(٣٠٣) إنهم فتية...
إنهم فتية...
الشيخ حسين عبد الرضا الأسدي
كثيرة هي الحقائق التاريخية التي دثرت، وأكثر منها التي حرفت، ورغم ذلك تبقى هناك حقائق هي أوضح من أن تخفى وأصرح من أن تحّرف سوى أنها تحتاج إلى قليل من التأمل وأعمال الفكر وجهد يبذل لرفع غبار السنوات وتراب النسيان والغفلة عنها... تلك هي قصة كثير من حقائق تاريخنا الشيعي.
ومن تلك الحقائق المغفول عنها هي عظمة شخصيات السفراء الأربعة للإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، وبالأخص السفير الأول وابنه، واليك ما نعنيه هنا:
حفظ لنا التاريخ أن الإمام الهادي (عليه السلام) قد أشخص من المدينة المنورة إلى سامراء عام (234 ه) بأمر من المتوكل، وحفظ لنا أيضاً أن السفير الأول عثمان بن سعيد كان قد خدم الإمام الهادي (عليه السلام) أبان وصوله إلى سامراء وكان له من العمر آنذاك (11 سنة) فقط وفي هذا العمر وما بعده أعظم الإمام الهادي (عليه السلام) من شأن عثمان كثيراً إلى الحد الذي كان يتعجب الأصحاب من هذا الإعظام ويتناقلون قول الإمام الهادي (عليه السلام) بشأنه (هذا أبو عمرو الثقة الأمين ما قاله لكم فعني يقوله وما أداه إليكم فعني يؤديه).
يا لله، فتى بعمر الإحدى عشرة سنة يعظم هذا الإعظام ويقدر هذا التقدير من الإمام المعصوم فأي عظمة هذه وأية حقيقة هي التي أغفلها التاريخ ولم يفصح عنها.
ولنستمر بتقليب صفحات التاريخ:
توفي الإمام الهادي (عليه السلام) عام (254ه) أي بعد عشرين سنة من وصوله إلى سامراء، وهذا يعني أن عمر عثمان آنذاك كان (31) سنة فقط، وحينها أصبح عثمان بل وولده محمد من أوثق أصحاب الإمام العسكري (عليه السلام) حتى اشتهر عنه قوله: العمري وابنه ثقتان مأمونان، ما أديا إليكم فعني يؤديان، أو أنهما ثقة المحيا والممات.
إن عثمان كان عمره (31) سنة فقط ولنفترض انه تزوج بعمر (15) سنة وانه ولد ابنه محمد بعمر (16) سنة وهذا يعني أن عمر محمد إبان بداية إمامة الإمام العسكري (عليه السلام) هو (15) سنة فقط.
فإذا علمنا أن الإمام العسكري (عليه السلام) توفي عام (260 ه) وهذا يعني أن عمر عثمان أصبح (37) سنة وعمر محمد هو (21) سنة فقط وبهذا العمر فقط أصبح عثمان وولده الفتي من سفراء الإمام المهدي (عجّل الله فرجه).
ثم أن سفارة عثمان استمرت قرابة (3) أو (5) سنوات -والأرجح الثاني- فإذا علمنا أن محمد كان شريك أبيه في السفارة حسب نص الشيخ الطوسي الذي سنذكره بعد قليل، فحينئذ يكون محمد سفيراً للإمام المهدي (عجّل الله فرجه) بعمر الإحدى والعشرين سنة.
قال الشيخ الطوسي في (الغيبة) ص 356 و357 ونقله عنه بحار الأنوار ج51 ص346 ما نصه:
(وكانت توقيعات صاحب الأمر تخرج على يدي عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمد بن عثمان إلى شيعته وخواص أبيه أبي محمد بالأمر والنهي والأجوبة عما تسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلى السؤال فيه بالخط الذي كان يخرج في حياة الحسن (عليه السلام) فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالتهما إلى أن توفي عثمان بن سعيد وغسّله ابنه أبو جعفر وتولى القيام به وحصل الأمر كله مردوداً إليه والشيعة مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته لما تقدم له من النص عليه بالأمانة والعدالة والأمر بالرجوع إليه في حياة الإمام الحسن (عليه السلام) وبعد موته في حياة أبيه عثمان).
الآن لندقق النظر، فتية وشباب بأعمار الإحدى عشرة سنة والخمسة عشر سنة والإحدى والعشرين سنة هذه الأعمار يكون الشاب فيها معرضاً للهو ومرشحاً لاتخاذ الدنيا ملعباً يسرح ويمرح فيه ويتناسى ما خلقه الله تعالى لأجله إلا أن هذين الشابين نذرا نفسيهما لخدمة الدين وأخلصا حتى أصبحا الثقتين المأمونين على الأسرار بل والحياة واستقاما خلال هذه الفترة كلها إلى أن توفيا ولم ينحرفا قيد أنملة عن الصراط المستقيم هي حقيقة ناصعة.
فغريب من التاريخ عدم تسليطه الضوء عليها وعجيب من المؤرخين عدم إعلانها.
إن هذه الحقيقة تدعونا إلى مزيد من التأمل والتفكر في سيرة أئمتنا وأصحابهم لنرى كم من الأصحاب قد وصلوا إلى مراحل عالية من الوثاقة حينما كانوا فتية وشباباً.
فيا ترى كم منهم كان كعثمان بن سعيد وولده محمد.
وكم منهم كان كهشام بن الحكم الشاب الذي قدمه الإمام الصادق (عليه السلام) على جميع أصحابه ولما يختط عارضاه بعد.