(٢٦٤) غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من غيبة الأنبياء (عليهم السلام)
غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) من غيبة الأنبياء (عليهم السلام)
الشيخ جعفر عتريسي
ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ غبية الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) محنةٌ عظيمة تحتاج إلى أناةٍ وصبرٍ وتسليمٍ إلهي، وهي ليست الغيبة الوحيدة بهذا النحو، لأنَّ جملة من الغيبات الكبرى جرَت مع الأنبياء والأولياء (عليهم السلام)، وبعضها تمَّ منذ أزمان غابرة جداً وما زال تاماً حتى الآن مثل غبية الخضر (عليه السلام) وطول عمره الأكبر، وكذا مثل غيبة المسيح (عليه السلام) التي ما زالت محقَّقةً حتى الآن، وستظل كذلك باتفاق رواية السنة والشيعة حتى ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فهو الذي يُنزله الله تعالى بعد ظهور الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وهو الذي يُصلّي خلف الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) باتفاق الأخبار.
ومن يتتبع غيبة جملة من الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) يجدها سُنة إلهية سنّها الله تعالى في هذا الخلق، وهذه المسيرة الطويلة لأمرٍ يريدُهُ، فضلاً عن أنَّها واحدة من العلامات على ما سيجري في آخر الزمن مع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) فيثبت بها الله قلوب المنتظرين.
وقد تعرَّض علماؤنا القدماء الأبرار (قدّس الله أسرارهم) لبيان غيبة الأنبياء وظروفها ومُددها وما إلى ذلك، في حين أنّ بعضهم سرَدَ هذه الغيبات كإشارة على سنن الله تعالى في خلقه، والتي منها غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، ومن بين تلك الكتب كتاب العلامة الأجل الشيخ الصدوق (كمال الدين وتمام النعمة) الذي ذكر في مقدمته حواراً مع شخص آخر مفادها أنه: بينا هو يحدثني ذات يوم إذ ذكر لي عن رجل قد لقيه ببخارى من كبار الفلاسفة والمنطقيين كلاماً في القائم (عجّل الله فرجه) قد حيَّرهُ وشكَّكه في أمره لطول غيبته وانقطاع أخباره، فذكرت له فصولاً في إثبات كونه (عجّل الله فرجه) ورويت له أخباراً في غيبته عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) سكنت إليها نفسه، وزال بها عن قلبه ما كان دخل عليه من الشك والارتياب والشُّبهة، وتلقى ما سمعه من الآثار الصحيحة بالسمع والطاعة والقبول والتسليم، وسألني أن أصنّف له في هذا المعنى كتاباً، فأجبته إلى ملتمسه، ووعدته جمع ما أبتغى إذا سهّل الله لي العود إلى مستقري ووطني بالري.
فبينا أنا ذات ليلة أفكّر فيما خلفت ورائي من أهل وولد وإخوان ونعمة إذ غلبني النوم فرأيت كأنّي بمكة أطوف حول بيت الله الحرام وأنا في الشوط السابع عند الحجر الأسود أستلمه وأقبّله وأقول: (أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة) فأرى مولانا القائم صاحب الزمان (عجّل الله فرجه) واقفاً بباب الكعبة، فأدنو منه على شغل قلب وتقسُّم فكر، فعلم (عجّل الله فرجه) ما في نفسي بتفرُّسه في وجهي، فسلَّمتُ عليه فرد عليَّ السلام، ثم قال لي: لِمَ لا تصنّف كتاباً في (الغيبة) حتى تكفي ما قد همَّك؟ فقلت له: يا ابن رسول الله قد صنَّفتُ في الغيبة أشياء، فقال (عجّ الله فرجه): ليس على ذلك السبيل آمرك أنْ تُصنف (ولكن صنّف) الآن كتاباً في الغيبة وأذكر فيه غيبات الأنبياء (عليهم السلام)... ثم مضى (صلوات الله عليه)، فاتنبهت فزعاً إلى الدعاء والبكاء والبثّ والشكوى إلى وقت طلوع الفجر، فلما أصبحت ابتدأت في تأليف هذا الكتاب ممتثلاً لأمر ولي الله وحجته (عجّل الله فرجه)، مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه ومستغفراً من التقصير، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).
وقد بذل علماؤنا الأجلاء في هذا السبيل الكثير من التدوين والمقارنة والشرح لبيان أمر الله تعالى في خلقه. ولقد تعرض أمر الغيبة إلى كثير من التشويش من العباسيين والنواصب وغيرهم مَّمن لا يرى لأهل البيت (عليهم السلام) موقع الثقل الثاني في حجة الله تعالى، وفي هذا المعنى يقول الشيخ الصدوق: (ولقد كلّمني رجلٌ بمدينة السلام (بغداد) فقال لي : إنَّ الغيبة قد طالت، والحيرة قد أشتدت، وقد رجع كثيرٌ عن القول بالإمامة لطول الأمد، فكيف هذا؟ فقلت له: إنَّ سنّة ألأولين في هذه الأمّة جاريةٌ حذو النَّعل بالنعل، كما روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير خبر، وأنَّ موسى (عليه السلام) ذهب إلى ميقات ربه على أنْ يرجع إلى قومه بعد ثلاثين ليلة فأتمَّها الله (عزَّ وجل) بعشرة، فتم ميقات ربه أربعين ليلةً، ولتأخّره عنهم، فضلَّ عشرة أيام على ما واعدهم، استطالوا المدة القصيرة وقست قلوبهم وفسقوا عن أمر ربهم (عزَّ وجل)، وعن أمر موسى (عليه السلام)، وعصوا خليفته هارون، واستضعفوه وكادوا يقتلونه، وعبدوا عجلاً جسداً له خوار من دون الله (عزَّ وجل). وقال السامري لهم ﴿هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى﴾، وهارون يعظهم وينهاهم عن عبادة العجل ويقول: ﴿يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُوني وَأَطيعُوا أَمْري * قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى﴾ ولما رجع موسى (عليه السلام) إلى قومه غضبان أسفاً قال: بئسما خلفتموني من بعدي!! أعجلتم أمر ربكم!! وألقى الألواح... والقصة في ذلك مشهورة.
فليس بعجيبٍ أنْ يستطيل الجهّال من هذه الأمّة مدَّة غيبة صاحب زماننا (عجّل الله فرجه) ويرجع كثيرٌ منهم عمَّا كانوا دخلوا فيه بغير أصلٍ وبصيرة، ثم لا يعتبرون بقول الله تعالى حيث يقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ﴾.
فقال: وما أنزل الله (عزَّ وجل) في كتابه هذا المعنى؟ قلت: قوله (عزَّ وجل): ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ يعني بالقائم (عجّل الله فرجه) وغيبته.
على أنَّ الغيبة متواترة، ولسان الإخبار فيه أكثر من أنْ يُحصى، والغيبة كما تمَّت مع الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فقد وقعت مع كثير من الأنبياء والأولياء، بل بعضها أعجب ممَّا جرى ويجري مع مولانا الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فالخضر (عليه السلام) ما زال حياً منذ زمن لا يُحصى، وعُمر لا يفنى، إلا بشرط الله في أجله، الذي يقع في آخر الزمان وبعد الظهور.
وإدريس النبي (عليه السلام) غاب في السماء، والمسيح (عليه السلام)، ما زال في السماء منذ أزمان طالت، فلم يغير ذلك من حقيقة أنهم حُجج الله تعالى، بل مع غيبة النبي أو المعصوم لا يرفع الله الحجج، بل يُبقيها ويجليها.
كما أنَّ أمر الغيبة مشهورٌ في هذه الأمة، فهي من أوَّل أمرها اعتقدت غيبة المسيح العجيبة.
بل تجذَّر هذا الاعتقاد في مذاهب كثيرة لشدة تواتر أمر الغيبة، لكنَّ قوماً حرفوها عن معناها الحقيقي ولبَّسوها غير الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فأهل السنة مثلاً يعتقدون الغيبة في الدجال ويقولون أنه حي منذ زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيظل حياً حتى يخرج في زمن المهدي بآخر الزمان. في حين اعتقدت الكيسانية أنَّ محمد ابن الحنفية هو المهدي!! وأنه ما مات بل غاب، وقد عاد الكثير منهم فاعتقدوا الإمامة على شرط الله تعالى وقالوا بحقيقتها، ومن هؤلاء السيد الحميري الشاعر الأشهر، وفي رواية حيان السراج قال: سمعت السيَّد بن محمد الحميري يقول:
(كنت أقول بالغلو، وأعتقدُ غيبة محمد بن علي بن الحنفية – قد ضللتُ في ذلك زماناً، فمنَّ الله عليَّ بالصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) وأنقذني به من النار، وهداني إلى سواء الصراط، فسألته بعدما صحَّ عندي بالدلائل التي شاهدتها منه أنه حجة الله عليَّ وعلى جميع أهل زمانه وأنَّهُ الإمام الذي فرض الله طاعته وأوجب الاقتداء به، فقلت له: يا ابن رسول الله، قد رُوي لنا أخبارٌ عن آبائك (عليهم السلام) في الغيبة وصحَّة كونها، فأخبرني بمن تقع؟ فقال (عليه السلام): (إنَّ الغيبة ستقع بالسادس من ولدي، وهو الثاني عشر من الأئمة الهداة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وآخرهم القائم بالحق بقية الله في الأرض وصاحب الزمان (عليه السلام)). ثمَّ قال: قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (والله لو بقي في غيبته ما بقي نوح (عليه السلام) في قومه لم يخرج من الدنيا حتى يظهر فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً). وهذه وغيرها تشير إلى رسوخ الإعتقاد بالغيبة وتجذُّرها، وإنْ تمَّ تلبيسها مرةً لفلان ومرةً لفلان، في حين أنّ الأخبار النبوية متواترةٌ، بل مُطبقة في غيبة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، على أنَّ العقيدة الإسلامية صريحةٌ بشدةٍ وإتّقان في وقوع الغيبات النبوية الإعجازية. بل تبدو هذه الغيبات على شكل سكةٍ بل سُنَّة ضاربة منذ أول الخليقة وقائمة على ساقها.