحي كوالدة الإمام الهادي (عليه السلام)، والسيدة حكيمة بنت الإمام محمد الجواد (عليه السلام)، وهي عمة الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وبقية جواري الإمام وإمائه، وفتَّشوا عن الحوامل بزعمهم، بما أوجزه الشيخ الكليني (ت ٣٢٩هـ) المعاصر للغيبة الصغرى بقوله: (وبعث السلطان إلى داره [الإمام العسكري (عليه السلام)] من فتَّشها وفتَّش حجرها، وختم على جميع من فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل، فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل، فجعلت في حجرة، ووكَّل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم...).
بهذا الأسلوب المتخلِّف كان الهجوم اللاإنساني على دار الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) من قبل أجهزة النظام العباسي، مما أثار حالة من السخط والاستنكار في نفوس المسلمين عامة، ونفوس أولياء أهل البيت بخاصة.
ولعل المرأة التي ادَّعت أن هناك جارية بها حمل، كانت من أتباع الإمام (عليه السلام)، وأرادت التغطية على موضوع ولده، حتى ينشغلوا بالحمل المتوهم عن طلب حجة الله.
(ولم يزل الذين وكّلوا بحفظ الجارية التي توهم بها الحمل لازمين حتى تبين بطلان الحمل، فقسم ميراثه - الضمير للإمام العسكري (عليه السلام) - بين أُمِّه وأخيه جعفر، وادَّعت أُمه وصيته - تغطية على الأمر - وثبت ذلك عند القاضي، والسلطان يطلب ولده).
وثبوت ادِّعاء أُمّه للوصية يكشف عن أمر مقصود إليه بالذات، إمّا من الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فيما خطط له من الإيهام بشأن ولده الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) لئلا يتعقبونه، وإمّا من قبل والده إخفاء لشأن الحجة (عجّل الله فرجه)، وهو إجراء جيد جداً بمثل الحالة التي يمر بها بشأن الإمام العسكري في ولده (عليهما السلام).
ومما يدل عليه تلك الإجراءات الصارمة تجاه بيت الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) عند وفاته، بما توسع في ذكر مفرداته الشيخ المفيد (ت٤١٣هـ) وهو قريب من عصر الغيبة الصغرى، مما يدل على علم الخلافة العباسية إجمالاً مع شدة التكتم بولادة صاحب الأمر يقول الشيخ المفيد:
(وخلف [يعني الإمام العسكري (عليه السلام)] ابنه المنتظر (عليه السلام) لدولة الحق، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت، وشدة طلب السلطان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولما شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه، وعرف من انتظارهم له، فلم يظهر ولده (عليه السلام) في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته، وتولى جعفر بن علي أخو أبي محمد (عليه السلام) أخذ تركته، وسعى في حبس جواري أبي محمد (عليه السلام)، واعتقال حلائله، وشنع على أصحابه بانتظار ولده وقطعهم بوجوده، والقول بإمامته، وأغرى بالقوم حتى أخافهم وشردهم، وجرى على مخلفي أبي محمد (عليه السلام) بسبب ذلك كل عظيمة من اعتقال، وحبس، وتهديد، وتصغير، واستخفاف وذل.
ولم يظفر السلطان منهم بطائل، وحاز جعفر ظاهراً تركة أبي محمد (عليه السلام)، واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه، ولم يقبل أحد منهم ذلك، ولا اعتقده فيه، فصار إلى سلطان الوقت يلتمس منه مرتبة أخيه، وبذل مالاً جليلاً، وتقرب بكل ما ظن أنه يتقرب به، فلم ينتفع بشيء من ذلك).
وكان ادِّعاء جعفر الكذاب للإمامة مثاراً للاشمئزاز، ومدعاة للسخرية بين صفوف الإمامية، فهو ليس هناك لا في قليل ولا كثير، إلّا أن الأدهى من ذلك أن يدخل على المعتمد العباسي فيما أبداه من حركة طائشة (وكشف له وجود خلف للعسكري (عليه السلام)، فوجه المعتمد بخدمه، فقبضوا على صقيل الجارية، وطالبوها بالصبي، فأنكرته، وادَّعت حبلاً لتغطي حال الصبي، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي، وبلغهم موت عبيد الله بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، وخرجت من أيديهم).
واستمرت إجراءات النظام العباسي في محاولته القبض على الإمام (عجّل الله فرجه) لاسيما وقد أخبرهم جعفر بوجوده وصلاته على أبيه.
وكما سبق بيانه فإن النظام العباسي كان على علم إجمالي بميلاد الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ولكنه يجهل مقره ومحل إقامته، فعمل جاهداً على قتله، فما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وترجح لديه أن يكون الإمام بدار أبيه وجده في سامراء، فعمد المعتمد العباسي بعد انتقاله إلى بغداد إلى تجربة ملاحقته في سامراء، وأرسل ثلاثة من أشداء رجاله، وأمرهم بالخروج إلى سامراء، ووصف لهم دار الإمام، وأمرهم بقتله، وحاولوا ذلك جاهدين فما أفلحوا، في حديث طويل فيه لمح من الإعجاز الخارق.
وبعد أن باءت هذه المحاولة الجادة بالفشل الذريع، وقد ظهرت لأجهزة السلطة دلائل الإمام فيها، عاود المعتضد محاولة اغتيال الإمام ثانية، إذ أرسل جيشاً مدرباً لدار الإمام في سامراء، فهجموا على الدار، وكان الإمام متواجداً فيها، فخرج منها بلحظة خاطفة، شلت بها الأيدي عن التحرك والعمل، والجيش ينظر، وقائدهم في ذهول من ذلك، فقال لهم انزلوا عليه، قالوا: أليس هو مر عليك؟ قال: ما رأيته، ولم تركتموه؟ قالوا حسبنا أنك تراه!
وأمسك العباسيون حينما وصل إليهم من خبر هذا التعرض للإمام (عليه السلام)، لمعرفتهم القطعية التي لا تقبل الشك: أنه محاط بالعناية الربانية التي لا تغلب ولا تقهر.

البحوث والمقالات : ٢٠١٣/٠٦/٠٤ : ٤.٦ K : ٠
: الدكتور محمد حسين علي الصغير
التعليقات:
لا توجد تعليقات.